أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
ما زلنا مع النداء الأخير وهو النداء التسعون، ولم يبق منه إلا القليل مع الخاتمة.
والتوبة على الفور مسألة إجماعية، فقد أجمعت أمة الإسلام على أن التوبة تكون على الفور، فلا يسمح للمؤمن أن يقول: لا أتوب إلا بعد أن أتزوج، أو حتى أعود من سفري، أو حتى أفرغ من بناء بيتي، أو حتى أرحل من بيتي. فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يغشيا كبيرة من كبائر الذنوب ثم يؤجلا التوبة؛ لأن التوبة تجب على الفور، مثلها: مثل سائر في الطريق فزلت قدمه، فهو لن ينتظر ساعة أو ساعتين، أو ليلة ثم ينهض ويقوم، بل إنه ينهض على الفور، فالتوبة تجب على الفور، فلا يحل تأخيرها أبداً، قال الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:17].
هنا لطيفة: وهي أن العبد إذا استمر على الذنب ولم يتركه يخشى أن يصبح طبعاً من طباعه، وغريزة من غرائزه، ويعجز عن تركه مرة أخرى، ومثال ذلك: المخدرات كالتدخين والأفيون وما إلى ذلك، فإذا استمر العبد على تلك المعصية يصعب عليه جداً أن يتخلى عنها، وكذا من اعتاد أكل الرطب بعد طلوع الشمس عاماً بعد عام فمن الصعب عليه تركه، وقد يتألم إن لم يأكل رطباً، فنحن مأمورون بالتوبة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التحريم:8]. فلنقل: لبيك اللهم لبيك! تُوبُوا إِلَى اللَّهِ [التحريم:8]، أي: ارجعوا إليه بترك المكروه الذي كرهه أو بفعل الواجب الذي تركتموه وقد أحبه.
أولاً: الإقلاع عن المعصية على الفور وتركها والابتعاد عنها، فإن كان تاركاً لواجب فعليه أن يفعله، وإن كان مرتكباً لمنهي فعليه أن يبتعد عنه ويتركه. هذا هو ما يسميه أهل العلم بالإقلاع، يقال: أقلع عن الشيء أي: انفصل عنه بسرعة بدون تراخي.
ثانياً: الاستغفار، وهي أن تلهج بكلمة: أستغفر الله، أو غفرانك ربي، أو اللهم اغفر لي، بحيث لا تفارقه.
ثالثاً: العزم الأكيد على أن لا يعود لذلك الذنب، فإن عاد مرة أخرى فلا بد من عزم قلبي وتصميم أن لا يعود لهذا الذنب، سواء كان هذا الذنب تركاً لواجب أو فعلاً لمحرم.
رابعاً: الندم الممض، وهو أن يشعر التائب بألم نفسي يبقى أياماً في نفسه، حتى ينمحي أثر ذلك الذنب ويزول من النفس. والناس يعرفون الندم في أمور الدنيا، فالتاجر الذي فاتته صفقة تجارية يشعر بالندم، وكذا من مات له حبيب.
فالتوبة النصوح التي أمر الله بها هي التي لا يعاود التائب فيها الذنب أبداً، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، فلو حلبنا من شاة لبناً فليس بالإمكان -بل من المستحيل- أن نرده إلى ضرعها.
فإذا أردت أن تسمو وترتقي إلى منازل الأبرار فقل كلما ذكرت ذنباً قد اقترفته: أستغفر الله وأتوب إليه، ولو بعد خمسين أو سبعين سنة.
وقد جاء في سورة (ق) قول الله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32]. والأواب هو: الرجاع، الذي كلما أذنب ذنباً أحدث له توبة فرجع، والحفيظ: هو الحافظ شديد الحفظ، الذي لا ينسى أبداً، وكلما ذكر ذنبه استغفر الله.
وهذا فيما إذا كان الذنب بينك وبين الله، كأن تكون تركت واجباً أو فعلت محرماً فتوبتك كافية، وأما إذا كان بينك وبين أخيك فتحلل منه، أي: اطلب منه العفو، فإن كان مالاً فلا بد من رده إن كنت قادراً على أدائه، وإن لم ترده فإنك لم تتب، ولا تصح التوبة إلى الله من دون إرجاعه إن كنت قادراً على إرجاعه، ولا يصح الاستغفار والندم وفي جيبك مال أخيك الذي اختلسته منه أو اغتصبته، أو سرقته أو غششته، أو أخذته بحيلة من حيلك. وإن كان الذنب في عرض أخيك كأن اغتبته أو شتمته، أو عيرته فلا بد وأن تطلب العفو والسماح منه، والتحلل من الذنب، فتقول له مثلاً: أي أخي! لقد قلت فيك باطلاً، وقد تبت إلى الله واستغفرته، فسامحني، فإن عفا وسامح نجوت، وإن لم فسر إليه وأعطه حقه حتى تخلص.
وإن كنت قد آذيته في جسمه كأن تكون قد ضربته فأعطه خدك وقل له: اضربني كما ضربتك، كما فعل الصحابي الجليل حينما وضع خده على الأرض وقال لأخيه: لتطأن على خدي. فهذه هي التوبة التي شرعها الله لتطهير قلوبنا وتزكية نفوسنا.
فالخلاصة: أن التوبة هي الرجوع إلى الله بفعل ما تركناه من واجبات، أو بترك ما ارتكبنا من محرمات كثرت أو قلت، فنحن مأمورون بأمر الله في آخر نداء لله في كتابه بهذا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].
[ فأبشر بالجنة بعد تكفير السيئات ] في يوم عظيم هو يوم القيامة [ في يوم لا يخزي فيه الله النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، بأن لا يذلهم ولا يعذبهم، ويعطيهم نوراً يمشون فيه ] وعليه [ حتى يجتازوا الصراط ويدخلوا الجنة دار السلام.
وسلام عليهم وعلى كل المرسلين، وأهل الجنة أجمعين.
والحمد لله رب العالمين ].
[ بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد: ففي يوم الإثنين 21/ رجب / 1414هـ، وفي الروضة النبوية الشريفة ] واخترنا الروضة لأنها موطن استجابة [ وفقني الله تعالى لأبيض هذه الخاتمة بيض الله وجهي ووجه كل مؤمن ومؤمنة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، راجياً بذلك من الله تعالى أن ينفعني وينفع كل مؤمن ومؤمنة يقرأ هذه النداءات الرحمانية، أو يستمع إليها ] إذا كان لا يتقن القراءة [ ويجيب من دعاه وهو الله وليه ومولاه فإن أمره بأمر قام به، وإن نهاه عن شيء انتهى عنه، وإن رغبه في خير رغب فيه، وإن حذره من شر حذره، وإن بشره بخير سر بالبشرى وحمد الله وشكر، وإن أنذره خاف وتاب واستغفر، إذ هذا شأن المؤمن الصادق الإيمان، والمسلم الحسن الإسلام المهيأ بفضل الله للجنة دار السلام.
هذا ولا يفوتني أن أرغب كل مؤمن ومؤمنة في قراءة هذه النداءات الرحمانية، وحفظها وإجابة الداعي الرحمن فيها نداء بعد نداء، ولا أحسب أن مؤمناً يجد في تحصيلها حفظاً وفهماً وعملاً يبقى في ظلام الجهل أبداً، بل سيرقى إلى أفضل مستوى علمي يرفع الله تعالى إليه من يشاء من عباده المؤمنين به وبلقائه ].
فإذا اجتمع أهل القرية كلهم في بيت ربهم من المغرب إلى العشاء يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام لم يبق فيهم فرقة ولا خلاف، ولا صراع ولا حسد، ولا بغض ولا كبر ولا تعالٍ، ولا يبقى بينهم من يموت جوعاً أو يمشي عارياً أو لا يجد له مأوى. فهذه سنة الله، وسنن الله لا تتبدل.
وليس هناك قانون يفرض على أمة الإسلام أن تكمل وتسعد إلا قانون الإسلام، أحببنا أم كرهنا.
وقد عرفنا أن أمة العرب كانت أمة جهل وضلال ووثنية وقبلية وصراع ودماء، وما إن اجتمع هؤلاء العرب بين يدي رسول الله يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم خمساً وعشرين سنة إلا وسادوا العالم، وانتشر نور الإسلام في أنحاء المعمورة. ومن طلب برهاناً ودليلاً فعليه أن يذهب إلى قرية فيجمع أهلها على الكتاب والسنة، وسيرى النتائج الطيبة بعد عام. وأما المذاهب والمبادئ والحزبيات والطرق والأنظمة فمستحيل أن يتحقق خيراً.
قال: [ إنهم لا يمضي عليهم طويل زمن إلا وهم علماء ربانيون أولياء لله تعالى صالحون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مع العلم أن هذا الطلب للعلم والهدى والاستقامة والرضا والحب والولاء والمودة لا يكلفهم من الجهد شيئاً ولا من المال قليلاً ولا كثيراً ] فالمسلمون حينما يذهبون إلى بيوت الله للصلاة وينزلون في بيت الرب يستغفرونه ويتعلمون الهدى لا يكلفهم ذلك جهداً كبيراً شاقاً لا يطاق [ وأمر آخر ألفت النظر إليه وهو أن العالم البشري كله إذا دقت الساعة السادسة مساء أوقف دولاب العمل وذهب إلى الراحة والترويح على النفس، أليس المؤمنون أولى بهذه الراحة؟ راحة السعادة الكاملة، التي هي الجلوس في بيوت الله لاستمطار رحمته، وتلقي الهدى والعلم من كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ] فلا طريق لأن تجتمع كلمة المسلمين وتتحد حقيقتهم فيما بينهم أطهاراً أتقياء أحبة أولياء إلا باجتماعهم في بيت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة على نهج رسول الله وأصحابه، فقد كان أكثر الصحابة لا يعرفون الباء من الألف، ولا يعرفون كتابة ولا قراءة، ومع ذلك لم تر الدنيا أفضل منهم في العدل والرحمة، والإخاء والولاء، والطهر والصفاء والكرم، فضلاً عن الشجاعة والموت في سبيل الله، فقد تعلموا بين يدي الرسول الكتاب والحكمة والتزكية كما أمره الله.
فلو درسنا في كل يوم آية وحديثاً فعلى مدار السنة سنحفظ ونفهم ثلاثمائة وستون آية وكذا ثلاثمائة وستون حديثاً، فلا يصبح فينا جاهل وجاهلة، ولا ظالم وظالمة، ولا فاسد وفاسدة، فسنة الله لا تتبدل، فمن تعلم الكتاب والحكمة كيف لا يفسد [ ودرسته سنة كاملة بالمسجد النبوي مبيناً كيفية تدريسه؛ رجاء أن تفيق أمة الإسلام من نومها الطويل وغفلتها الطويلة العريضة ] وكان الزوار والحجاج والمعتمرون يشهدون هذا، وكان المفروض أن الكل يدرسون هذا الكتاب، فهو مشروح ومبين وسهل، وليس فيه شرك أو باطل أو دعوى إلى ظلم وفتنة، وليس فيه إلا قال الله وقال رسوله. وقد يحفظ العبد الآية في ربع ساعة، أو يحفظ حديثاً مكوناً من عشر كلمات أو أقل على الفور، فإذا حفظ أهل القرية آيات الله وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبقى فيهم جاهل أو جاهلة، وإذا انتفى الجهل حصل العلم، فكانت الاستقامة على منهج الله، ولن يضر أهل القرية جوع ولا فقر، ولا مرض ولا خوف ولا حزن؛ لأنهم أولياء الله، يتلذذون بالفقر إن افتقروا، ويتلذذون بالمرض والألم، ويجدون في ذلك انشراح صدورهم وطيب نفوسهم، وقد قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وقد رأينا الرجل منهم يدفن أطفاله واحداً بعد الآخر وهو يبتسم، والناس يبكون؛ لأن العبد إذا وصل إلى الله لم يقطعه خوف ولا فقر ولا بلاء، بل إنه يتلذذ بما يمتحنه الله به.
ولو كنا مقبلين على دار السلام بحق لما وجدت مكاناً فارغاً في هذا المسجد؛ لسماع هذه الدروس، ولكنه لا يحضر هذه الدروس إلا الأغراب والفقراء والبهاليل، ولذلك فلن نرتفع ولن نتآخى، ولن نتحاب ولن يوالي بعضنا بعضاً، ولن تطهر بيوتنا وتصفو من ظلمات التلفاز والباطل، والصياح والعهر إلا بسماع هذه الدروس.
وبعض الناس لما يسمع هذا الكلام يضحك ويسخر ويستهزئ بنا، ويصفنا بصفات لا وجود لها في عالم الغيب والشهادة، ولكنها تمليها عليهم الشياطين.
ولما كانت النية صالحة وكان القصد خالصاً لله نفع الله بهذا الكتاب، وأصبح يقرؤه الشافعي والمالكي، والحنبلي والأباضي والزيدي؛ لأن المؤمن لا يستطيع أن يرد كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية، فانتشر عند الفرنسيين، ثم ترجم في لبنان إلى اللغة الإنجليزية، وسيصل إلى أمريكا وبريطانيا، والهند والصين إن شاء الله [ وهو كتاب شامل جامع للعقيدة المنجية من النار، والآداب الرفيعة، والأخلاق الفاضلة السامية، والعبادات والأحكام الشرعية، كل ذلك رجاء أن تجتمع عليه أمة الإسلام فتنتهي بذلك الفرقة المذهبية والطائفية ].
وحكام المسلمين لا يحكمون شرع الله، بل أصبحوا يكرهون الإسلام والمسلمين، ولو قرءوا رسالة (الدولة الإسلامية) هذه قراءة بجد في اجتماع خاص بهم لعادوا إلى الإسلام، إذ ليس فيها صعوبة ولا مستحيل ولا تكليف، بل إقبال على الله فقط ].
سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر