قال الله عز وجل في سورة النور:
لقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج كما قدمنا قبل ذلك، وزاد هنا للمؤمنات فقال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، أي: لا تبدي المرأة زينتها إلا ما ظهر منها.
فالزينة الظاهرة: هي الثياب الظاهرة التي تلبسها المرأة، فلا تملك أن تخفيها، وتحتاج المرأة للخروج لحاجتها، فهذه هي الزينة الخارجة والزينة الظاهرة، فلا ينبغي للمرأة أن تلبس من الثياب ما يلفت إليها النظر، وتتبرج في الطريق بألوان الثياب وتجعل الناظرين ينظرون إليها، ولا يجوز لها أن تلبس شيئاً يصف بدنها، ولكن لا بد أن تستتر بثياب صفيقة غير شفافة، وتكون ساترة لها، وربنا سبحانه وتعالى كرم المؤمنات وجعل المرأة المؤمنة مستترة، فلا ينظر إليها أحد ولا يهينها أحد، فهي مستورة بستر الله سبحانه وتعالى، فتلبس ثيابها، وتتجمل بإيمانها، فهي ثياب الإيمان التي تفرق بين المرأة المؤمنة والمرأة الفاسقة الفاجرة الكافرة، فصان الله عز وجل المؤمنات من أن ينال من أعراضهم، فالمرأة المؤمنة تغض بصرها فلا تقع في الحرام، وهي لا تنظر إلا إلى ما أحل الله عز وجل لها، فلا تنظر إلى رجال أجانب، ولا تنظر إلى عورات النساء أو الرجال، فهي تغض بصرها إلا ما أحل الله عز وجل لها من نظر إلى الزوج أو نظر إلى المحارم فيما يحل، قال تعالى: (( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ )).
هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الترمذي، لكن إسناد الحديث فيه ضعف.
ففيه: أن المرأة لا تنظر إلى الرجل، وهذا هو المعنى الصحيح، وجاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو).
وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عائشة وكانت تنظر إلى الحبشة، وكانت عادة الحبشة في الأعياد أن يلعبوا بالحراب ويرقصوا بها، وقد دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، وفعلوا هذا الشيء في مسجده صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم، وقال للسيدة عائشة رضي الله عنها: (أتشتهين تنظرين؟) أي: أتحبين أن تنظري؟ وهي لا تريد أن تنظر ولا غيره، ولكن تريد أن ترى قدرها من النبي صلى الله عليه وسلم (فوقفت تنظر وهو يسترها بثوبه صلى الله عليه وسلم، وظل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى هي التي سئمت) أي: لم يقل لها: كفى، ولكن هي التي سئمت فدخلت، فالسيدة عائشة رضي الله عنها هنا نظرت لذلك، وفي رواية: (أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، قالت: فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لي منكبه، فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت).
فالجمع بين الحديث وهذه الآية: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] أن المرأة لا تنظر إلى الرجل الواحد نظرة تأمل وتفحص فيه، وكونها تنظر إلى مجموعة يلعبون نظرة عامة فهذا جائز يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها هذا.
وأما أن تنظر إلى رجل واحد أو إلى رجال نظرة شهوة ونظرة تفحص فهذا غير جائز؛ لأن ذلك يوقع في قلبها الفتنة كما يحدث العكس للرجال، فهذا هو المنهي عنه.
وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث كان والسيدة عائشة صغيرة، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها سبع سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات، قالوا: فكانت صغيرة، فيجوز للصغيرة ذلك. والصواب: أنها كانت كبيرة وليست صغيرة، فقد جاء في بعض الروايات أن هذا كان بعد مقدم الحبشة، وكان قدومهم سنة سبع، وكون النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في المدينة ولها سبع سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات، فإنه سيكون قد مضى من عمرها ست عشرة سنة، إذاً: فالقول: إنها كانت صغيرة قول بعيد، والصواب: أنها جاوزت الست عشرة سنة رضي الله عنها.
وأيضاً جاء في حديث لـفاطمة بنت قيس في الصحيحين، لما طلقها زوجها التطليقة الثالثة، وكأن المرأة لم يكن لها مكان تعتد فيه، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، وقد كان في البداية أمرها أن تمضي إلى إحدى النساء واسمها أم شريك، امرأة أنصارية، قال: اذهبي واعتدّي عندها، ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المرأة عجوز، ويحضر إليها الكثيرون من الصحابة في بيتها تطعمهم أو تعطيهم شيئاً، والبيت مع ضيقه وهي فيه سيحصل شيء من الحرج حين يقدم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتنظر إليه أو ينظر إليها، فقال: (اعتدي عند
إذاً: الأفضل أن تعتد عند ابن أم مكتوم في بيته، فهو رجل واحد، وإن نظرت نظرت إلى رجل واحد، والرجل سيكون متزوجاً، وعنده أهله في بيته، فعلى ذلك سيكون الأمر أيسر بكثير عند ابن عمها ابن أم مكتوم من أنها تكون عند أم شريك، فلذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تعتد عند ابن أم مكتوم، وعلل ذلك بأنه رجل أعمى تضع ثيابها عنده، يعني: في هذا البيت، فضلاً عن أن ابن أم مكتوم كان ابن عم لها.
قال تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، واختلف العلماء فيما يظهر من الزينة: فذهب ابن عباس وغيره إلى أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان.
وجاء عن ابن مسعود وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن قوله تعالى: مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] يعني: الثياب الظاهرة.
وقال أهل العلم: إنه في الزمن الذي يكثر فيه الفساق ويبتعد الناس عن الدين، فلا بد للمرأة أن تستتر جميعها، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم في أنه هل تبدي المرأة الوجه والكفين أم أنها تستر الجميع؟ لكن في زمن الفتنة تستتر المرأة وخاصة إذا كانت جميلة ينظر إليها الناس، فلابد أن تستر وجهها، وتستتر بستر الله الذي أمرها الله به.
قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، الخُمُر: جمع خمار، والخمار: الغطاء، ومنه: خمرّ الشيء، يعني: غطاه، والخمار هنا المقصود به: الغطاء الذي يوضع على رأس المرأة، فيكون الخمار نازلاً من فوق الرأس فيستر صدر المرأة، وسمى الله صدر المرأة جيباً، وأمر أن تضرب المرأة بالخمار، فينزل من على رأسها ويستر صدرها، وقوله تعالى: جُيُوبِهِنَّ [النور:31] مثل كلمة عيون، وكلمة بيوت في القرآن، فإنها تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فتقرأ بُيوت وبِيوت، شُيوخ وشِيوخ، عُيون وعِيون، جُيوب وجِيوب، وابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي يقرءونها بالكسر، وبقية القراء يقرءونها بالضم.
وكانت المرأة في الجاهلية لا تبالي أن يظهر منها شعرها، أو أن يظهر منها أذنها وقرطها، أو يبدو خلخالها، بل كانت تمشي في الطريق لابسة خلاخيل في رجليها فتضرب برجلها حتى يسمع صوت الخلخال وهي ماشية، فينتبه إليها الناس وينظرون إليها، فحذر الله عز وجل المؤمنات من الوقوع في ذلك.
فقد ذكر الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شققن أزرهن فاختمرن بها)، وكذلك نساء الأنصار، فجاء عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أنها قالت: (لما أنزلت هذه الآية وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها) يعني: أخذت الإزار الذي تلبسه فشقته من قبل الحاشية، أي: البطانة، فقد كان الثياب عندهن قليل، فنزلت الآية بالأمر بحجاب المرأة.
وأيضاً جاء في حديث ذكره ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت: (بينا نحن عند
وورد في رواية أخرى عن عائشة عند أبي داود قالت: (يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها)، فدل على أن كلاً من المهاجرات والأنصاريات فعلن ما أمر الله عز وجل به حالاً، ولم تقل المرأة: سنفعله تدريجياً كما يفعل نساء هذا الزمان، فتلبس ما تشاء من بنطلون ضيق وتزعم أنها محجبة، وتحط على رأسها ريشة قماش وتزعم أنها طارحة جلباباً، وتخادع نفسها ويغرها الشيطان، وفي النهاية الموت يأتي على الجميع والحساب يوم القيامة.
ففي حالات كثيرة تجد الرجل يمشي مع زوجته متبرجة ولا يستحيي من ذلك، وتلاقي المرأة تمشي مع ابنتها والرجل مع ابنته وهي متبرجة، فإن قلت: هذا حرام، قال: لا زالت صغيرة، فكلمة صغيرة ضحك بها الغرب على الشعوب المسلمة، وبدءوا يقولون: المرأة صغيرة، ثم تجد الأب يترك ابنته إلى ثمانِ عشرة سنة ويعاملها كطفلة! إن السيدة عائشة تزوجت ولها سبع سنوات، ودخل بها النبي صلى الله عليه وسلم ولها تسع سنوات، فتقول: إذا بلغت الصبية تسعاً فهي امرأة.
ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعاملون الصغيرة على أنها كبيرة، وليس من اللائق أن تقول عن رجل: طفل صغير، وقد مضى من عمره ثمانِ عشرة سنة، فإن أعداء الإسلام يضربون هذه الأمة بأسلحتهم ويهينونها، وبذلك فإن المسلم يهين نفسه، ويستحق الهوان من غيره، ولا يستحق أن يدافع الله عز وجل عنه.
من يهن يسهل الهوان عليـه ما لجرح بميت إيلام
فالإنسان الذي تهون عنده نفسه يصير أهون عند الغير، فأمة المسلمين لما نسوا أنفسهم، وطأطئوا رءوسهم للغرب، ولما تركوا دينهم وراءهم، واقتدوا بأوروبا وأمريكا، وصارت التشريعات الفرنسية هي التي تحكمهم، وأصبح كتاب الله زينة للبيوت فقط لا للتشريع، ونسى المسلمون ربهم سبحانه وتعالى سلط الله عليهم غيرهم فأذلوهم، وصارت الشعوب ترمي المسلمين بأنهم متخلفون، وشعوب المسلمين هي الشعوب المتأخرة التي جعلت اهتمامها بالدنيا فقط، فإذا أراد المسلمون أن يقلدوا الغرب يتركون التقليد في الأشياء العلمية المفيدة ويقلدونهم فيما يخالف دين الإسلام، فهل من التنوير أن المرأة تتبرج، وأن الرجل ينظر إلى ما يشاء، والبحور تمتلئ بالعرايا، فهذا هو التنوير الذي عرفه المسلمون من هؤلاء، فقد تركوا ما عندهم من علوم وبقوا متأخرين، وقد كانوا قادة الأمم في العلوم قبل ذلك، فقد كانت كتب المسلمين في الطب وغيرها تترجم إلى هؤلاء ليتعلموا من المسلمين، واليوم أصبح المسلمون المتأخرين المتخلفين وأصبح هؤلاء القادة عليهم والسادة فوقهم، فيأمرونهم فينفذون لهم ما يريدون، فكيف يقول المسلمون: نحن نريد أن نعرب الطب، فنقول: لو عربتم كتب الطب فهل سيقرؤها الآخرون وهم أصلاً يسبقكونكم في هذه العلوم، فهذا الكلم الذي يتكلم به المسلمون عبارات جوفاء وأشياء لا ينظرون إلى جوهرها، بل ينظرون إلى مظهرها فقط، فالمسلمون لن يعودوا إلى ما كانوا عليه إلا إذا تمسكوا بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وطبقوا هذا النور العظيم، إذا تعلمت المرأة كيف تحتجب، وكيف تطيع ربها سبحانه، وكيف تعلم أولادها، فإذا عرفوا ذلك ورجعوا إلى دين الله عز وجل أعانهم الله سبحانه على أن يكونوا سادة الأمم، وجاء العصر الذي يقاتل فيه المسلمون اليهود ويقول الحجر (يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله)، فهنا يجعل الله عز وجل الجمادات تقاتل مع المسلم، وتعينه على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وأما إذا كان المسلم متأخراً ومتخلفاً وتاركاً لدين الله عز وجل وراء ظهره فلا ينتظر توفيقاً من الله إلا أن يراجع دينه، ويرجع إلى ربه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا ويعين كل المسلمين على العودة إلى كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر