يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يسمى بـ
ثم قال له: (ما اسم ابنك الكبير؟ قال:
فنستدل بهذا الحديث على أن الاسم الذي يسمى به العبد إذا وافق اسم الله جل في علاه ولم يفرغ من المعنى فلا بد من تغيير هذا الاسم.
إن من صفات كمال الله جل في علاه أنه حكيم، وما من آية إلا وقرنت بين العلم والحكمة، وبين الحكمة والخبرة، فهو حكيم خبير عليم حكيم سبحانه جل في علاه.
والله جل في علاه له الحكمة التامة البالغة فيما يقدره سبحانه جل في علاه، فهو لم يقدر على المرء من بلايا ونوازل، ومن فرح وسرور، ومن تضييق وحزن إلا وله الحكمة البالغة سبحانه جل في علاه، فهو لا يخرج منه إلا الخير، ولا يقدر إلا الخير سبحانه جل في علاه، وما أمر أمراً إلا وفيه المصلحة الراجحة، وما نهى عن شيء إلا وفيه المفسدة الراجحة.
قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] أي: ما من شيء نهانا الله عن أن نقترب منه إلا وفيه المفسدة الراجحة، وما من أمر أمرنا به إلا وفيه المصلحة الراجحة.
وقال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] أي: من النفع أن الرجل يتمتع ويقضي شهوته مع امرأته حتى لا ينظر إلى المحرم، لكن الأذى أعظم والفساد أعظم، فلحكمة الله جل في علاه نهى أن يأتي الرجل زوجته في حيضها، وأيضاً في الدبر كما في الحديث: (اتق الحيضة والدبر).
وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220] أي: ما من أمر يأمر الله به إلا وفيه الخير كل الخير، وما من نهي ينهى عنه الله جل في علاه إلا وفيه الشر كل الشر، والمسألة تدور على الغالب.
وقال الله تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] أي: لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب على ما يفعل، لا والله لابد أن يعلم أن المآل والمرجع إلى الله جل في علاه؛ ليجازي الله جل في علاه من عمل صالحاً بإحسانه ومن أساء بما فعل، قال الله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:4].
فالله جل في علاه من حكمته البالغة: أن خلق الخلق ليعبدوه، ثم الثواب والعقاب على ذلك.
ثم قال سبحانه: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان:39].
وأيضاً قال في الآية الأخرى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17].
وأيضاً يقول الله جل وعلا: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الأحقاف:3]، فإن الله جل وعلا ما خلق الخلق إلا لعلة ولحكمة جسيمة.
وهو الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال عن موسى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، فهو يرى أن له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، فكيف يأتي موسى ويقول: إنه مرسل من قبل الله رب العالمين.
وأيضاً اليهود أنفسهم لما طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكاً، قال نبيهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247] يقدحون في حكمة الله جل في علاه: كيف يختار الله هذا ليكون ملكاً علينا؟! فقالوا: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] وكأنهم يقولون لله بلسان حالهم: كيف تختار هذا وهو لا يصلح أن يكون ملكاً ولا يصلح أن يكون نبياً؟!
وأيضاً اليهود أنفسهم عندما حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة اعترضوا فقال الله تعالى عنهم: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142] فسماهم بالسفهاء؛ لأنهم يقدحون في حكمة الله جل في علاه، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142].
وأول حكمة من ذلك: قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
الحكمة الثانية: قال: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة:143]، فهذه حكمة بليغة، وسنبين كيف أن الله جل وعلا يخلق الشر لا للشر ولكن ليميز بين الصفين.
وأيضاً اليهود في تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ادعوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكاذبين ومن السحرة ومن الكهنة، وما زالوا على ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدم خطوة بعد خطوة، ويمكن الله له في الأرض، وتتسع البقعة الإسلامية، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، ومع ذلك فاليهود لم يؤمنوا، بل ما زال ادعاؤهم على رسول الله بالكذب، وهم أهل كتاب، ويقرءون التوراة والإنجيل ومع ذلك لا يزالون على دعواهم بكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا قدح في حكمة الله جل في علاه؛ لأن من حكمة الله جل في علاه أنه لا يمكن لكافر ولا لساحر ولا لكاهن، فكونهم يقفون أمام النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: هو كذاب، وما زال الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فهذا يدل على أنهم كذبة؛ لأن من حكمة الله جل في علاه أن يبتلي الرسل أولاً ثم يمكن لهم.
فهؤلاء الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما قدحوا فيه أنهم قدحوا في المرسل سبحانه جل في علاه، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] أي: أن هذا الرسول ليس أهلاً لأن يكون رسولاً، بل لابد أن يكون رجلاً من هاتين القريتين عظيم، فيكون صاحب جاه ومال وأولاد، ويكون صاحب مكانة، فهذا هو الذي يستحق هذه الرسالة على حسب زعمهم، فقدحوا في حكمة الله وكأنهم يقولون: كيف ترسل هذا الضعيف الفقير رسولاً علينا.
وأيضاً قدحوا في هؤلاء الذين من الله عليهم بالإيمان، فقدحوا في حكمة الله جل في علاه عندما قالوا: أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].
وأيضاً قدحوا في حكمة الله جل في علاه عندما ردوا دين النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله ليفصل هذا الخط ويقول: هذا من الشرك ومن الكفر، فأنتم إذا كنتم تعبدون ربكم فعظموا ربكم، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، ولابد أن تنظروا إلى أفعال الله جل في علاه، واعلموا أن أفعال الله كلها حكم، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء بآيات الله جل في علاه، ومن هذه الآيات قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115]، وأيضاً قول الله تعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الأحقاف:3].
وقول الله تعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5]، فالله جل في علاه ما خلق الخلق إلا لحكمة جسيمة، فلما طعنوا في حكمة الله خرجوا من دين الله؛ لأنهم نسبوا النقائص لله جل في علاه.
وأما حال ومآل من دخل في هذا الدين ثم رد على الله الحكمة وركب هواه وحكم شهواته، فهذا يخرج من دائرة الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
فكثير من العامة يقدحون في قدر الله أو في تكوين الله جل في علاه، فتراهم إذا ابتلي الرجل الصالح بالأمراض والبلاء يقولون: هذا الرجل من الصلاح بمكان ولا يستحق هذا البلاء، ولو نزل البلاء على غيره من الفسقة لكان أولى، وهذا قدح في حكمة الله جل في علاه.
وأشهر من ذلك ما اشتهر على ألسنة العامة أنهم يقولون: لماذا هذه الأرزاق تنزل على بعض الناس، وهم في نظرهم أنهم لا يستحقون، فهذا أيضاً قدح في حكمة الله جل في علاه.
وهناك طائفة أخرى من الحسدة والحقدة كما فعل إبليس، فالحسد أصله قدح في حكمة الله؛ لأن الحاسد عندما ينظر إلى المحسود يقول: هذا لا يستحق أن يتعلم، وهذا لا يستحق أن يكون أميراً، وهذا لا يستحق أن يكون وزيراً، وكأنه بلسان حاله يقول لله جل في علاه: كيف تمكن لمثل هذا وهو لا يستحق أن تمكن له؟! والله جل في علاه يرد عليهم ويقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].
أقول: هذا الأعمى الذي أعمى الله بصره وبصيرته يقدح في حكمة الله، وكأنه يقول: هذه الأحكام متناقضة، فكيف يجعلها مرة بخمسين من الإبل وتقطعها في ربع دينار فهذا تناقض؟! نقول: هذا كفر مبين، ولذلك رد عليه بعض العلماء وقال له: إنها لما عفت شرفت فكان قيمتها خمسين من الإبل، لكن لما سرقت احتقرت وذلت، فقطعت في ربع دينار.
فهذا رد على هذا الذي يتغابى ويقدح في حكمة الله جل وعلا.
فنقول: هؤلاء يردون حكم الله وشرعه، وهذا قدح في حكمة الله جل في علاه، ويقولون: ما الفائدة عندما تقطع يد من سرق ربع دينار، وتعطل الرَّجُل من يده فلا يكتسب، لكن لو أخذته وهددته ونصحته ثم جعلته يعمل بهذه اليد لأفدت المجتمع، واستفاد الرجل بعد ذلك بالمال وعف نفسه ولا يسرق؟
ويقولون: إن شرع الله جل في علاه لا يصح لهذه القرون التي نعيش فيها، نقول: هذا قدح في حكمة الله جل في علاه، ونحن نرد عليهم بأمر جلي، قال الله تعالى بالنسبة للقتل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، فهناك حكمتان في القصاص:
الحكمة الأولى: أن الإنسان إذا علم أنه إن قتل فسيقتل فإنه سيقول: وأنا لِمَ أضيع حياتي بحياة غيري؟ فليكن له ما له ولي حياتي، فلا يقدمن على القتل.
الحكمة الثانية: أنه إن أقيم عليه الحد واقتص منه في الدنيا فلا يسأل عن ذلك يوم القيامة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن ارتكب من هذه الدناءات وهذه المحرمات شيئاً فعوقب به -يعني: أقيم عليه الحد- في الدنيا فهو كفارة له) أي: لا يسأل عنها يوم القيامة.
إذاً: فقتل النفس التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (إن الله جل في علاه يقسم بعزته: لو تمالأ أهل السماوات وأهل الأرضين على قتل دم مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) هذا يدل على عظمة دم المرء المسلم عند الله جل في علاه، ومع ذلك فإن الله لا يحاسبه إذا قتل به قصاصاً، فجعل الله له المخرج يوم القيامة.
وأيضاً نفس الأمر في قطع اليد، فالشخص إذا سرق فقطعت يده ورأى الناس ذلك، فإنهم لا يقدمون على السرقة، وتجد الواحد يقول: تقطع يدي بربع دينار لا والله! بل أحفظها حتى لا تهون ولا أهون ولا أحتقر بين الناس، فيلتزم بشرع الله جل في علاه، وهذه حكمة بالغة.
فنقول: هذا قدح في حكمة الله جل في علاه، ونقول لهؤلاء البله السفهاء: لو نظرتم نظرة ممحصة في أحكام الله جل في علاه وعلمتم أنكم عبيد لله لما قلتم إلا سمعنا وأطعنا؛ لأن الكمال المطلق لله جل في علاه، وأفعال الله كلها كمال، فالرجل يتحمل أعباء كثيرة، يتحمل أعباء المهر والصداق للزوجة، ويتحمل بعد ذلك النفقات على الزوجة والأولاد، ويتحمل بعد ذلك النفقات على الوالد والوالدة، ويتحمل الدية، وأما المرأة فلا تشارك العاقلة في دفع الدية، وإنما المرأة تجلس في بيتها ملكة.
بهذا يتبين أن من الحكمة أن يأخذ الرجل ضعف المرأة.
فنقول: إن لله حكماً عظيمة من هذا التشريع علمها من علمها وجهلها من جهلها، الحكمة الأولى: حفظ الأنساب، ودليل الأمر بحفظ الأنساب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره) ، فلو جامع الرجل امرأة وخصب البويضة وجاء رجل يجامعها بعده فإن السمع والبصر والقلب والعظام واللحم تتأثر بماء الغير، ولذلك فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما حدثت قصة الرجل الذي تزوج امرأة وغاب عنها وجاء الرجل الثاني فجامعها، فولدت الولد فأقرع بينهما؛ لأن هناك مشاركة في الولد.
الحكمة الثانية: أن الله جل وعلا قدر أن النساء تكون أكثر من الرجال، ففي الحديث: (في آخر الزمان يكون للخمسين من النساء القيم الواحد).
الحكمة الثالثة: غيرة الرجل، فإن من حكمة الله جل في علاه أن جعل الغيرة من الدين، فالرجل له أن ينظر إلى أكثر من امرأة، لكن لا يستطيع أن يتحمل أن امرأته تكون فراشاً لغيره، ولذلك قال سعد بن عبادة قال: (يا رسول الله أنتظر حتى آتي بأربعة شهداء؟! والله لأعلونهم بسيفي، فقال صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة
الحكمة الرابعة: أن الله من حكمته البالغة أن جعل عاطفة المرأة لا تتجزأ.
قلنا: خسئتم بما قلتم فردوا على أنفسكم هذا القول، فإن الله له الحكمة البالغة، بل من صفات كمال الله جل في علاه أنه لا يفعل شيئاً ولا يخلق خلقاً ولا يأمر أمراً إلا بحكمة بالغة، قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:30-31].
أي: أن الله جل في علاه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنات، وأما الذين ظلموا فأعد لهم عذاباً أليماً، وهذا بحكمته وعلمه جل في علاه.
وقد اتفق المعتزلة والأشاعرة على أن الله جل وعلا يفعل لا لحكمة، ولكن يفعل لمجرد ومحض المشيئة.
وأما المرجئة فقالوا: إن الله لا يفعل لحكمة؛ لأن الله لا يفرق بين مختلفين ولا يساوي بين متماثلين، بل الكل عنده سواء وهذا قدح في الحكمة؛ لأنهم قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة.
فنقول: إن هؤلاء قدحوا في حكمة الله؛ لأنهم جعلوا كل الناس سواسية، فجبريل كـأبي بكر ، وأبو بكر كآحاد الناس، والمذنب الفاسق الفاجر الذي يشرب الخمر كالذي يقوم الليل ويصوم النهار، فالكل عندهم سواء ماداموا يقولون: لا إله إلا الله؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، فهنا قدحوا في حكمة الله، والله جل في علاه يقول: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، إن الله جل وعلا لا يمكن أن يسوي بين المختلفين، وقال الله تعالى في سورة (ن) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، ولذلك قلنا: إن من رفعة هذه الأمة أنهم ينزلون الناس منازلهم، فقد أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ولا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل، وأهل السنة والجماعة صفت لهم عقيدتهم؛ لأنهم اعتقدوا بأن الله جل في علاه لم يخلق خلقاً إلا لحكمة بليغة، ولم يأمر أمراً إلا وفيه المصلحة الراجحة، ولم ينه عن شيء إلا وفيه المفسدة الراجحة.
ثانياً: أن الله جل في علاه لما أهبط آدم إلى الأرض علمه كيف يتعايش في الأرض، وكيف يخرج طعامه وشرابه، ثم جاء من نسله الأنبياء والمرسلون، بل أفضل الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الله ابتلى إبراهيم بلاءين من أعظم البلاءات: البلاء الأول: أنه بعدما بلغ معه الولد السعي أمره الله أن يذبح هذا الولد، وهذا البلاء من الله جل في علاه لنبيه لحكمة بالغة؛ حتى يخرج قمة الإيمان وقمة اليقين والاستسلام لله جل في علاه التام، حتى إنه لما رأى الرؤيا لم يتراجع: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].
ثم يظهر الله جل في علاه الاستسلام التام من إسماعيل عليه السلام، واليقين التام في الله جل في علاه، ويطأطئ رأسه ليذبح، والآخر يذبح ولده الذي انتظره بعد أمد بعيد، فالله جل في علاه بعد ذلك يفديه بذبح عظيم، ويقول: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:105] فارتفع إبراهيم، فجعل الله جل في علاه إبراهيم أبا الأنبياء، وجعل من ولد إسماعيل أفضل الخلق أجمعين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شرع لنا هذه الشعيرة العظيمة وهي الأضحية في العيد.
فهؤلاء لما صدقوا الله جل في علاه وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل كشف الله عن حسن إيمانهم ويقينهم بالله جل في علاه، وما ابتلاهم إلا ليرفعهم.
فالعبد إذا نظر إلى ربه جل في علاه وتدبر أسماءه الحسنى وصفاته العلى علم أن الله جل في علاه لا يقدر عليه شيئاً إلا والخير كل الخير في هذا الشيء، ولقد فقه ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر يقول: أنا لا يهمني أصبحت على نعمة أم على بلية، إن كنت على نعمة فلها عبادة وهي الشكر، وإن كنت على بلية فلها الصبر، وفي كل خير.
وذلك لأنه يعلم أن الله ما ابتلاه إلا لحكمة بالغة فيها الخير له إن رضي واستسلم لربه جل في علاه.
وهذا عمر بن عبد العزيز كان يقول: ما أرى راحتي إلا في قدر الله. يعني: أن سعادته في قدر الله جل في علاه، سواءً كان مسروراً أو كان حزيناً، فهو يعلم أن ما اختاره الله له أفضل مما أختاره لنفسه.
فسبحان الذي فوق السماء يدبر أمر عباده، وله في ذلك الحكم البالغة، وقد ظهرت لمن أظهرها الله له، وخفيت عمن أراد الله أن يخفيها عنه؛ ليرتفع الذي ظهرت له، وليخفض الله الذي لم تظهر له.
نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا من الذين يتعبدون له بالاستسلام التام واليقين التام، وأن نحسن الظن به ولا نموت إلا على ذلك، ففي مسند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وفي رواية قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيراً فله، وإن ظن بي غير ذلك فله) ، فنعوذ بالله أن نسيء الظن بالله جل في علاه، فهذه من صفات الجاهلية التي عاصرناها اليوم، نسأل الله جل في علاه أن ينحينا عنها، وألا يجعلنا نظن به ظناً سيئاً، أو نقدح في حكمته جل في علاه، ونسأل الله أن يدخلنا جميعاً الجنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر