يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
أيها الإخوة الكرام! ما زلنا مع الكلام على هذا الكتاب الماتع الجليل كتاب: مختصر الصارم المسلول، وأصل الكتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والمختصر للفقيه البعلي .
وقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحد من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عن الحكم وعن الحد وقلنا: إن الذي يسب رسول الله له حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون مستأمناً أو ذمياً أو معاهداً، وقد شرحناه في الأسبوع الماضي وبينا الأدلة على حده؛ لأنه أصلاً كافر في الأصل، وهل ينتقض عهده أو تنتقض الذمة أو ينتقض الأمان الذي أخذه بعد دخوله البلاد الإسلامية بسب الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟
بينا الأسبوع الماضي هذا الكلام، وبينا أن هناك خلافاً بين العلماء، وأتينا بالأدلة على الراجح منها.
الحالة الثانية: أن يكون الساب مسلماً، فإذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- فحكمه الكفر، وأنه ارتد عن دين الله بذلك، وهذا بإجماع من يعتد بإجماعه، وقلنا: خالف في ذلك المرجئة فقط، حيث قالوا: لا بد أن ننظر في استحلال قلبه، فإن استحل بقلبه يكفر، وإن لم يستحل لا يكفر، ويكون فعله كبيرة من الكبائر، وهذا قول المرجئة نعوذ بالله من الخذلان!
أما إجماع الصحابة وإجماع أهل السنة والجماعة فمفاده: أن الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الملة ويكفر بذلك، وحده القتل، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، ومن إجماع الصحابة، بل ومن النظر، واليوم إن شاء الله سنتناول الكلام على الأدلة من الكتاب والسنة على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج بذلك من الملة ويصير مرتداً.
فمن الأدلة الصريحة: قول الله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة:64] ثم قال بعد ذلك: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، وهذا صريح؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنهم كفروا بعدما آمنوا، وأقر أنهم على إيمان، فكفروا وخرجوا من الملة بذلك، ولذلك قالوا: (يا رسول الله! والله ما كنا إلا نلهو)، يعني: أنهم ما قصدوا الاستهزاء، ولا قصدوا السب والأذى، ومع ذلك قال شيخ الإسلام : فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء هازلاً أو جاداً أو قاصداً فإنه يكفر بذلك، ولذلك هم قالوا: ما قصدنا الاستهزاء؛ فقال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] وهذا الكفر الذي وقعوا فيه هو حكمهم، وذلك أنهم ارتدوا عن دين الله جل في علاه، والحد في ذلك هو القتل، وأغلظ ما وقعوا فيه من الردة هو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من بدل دينه فاقتلوه) ومن سب رسول الله فقد بدل دينه لقول الله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فمن بدل دينه حكمه القتل.
وكذلك ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر من الثلاث: التارك لدينه المفارق للجماعة) والذي يسب الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك دينه بنص كلام الله جل وعلا، قال تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ، وأيضاً هو مفارق للجماعة لأنه ليس من أهل الإسلام، فمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكمه الكفر بنص الآية، وحده القتل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى مبيناً حبوط العمل: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ يعني: لئلا تحبط أعمالكم، كأن الآية تفسر بأن الذي يرفع صوته على النبي يحبط عمله، ولذلك جاء في الآثار: (كاد الخيران أن يهلكا) وهما: أبو بكر وعمر ، قال أحدهما: لـ الأقرع بن حابس والثاني يقول: ول فلاناً وعلت الأصوات عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله هذه الآية: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2] فلا يمكن أن يحبط عمل الإنسان بحال من الأحوال إلا بالكفر، ولذلك قلنا: إذا راءى المرء في عمل معين فإنه يحبط هذا العمل فقط، لكن الأعمال كلها لا يمكن أن تحبط إلا بالكفر، والدليل على ذلك من كتاب الله قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] إذاً: فالشرك ينبئ بحبوط العمل، وهناك آية أخرى تثبت أن حبوط العمل لا يكون إلا بالكفر، قال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217] فدل ذلك أن الردة تحبط العمل.
وفي آية أخرى يقول تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهْ [المائدة:5] ففيها الدلالة على أن حبوط العمل يستلزم الكفر؛ لأن العمل لا يمكن أن ينهار ويلغى جميعه إلا بالكفر، فقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وهذا في الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو يرفع صوته في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يعتبر من سوء الأدب فإن الله جل في علاه حذر الصحابة أن تحبط أعمالهم بهذا العمل، فإذا كان رفع الصوت يحبط العمل فمن باب أولى أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم يكون سبباً للردة وحبوط العمل، ويسمى هذا قياساً جلياً.
فمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات في لحظتها فهذا الذي كتب الله عليه الخلود في نار جهنم وقد حبطت أعماله كلها.
وهناك آية أيضاً صريحة جداً في هذه المسألة وهي: قول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] ووجه الدلالة من الآية نفي الإيمان: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يعني: فليس في قلوبهم إيمان الذين يوادون من حاد الله ورسوله، ففيها الدلالة على أن من حاد رسول الله كفر؛ لأنه نفى الله عنه الإيمان.
وهناك آية أكثر وضوحاً من هذه في نفس السورة، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ [المجادلة:20]، ولا يكون في الأذلين ولا في الدرك الأسفل إلا من كفر، فوجه الدلالة على أن المحادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق صاحبها، أن يكون في الأذلين لكفره بذلك، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا [التوبة:58]، هذه أيضاً من الآيات التي تدل على كفر من حاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، ومن الممكن أن نستدل على هذا بالآية التي صدرنا بما الباب وهي: قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60]، فهؤلاء الذين يتحاكمون إلى الطاغوت إذا قلت لهم: تعالوا إلى رسول الله أعرضوا، كما بين الله في السورة الأخرى، ففيها دلالة على: أن النفاق الذي في القلب يكون كفراً مخرجاً من الملة.
يقول الله تعالى في المنافقين: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61] فهذه آية صريحة جداً في أن المنافق الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يلمز أو يغمز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر؛ لأن الله بين أنهم في نار جهنم خالدين فيها، وحده القتل لقول الله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فحدهم القتل.
فهذه أقسام ثلاثة من الآيات -بإيجاز- التي تثبت أن المسلم الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، وتعتبر ردة، وحده القتل.
أولاً: الأحاديث التي جاء فيها التصريح: الحديث الصحيح: (لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم جاء رجل غائر العينين، فقال: يا محمد! اعدل. فقال
ووجه الدلالة: أن هذا كفر، فهو لمز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله: (اعدل يا محمد) معناه: لست عادلاً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويحك). وفي رواية قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!) .
وفي رواية قال: (ويحك ومن يعدل إن لم أعدل أنا؟) .
وأيضاً في رواية ثالثة ستأتي أنه قال: (إذاً: لم يعدل أحد) أي: فإن لم يعدل رسول الله فمن يعدل بعده؟ لن يعدل أحد، فهذا غمز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الغمز يدل على كفره ونفاقه بدليل قول عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق، فأين وجه الدلالة؟ وجه الدلالة: أنه لما قال عمر : (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) .
وفي الرواية الأخرى: لما قام خالد وقال: (دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لعله يصلي، قال: إنه يفعل ذلك رياءً؛ فقال: ما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس) لكن الدلالة الواضحة عندنا في هذا الحديث: أن عمر لما قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق أقره النبي ولم ينكر عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض بقتله لعلة أخرى، وهذه العلة ستكون بإذن الله في شرح الكلام على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته هل يمكن أن يعفى عنه بعد التوبة أم لا؟ وهل يقتل أم لا يقتل؟
فالنبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه وله أن يعفو عنه؛ لأن هذا حق للرسول فعفا عنه وأسقط حقه، وهذه لا تكون أبداً إلا في حياة النبي، ائتونا بشخص يخلف النبي ويقول لنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه صلى الله عليه وسلم؟! لن تجده بحال من الأحوال، فالعفو في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم يكون من النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: لا. لمصلحة أعظم من قتله، وهي عدم تنفير الناس من الدخول في الإسلام أفواجاً، ولذلك قال: (لا، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) .
كذلك فمن الأدلة من السنة: قصة ابن أبي السرح ، وهذا قصته عجيبة فـ ابن أبي السرح قريب لـعثمان بن عفان كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه القرآن على سبعة أحرف، فكان يقول له: اكتب: تبينوا، فيكتب في الآية: تثبتوا، وهي تقرأ تبينوا، وتقرأ تثبتوا، ويقول اكتب: سميعاً عليماً، فيكتب: سميعاً بصيراً، فكان يكتب ذلك ويكتم هذه الكتابة، ثم بعد ذلك ارتد عن دين الله جل في علاه -نعوذ بالله من الخذلان- وبعدما ارتد قال: والله لا يدري محمد ما أكتب، فأنا الذي أكتب له هذا، فأدخل على الآيات ما لا يعرفه محمد، فكان يأمره أن يكتب مثلاً: سميعاً عليماً فيكتبها: سميعاً بصيراً، ولذا زعم لقريش أن محمداً لا يدري ما يقول، يقول: وكنت أدخل عليه بعض الكلام كأنه يلقن النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقن - حاشا لله!- وهذا انتقاص من قدر رسول الله، لكن كيف يكون هذا انتقاصاً من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا فيه انتقاص للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: فيه تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عندما يقول: أنا الذي أكتب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكتب والله! ما يخرج منه -أي: فيه- إلا الحق والصدق) . وقال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الوحي في كل سكناته وحركاته وكلماته، فمعنى قوله: أنا أدخل عليه .. أو أكتب له .. فيتلو على الناس ما أدخلته عليه، دليل على أنه ليس بوحي، فكأنه يعرض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كذاب، حاشا لله وحاشا لرسوله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
الوجه الثاني: التشكيك في حفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه إذا جاءه الوحي لم يضبطه وضبطه الثاني فأكمل.
الثالث: يستلزم من ذلك نفي نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثلاثة وجوه فيها تنقيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك أهدر النبي دمه وأمر بقتله، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي مكة وعلى رأسه المغفر أمر بقتل ابن أبي السرح ، لكن ابن أبي السرح كان ذكياً فذهب إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه وكان قريباً له، فجاء عثمان يستشفع، انظروا إلى هذه القصة الرائعة التي تبين لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهدر دم أحد لا يرجع فيه، ومع ذلك وفاؤه يمنعه من أن يقتل، فقد دخل عثمان ليشفع لـابن أبي السرح ويقول: يا رسول الله بايع ابن أبي السرح والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، فهو لا يريد المبايعة، فيقف عثمان ملحاً على رسول الله والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عن ابن أبي السرح ولا يريد أن يبايعه؛ لأنه فعل أمراً فيه منقصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم لشرع الله جل في علاه، وهدم لدين الإسلام كلية، ولذا نحن نقول: طلبة العلم الذين يرفعون شعار الدين وينشرونه بين الناس الغيبة فيهم أشد بكثير من الغيبة في عوام الناس؛ لأن الغيبة في العلماء معناه أن تسقط قدر العلماء بين العامة فيسقط الشرع بذلك؛ لأنهم حملة الشرع، فما بالكم بالذي أتى بالشرع نفسه؟ فإن الانتقاص من قدره انتقاص من كلية الشرع، فلذلك ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايع ابن أبي السرح حتى ألح عليه عثمان وجاءه ابن أبي السرح فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بعدما بايعه عاتب صحابته الكرام فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد؟ أما قام أحدكم ليقتله؟!) فانظروا النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله جل في علاه أنه بالمؤمنين رءوف رحيم ما أراد أن يرحم ابن أبي السرح ، وأراد قتله، لأن هذا قد كتب في اللوح المحفوظ، لكن لم يفقه الصحابة ذلك، وقد قدر الله كوناً أن يعفى عن ابن أبي السرح، ولعل في قلبه من الإيمان شيء، فقبله الله جل في علاه وما استفاق أحد من الصحابة ليقتله؛ ولذلك عاتبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلهجة شديدة قال: (أما كان فيكم من رجل رشيد يقوم فيقتله عندما رآني لا أبايعه؟ قالوا: يا رسول الله! لو أومأت لنا) . يعني: غمزت بعينيك. فقال: (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) وهذه أمانة ليس بعدها أمانة لهؤلاء المغفلين الذين يقدحون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما كان لرسول أن تكون له خائنة أعين) . فكتب الله وقدر كوناً أن يحيا هذا الرجل على الإسلام، ويموت على الإسلام، فالحمد الله الذي أنجاه الله من نار جهنم.
أولاً: حديث ابن أبي السرح هل فيه دلالة على الكلام على المسلم؛ لأننا الآن بصدد الكلام على المسلم؟
ثانياً: هل يصح هذا الحديث أن يستدل به على مسألة المسلم؟ وهل القتل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم للردة أم لا؟ يعني: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن أبي السرح هل هو لردته؟ فإن كان لردته فهل يكون دليلاً على أن الذي يسب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل أم شيء فوق ذلك؟.
ابن أبي السرح كان مسلماً، فارتد وتكلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقلته جزاء للردة أم لشيء فوق الردة؟
ابن خطل ارتد وكان أحرى بنا أن نأتي بالكلام على هذا الحديث في الكلام على المرتد، لكن هنا ابن خطل لما سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب، ولما علم أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة تعلق بأستار الكعبة، وهذا إشارة إلى الإسلام، فقالوا لرسول الله: إنه تعلق بأستار الكعبة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وجدتموه قد تعلق بأستار الكعبة فاقتلوه) فقاموا فقتلوه، وجه الدلالة من هذا الحديث: أنه إذا كان مسلماً وارتد فيمكن من مقاصد الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم يتسامح معه ويعرض عليه التوبة؛ لأن من مقاصد الشريعة تشوف الإسلام لإسلام الكافر، فإن كان الإسلام متشوفاً لإسلام الكافر فـابن خطل إن رجع عن دينه فالإسلام متشوف أيضاً لإسلامه، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطه هذه الفرصة، وقتله تغليظاً عليه؛ لأنه انتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالسبب الرئيسي الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل ابن خطل مع عدم التجرؤ من الصحابة على القتل في الحرم؛ لأن القتل في الحرم ممنوع، بل بين النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أنها ما أحلت له إلا ساعة واحدة من نهار، ومع ذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلق بأستار الكعبة فاقتلوه).
وهذا لعظم الجرم حيث أنه قد أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقص من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر