يقول الله تعالى:
طه [طه:1].
نبه الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية على نكتة تتعلق بالحروف المقطعة في أوائل بعض السور فقال:
وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ رفها ترى سراً عظيم الشان
لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن
إذ كان إخباراً به عنها وفي هذا الشفاء لطالب الإيمان
ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها والحق ذو تبيان
فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان
مع تلوها أيضاً ومع حم مع يس وافهم مقتضى الفرقان
والعلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى يرى أن أظهر الأقوال في هذه الحروف أنها مما تحدى به الله في القرآن الكريم العرب، فهو مكون من نفس لغة العرب التي نزل بها القرآن، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله!
يقول: أظهر الأقوال عندي أن
طه [طه:1] من الحروف المقطعة في أوائل السور، مثل
حم [غافر:1] و
الم [البقرة:1] وغيرها، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها بأنها من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة الشعراء:
طسم [الشعراء:1]، وفاتحة النمل:
طس [النمل:1]، وفاتحة القصص، وأما الهاء ففي فاتحة مريم:
كهيعص [مريم:1]، فخير ما يفسر به القرآن القرآن.
وقال بعض أهل العلم وهو أيضاً قول معتمد عندهم: أن (طه) الطاء مثل الطاء في (طسم)، والهاء مثل الهاء في (كهيعص)، يعني أنها من الحروف المقطعة في أوائل السور، خلافاً لما يزعمه بعض الناس من أنه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويسمون أبناءهم بـ(طه) بناء على هذا، وهذا مما لا يثبت، وإنما هي حروف كأي حروف أخرى مقطعة في أوائل السور.
وقال بعض أهل العلم: قوله: (طه) معناها: يا رجل، وهي لغة بني عبس من عدنان، وبني قيس، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عكل: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه، حتى تقول له: يا طه، ومنه قول
متمم بن نويرة التميمي :
دعوت لطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون مزايلاً
وقال
عبد الله بن عمرو : معنى (طه) بلغة عك: يا حبيبي! ذكره
الغزنوي وقال هو بلغة طي، وأنشد
يزيد بن المهلهل :
إن السفاهة طه في شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين
ويروى: إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين
وممن نقل عنه: أن معنى (طه) يا رجل:
ابن عباس و
مجاهد و
عكرمة و
سعيد بن جبير و
عطاء و
محمد بن كعب و
أبو مالك و
عطية العوفي و
الحسن و
قتادة و
الضحاك و
السدي و
ابن أبزى . وغيرهم، نقل ذلك عنهم
ابن كثير وغيره.
وذكر
القاضي عياض عن
الربيع بن أنس قال: (
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه)) يعني: طء الأرض بقدميك يا محمد!
وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة يعني: فهو أمر بالوطء على الأرض بقدميه.
وفي (طه) أقوال أخر ضعيفة مثل:
القول: بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول: بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، كأن الله تعالى يقول: يا طاهراً من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة.
والصواب -إن شاء الله- في الآية هو ما صدرنا به كلامنا، ودل عليه القرآن في مواضع أخر.
إذاً: معنى (طه) مثل (الم)، وليس كبعض الناس إذا سمع (طه) قال: صلى الله عليه وسلم، نعم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر اسمه، لكن (طه) ليست من أسمائه عليه الصلاة والسلام.
-
تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
-
تفسير قوله تعالى: (تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى)
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار إلى تضخيم هذا المنزل الكريم بنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل:
تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى *
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *
لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:4-6]، فهذا كله تفخيم لشأن القرآن الكريم، وبيان عظم قدر من أنزله، وهو الله سبحانه وتعالى المتفرد بصفاته وأفعاله.
وقوله: (الرحمن) قرئ بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصوف، والكلام هنا على وصف الرحمن: (( تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى )) (( الرَّحْمَنُ ))، بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصول، يعني: ممن خلق.
قوله: (( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) أي: علا وارتفع، قاله
ابن جرير ، وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان، كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلاً.
ولا شك أن هذا المسلك الخلفي مسلك مذموم، وهو من التأويل الفاسد الذي يجب رده، والصحيح بل الصواب الذي لا يصح غيره: أن مثل هذه الآيات من آيات الصفات تمر على ظاهرها الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، بلا كيف، وبلا تعطيل، قال
ابن كثير : والمسلك في ذلك طريقة السلف من إمرار ما جاء من ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6]، هذا بيان لشمول قهره وملكه للكل، أي: كلها تحت ملكه وقهره وسلطنته وتدبيره، لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره سبحانه وتعالى.
-
تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
-
تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)
-
تفسير قوله تعالى: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً ...)
-
تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ...)
ثم أشار عز وجل إلى وجوب إفراده بالعبادة، وإقامة الصلاة لذكره بقوله:
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه:15] أي: واقعة لا محالة،
أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15] أي: بسعيها عن اختيار منها، والنفس متعلقة بآتية، يعني: إن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما تسعى.
ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات، وأن الساعة لا يُعلم متى هي، وفي: (كاد) معنى القرب من ذلك، وتأولوا الآية على وجوه:
الوجه الأول: إن كاد منه تعالى واجبة، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: أكاد أن أفعل كذا، معناها: أن ذلك واجب أن يقع كما أراد الله سبحانه وتعالى، والمعنى: (أكاد أخفيها) أنا عن الخلق لقوله تعالى:
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51]، فعسى من الله واجبة، بمعنى: هو قريب.
الوجه الثاني: قال
أبو مسلم : (أكاد) بمعنى: أريد، كقوله تعالى:
كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].
ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد) بمعنى: ولا أريد أن أفعل.
قال
الشهاب : تفسير (أكاد) بأريد هو أحد معانيها، كما نقله
ابن جني في المحتسب عن
الأخفش ، واستدلوا عليه بقوله:
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
كادت وكدت، يعني: أرادت وأردت، بدليل أنه قال بعدها:
وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
بمعنى: أراد، لقوله: تلك خير إرادة.
الوجه الثالث: أن (أكاد) صلة في الكلام، قال
زيد الخير :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس
الوجه الرابع: أن معنى (أكاد أخفيها): فلا أذكرها إجمالاً، ولا أقول: هي آتية؛ وذلك لفرض إرادته تعالى: إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي: اللطف بالمؤمنين، وبحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم.
وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف وإن اتسع اللفظ لها.
-
تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)
-
تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)
قال تبارك وتعالى:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، هنا شروع في ما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر، وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع.
لماذا ينبه الله موسى عليه السلام أنها عصا؟
لأن هذا تمهيد وإيقاظ وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى.
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18] استوفى الجواب كل أركان التعريف، فإن أي شيء أردت أن تعرفه فإنك تعرف الذات، ثم النسبة فقال: (عصاي)، والياء ياء النسبة، ثم فؤائدها: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).
(أتوكأ عليها) أي: أعتمد عليها إذا عييت، أو إذا وقفت على رأس القطيع عند الصخرة.
(وأهش بها على غنمي) أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله.
(ولي فيها مآرب أخرى)، أي: حاجات أخر.
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى *
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى *
قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:19-21] أي: سنعيدها إلى هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تفعل من قبل، فليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك.
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ [طه:22] أي: إلى إبطك،
تَخْرُجْ بَيْضَاءَ [طه:22] أي: نيرة،
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [طه:22]، أي: من غير قبح وعيب؛ كبياض البرص فإنه مما ينفر عنه؛ لأن البياض المستقبح هو البياض الذي ينشأ عن البرص -المرض المعروف- فلذلك قال: (بيضاء من غير سوء)، حتى لا يتوهم أحد أن هذا بياض منفر كبياض البرص، واعتمد
الزمخشري أن قوله تبارك وتعالى: (من غير سوء) كناية عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوءة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه لجاجة، فكان جديراً بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا أنصف ولا أجمل للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه، (( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى )) أي: معجزة أخرى غير العطاء.
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23]، حق الآيات أن تظهر بعد التحدي والمناظرة، ولكن لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى؛ فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة.
والمقصود من هاتين المعجزتين وما ينضاف إليهما: إفحام فرعون، وتأييد موسى بهذه المعجزات أمام الكفار عند المناظرة، والله سبحانه وتعالى أراه أولاً هذه المعجزات مع أن حقهما إظهارهما عند التحدي والمناظرة، لكن أراه الله أولاً بعض آياته الكبرى ليقوى قلبه على مناظرة الطغاة، فحينما يقصد ويواجه فرعون يكون قلبه متيقناً أن معجزاته واقعة، فقد رأى العصا انقلبت حية، ورأى ما حصل بيده عليه السلام، وغير ذلك من هذه الآيات.
-
تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)
قال تعالى:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [طه:24] أمره أن يذهب إليه بعد أن طمأن قلبه بهذه المعجزات، وأنه مؤيد من الله سبحانه وتعالى، (اذهب إلى فرعون) هذا هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة.
إذاً: كل ما مضى تمهيد لهذا المقصود؛ وهو الذهاب إلى فرعون، وفصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته، والأوامر الماضية لما قال له تبارك وتعالى: (ألقها يا موسى)، ثم قال: (خذها ولا تخف)، ثم قال: (واضمم يدك إلى جناحك)، ثم فصل بينهما بقوله تبارك وتعالى: (تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)، بعد هذا الفصل قال: (اذهب إلى فرعون)، على أنها مهمة مستقلة، أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعوه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي.
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] أي: جاوز الحد في التكبر والعتو حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، فلابد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية التي صدقتها المعجزة.
-
تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري ..)
-
تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى)
-
تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ...)
قال تعالى:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40].
هذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كون أخته مشت إليهم، وقالت لهم: (هل أدلكم على من يكفله)، أوضحه جل وعلا في سورة القصص، فبين أن أخته المذكورة كانت مرسلة من قبل أمها لتتعرف على خبره بعد ذهابه في البحر، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريماً كونياً قدرياً، فقالت لهم أخته: (هل أدلكم على من يكفله) أي: على مرضع يقبل ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة؟ وذلك في قوله تعالى:
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ *
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ *
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:11-13]، فقوله تعالى في آية القصص: (وقالت لأخته) أي: قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها، (قصيه) أي: اتبعي أثره وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره.
(فبصرت به عن جنب) أي: رأته من بعيد كالمعرضة عنه؛ تنظر إليه وكأنها لا تريده، (وهم لا يشعرون) بأنها أخته جاءت لتعرف خبره، فوجدته ممتنعاً من أن يقبل ثدي مرضعة؛ لأن الله يقول:
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص:12] أي: تحريماً كونياً قدرياً، ومنعناه منها ليكون بذلك رجوعه إلى أمه، وليكون ذلك سبب رجوعه إلى أمه؛ لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه.
وعن
ابن عباس رضي الله عنهما أنها لما قالت لهم: (( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ))، أخذوها وشكوا في أمرها، وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له، وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ورجاء منفعته. يعني: أنها تكون مخلصة وناصحة له وأمينة؛ كي تنتفع من الملك بأجر هذه الرضاعة؛ فأرسلوها لما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، فذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة؛ ولكن لكونه قبل ثديها سألتها أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليهم، وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً، ولا أقدر على المقام عندكم، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والغلال والكساوي والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها، وقد أبدلها الله بعد خوفها أمناً في عز وجاه ورزق دارٍ!
قوله تعالى في آية القصص:
وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ [القصص:13]، وعد الله هو المذكور في قوله:
وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، والمؤرخون يقولون: إن أخت موسى المذكورة اسمها
مريم .
قوله: (كي) إن قلنا: إن (كي) حرف مصدري واللام محذوف، فالمعنى: لكي تقر، وإن قلنا: إنها تعليلية فالفعل منصوب بأن مضمرة.
(تقر عينها) قيل: أصله من القرار؛ لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره، فقرت العين: أن العين إذا رأته تسكن وتثبت عليه ولا تتحول إلى غيره من شدة الوله به.
وقيل: أصله من القرار كما في قوله:
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، فالقرار المقصود به السكون، بمعنى: أن العين إذا رأته لشدة حبه له تدخل وتستقر عليه، ولا تتحول إلى غيره.
وإذا قلنا: هو مأخوذ من القر: البرد، تقول العرب: يوم قر، أي: بارد، ومنه قول
امرئ القيس :
تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعاً صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرفت الأرض واليوم قُرّ
يعني: واليوم بارد.
ومنه أيضاً قول
حاتم الطائي الجواد :
أوقف فإن الليل ليل قر والريح يا وافد ريح صر
فالقر البرد، ولماذا خص البارد؟ لأنهم يقولون: إن البكاء الذي ينشأ عن الفرحة تكون دموعه باردة، والبكاء الذي يصدر عن الحزن يكون ساخناً، وعلى هذا القول فإن قرة العين من بردها؛ لأن عين المسرور باردة، ودمع البكاء من السرور بارد جداً، بخلاف عين المحزون فإنها حارة، ودمع البكاء من الحزن حار جداً، ومن أمثال العرب: أحر من دمع المقلاة، والمقلاة هي المرأة التي لا يعيش لها ولد، فيشتد حزنها بموت أولادها، فتشتد حرارة دمعها بذلك.
قال
القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ )): أي: يضمن حضانته ورضاعته، فقبلوا قولها؛ وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها، كما قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع)، فجاءت أخته فقالت:
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12] فجاءت بأمه كما قال: (فرجعناك إلى أمك) أي: مع كونك في يد العدو، (كي تقر عينها)، برؤيتك، (ولا تحزن) بفراقك، فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.
-
تفسير قوله تعالى: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً)
-
تفسير قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى )
-
تفسير قوله تعالى: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ...)