أما بعــد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله القائمين على هذا المركز خيراً؛ إذ تسببوا في هذا الاجتماع الطيب المبارك. ولقد فعلوا بي معروفاً ربما لم يدركوه، بل أكثر من معروف.
أما المعروف الأول: فحين كانوا سبباً في مجيئي إلى هذا البلد الطيب، الذي كنت فيه في صغري وطفولتي، ودرست فيه السنين الأولى، وعشت فيه أيام الصبا، وتسنى لي بذلك رؤية المشائخ والإخوان الفضلاء، الذين طال العهد بهم.
أما المعروف الثاني: فذلك أنني حين قلت للإخوة: سوف أتحدث عن وصايا العلماء عند حضور الموت، أزمعت أن أجمع بعض هذه الوصايا، وكنت أذكر في مكتبتي كتاباً ألفه الإمام الربعي، وهو كتاب نفيس مفيد في بابه، يحمل نفس العنوان وصايا العلماء عند حضور الموت وجمع فيه وصايا العلماء وغيرهم منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى العلماء الذين جاءوا في دولة بني أمية وما بعدها. ولكنني لم أظفر بهذا الكتاب حين احتجته، فرجعت إلى أوراق لي قديمة، كنت قد جمعتها قبل خمس سنوات، وهي عبارة عن مقتطفات من كتب السنة، فقد تسنى لي في تلك السنين أن أقرأ مجموعة من كتب السنة كـالصحيحين، والسنن، والزهد لـابن المبارك، وغيرها. وكنت أجمع كل ما يتعلق بوصايا العلماء، وأصور في أوراق عندي؛ فرجعت إليها بعد أن كنت نسيتها، أو كدت أن أنساها فكانوا بذلك سبباً في مراجعتي لهذه الأوراق من جديد، واستفادتي منها، ومنها جمعت بعض هذه الوصايا التي سوف أعرضها عليكم.
فبين الله عز وجل أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن من خشي ربه فهو من خير البرية. إذاً فالعلماء هم خير البرية، وهم أنصح الناس للناس، وأفصحهم، وأقدرهم على التعبير عما في نفوسهم.
ولذلك، فإن نصيحة العالم عندما يحضره الموت هي من أعظم النصائح، وأجدرها بالأخذ، والقبول.
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وذهب آخرون إلى أنها محكمة، وفي الحديث الذي رواه الجماعة، البخاري، ومسلم وأصحاب السنن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{لا يحق لامرئ له شيء يريد أن يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي لكل إنسان له شيء يريد أن يوصي به، له حقوق على الناس، أو للناس عليه حقوق، أو له أشياء يريد أن يكتبها ألا يبيت ليلتين، وفي رواية ليلة، وفي رواية ثلاث ليال، فكأن أقصى مهلة أعطيت لك أن تكتب وصيتك ثلاث ليال، ولا تمر عليك ثلاث ليال إلا وتكتب وصيتك، وتجعلها محفوظة عندك.
هذا إذا كان لك شيء تريد أن توصي به، أما إذا كنت تقول: لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا لي شيء، ولا علي شيء، حينئذٍ ليس عليك أن تكتب الوصية أو لا تكتب، لكن إن كان لك حقوق، وعليك حقوق فإنه ينبغي لك أن تكتب الوصية، وقيل يجب عليك ذلك، والجمهور على أنه يستحب أن تكتب هذه الوصية.
وقد جاء في الحديث الذي حسنه ابن حجر وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل مات ميتة فجأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! كأنها أَخْذة أسف، أو كأنها أَخْذة آسف} ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالوصية.
إذاً الإنسان لا يدري، قد يصبحه الموت أو يمسيه، وما الأمر إلا نَفَسٌ يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، فإذاً الحزم كل الحزم، والعقل كل العقل أن تكتب وصيتك، ولا تمهل أو تؤجل، فكم من إنسان كان يريد أن يوصي، لكن عاجلته المنية؛ فأصبح ما له لغيره:
وأصبح مالي من طريف وتالد لغيري وكان المال بالأمس ماليا |
"وأنهاك عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر أما الشرك: فشأنه معروف: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
وأما الكبر: فهو قرين الشرك، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، وغيره: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا: يا رسول الله، أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} أي: جحد الحق ورده وبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم؛ فنهى نوح ابنه عن الشرك والكبر.
فنقول: نعم، ولم يكن الله عز وجل يكلفنا ذلك، إلا ونحن نطيقه ونستطيعه، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، فإذا علم الله من عبده الصدق والإخلاص، والإيمان والاستقامة؛ فإن الله تعالى يقبض روحه على ذلك.
وإذ علم الله تعالى من عبده النفاق، وأنه يظهر ما لا يبطن، يعلن ما لا يسر، فإن الله تعالى يفضحه عند النـزع، ويبين حقيقته للناس. فإن العبد عند احتضاره تبين حقيقته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل النار. وإن العبد ليعمل من عمل أهل النار -فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة}.
إذاً هذا إنسان يتظاهر بالإيمان والإسلام، ويقول ما لا يعتقد؛ فيفضحه الله تعالى على فراش الموت، وذاك عبد صادق، علم الله من قلبه الصدق، والإقبال، والإخبات، والانقطاع إليه فثبته الله تعالى، قال الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] ولذلك جاء في حديث البراء الطويل، الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، بسند حسن، وأصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد المؤمن إذا احتضر بشر برحمة من الله تعالى، وحضرت الملائكة، فقالوا: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله تعالى ورضوان، ورب غير غضبان، فتخرج روحه، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا احتضر، قيل: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله تعالى وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فلا تخرج إلا بعناء}.
إذاً: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] إن كان العبد صادقاً قبض الله روحه على الإيمان والتقوى، وإن كان منافقاً، أو مخلطاً فربما يفتضح -والعياذ بالله تعالى- عند الموت.
وهذا من أسرار حسن الخاتمة أو سوئها، وقد تكلم الإمام ابن القيم في هذا الموضوع، وأطال الكلام فيه في مواضع عديدة من كتبه. فقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] معناها: اسلموا لله تعالى إسلاماً حقيقياً حال اختياركم وحياتكم؛ يقبض الله تعالى أرواحكم على الأيمان أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].
إذاً: يعقوب عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه؛ فاجتمعوا عنده، وكانوا أحد عشر أو اثنا عشر، فكان يسألهم ما تعبدون من بعدي؟
يريد أن يطمئن على تربيته، وعلى غرسه، وعلى ولده قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] فاطمأن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وارتاح لذلك قلبه، وهدأت له نفسه، وعلم أن أولاده سوف يرثون بضاعته من بعده، ويحملون راية التوحيد التي كان يحملها، وحملها من قبله آباؤه إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق.
أهجر، استفهموه -كأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، فقال قولاً يحتاج إلى بيان، وربما يكون فيه قول من غلبة المرض عليه- قال: فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فقاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، قال: وأوصاهم بثلاث، الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، الثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة.
قوله عليه الصلاة والسلام: { أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} فقد كان في جزيرة العرب يهود، يهود في تيماء، وخيبر، وفي عدد من البقاع، وكان فيها نصارى في نجران وفي غيرها. فأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في جزيرة العرب إلا مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم، يقول: {لأخرجن المشركين من جزيرة العرب، اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلمٌ} ويقول عليه الصلاة والسلام:{لا يجتمع في جزيرة العرب دينان}.
هذه الجزيرة أيها الأحبة لها هذه الميزة التي ليست لأي بقعة في الدنيا. هي جزيرة الإسلام، أرض الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، عاصمة الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم وغيره: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها} يعني: يجتمع وينضم ويرجع بين المسجدين، مسجد مكة ومسجد المدينة.
إذاً: فهذه البلاد -حتى في أيام غربة الإسلام، وضعف شأنه-: هي بلاد الإسلام، وحصنه الحصين، وأهلها هم الذين يدفع الله تعالى بهم عن هذا الدين الغوائل، والعوادي على مر العصور، وكر الدهور؛ ولذلك أعظم، وأكبر وأخطر فتنة تمر بالمسلمين، بل تمر بالبشرية كلها من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة: هي فتنة المسيح الدجال. من هو الذي يكسر هذه الفتنة، ويسقطها، ويكون بداية زوالها على يديه؟
إنه رجل من أهل هذه الجزيرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم شأنه في حديث رواه البخاري وغيره: {أن المسيح الدجال يدخل كل البلاد إلا مكة والمدينة، فإذا كان قريباً من المدينة جلس في بعض السباخ فارتجت المدينة، أو رجفت ثلاث رجفات؛ فخرج إليه كل منافق ومنافقة. والناس يفتنون به ويغترون بما معه من المظاهر، ومن الألاعيب، ومن الخدع، ومما سخره الله تبارك وتعالى له. فيخرج إليه شاب من المدينة هو خير أهل الأرض يومئذ، أومن خير أهل الأرض يومئذ. فإذا وقف أمام المسيح الدجال قال: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المسيح الدجال للناس: أرأيتم إن قتلت هذا الشاب، وقطعته إلى قطعتين، ومشيت بين قطعتيه، أتشهدون أني أنا الله؟ فيقولون: نعم. فيقطعه، ثم يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم فيستوي حياً بإذن الله عز وجل، فيقول لهذا الشاب: أتشهد أني أنا الله؟ فيقول هذا الشاب: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة -ما ازددت فيك إلا علماً، ومعرفةً، ووعياً- لأن الرسول عليه السلام أخبرنا بذلك، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، ويجعل الله عز وجل على رقبته شيئاً من نحاس أو حديد، فلا يستطيع الدجال أن يقتله
إذاً: أخطر وأعظم فتنة: فتنة الدجال، بداية زوالها على يد شاب من هذه الجزيرة، فما دونها من الفتن التي تنـزل بالمسلمين، يتصدى لها شباب هذه الجزيرة بالدرجة الأولى، وغيرهم من شباب المسلمين في كل مكان، حتى يكتب الله تبارك وتعالى فضيحتها، وزوالها على أيديهم.
وفي الصحيح: { أن أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما أني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنى أبكي انقطاع الوحي من السماء. لاحظ الفقه عند هذه المرأة، تقول: لا أبكي على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، فإن ما عند الله خير له وأبقى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء. قال: فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها
ومن الأشياء التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن، أو ترى له، وأنها هي الشيء الوحيد الباقي من آثار النبوة، وذلك لأن أول ما بُدِئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
والمقصود ألا يقرأ القرآن على سبيل القراءة، أما لو قرأه على سبيل الدعاء فلا حرج، فلو قال المصلي في ركوعه أو سجوده رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] أو قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] أو ما أشبه ذلك من الأدعية القرآنية، لا على سبيل القرآن، لكن على سبيل الدعاء، فإن هذا لا يدخل في ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وما ملكت أيمانكم، يعني: اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، من العبيد والأرقاء، أحسنوا ملكتهم، وأحسنوا إليهم، ولا تظلموهم، ولا تحملوهم مالا يطيقون. وهذا من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وشفقته، وحرصه على حقوق العباد، وأن يقوم الإنسان بحقوق الناس، ولا يقصر في شيء منها؛ والحديث صحيح وله شواهد عديدة.
فينبغي للعبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن من حسن العمل، فإن العبد إذا أحسن العمل رزقه الله تعالى حسن الظن، وإذا أساء العمل ساء ظنه:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم |
وعادى محبيه لقول عداته وأصبح في ليلٍ من الشك مظلم |
في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالوا: يا رسول الله: أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا حُضِِر بُشِّرَ برحمة من الله عز وجل ففرح، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِِر بُشِّرَ بسخط من الله وعذاب؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه
إذاً: من أحسن العمل، أحسن الظن، ومن أساء العمل، أساء الظن، فلا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
ربي دعوتُ كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم |
وورد في حديث: {أن الرحمة لا تنـزل على قوم فيهم قاطع رحم} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} قاطع الرحم لا يدخل الجنة، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان قد يصل أصدقاءه، ويحسن إليهم، ويستميت في خدمتهم، وتحقيق مطالبهم، والسهر على راحتهم، فإذا جاء الأمر فيما يتعلق بوالديه، وأرحامه، وأقاربه، فإنه لا يأبه بهم، ولا يتحمل من والديه كلمة خشنة، أو موقفاً صعباًً، وكثيرٌ من الشباب يستثقلون والديهم، ويضحكون من أعمالهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقد يستهزئون بهم، وقد يقولون لهم كلمات خشنة بذيئة، لا تليق أن تقال لرجل بعيد، فكيف بالقريب؟!!
أخي الشاب! إنك مطالب -أصلاً- إذاً رأيت كبير السن، الذي شاب في الإسلام مفرقه، وشابت لحيته، وظهر عليه هذا الوقار، فأنت مطالب أصلاً أن تقدره، وتجله، وتخدمه، وتتلطف معه في القول، وتقدمه في المجالس، وفي كل شيء، فكيف إذا كان قريباً! فكيف إذا كان أبا أو كانت أماً؟
الأمر في ذلك أعظم وألزم، فلينتبه الشباب، وليعرف أن الصلة والبر من الأشياء التي تعجل ثمراتها في الدنيا، فإن الإنسان إن كان باراً بوالديه؛ عجلت له ثمرة ذلك في الدنيا، وأقلها أن يوفقه الله تعالى لمن يبره من أولاده، وأحفاده، وإن كان عاقاً، فإن الله تعالى يسلط عليه من أولاده وأولادهم من يعقه.
كان رجلٌ في الجاهلية له ولد، فأساء إليه، وظلمه، وضربه، فكان هذا الرجل يرفع رأسه، ويدعو عليه، ويقول:
جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنـزل الدّين طالبه |
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه |
تغمط حقي باطلاً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه |
أئن رعشت كف أبيك وأصبحت يداك يدا ليثٍ فإنك ضاربه!! |
إذا: أصبحت يدا أبيك ترتعش من الكبر، والهرم، والضعف، والعجز، وأنت شاب قوي، فتيّ تستأسد عليه وتضربه! فكان يدعو عليه؛ فأصابه الله تعالى بالعقوبة العاجلة، والبلاء النازل.
وأخيراً: فإن من وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ما رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وابن المبارك، في كتاب الزهد، وغيرهم: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ظهر منه بعض الجزع والحزن؛ فعرف ذلك بعض من حضروا. فسألوه عن ذلك فقالوا له: ما الذي يحزنك ويجزعك؟
هل هذا جزع على الدنيا؟
فقال: كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وقال لي عند موته: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب فجمعنا} قال: فجمعنا، إذاً سلمان الخير سلمان الفارسي حزين عند موته؛ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يودعنا -وهو يفارق الدنيا- أوصانا بوصية، قال لنا:{يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} المسافر، فالمسافر لا يحمل من الزاد إلا قليل. قال: فجمعنا. ثم مات سلمان الفارسي، مات سلمان رضي الله عنه فجمعوا تركته، فكم كانت هذه التركة؟! كانت فقط خمسة عشر ديناراً!! خمسة عشر ديناراً، يموت عنها سلمان، يظهر أثرها في الجزع والحزن على وجهه وهو يموت رضي الله عنه والشاهد: وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأنه قال لأصحابه:{يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب}.
فما بالكم بنا نحن الآن، ونحن نجمع القصور، والأموال الكثيرة، والسيارات الفخمة، والمراكب الفارهة، ونمد حبالاً طوالاً في هذه الدنيا، وكأننا نفعل فعل الخالدين.
سبحان الله! كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، يوماً من الأيام، صعد على منبر دمشق فقال: [[يا أهل دمشق؛ فاجتمعوا إليه -أبوالدرداء عويمر رضي الله عنه من خيار الصحابة وزهادهم وعلمائهم، كانوا يحبونه حباً شديداً؛ فلما سمعوه يصرخ ويصيح يا أهل دمشق: اجتمعوا إليه- لبيك يا أبا الدرداء. قال: ألا تسمعون وصية أخٍ لكم، مشفق، ناصح؟ قالوا: بلى، قل -رحمك الله- قال: إن من كان قبلكم، كانوا يجمعون كثيراً، ويؤملون كثيراً، ويبنون كثيراً، فأصبح جمعهم بدداً، وأصبح بنيانهم بوراً، وأصبحت قصورهم قبوراً، هؤلاء عاد الذين ملكوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، تركوا ما تركوا، فمن يشترى مني تركتهم بدرهمين؟ من يشترى منى تركتهم بدرهمين
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:{كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} غريب أو عابر سبيل، أما الغريب: فمثل إنسان مقيم في بلد إقامة معينة، وهو غريب غير معروف، لا يعرفه أحد؛ فتجد هذا الغريب يتقلل من الدنيا، لكن أشد من الغريب عابر السبيل -إنسان مسافر- لكن لما مر بهذا البلد قال: أريد أن أغير حاجيات السيارة، وأشتري ماءً بارداً، وأرتاح قليلاً، ثم أواصل السفر، عابر سبيل وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]].
يا سلام! يا سلام! على أبي بكر رضي الله عنه ليس عنده شيء! خليفة، أمير المؤمنين -يقول لـعائشة: القطيفة التي نلبسها هذه ادفعيها للخليفة من بعدي، والإناء الذي نشرب فيه ادفعيه، والناقة التي نشرب لبنها ادفعيها للخليفة من بعدي، هذه أمور كنا نستعملها يوم كنا نلي أمر المسلمين، أما الآن ادفعيها إلى الخليفة، فلما مات رضي الله عنه دفعتها إلى عمر، فلما رآها عمر قعد في مكانه يبكي ويصيح، ويقول: [[رحمك الله يا
في وصايا أبي بكر رضي الله عنه أمور: منها توقيت العبادات، لله حق بالليل لا يقبله بالنهار، وحق بالنهار لا يقبله بالليل، أمور كثيرة، منها الصيام، منها الصلاة، منها حقوق الخلق، حقوق الناس. وفي وصيته رضي الله عنه إتباع الحق وإيثاره، وإن كان ثقل ذلك على الإنسان، وترك الباطل وإن كان خفيفاً عليك، فإن الله تعالى أمرنا بالحق، ونهانا عن الباطل.
طعن رضي الله عنه وأرضاه، سقط في المحراب، فحمل إلى بيته، ومات بعد وقت يسير، ومع ذلك لما أرادوا أن يعرفوا هل عمر في حالة غيبوبة، أم إنه في حالة صحو قالوا: لا نجد أمراً يلفت نظر عمر مثل الصلاة. فقالوا له: الصلاة، الصلاة، يا أمير المؤمنين. فلما سمع كلمة الصلاة ارتجف وارتعد، وقال: نعم، أما إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
كم هو مؤسف أن تجد من أصحاء المسلمين، وأقويائهم، وشبابهم الذين أنعم الله تعالى عليهم بالمال الوفير الكثير، والصحة، والعافية، والشباب، والقوة، والأمن، وجيران المسجد، يسمعون المؤذن ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ فلا يجيبونه، ومنهم من لا يجيبه في صلاة الفجر خاصة، وقد قال أنس وغيره: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]].
أما المؤمنون الذين يعرفون حق الله عز وجل، فإن الواحد منهم، وهو طعين، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول: نعم، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ثم يصلي وبطنه تسيل دماً، جرحه يثعب، وهو يموت بعد وقت يسير.
دخل عليه غلام من الأنصار، فسلم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين، فعلت، وفعلت، وفعلت، وزكاه ومدحه، فلما أدبر نظر عمر فإذا هذا الشاب ثوبه فيه طول، طويل بعض الشيء، فقال: ردوا عليَّ الغلام. فرجعوا إليه قالوا: أمير المؤمنين يريدك. فقال: [[يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك، وأبقى وأنقى]] أتقى وأنقى وأبقى، يلقي الحكمة وهو يموت. كلمات حكمة تكتب بماء الذهب. يا ابن آخي: ارفع إزارك، أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، لم يقل: هذا أمر بسيط، أو هذه قضية شخصية، لا، أمور الدين كلها عظيمة، لأن الدين عظيم جاء من عند عظيم (ارفع إزارك).
ثم يوصيه ويبين له فوائد هذا الأمر من ناحية دينية، ومن ناحية دنيوية، هذا أتقى لله وأبقى للثوب؛ لأن الثوب إذا طال يمس الأرض فتصيبه، وسرعان ما يبلى، وأنقى له من أن يصيبه -أيضاً- وسخ أو قذر، فهو أتقى وأنقى وأبقى. ولم يلهه ما هو فيه من أمر الموت أن ينبه هذا الغلام على أن ثوبه طويل.
فلننظر أمير المؤمنين كيف يتعامل مع الموضوع، يناقش قضايا فقهية، وقضايا علمية، وتفاصيل، كأنهم خلق آخر سبحان الله العظيم!
عمر رضي الله عنه وهو مطعون، وحاله كما تعملون، ولما جاءه الطبيب، قال: نسقيك خمراً؟ قال: لا أشربه، قالوا: نسقيك نوعاً من المخدر، قال: لا أشربه، قالوا اسقوه لبناً: فسقوه لبناً فخرج اللبن مع الجرح، فعلم الطبيب أنه ميت -علم أنه هالك- قالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، قال: إن كان الموت بأساً فقد مت وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] هذا ما كان يقوله عمر رضي الله عنه، ولما علم أن الذي طعنه أبو لؤلؤة تنفس الصعداء وأرتاح، وقال: [[الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجل سجد لله تعالى سجدة]] كان خائف أن يكون الناس ساخطين عليه لسوء عمل لم يشعر به؛ فقتلوه.
فلما علم أن المؤمنين راضون به، وأن الجميع يبكون حتى كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل ذلك، أرتاح وقال: الحمد لله. الشاهد أنه كان جالساً يقول للناس كما يقول مروان فيما رواه الدارمي: [[إني قد رأيت في الجد رأياً، يعني مسألة الجد والإخوة وهي قضية تتعلق بالفرائض، يقول: إني رأيت في الجد رأياً، إن بدا لكم أن تتبعوه فاتبعوه، ثم ذكر لهم هذا الرأي الذي رآه]] إنها مسألة فقهية، فرضية، يشرحها لهم أمير المؤمنين وهو على فراش الموت، فقال له عثمان رضي الله عنه: إن نتبع رأيك فإنه رأي رشيد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك يعني أبا بكر رضي الله عنه فنعم ذو الرأي كان -رأيك حسن، ورأي أبي بكر حسن- وهو اجتهاد، وذاك اجتهاد، وكل إن شاء الله على خير.
ليس قصدي الآن القضية الفقهية، وإنما قصدي أن عمر رضي الله عنه لم يلهه ما هو فيه أن يتكلم عن قضية فقهية، يقول للصحابة ما رأيكم في موضوع الجد والإخوة، وقسمة المواريث، وأشياء من هذا القبيل، وهو يموت. وهذا دليل على عنايتهم بأمور:
أولها: عنايتهم بعلوم الشرع، حتى لو كان في مرض الموت، يحرص على أن يعلم الناس مسألة من الفقه، لعله يخشى أن يلقى الله تعالى، فيسأله الله تعالى: لمَ لم تقل للناس هذا الحكم؟
فحرص على أن يبلغه قبل أن يموت، وكان هذا أمر يهمّ الصحابة، حتى إن معاذاً رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب أحداً منهم مات لا يشرك به شيئاً، قال: قلت يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا)}.
لكن معاذاً رضي الله عنه خشي أن يسأل يوم القيامة لِمَ كتمت هذا العلم؟
لمَ لَمْ تبلغ به الناس؟
وهكذا يجب على العلماء أن يبلغوا الناس العلم، ولا يكتموه، وأن يحرصوا على إيصال الحق والعلم للناس بكل ما يستطيعون، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: قضية حرصهم على حفظ الوقت، هذا ما دام نَفَسه لم يخرج، وروحه لم تخرج، فهو حريص على أن يستفيد من الوقت، يعلم أو يتعلم، أو يبلغ شيئاً، ليكتب له بذلك أجر. أما نحن الآن، فالواحد منا صحيح، شحيح، قوي، والوسائل ممكنة، بكل سهولة يستطيع الشاب أن يحصل العلم اليوم، يقرأ كتاباً، يقرأ مجلة مفيدة، يسمع شريطاً مفيداً، يرفع الهاتف ليتصل بفلان أو علان، يذهب ليحضر حلقة الشيخ، يحضر حلقة القرآن، يحضر درساً، يحضر محاضرة، ومع ذلك تجد الشاب يضيع وقته، وربما يذهب إلى مباراة رياضية، أو يسمع أغاني محرمة، أو يقضي وقته في قراءة جرائد، أو قراءة أمور تافهة، أو قيل أو قال، أو ما أشبه ذلك من الأمور، التي يتفنن فيها بعض الشباب في إضاعة الوقت، ولا يعلمون أن هذا الوقت، هو الذي به يجازون، وبه يدخلون الجنة، أو يدخلون النار، والناس كانوا عند الموت يستغلون دقائق بقيت من أعمارهم مثل الطالب -لاحظوا الطالب الآن في صالة الامتحان- طبعاً التشبيه مع الفارق، لكن مثال للتقريب حتى تلاحظوا.
أحياناً بعض الطلاب يكون طالباً جيداً، وحافظاً للمقرر كله، ومجتهداً، فمن حين أن يأخذ الورقة يبدأ يكتب الجواب، ولكن يكتب جواباً مضبوطاً، دقيقاً، مفصلاً، ولا يترك شاردة، ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا يكتبها في ورقة الجواب؛ فتجده يملأ الورقة -هذا شيء نلاحظه ونحن نراقب على الطلاب- فينتهي الوقت المحدد للإجابة، ينتهي، والطالب لم ينته بعد، فتجد الأستاذ يأتي عند هذا الطالب يقول له: باقي خمس دقائق. والطالب يسرع، يكتب بسرعة؛ لأن الوقت يمضي، الوقت ليس في صالحه، يحاول أن يستغل -خاصة الدقائق الأخيرة- يحرص على الاستفادة منها أكثر مما يحرص على الاستفادة من أول الوقت، فتجده ينازع الأستاذ في الورقة؛ من أجل أن يكتب ولو إجابة، ربما يحصل منها على درجة؛ لأن الطالب حينئذ يشعر بقيمة الوقت، وهكذا كان الصالحون يشعرون بقيمة الوقت، فإذا قربت آجالهم حرصوا على مضاعفة الأعمال الصالحة بقدر ما يستطيعون، حتى قال بعضهم: والله لو أعلم أني أموت الليلة ما كان عندي مزيد. يقول: بذلت، ثم بذلت، ثم بذلت، ثم ملأت وقتي بالأعمال الصالحة، حتى لو قيل لي: إنك الليلة سوف تموت. ليس عندي شيء جديد أضيفه، كل وقتي صرفته فيما يرضي الله عز وجل، ليس عندي مزيد.
ولذلك قال ابن عباس -كما في صحيح مسلم} -h= 7003288 {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس}. لاحظ ورثتك وهو ليس عنده إلا بنت، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ورثتك، وهذا علم من أعلام النبوة؛ لأن سعداً لم يمت في مرضه ذلك، بل عاش حتى عمِّر، ورزق عشرة من الولد. {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة سعد بن أبي وقاص سعد رضي الله عنه لما جاءه اليقين من ربه جاءه الحق قال، كما في صحيح مسلم
يحاول أن يزيل همه وحزنه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟
أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟
ويذكر له بعض البشارات، فما زال به حتى التفت، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: {إني لا ألقى الله عز وجل بأعظم من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: إني كنت على أطباق ثلاث -على أحوال ثلاث- الحالة الأولى: كنت في الجاهلية، ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. قال: ثم قذف الله تعالى الإسلام في قلبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده؛ فقبضت يدي. فقال مالك يا
قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا
ومن وصيته، أو من أخباره عند موته ما رواه الحاكم وغيره، {أن ما الذي يجري. فأنت الآن محدثنا؟ فقال: يا بني إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، لكنني سوف أقربه لك، يقول: أرى شيئاً لا أستطيع أن أصفه، ولكن أقربه لك أحس كأن جوفي يشاك بالسلاح، كأن السكاكين والخناجر تختلف في بطني، هذا يخرج وهذا يدخل؛ من شدة الآلام، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وأحس كأن جبل رضوى على عنقي
هذا بعض ما يعبر به عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الآلام، والصعوبات التي يلقاها المحتضر، ومع ذلك يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27].
وقد روى نعيم بن حماد في زوائده عن ابن المبارك، عن عمرو بن العاص أيضاً عند موته أنه قال: [[اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فوقعنا، لا إله إلا أنت، ثم أمسك بإبهامه، فمازال يرددها حتى فاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه]].
أما وصيته الثانية: فهي وصيته للصنابحي-وهي مشهورة- [[دخل عليه
أَوَجَعٌ يُشْئِزُك؟-يعني ألم تحس به- أم جزع على الدنيا؟
فقد ذهب صفوها وبقي كدرها؟
فقال: على كلٍ لا، لا أبكي من وجع، ولا أبكي على الدنيا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً فوددت إني حفظته، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يكفيكم من الدنيا خادم ومركب} قال: فأدركنا فجمعن
.]]وفي الختام:
أحبتي: وصايا العلماء أمرها يطول، وقد ذكرت لكم هذه الوصايا مما التقطته من كتب السنة النبوية -كما ذكرت لكم في مطلع حديثي- ومن أراد المزيد من وصايا العلماء، من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، فليرجع إلى الكتاب الذي يعتبر مكملاً لهذه المحاضرة، وهو كتاب وصايا العلماء عند حضور الموت للإمام الحافظ الربعي، وقد حققه الأرنؤوط تحقيقاً جيداً، وخرج في حلة قشيبة.
الجواب: في الواقع، لا أعلم وصية أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أي بلفظ معين، لكن ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يوصون: أن الإنسان يكتب في وصيته " هذا ما أوصى به فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور" ثم يوصي أهله وولده بتقوى الله عز وجل والمحافظة على الصلوات الخمس، وإقامة الفرائض، وتجنب المناهي، والبعد عن قرناء السوء، ويكتب ما في باله من الوصايا من الأمر بتقوى الله، ثم يوصي بما يتعلق بأمواله، يوصي بثلث ماله أو ربعه أو خمسه، ويوصي بما عليه من الديون ونحوها.
الجواب: في الواقع أنه من كان يستفيد ويفيد، ينبغي أن يبذل، ويزكي بعض ما آتاه الله عز وجل، فإن مثل هذه المراكز يجتمع فيها -كما تعرفون وتلاحظون- جمع غفير من الشباب، فمن كان يستفيد فينبغي أن يأتي ليستفيد، ومن قال: لا أستفيد. فنقول: معنى ذلك أنك لديك علم، ولديك معرفة، ولديك خير كثير، فينبغي أن تأتي لتفيد، ولا تترك هؤلاء الشباب بدون أن يوجد من بينهم من يوجههم ويرشدهم.
الجواب: الحديث ليس فقط في مسند أحمد، بل رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا}.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح} يعني لا هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة أصبحت بالفتح دار الإسلام، فلا يهاجر منها بل يهاجر إليها: {ولكن جهاد ونية} فالجهاد باق إلى قيام الساعة كما قال صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} جهاد ونية: والنية -أيضاً- باقية إلى قيام الساعة: {فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى}.
الجواب: إن كان بقي عليك حقوق للعباد فينبغي أن تعمل على التخلص منها، مثل: إذا كنت تذكر أنك سرقت من أحد، فينبغي أن ترد إليه السرقة. إن كنت تذكر أنك اغتبت أحداً فينبغي أن تتحلل منه. إن كنت لا تستطيع ذلك، أولا تعرفه، أو تخشى أن يحقد عليك، فينبغي أن تكثر من الاستغفار له، وذكره في المجالس التي اغتبته فيها بخير، فإذا أديت ما عليك فأكثر من الاستغفار لله عز وجل فإن العبد لا يمكن أن يقوم بجميع الحقوق، لكن الله عز وجل يقبل منك اليسير، ويعفو عنك الذنب الكبير.
لكن، لا تظن أنك تقبل على الله تعالى بأعمالك، إنما: {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته}.
فاعلم أنك لن تقبل على الله تعالى وتدخل جنته بعملك، لكن برحمته جل وعلا، وأعمالك الصالحة التي تعملها تجعلك -إن شاء الله- أهلاً لرحمته: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
الجواب: لا، لا يصلح أن توكل أحداً يكتب عنك وصيتك بعد موتك، فإنه بعد الموت يصبح المال لفلان، وفلان، وليس لك، فهذا الذي وكلته لا يصلح أن يكون نائباً عنك بأن يقول -مثلاً-: أوصي بالثلث أو الربع. لأن المال أصبح للورثة، فحينئذ هذه الوصية التي فعلها الوكيل باطلة. لكن يجوز أن توكله في حياتك.
الجواب: قد يكون هناك علامات. هناك من يرى رؤيا تدل على قرب أجله، وهناك من يمرض والمرض بريد الموت، الحمى بريد الموت، وهناك وإن كان المرض ليس بالضرورة:
وكم من فتىً أمسى وأصبح سالماً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدرى |
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش حيناً من الدهر |
لكن هذه قرائن يستدل بها، كبر السن من الأدلة، ثم مع ذلك موت الفجأة! موت الفجأة اليوم أصبح كثيراً عن طريق السيارات، الصدم، والانقلاب، وغيرها. عن طريق أحداث كثيرة. موت الفجأة مباشرة: ارتفاع الضغط، انخفاض الضغط، السكتة القلبية. أحداث كثيرة جداً، وأمراض كثيرة جداً جدّت اليوم توجب للإنسان إن كان له شيء أو عليه شيء أن يكتبه، هذا هو الحزم كل الحزم.
الجواب: الكلام في هذا يطول، لكن الرؤيا الصالحة: هي أن تكون مبشرة، فيها خير، فيها بشارة، فيها سرور للعبد في دينه ودنياه، ولي محاضرة في شريطين عن "
الجواب: نعم، ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون طاهراً، كان يتوضأ صلى الله عليه وسلم إذا أحدث كثيراً، وفي البخاري وغيره قال لـبلال: {حدثني بأرجى عمل عملته} فذكر أنه يتوضأ، ويصلي ركعتين. وكان يعجبه صلى الله عيه وسلم أن يكون على طهارة، حتى إنه صلى الله عيه وسلم إذا كان جنباً يغتسل قبل أن ينام، فإذا لم يغتسل فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ قبل أن ينام؛ لأن الوضوء يخفف من الجنابة. وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام وهو جنب دون غسل ولا وضوء.
الجواب: كل الأعمال التي وردت في الشرع تعين الإنسان على الثبات عند الممات، فإن العبد إذا كان مع الله تعالى في حال الرخاء، كان الله معه في حال الشدة، كما في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم لـابن عباس عند الترمذي، وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح: {يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
إذاً: من الرخاء حال، الصحة، العافية، السلامة. ومن الشدة حال الموت. مَنْ حفظ الله حفظه الله، ومن ضيع الله ضيعه الله، جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
الجواب: ينبغي أولاً: أن تبذل النصح لهؤلاء بقدر ما تستطيع، وتوسل إليهم بكل وسيلة مباحة لإيصال النصيحة إلى قلوبهم، وأشفق عليهم، أوصل إليهم بعض الكتب، بعض الرسائل، بعض الأشرطة، انصحهم، ذكرهم بأيام الله، أكثر عليهم، أحسن إليهم. فإذا يئست منهم، يئست، فحينئذ فإن هجرانهم مشروع مطلوب، خاصة إن كان الهجر سبباً في استقامتهم، فحينئذ يجب عليك أن تهجرهم.
الجواب: أقول له: نعم إن شاء الله عز وجل، وأنا الآن بصدد تبييض الجزء الأول، وهو يتعلق بكتاب الطهارة، وإن شاء الله تعالى خلال أشهر سوف يطبع هذا الجزء.
الجواب: نعم جائز، أذكار المساء إن قالها بعد صلاة العصر، أو قبل المغرب، أو بعد المغرب كل ذلك جائز.
الجواب: الخشوع في الصلاة له أسباب.
السبب الأول: إزالة الشواغل القلبية، أن تقبل على الصلاة بقلب خال، أما إذا أقبلت على الصلاة بقلب متفرق في أودية الدنيا، جزء منه في المزرعة، وجزء منه في البنك، وجزء منه في المتجر، وجزء منه في البيت، وجزء منه يميناً وجزء منه شمالاً، وجزء منه هنا، وجزء منه هناك، فلا مكان للصلاة. فلابد من تفريغ القلب من الشواغل الدنيوية.
السبب الثاني: إزالة الشواغل المادية، مثل: أن يصلي الإنسان، وهو مقبل على صلاته، يبكر، يتوضأ يصلي ركعتين، يقبل وينظر في موضع سجوده، لا ينظر إلى ما أمامه، لا يصلي وهو حاقن أو حاقب، لا يصلي وهو يسمع الأصوات المزعجة، لا تكون في قبلته أمور تصرف بصره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اذهبوا بأنبجانيتي هذه إلى
الجواب: لماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟
هذا سؤال وجيه. الكفار الموجودون هنا أنواع، أكثرهم وجودهم لغير سبب، بمعنى أنه يمكن أن يستغنى عنهم بغيرهم من المسلمين، ونقول لمن استخدم كافراً -أياً كان هذا المستخدم، كبيراً، أو صغيراً- نقول له: ألا اتخذت حنيفاً:
لقد زل صاحبكم زلة أقر بها أعين الكافرين |
تخير كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين |
الحمد لله، المؤمنون والمسلمون اليوم فيهم إمكانيات، ومواهب، وعندهم قدرات كبيرة، هناك أطباء ومتخصصون وعلماء على مستوى رفيع في أنحاء العالم، لكن مع الأسف يشتغلون في بلاد كافرة؛ لأنهم لم يجدوا المكان المناسب في البلاد الإسلامية، وقد رأينا من هؤلاء كثيراً وسمعنا عنهم، تجد في ألمانيا ألوف مؤلفة من الأطباء المسلمين، يشتغلون هناك، متدينون، وعلى مستوى رفيع من الكفاءة والجودة، ولكنهم وجدوا هناك الخدمات المتوفرة، والرواتب المغرية والاهتمام، ولم يجدوا مثل هذا في كثير من البلاد الإسلامية.
فكثير من الكفار يمكن الاستغناء عنهم، الإنسان الذي عنده مزرعة فيأتي بعامل كافر، أليس هناك في الدنيا عامل مسلم يستطيع أن يقوم بالمزرعة!! عنده مؤسسة فيها أربعون عاملاً، ما بين خياطين، ونجارين، وسباكين، ودهانين، هل الدنيا ليس فيها مسلم يعرف السباكة ولا الدهان، ولا مثل هذه الأعمال، حتى تأتي من الفلبين بنصراني، أو مشرك أو وثني أو بوذي أومن كوريا أو غيرها!! هذا دليل على ضعف الولاء والبراء، ضعف مشاعر الأخوة تجاه هؤلاء المسلمين.
الصنف الثاني: وهو قليل، بل لعله أقل من القليل، صنف قد يكون هناك ضرورة لوجوده (حاجة) بمعنى ألا يوجد من يقوم مقامه، فهذا لا حرج، لو فرض أنه وجد مثل هذا، فلا حرج أن يوجد بقدر الحاجة، ثم إذا وجد من يقوم مقامه، أو استغني عنه يسرح.
جزاك الله خيراً؟
الجواب: أرشده أن يبدأ أولاً: بكتاب الله تعالى قال الله عز وجل عن القرآن: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
فيبدأ بحفظ القرآن الكريم، هذا أولاً. فإن كان عنده فراغ، وزيادة في الوقت، فيمكن أن ينتقل إلى دراسة السنة النبوية، وليحفظ متناً مختصراً، يبدأ بـالأربعين النووية مثلاً، هي اثنان وأربعون أضاف إليها ابن رجب ثمانية أصبحت خمسين حديثاً، يبدأ بحفظها، يمكن تحفظها في الإجازة تستفيد وتفيد، وهذا يتطلب منك وقتاً، وإذا انتهيت منه إن شاء الله أرشدك أو يرشدك غيري إلى أمور أخرى.
الجواب: اختلف العلماء، بعضهم قال: جزيرة العرب هي الحجاز وبعضهم قال: الحجاز واليمامة. وبعضهم قال: جزيرة العرب هي جزيرة العرب المعروفة بحدودها المعروفة.
الجواب: نعم، هذه من أدلة من قالوا: إن جزيرة العرب المقصود بها الحجاز واليمامة، هذه من أدلتهم، بل من أقوى أدلتهم، وإن كان عدم إخراج اليهود ليس دليلاً؛ لأنه قد يكون هناك صعوبات في إخراجهم فبقوا.
الجواب: هذا تأويل باطل أشبه بتأويلات الباطنية، وإنما المسيح الدجال -رجل إنسان- أعني بشر من البشر شخص معين، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له خصائص في شكله وهيئته وسنه وعمره، وما يأتي به، وأخباره وأحاديثه متواترة، صنف فيها أحد العلماء كتاباً التصريح بما تواتر في نـزول المسيح حتى أن من اطلع على هذه الأحاديث وأنكرها فإنه يخشى عليه أن يكون كافراً، وهذا التأويل الذي ذكره الأخ -مع الأسف- تورط فيه بعض المفكرين الإسلاميين، أظن أن محمد أسد المستشرق النمساوي الذي كان يهودياً فأسلم، تورط في هذا التأويل، ووافقه عليه بعض المعاصرين، وهذه غلطة كبيرة ترتض منها العظام.
الجواب: لا بالعكس، هذا - إن شاء الله- يدل على أن الإيمان دخل القلب، والآن الشيطان يصارع في قلبك، ولعله -إن شاء الله- في الرمق الأخير ويخرج، ومسألة مجرد وجود الهوى في القلب هذا طبيعي، يقول الله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] لكن المهم هو أن تنهى نفسك عن الهوى، وأن تحرص على صحبة الأخيار والطيبين، وأن تملأ وقتك بالأعمال المفيدة؛ لأن الإنسان إذا كان في وقته فراغ، فإن الشيطان يجره إلى أن يملأ الفراغ بالمعصية، ولذلك قال الله عز وجل في آخر سورة الفرقان:إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً [الفرقان:70-71] وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كفر الله تعالى عنه كل سيئة كان أزلفها، وكتب له كل حسنة كان أزلفها} حسنات العبد حتى قبل الإسلام تكتب له إذا حسن إسلامه، وسيئاته تكفر عنه، بل تقلب له حسنات فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70] لكن بشرط ليس كل تائب تبدل سيئاته حسنات، الذي تبدل سيئاته حسنات هو التائب الذي حسنت توبته، وعمل صالحاً (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً إذاً املأ وقتك؛ لأن النفس إذا ما مُلأِتْ بالأعمال الصالحة يصبح بعد فترة عندها حنين للمعاصي السابقة، فحذار حذار!!.
الجواب: يختلف هذا الأمر، إن كان سوء الخاتمة بنطق كلمة الكفر والعياذ بالله فإنه يعني أن صاحبه من أهل النار، مثلما ذكر لي أحد الشباب، الثقات، قال: كان لي صديق، له أخ مسرف على نفسه، ومرض مرضاً شديداً، وحضرته الوفاة، قال: فحضر عنده أخوه، وكان حريصاً على هدايته، ويكلمه بالكلام الطيب، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. قال: فلما دنت وفاته قال له: هات لي المصحف، قال: فقام أخوه مسروراً فرحاً مستبشراً، قال: لعله أن يختم له بخير، قال: فلما أعطيته المصحف قال له أخوه والعياذ بالله: أنا كافر بهذا الكتاب وما فيه!! ثم مات على ذلك.
يقول: فلاحظت على قسمات أخيه زماناً طويلاً أنه كان يعيش حزناً مريراً، فقلت له: ما حزنك؟
هل لموت أخيك؟
كل الناس يموتون. قال: لا، ليس حزني لموته، لكن الأمر كذا وكذا. فهذا والعياذ بالله نسأل الله السلامة.
أما إن كان سوء الخاتمة بكلام لا يدل على الكفر فلا يلزم أن يكون صاحبه من أهل النار، الذين هم المخلدون فيها، مثلاً ذكر مثل الإمام ابن القيم، ويذكر بعض الوعاظ أحياناً إنساناً إذا حضرته الوفاة وهو يتكلم باسم امرأة كان يعشقها، أو كان من أهل الدنيا يتكلم باسم المال، والتجارة، والبيع والشراء؛ فهذا لا يعني أن صاحبه من أهل النار الذين هم أهلها، لكن لا شك أن من علامات توفيق الله العبد وختمه له بخاتمة خير، أن يكون آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي سعيد وغيره: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.
وكيف السبيل إلى البكاء من خشية الله تعالى؟
الجواب: نعم إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:107-109] فالخشية، والخشوع هو العلم يا أخي الكريم، العالم الحق هو الذي يخشى الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] قال الله عز وجل عن الذين أمنوا من أهل الكتاب: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـابن مسعود: {اقرأ علي القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنـزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:41-42] قال: حسبك الآن، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم
وقد قام ليلة حتى أصبح بآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:11] يرددها ويبكي.
أبو بكر رضي الله عنه كان رجلاً أسيفاً، إذا قرأ القرآن بكى، حتى لا يسمع صوته، ولا يدرى ما يقول يختلط كلامه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: {مروا
عمر رضي الله عنه قرأ قول الله عز وجل في سورة يوسف: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] فبكى قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيجه وأنا في آخر الصفوف. هذا عمر الرجل القوي الجلد، كان يبكي، بل كان يقرأ رضي الله عنه وأرضاه الآية من كتاب الله تعالى فيمرض فيجلس أياماً يعاد في بيته.
القرآن الكريم هو دواء القلوب أقبل على القرآن، تغن بالقرآن، اقرأ القرآن في خلواتك، تدبر الآيات، قف عندها، رددها، تأملها، عالج قلبك بالقرآن. والقلب الذي لا يشفى بالقرآن هذا لا حيلة فيه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6] الذي لا يشفيه القرآن لا شفاء له، والذي لا يتعظ بالقرآن لن يتعظ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).
هناك وسائل أخرى لترقيق القلوب، منها: الإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين، منها: صلة الرحم، منها قيام الليل، منها طلب العلم، منها كثرة الدعاء، منها الجلوس في مجالس الذكر، منها صحبة الأخيار.
الجواب: صلهم وإن كانوا لا يأبهون بصلتك، أما الأرحام، فالأقرب، فالأقرب، الوالدان، الأخوال، الأعمام، الإخوة، الأخوات، لا شك هؤلاء لهم حقوق، ثم الذين بعدهم حقهم يقل، وهكذا، والصلة تكون لكل أحد بحسبه، من الناس من يحتاج إلى زيارة في الشهر مرة أو مرتين، أوفي الأعياد، ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك، ومنهم من يحتاج إلى دون ذلك، ومنهم من يكفيه أحياناً تتصل به ولو بالهاتف وهكذا، كل إنسان بحسبه.
هذا ما تيسر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب هذا المجلس وأجره وبره وذخره لي ولكم في موازيننا يوم نلقاه.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم اجعلنا ممن تتنـزل عليهم الملائكة عند الموت: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنـزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، اللهم توفنا وأنت راض عنا غير غضبان، اللهم احشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر