إسلام ويب

اجتنبوا هذه القاذوراتللشيخ : عبد الحكيم الشبرمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوبة باب الله المفتوح، الذي على عتبته ينطرح المنكسرون، وينكب النادمون. فإلى متى يستمر أهل المعاصي في ارتكاب معاصيهم؟! يرون العبر من حولهم ولا يعتبرون، ويعلمون المصير ولا يتراجعون. فالبدار البدار إلى الرب الغفار.

    1.   

    التوبة .. التوبة قبل فوات الأوان

    الحمد لله سهل لعباده طريق الهدى ويسّر، وأفاض عليهم من خزائن جوده التي لا تحصر، ونقَّاهم من الذنوب والخطايا وطهر، سبحانه عز جاهه، وجل ثناؤه!

    سبحان من أقام من كل موجودٍ دليلاً على عزته، ونصب علم الهدى على باب حجته! الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكل موافقٍ ومخالفٍ يمشي تحت مشيئته.

    إن رفعت بصر الفكر ترى دائرة الفلك في قبضته، وتبصر شمس النهار وبدر الدجى يجريان في بحر قدرته.

    الكواكب قد اصطفت كالمواكب على مناكب تسخير سطوته، فمنها رجومٌ للشياطين ترميهم عن حمى حمايته، ومنها سطورٌ في المهامه يقرؤها المسافر في سفر سفرته، وإن خفضت البصر رأيت الأرض ممسكةً بحكمة حكمته.

    كيف ينبت فيها النبات العظيم؟ إنه بعظيم قدرته.

    كيف تصدح الورق على الغصون كلٌ بتبليغ لغته؟

    سبحانه هذا بعض صنعته، يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.

    أكرم أبانا آدم فحظي بسجود ملائكته، ونظر بعين الاصطفاء إلى نوحٍ فنجي من الغرق بسفينته، وإلى هودٍ فعاد على عادٍ شؤم مخالفته، وإلى صالحٍ فتمخضت الصخرة بناقته، وإلى إبراهيم فأكرمه بخلَّته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل ببناء كعبته، وافتكَّه بالفداء من ضجعته، وإلى لوطٍ فنجاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيبٍ فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يعقوب فرد حبيبه مع حبيبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همه وحركته، وإلى موسى فخطر في ثوب مكالمته، وإلى داود فألان له الحديد على حدته، وإلى سليمان فراحت الرياح في مملكته، وإلى أيوب الصابر فيا طوبى لركضته، وإلى يونس المستغفر فسمع نداه في ظلمته، وإلى زكريا فقرن سؤاله ببشارته، وإلى يحيى فأكرمه بسيادته، وإلى عيسى فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فخصه ليلة المعراج بكرامته ومكانته.

    أعرض سبحانه عن إبليس فخزي ببعده ولعنته، وعن النمرود وفرعون وهامان، وعن قارون حين خرج إلى الناس في زينته، وعن أبي جهلٍ لعنه الله فشقي وهلك مع سعادة أمه وابنه وابنته، هذا حكمه سبحانه في قسمته.

    أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    عباد الله: (اجتنبوا هذه القاذروات) إنها دعوةٌ من الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    أخي الحبيب! أختي الكريمة! يا من ضيَّق على نفسه الخناق في فعل المعاصي، فما أبقى لعذرٍ موضعاً! يا مقهوراً بغلبة نفسه! صُل عليها بسوط العزم، فإن هي علمت جدك استأسرت لك، فإذا ضجت لطلب المباح، فإما مناً بعد وإما فداءً.

    النفس التي بين جنبيك عدو مباطن، ومن آداب الجهاد: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123] وسائل العتاب على انقطاع كمتصلة، فما هذا التوقف عبد الله؟!

    دبر دينك كما دبرت دنياك، لو علق بثوبك مسمار رجعت إلى الوراء لتخلصه، فكيف بمسمار المعصية يُدق في أصل قلبك، وتشبث بقلبك، ولو عدت إلى الندم خطوتين لتخلصت.

    كل ذلك يحتاج منك إلى إرادة، فأقلع عن المعصية أيها المبارك! ولا تقل قد اعتدتها، أرغم نفسك على التوبة، وقدها إليها بعزيمة، ولا تلتفت إلى دواعي النفس ورغباتها، فمن رق لبكاء طفلٍ لم يقدر على فطامه، واعلم أن إبليس يقف منتظراً ماذا تعزم عليه، فإذا عزمت على التوبة عاد خاسراً خائباً، وإن أهملت هذه الموعظة والعظة وقف على باب المسجد، فإذا خرجت كما دخلت قال الشيطان: مرحباً فديت من لا يفلح، ولو استنشقت عبير الطاعة وشذا الإيمان لأفاق قلبك، ولأقمت المآتم على بعدك.

    1.   

    أما في الموت معتبر؟!

    أخي الحبيب! ذهبت الأيام، وكتبت الآثام، كم ترى من حولك عبراً ولا تعتبر! كم تفقد من الأحبة والأصحاب ولا يحرك ذلك فيك حساً ولا قلباً! أمَا رأيت من أصحابك وأحبابك أكفاً عن مطالبها قد كفت؟

    أمَا رأيت عرائس الأجساد إلى الألحاد قد زفت؟

    أمَا رأيت سطور الأجسام في القبور والأرجام قد جمعت ولفت؟

    أمَا أبصرت قبور القوم في رقاعٍ بقاع القاع قد صفت؟

    والله ما جرى عبدٌ في عنان أمله إلا عثر في الطريق بأجله.

    شابٌ قبل عدة أسابيع يستعد لمناقشة رسالته العلمية العالية، يستعد لها حين وضعت بعد صلاة المغرب، ويموت قبلها بساعات، ليعيش امتحاناً ومناقشةً من نوعٍ آخر.

    وطفلٌ صغيرٌ يخرج من بيت أمه وأبيه لشراء حلوى النجاح، ترتطم به سيارة يقودها متهور، فيموت الطفل وتختفي الحلوى.

    إنه المصير الذي لا يخفى عليك منه خبر، وإنها الحقيقة التي غدت في حياتنا الواقعية سراباً وخيالاً، وكأننا لا نصدقها.

    لقد قطعنا من ستة أسفار نصفها وما بعد أصعب وأشد، خرجنا من سفر السلالة من الطين، وسفر النطفة في القرار المكين، وسفر البطن إلى الدنيا، ونحن ننتظر سفر القبور، ثم سفر العرض والحشر، ثم السفر الأبدي الخالد إلى دار المقامة.

    أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل الفردوس الأعلى.

    أخي وحبيبي! إن السنين مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رءوس الأموال، والمعاصي قطاع الطريق، والربح الجنة، والخسران النار.

    أيها العاصي! صاحب النكت السوداء.

    يا قليل اللب! خلِّ العبث

    يا موقناً بالرحيل وما اكترث! اجمع شتاتك ولم الشعث.

    فكم من مشتٍ لم يصيف بأهله، وآخر لم يدركه صيفٌ إذا شتى.

    1.   

    !إلى من غرته دنياه

    عجباً لك والله! دنياك مدبرة، ونفسك عليها والهة، وأخراك إليك مقبلة، ونفسك عنها غافلة، والله لو كانت الدنيا بأجمعها تبقى علينا ويأتي رزقها رغداً ما كان من حق حرٍ أن يذل لها، فكيف وهي متاعٌ يضمحل غداً.

    إلى متى -عبد الله!- تخدعك المنى ويغرك الأمل، احذر -عبد الله! هداك الله- من حلواء الشر، فإنها سبب حمى الروح، وخلِّ خل المعصية فإنه يفسد الديانة، خف من الذنب الذي ينكت نكتة سوداء في قلبك حتى يكون القلب أسود.

    أرقي قد رقَّ لي من أرقي     ورثى لي قلقي من قلقي

    وبكائي من بكائي قد بكى     وتشكت حرقي من حرقي

    أيتها النفس العاصية: تدبري أمركِ وتأملي، وتبصري بما ترين ولا تعجلي، لقد ضللت الطريق فقفي واسألي، آثرتِ هنا ما يورث وهناً لا تفعلي، كيف تتبعين الهوى، والهوى عليَّ وليس لي؟!

    سلَّى عن العيش أن لا ندوم له     وهوَّن الموت ما نلقى من العلل

    لنا بما ينقضي من عمرنا شغلٌ     وننقضي وكأن العمر لم يطلِ

    ونستلذ الأماني وهي مرديةٌ     كشارب السم ممزوجاً مع العسل

    من نام على فراش الكسل؛ سال به سيل التمادي إلى وادي الأسف.

    يا من قد بلغ العشرين سنة أو الخمسين وكل عمره نومٌ وسِنة.

    يا متعباً في جمع المال والدنيا بدنه ثم لا يدري لمن قد أخزنه! أعلم هذه النفس الممتحنة أنها بكسبها مرتهنة، ألا تعتبر -يا مغرور!- بالعاصي كيف دفنه من دفنه؟ ألم تره يوم فارق أحبابه ومسكنه، ثم سكن مسكن مسكنه؟

    وحدثتك الليالي أن شيمتهـا     تفريق ما جمعته فاسمع الخبرا

    وكن على حذرٍ منها فقد نصحت     وانظر إليها ترى الآيات والعبرا

    فهل رأيت جديداً لم يعد خلِقاً     وهل سمعت بصفوٍ لم يعد كدرا

    ماذا ترجو أيها الحبيب من هذه الدنيا؟ كم أفردت من أرفدت! كم أخمدت من أخدمت! كم أفقرت من أرفقت! كم فارقت من رافقت!

    إن آثرت الصفا فما في الزهد من أذى، وإن أردت القذاء فالقذى.

    1.   

    إياك .. إياك المعاصي

    أيها المسوّد لقلبك! يا من إذا أصبح طلب بالمعاش الشهوات! وإذا أمسى انقلب إلى فراش الغفلات!

    يا سوق الأكل! أين أرباب الصيام؟!

    ويا فرش النوم! أين أصحاب الظلام؟!

    ما وصل الطائعون إلى المنزل إلا بعد طول السرى، وما نالوا حلاوة الراحة إلا بعد مرارة التعب؛ لأن من طلب الأنفَس هجر الألذ، قال علي رضي الله عنه: [يا دنيا يا دنية غري غيري].

    يا مطروداً عن الطاعة مبتعداً عنها! امشِ في أعراض الركب، وناشد حادي الطريق لعله أن يتوقف، فإن العمر يسير وهو يسير، فاقصر -أيها الحبيب!- عن التقصير في القصير.

    أخي الحبيب! ألا تستعلي على المعصية الحقيرة، التي تغضب بها من أحسن إليك؟

    أخي الحبيب! لا يكن دافعك إلى المعصية مجرد الوقوع بها، لا يكن لهواك حكم السائد، وضغط الساحق على من ليس يحتمي بركنٍ ركين، وعلى من يواجهه بغير سندٍ متين.

    واعلم أيها المسلم المستسلم! أن الذي يقف أمام هواه في وجه المجتمع وإلف المعصية يزكي نفسه بتركها وكرهها، فإنه سيشعر ولا شك بالغربة، كما يشعر بالوهن ما لم يستند إلى سندٍ هو أقوى من الناس، وأثبت من الأرض، وأكرم من الحياة، وربك الكريم لا يدعك وحيداً تواجه الضغط، وتنوء بالثقل، ويهدك الحزن، وتذكر أيها الحبيب! وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

    أخي! إن بعض العصاة يسيئون الأدب مع ربهم، يهبهم النعم فيعصونه بها، ثم يظنون بعد ذلك تسويتهم بالطائعين، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].

    إن عدل الله تعالى يأبى هذه التسوية الظالمة، وحياة الضنك والنكد والشقاء ليست كحياة اليسر والطمأنينة والرضا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].

    هذا الذنب الذي تصيبه -أخي وحبيبي!- يورثك عقوبة ربك في الدنيا قبل الآخرة إن لم يتجاوز عنك سبحانه، يعاقبك بمصائب تجتمع عليك من كل جانب إذا أكثرت من العصيان والتمرد عليه، فالله الله في التوبة! الله الله في التوبة!

    بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    احذر! ذنوب الخلوات

    الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وإخوانه وسلَّم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فيا أيها المسلم العاصي: حاذر ذنوب الخلوات التي تحبط العمل، واجتنب عوائدها، وجانب شعوراً بلذةً منها زائلة، وحاذر الكبائر قبل الصغائر .. حاذر السحر والربا .. حاذر أكل مال اليتيم وسماع الغناء والمزامير، وقذف المسلمين والمسلمات، وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، وقول الزور وشهود أماكنه، كأماكن الفساد والصد عن سبيل الله، وراجع لتعلم كتاب الإمام الذهبي رحمه الله فقد جمع فيه ستاً وسبعين كبيرة، وذكر أدلتها من الكتاب والسنة.

    واعلم أيها الحبيب! أن من كرم الله ومنته أن الحسنة تزيل ما مضى من سيئ العمل، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].. وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    1.   

    من آثار الذنوب والمعاصي

    إن ما يصيب الفرد والأمة إنما يصيبهم ببعض ذنوبهم، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]، وتذكر أن من آثار عثرات الذنوب وسقطاتها كره الناس لك وبغضهم، والسمعة السيئة بينهم، يقول حبيبك صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أبغض الله عبداً دعا جبريل، فيقول: يا جبريل! إني أبغض فلاناً -أي إنه سبحانه يذكره لجبريل باسمه، ويا ويح من يذكر عند جبريل من الرب بهذه الصورة- إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال صلى الله عليه وسلم: فيبغضه جبريل، ثم ينادي بأمر الله في ملائكة السماء كلهم -البيت المعمور في السماء يطوف به سبعون ألف ملك كل يوم، لا يرجعون إليه إلى يوم القيامة، ولا يعلم عدد الملائكة إلا الله-: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال صلى الله عليه وسلم: فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض عدلاً من الله وجزاءً وفاقاً). وفي المسند قالت عائشة رضي الله عنها: [إن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاماً].

    واعلم -أخي!- أن نعم الله التي تركض فيها كل يوم، بل كل لحظة لا تستقر لك إلا بالطاعة، فهذه النعم إن شكرت قرت، وإن كفرت فرت، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل:112] كفرت ولم تشكر، بل عصت ربها بما أنعم عليها، فكفرت بأنعم الله، فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

    ومن أعظم الحرمان الذي يقع فيه العاصي أن توارد المعصية على قلبه على الدوام يورث قلبه الظلمة.

    هذه الظلمة مرضٌ وأي مرض؛ لأنه يمنع القلب عن قبول الهدى والتأثر بالمواعظ والتذكير، يعرِّضه لوسوسة الوسواس الخناس، تمر به مواعظ جليلة قولاً وحدثاً، ولكنها لا تؤثر فيه؛ لأنه مقيمٌ على هذه المعاصي لا ينفك عنها.

    جاء عند الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت، فذلك قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]).

    والله جل في علاه أخبرنا عن القرآن، فقال سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82] لا يزيد من ظلم نفسه أو غيره إلا بعداً عن الله، بل إن من أعظم الحرمان في المعصية أنها تحبط العمل الصالح إذا علم الله من العبد خبث السريرة، فيجعله يخلو بهذه الذنوب فيزل ويضل، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه عند ابن ماجة وغيره: أناسٌ لهم حظٌ من الليل وقيامه ومناجاة الله فيه، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وهم لهم أعمال بين الناس ظاهرة أمثال جبال تهامة بيضاً يجعلها الله هباءً منثوراً. نعوذ بالله من ظلمة المعصية وإفسادها.

    بل إن من المعاصي -أيها الأحباب!- ما يحرم الدعاء وقبوله، كمن يأكل الحرام من الربا والرشوة، ومن المعاملات المشبوهة (فأنى يستجاب له) كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك يدعو كثيرٌ من العصاة في أمورٍ لو تركوا معاصيهم لاستجاب الله لهم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

    1.   

    قذارة المعاصي

    يا من يقع في الشهوة المحرمة دون اكتراث! كيف تترك الاستعفاف الذي أمرك الله به في محكم آياته؟ هذا الاستعفاف بما تحمله حروفه من عناءٍ وتكلف، وإجهاد للنفس المعبدة لربها ومولاها، هذا الاستعفاف يقودك إلى بر الأمان والاطمئنان.

    أي حقارة وقذارة يقع فيها صاحب الشهوات المحرمة حين يعب منها عباً، إنه إن زنى وهو غير محصن -أي: غير متزوج- جلد كما يجلد الحيوان، وغرب سنة بإجماع المسلمين، وإن زنى وهو محصن فالرجم والنكال، والخزي في الدنيا والآخرة، إن لم يتدارك نفسه بتوبةٍ صادقة تجب ما قبلها، بل تحيله -كرماً من الله- حسنات.

    تذكر -أيها العبد!- ذنوبك البعيدة التي لا تحصيها؛ لكثرتها وغشاوتها، وتأمل أنك قد لا تكون مصححاً لتوبتك منها، وإلا فإن: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) كما عند الترمذي وغيره.

    الذنب من المسلم اليقظ لا يلازمه، ولكنها سحابة صيفٍ عن قليل تقشَّعُ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

    يحاول إبليس مع هذا العاصي أن يعمي عليه الطريق، وأن ينفث في وجهه الدخان، ولكنه بتوفيق الله، ثم بإرادته العازمة ينتصر على هذا الشيطان، فيضيء فيه شعاع الإيمان ليكشف له الطريق، وهذا ما أظنه فيك أخي وحبيبي!

    1.   

    إياك والمجاهرة

    يقول أحب الناس إليك نبيك محمدٌ صلى الله عليه وسلم، كما عند الحاكم والحديث صحيح: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ بشيءٍ منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله).

    ولهذا -أخي عبد الله!- إياك والمجاهرة، فكل عاصٍ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا من جاهر بمعصيته، إياك والمجاهرة برفع صوت الغناء، أو كشف أخبار السوءات التي عملتها للناس، استتر بستر الله عليك، وداوم الندم على ذنبٍ وقعت فيه، وأكثر من ذكر الله واستغفر لذنبك، وأصلح ما بقي من العمر يصلح لك الكريم ما مضى، وثق بربك الذي يفرح بتوبتك، ويرضى بقربك، بل يشتاق إلى طاعتك مع غناه عنك وعن عملك.

    إنك تتعامل مع ربٍ رحيمٍ كريم يفرح بتوبتك، ويعجب من صبرك وطاعتك، حين يشتد بك الكرب يوم القيامة، فإنه سبحانه ينجيك ويرحمك إن شاء.

    موقف عظيم فكيف السبيل؟

    تخيل -أيها العاصي!- هذا الموقف العظيم، يومٌ يشيب فيه الوليد، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] تدنو الشمس من الخلائق، ويتصبب العرق، وتبدو الحُرق، ويعلو العاصي الخوف والقلق، حينها إذا أراد الله له الكرامة والمغفرة يدنو منه الجبار، ويالله تأمل وتصور نفسك في ذلك الموقف العصيب الرهيب، حافياً تسير، عرياناً تقف، كسيراً حقيراً، خائفاً وجلاً فقيراً، يدنو الجبار بجبروته، القهار بقهره، يدنو رب الأرباب ومسبب الأسباب، يدنو من عبده العاصي ليخلو به في ذلك الموقف العظيم، يدنو منه كما في الصحيحين حتى يضع عليه كنفه ويقرره بذنوبه، يقول الله لعبده في ذلك الموقف العظيم: (عبدي فلان!) ويا لله! كيف لا تذوب حشاشاته يوم يناديه ربه؟ فكيف لا يهلع ويوجل والجبار يناديه؟ أعضاؤه ترتجف، قدمه تصطك بأختها، بصره يشخص، نفسه تكاد تتلف، (عبدي فلان! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وهو لا يقول إلا: أعرف يا رب! أعرف يا رب! أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فيقول: يا رب! أعرف، مرتين، قال صلى الله عليه وسلم: فيقول الله له: عبدي سترتها لك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم).

    يا من تلطخت بالقاذورات! إنك لو بقيت في نهرٍ جارٍ يصل إلى ركبتيك وانتظرت ليغسل يديك لم يكن لك ذلك، فأنت أنت الذي يسعى لنقاء نفسه ومحو خطاياه.

    حاذر -أيها الحبيب!- الذنوب، وإياك ومعاصي القلوب فإنها أعظم، إياك والكبر والغرور والعجب، والخيلاء والمباهاة بالعمل والنسب والحسب، إياك واحتقار الناس وازدراءهم، إياك والحسد والبغضاء والكراهية، فإنها تحلق الدين ولا تحلق الشعر، ولا تكن ديَّاناً على الناس، وحكماً موزعاً للطاعة والعصيان كيفما ترى، واستقصر عملك، واحتقر نفسك في جنب نعم الله عليك، يحببك ربك ويرضي عنك الناس.

    واعلم أن نفسك ككلب السوء متى شبع نام، وإن جاع بصبص إليك بذنبه، فمتى قويت عزيمتك في مجاهدة نفسك لانت لك النفس بلا حرب، ألم يقل عليه الصلاة والسلام للفاروق رضي الله عنه كما في الحديث المتفق عليه: (إيه يـابن الخطاب! والله ما رآك الشيطان في فجٍ إلا سلك فجاً غير فجك).

    فتخفف أخي من الدنيا لكيلا تتعلق بها، تخفف منها فإن حبيبك صلى الله عليه وسلم كما قال أنس رضي الله عنه عند البخاري وغيره: (لم يأكل على خوان حتى مات، وما أكل صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً حتى مات) .. قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77] فلا أعجز ولا أغفل، ولا أطيش ولا أضعف ممن أتبع نفسه هواها، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

    عجباً أيها الأحباب! عجباً لذاكر الموت كيف يلهو، ولخائف الفوت وهو يسهو، ولمتيقن دخول القبر وظلمته ثم يزهو، إذا ذكرت له الآخرة مر يلغو.

    يا غافلاً عن الموت! كم رأيت مغروراً قبلك؟! كم شاهدت منقولاً مثلك؟! من أباد أقرانك؟! من أهلك أهلك؟!

    إن الموت يقول: أين من كان في روحٍ وسعة، نقلته إلى مكانٍ ما وسعه.

    فازرع في ربيع حياتك قبل جدوبة أرضك، وادخر من وقت قدرتك لزمان فنائك وعجزك، مثل نفسك وقت صرعة الموت، وتخيل ما تتمناه حينها فاعمله الآن.

    تمتع من شميم عرار مجدٍ     فما بعد العشية من عرار

    واهٍ من حياةٍ على غرور، وموتٍ على غفلة، ومنقلبٍ إلى حسرة، ووقوف يوم القيامة بلا حجة.

    يا هذا! مثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم، وأنت تبكي أبداً، أبوابها مغلقة، وسقوفها مطبقة، وهي سوداء مظلمة، لا رفيق تأنس به، ولا صديق تشكو إليه، ولا نوم ولا نفس، قال كعب : [إن أهل النار ليأكلون أيديهم إلى المناكب من الندامة على تفريطهم وهم لا يشعرون].

    يا مطروداً عن الباب! يا مضروباً بسوط الحجاب! لو وفيت بعهده ما رماك بصدوده، ولو كاتبته بدمع الأسف لغفر لك سبحانه كل ما سلف، إنه الموت وكم في الموت من عبرة. عازمٌ على اقتناصكم، والمقصود سواكم، كم أخلى داراً فدارى! أما استلب كسرى ابن دارا؟ لقد جال بالناس الموتُ يميناً ويساراً فما حابى فقراً ولا يسارا.

    مشتت العزمات ينفق عمره     حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق

    لا في الشباب وافق، ولا في المشيب أفاق، وكأنه ما صدق، ومن تذكر حلاوة العاقبة استلذ بمرارة الصبر.

    هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقد قال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد، وارض اللهم عن أصحابه الخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان، وأبي السبطين علي، وعن بقية العشرة وأصحاب الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756013505