إسلام ويب

الإيمان بالرسلللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما خلق الله البشر لم يتركهم عبثاً ولا أهملهم سدى، بل أرسل إليهم رسله ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وللأنبياء خصائص وصفات يجب أن تتوفر فيهم؛ تشريفاً من الله، وصيانة للرسالة، وإقامة للحجة.

    1.   

    الرسالة اجتباء لا اكتساب

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    قال الشيخ حفظه الله:

    [والرسل حق والنبي العربي خاتمهم أعلاهم في الرتب]

    يريد بهذا بيان ركن آخر من أركان الإيمان وهو الإيمان برسل الله.

    والرسل جمع رسول، وهو من أوحي إليه بشرع وأمره بتبليغه، والرسول يختاره الله سبحانه وتعالى من الملائكة أو من الناس، كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75] ، لكن الرسل من الملائكة هم رسل إلى الرسل من البشر، وهذا نوع من أنواع الوحي، وقد سبق ذكر أنواع الوحي.

    والرسل من الملائكة كذلك يبلغون بعض الملائكة، ولهذا ذكر الله سبحان وتعالى أن الملائكة يسألون بعد أن يفزع عن قلوبهم إذا سمعوا كلام الله سبحانه وتعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23] .

    والرسالة لا تكون إلا على أساس اختيار رباني ولا يمكن أن تكتسب بأي وسيلة من الوسائل، وقد بين الله سبحانه ذلك في كتابه، فقال: الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124] ، وقال في موضع آخر: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68] ، وقال في موضع آخر: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51] .

    وفي سورة الأنعام بين عدم اكتساب الرسالة في قوله: فإِنِ استَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ[الأنعام:35] فبين أن هذا لا يمكن.

    وآدم عليه السلام هو أول الرسل من البشر، ودليل ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أرسل إليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة)، فهذا دليل على أن آدم قد أرسل إليه.

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه خطابه لآدم على صورة المحاورة وهي لا تكون إلا للرسل، وكذلك ذكره بالاجتباء في قوله: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى[طه:122] والاجتباء في القرآن للرسل وحدهم.

    1.   

    ترتيب الرسل فضلاً وزمناً

    ونوح هو أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد ذكر في القرآن من أولي العزم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[الأحزاب:7] ، فهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وهم أفضلهم.

    عدد الرسل وأسماؤهم

    ولم يسم الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أسماء رسله لا من الملائكة ولا من الناس، ولم يحصرهم في عدد محدد، بل قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ[البقرة:253] ، وقال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا[النساء:164] .

    وكل هذا يقتضي أنه لم يبين أعدادهم ولم يذكر أسماءهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد جاء في بعض الآثار: التي لا تثبت بيان عددهم، فقد جاء في بعضها أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، ولكن هذا لا يصح، وقد سمي في القرآن من أنبياء الله سبحانه وتعالى واحد وعشرون، ثمانية عشر منهم في سياق واحد في سورة الأنعام، وذكر ثلاثة عشر أيضاً في سياق واحد في سورة النساء، وهؤلاء الذين ذكرت أسماؤهم اختلف في تفصيلها، فمن الناس من يرى أن بعض الأسماء متداخلة؛ لأن بعض الأنبياء يذكر بأسماء متعددة في القرآن مثل يونس فقد سمي (ذا النون) في الآية الأخرى.

    وكذلك بعض هؤلاء من أنبياء بني إسرائيل الذين اختلف ذكرهم في كتب بني إسرائيل فسموهم بهذه الأسماء كاليسع وذي الكفل، فإن اليسع يزعم أهل الكتاب أنه يوشع بن نون الذي هو فتى موسى، وقد صح عن ابن عباس أن فتى موسى هو يوشع بن نون الذي ذكر في سورة الكهف.

    (وذو الكفل) في كتب بني إسرائيل أنه ابن سليمان بن داود عليهم السلام.

    إبراهيم أبو الأنبياء والرسل

    إبراهيم عليه السلام كان في ذريته أكثر أنبياء الله ورسله، وقد ذكر العلماء لذلك حكماً:

    منها: أنه صفت الخلة له فاجتباه الله خليلاً ولم يبق في قلبه مكان لمحبة من سواه، فعوضه الله بأن جعل في ذريته قادة البشر.

    ومنها: أن الله امتحنه بذبح ولده حين أمر بذلك في النوم فاستجاب لرؤياه، ففداه الله بذبح عظيم، ومع ذلك فقد جعل الله النبوة والرسالة في ذريته كما أخبر بذلك في كتابه، حيث رزقه الله إسماعيل وإسحاق، وأخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب.

    فكل من بعدهما من الرسل والأنبياء فهو من ذريتهما، لأن الله أخبر بذلك في نص كتابه، والذرية تشمل أولاد البنات، ولذلك كان عيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم من قبل أمه فقط؛ لأن الله خلقه من غير أب.

    والأنبياء الذين ليسوا من ذرية إبراهيم عليه السلام هم ممن سبقه وقليل ممن عاصره، فممن عاصره لوط عليه السلام، وقد أخبر الله أنه آمن له، وعند أهل النسب أنه ابن أخيه.

    ذكر من ليس من ذرية إبراهيم من الأنبياء

    أما نوح فليس من ذرية إبراهيم؛ لأنه جده وهو أبو البشر بعده، وقد أخبر الله أنه جعل ذريته هم الباقين، وأما قول الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ[الصافات:83] فإنها تصريحٌ بأنه من ذريته، وقيل معناه: من السالكين طريقه في النبوة والرسالة، والتضحية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

    وكذلك إدريس عليه السلام فليس من ذرية إبراهيم والراجح أنه جده أيضاً؛ لأن إدريس يسمى في كتب أهل الكتاب: ( أخنوخ ) وأخنوخ جد إبراهيم كما حسب في نسبه في كتب أهل الكتاب، وفي بعض الآثار عن بعض الصحابة، كـابن عباس ، وأبي بن كعب وغيرهما، ولذلك يعدون نسب إبراهيم عليه السلام أنه: إبراهيم بن آزر بن ناحور بن فالغ بن عابر أو عيبر بن شالخ بن سام بن نوح بن لمك أو لامك بن مهلائيل بن اليارد بن الأخنوخ بن يانوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام، وعلى هذا يكون إدريس جداً لنوح، لكن قد صرح في نوح بأنه أول الرسل إلى أهل الأرض.

    وإدريس رسول قطعاً، فلهذا اختلف في إدريس المذكور في القرآن، الذي رفعه الله مكاناً علياً، هل هو إدريس الأول أو هو إدريسٌ آخر. وإدريس من الذين شرفهم الله من رسله بأن لقيهم رسولنا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقد لقيه في السماء الرابعة، وقد صح أنه لقي آدم في السماء الدنيا وعيسى ويحيى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وفي هذا يقول شيخي رحمه الله:

    آدم فابن الخالتين يوسف إدريس هارون فموسى الأعرف

    ثم الخليل هكذا ترتيب أولاء ليلة سرى الحبيب

    صلى الله عليه وسلم.

    وممن ليس من ذرية إبراهيم من الرسل أيضاً: هود وصالح وهما من رُسل العرب، فقد بعث هود إلى عادٍ وكانوا يقطنون جزيرة العرب، وهم أهل الأحقاف الذين يسمى موضعهم اليوم بالربع الخالي؛ لأن الله سلط عليه ريحاً عقيماً: سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا[الحاقة:7] .

    وكذلك صالح فإنه أرسل إلى ثمود وهم الذين جاءوا بعد عاد، وظاهر سياق القرآن أن عاداً كانوا بعد قوم نوح مباشرةً، وأن ثمود كانوا بعد عاد كما صرح بذلك الترتيب في سورة الأعراف، وعلى هذا فهم قبل إبراهيم عليه السلام.

    ويذكر أهل النسب أن الأنبياء المسمين في القرآن والسنة الذين ليسوا من ذرية إبراهيم ثمانية، فيعدون آدم وابنه شيثاً الذي ورد في بعض الأحاديث ذكره، ونوحاً وإدريس ولوطاً وهوداً، وكذلك يذكرون يونس بن متى الذي هو من أهل نينوى من المشرق، فيقولون: هؤلاء الثمانية ليسوا من ذرية إبراهيم ومن عداهم فهم من ذريته، ولذلك كان يلقب بشجرة الأنبياء؛ لأن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب.

    1.   

    صفات الأنبياء

    اشتراط العصمة للأنبياء

    وهؤلاء الرسل مختلفٌ فيما يشترط لهم، فقد اتفق العلماء على أن العصمة صفةٌ من صفات الرسل ويجب اعتقادها في حقهم، ولكن اختلفوا في تحديد العصمة، فحددها بعضهم بمنع الخطأ من الكفر والكبائر قبل الرسالة ومنع الخطأ مطلقاً بعد الرسالة.

    وحدد آخرون بأن المقصود بها: منع الخطأ بعد الرسالة فقط، وأما قبل الرسالة فلا مانع من الشرك والكفر والكبائر.

    وذهب جمهور أهل السنة إلى أن المقصود: العصمة من الوقوع في الخطأ في التبليغ عن الله، والعصمة من الإقرار على الخطأ فيما عدا ذلك، ففيما يبلغونه عن الله سبحانه وتعالى يجب لهم العصمة قطعاً؛ لأنهم لا يمكن أن يكون تبليغهم ما بلغوه عن الله خطأً وغلطاً، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ[الحاقة:44-46] ، فلابد أن يكون ما بلغوه عن الله صدقاً.

    وعدم القول بعصمتهم في ذلك يقتضي نسبة الكذب لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصدق الكاذب كاذبٌ والله تعالى قد صدقهم بالمعجزات، فلو جاز في حقهم الوقوع في الكذب في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لكان هو قد صدقهم في كذبهم.

    فبعض العلماء يقسم هذه الصفة إلى قسمين فيفرق بين الصدق والعصمة، فيعد صفات الرسل يقول: منها الصدق والعصمة والأمانة والتبليغ والرفعة، فيعُد الصفات أكثر وينوعها.

    والمقصود بالصدق، الصدق في الأقوال والصدق في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وفيما بلغوه عنه، ولا شك أن الحاجة داعية إلى عصمتهم بعد رسالتهم من الوقوع فيما لا يرضيه؛ لأن ذلك يقتضي تناقضاً، فنحن مأمورون باتباعهم فيما عملوه؛ لأن أعمالهم تشريع ما لم يرد الدليل بخصوصها بهم، وإذا كنا منهيين عنها مأمورين بها فهذا تناقض مستحيل شرعاً، فوجب أن يعصموا من الوقوع في الخطأ.

    والخطأ هنا مختلف فيه، فقيل: هو الشرك والكبائر، وقيل: يشمل الصغائر أيضاً، ويشكل على القول الأخير دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وقد كان يستغفر في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ[الفتح:1-2]، وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقالت طائفة منهم: المقصود بذلك المغفرة السابقة على اجتبائه، حيث إنه ولد مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولله أن يفعل ذلك.

    وقالت طائفة: بل المقصود أنه يقع في الصغائر والأمور التي هي في حقه ذنوباً، لكن إذا قيس بها غيره كانت في بعض الأحيان طاعات؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

    وقد لامه الله سبحانه وتعالى في كتابه على بعض الأمور؛ وذلك دليل على صحة وقوع الاجتهاد منه، وأنه متعبد بالاجتهاد قبل نزول الوحي إليه، ولا يعارض ذلك إرجاؤه للبت في بعض الأمور انتظاراً للوحي كقصة الإفك التي انتظر فيها الوحي، وكقصة الثلاثة الذين خلفوا فقد أرجأ أمرهم خمسين ليلةً انتظاراً للوحي، وكإجابة اليهود حين سألوه عن الروح، وغير ذلك من الأسئلة التي يرجئ الجواب عنها حتى ينزل إليه الوحي.

    وقد اجتهد في أمور لامه الله فيها، فمنها ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة كقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[التوبة:43] ، وكذلك قوله تعالى في قصة أسرى بدر: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ[الأنفال:67] ، وكذلك قوله تعالى في قصة الإيلاء: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ[التحريم:1-1] ، وكذلك في قصة ابن أم مكتوم : عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى[عبس:1-4] ، وكذلك في قصة زيد بن حارثة بن شراحيل وزينب بنت جحش بن ذئاب أنزل الله سبحانه وتعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ[الأحزاب:37] ونحو هذا.

    فهذا عتاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قُرن بالمغفرة والعفو، بل بدئ بالعفو في قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ[التوبة:43] ، وعلى هذا فالأمور التي اجتهد فيها وليست مما أمر بتبليغه يمكن أن يقع منه الخطأ فيها، لكن لا يُقر على ذلك الخطأ ولابد أن يبين له ما أخطأ فيه، هذا معنى الصدق والعصمة.

    اشتراط الأمانة في الأنبياء

    أما الأمانة فالمقصود بها: حفظ جوارحهم الظاهرة والباطنة من التعدي على ما اؤتمنوا عليه من وحي الله سبحانه وتعالى سواء كان تبليغاً أو كتماناً، فقد يؤمرون بتبليغ شيء مثل الرسائل التي أمروا بتبليغها: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ[المائدة:67] ، وقد يأمرون بكتمان شيءٍ مما يدخل في الإخبار عن المستقبل والغيوب، وقد يكون فتنةً على الناس.

    وكذلك التبليغ فهو صفةٌ من صفاتهم وإن كان من الصفات الداخلة في الأمانة؛ لأن من الأمانة أن تبلغ الرسالة، والتبليغ الذي يجب على الرسل هو أن يبلغوا عن الله سبحانه وتعالى ما تقوم به الحجة، فلو لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم حكماً إلا إلى شخص واحد، لكنه ظن به أنه يمكن أن يبلغه لغيره أو أنه سيبلغه لغيره، فذلك كافٍ في تبليغه، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في تبليغ بعض رسالات ربه على الأفراد، ككتبه التي أرسلها إلى الملوك بواسطة رسل من الأفراد كـعبد الله بن حذافة بن قيس إلى هرقل وكـدحية الكلبي إلى عظيم مصر، وكـعمرو بن العاص إلى ابني الجلندا وهكذا.

    ونحو هذا ما رواه عنه الآحاد مما حدثهم به، فإنهم بلغوه ونُقل إلى الأمة، ولهذا فإن ما يبلغه عن الله سبحانه وتعالى من الرسالة محفوظ كحفظ القرآن.

    والذين يستشكلون ضياع كثير من كتب السنة وفواتها، وأنها معدومة اليوم أو نادرة أو غير مروية، يرد على استشكالهم أنها ليس فيها ما تحتاج إليه الأمة؛ لأن ما تحتاج إليه الأمة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون قد بلغها، ولذلك تكفي دواوين الإسلام المشهورة وما ليس مروياً فيها مما يعتمد عليه كثير من الناس، هو من تتبع الشواذ ومن التكلف المنهي عنه، فلهذا يفرح الواحد اليوم من طلبة العلم عندما يجد صحيفة منسوبة إلى عصرٍ مضى فيها بعض الأحاديث غير المشهورة وغير الموجودة، أو يؤخذ منها بعض الأحكام الشاذة النادرة، ومثل هذا من اتباع المتشابهات الذي وصف الله به الذين في قلوبهم زيغ.

    فالذي تحتاجه الأمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظه الله عليها ولم يكن ليضيعها، ولهذا فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من مشاهير الذين وضعوا الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه الخليفة ليقتله، قال: لئن صلبتموني فلقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أحل فيها الحرام وأحرم فيها الحلال، فقال له الخليفة: أين أنت من عبد الرحمن بن مهدي و عبد الله بن المبارك ينقران عنها حتى يخرجانها، فدعاهما فسألهما عن هذا الرجل هل يعرفانه؟ فقالا: نعم. قد حدث عن فلان بالحديث الفلاني وكان كاذباً في ذلك، حتى عدا أربعة آلاف حديث يتتبعانها، ولذلك يقول أهل الحديث: لو هم الرجل بالصين ذات ليلة أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضّاع، ولذلك لما قيل لـيحيى بن سعيد القطان : قد كثرت الموضوعات، قال: يعيش لها الجهابذة.

    صفة الرفعة في الأنبياء

    وأما صفة الرفعة التي تجب للرسل فهي أنهم يرسلون من نسب قومهم، وقد أخبر بذلك هرقل أبا سفيان في حديث ابن عباس في الصحيحين: (كذلك الرسل ترسل في نسب قومهم) والحكمة من ذلك: حتى لا يكون اختيارهم في الطبقات الدنيا من المجتمع فتنةً على الناس.

    وكذلك ما يتعلق بأبدانهم وصورهم فيجب أن لا يكون فيهم مُنفر، فيستحيل في حقهم كل مُنفرٍ سواء كان من العيوب الخلقية، أو من الأمراض أو نقص العقل، أو العته أو غير ذلك، فهذا من المستحيل في حقهم ولا يمكن أن يقع.

    صفات لا تشترط في الأنبياء

    وأما ما يتتبعه بعض المتكلمين من الصفات كما يذكر بعضهم أنه يستحيل في حق الرسل السواد ونحو ذلك؛ فهذا لا دليل عليه ولا يمكن اعتباره؛ لأن السواد ليس وصفاً منفراً، بل كثير من البشرية يتصفون بذلك، فاختلاف ألوانهم إنما هو من حكمة الله سبحانه وتعالى الراجعة إلى اختلاف البيئات والمعاش ونحو ذلك، ولهذا قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ[الروم:22] ، فقد ذكر اختلاف الألسنة والألوان مع خلق السماوات والأرض مما يدل على تأثير البيئة في الألسنة والألوان، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه.

    وكذلك امتن علينا معشر هذه الأمة بأن أرسل إلينا النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] ، ففي بعض القراءات: (من أنفَسِكُم) أي: من أعزكم نسباً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الاصطفاء وقال: (إن الله اصطفى من ذرية إبراهيم كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار).

    فهذا حديث الاصطفاء فيه اختيار ربانيٌ من عند الله سبحانه وتعالى، اصطفى فيه رسوله صلى الله عليه وسلم مثل اصطفائه للرسل الآخرين كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[آل عمران:33-34]، وهذا الاصطفاء لا ينافي الكفر ولا ينافي دخول النار؛ لأنه إنما يصطفى الإنسان من بني جنسه وبني جلدته وأهل زمانه، فلهذا يمكن أن يكون فيهم من هو من الكفار، وقريش مصطفون على من سواهم من القبائل ومع ذلك فيهم الكفرة وفيهم أهل النار.

    والذين قرءوا حديث الاصطفاء وأخذوا منه أن أجداد النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً من أهل الجنة أخطئوا في الفهم؛ لأن الاصطفاء ليس لأجداده فقط بل لقريش كلها، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (قريش قادة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة) ولهذا فإن استدلالهم أيضاً بتحريم أذاه وأن الله قد لعن الذين يؤذونه، وأن ذكر أجداده أو آبائه بالكفر أذىً له لا دليل فيه؛ لأنه ليس من أذاه، ولو كان من أذاه لما قاله، وقد صح في صحيح مسلم أنه قال: (إن أبي وأباك في النار).

    ومعنى الإيمان بالرسل، هذه المراتب المتعددة:

    أولاً: الإيمان بأن الله بعث إلى البشر رسلاً منهم لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم للبشارة والنذارة.

    ثانياً: الإيمان بالذين سموا منهم تفصيلاً.

    ثالثاً: الإيمان باتصافهم بالصفات السابقة.

    رابعاً: الإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتمهم وأن رسالته ناسخة لجميع شرائعهم، والإيمان به بخصوصه مقتضٍ أيضاً لتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وأن لا يُعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع بعد أن بعث، وما يتعلق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه أطول من هذا، فهذا ما يتعلق بالرسل عموماً.

    الصفات المختلف فيها في حق الرسل

    من الصفات المختلف فيها في حق الرسل الذكورة:

    فقد قال كثير من أهل العلم: إنها شرط في الرسالة.

    وقال آخرون: بعدم اشتراطها، والذين يرون عدم اشتراطها يرون نبوة مريم ابنة عمران و حواء عليهما السلام، وقد جاء في كلامنا السابق فيما يتعلق بالوحي الوحي إلى أم موسى ونحو ذلك.

    دليل الذين يرون نبوة هؤلاء: أن الله سمى مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم تُذكر فيه انثى باسم صريح سواها، وأن الله ذكر أنه أرسل إليها الملك فكلمها برسالة من عند الله، وكذلك حواء فقد جاء الخطاب لها ولآدم في القرآن بضمير المثنى، وهذا يقتضي أن يكون الخطاب إليهما معاً مثل رسالة موسى وهارون.

    وكذلك اختلف في بعض الذين ذكروا في القرآن من غير الرسل كـلقمان مثلاً وذي القرنين والخضر، فـلقمان و ذو القرنين ذكرا في القرآن بأسمائهما، والخضر إنما ذكرت قصته ولم يذكر باسمه، لكن الله أثنى عليه بأن جعله عبداً من عباده وأنه علمه من العلم ما لم يعلمه موسى، فاختلف في هؤلاء الثلاثة هل هم رسل أو أنبياء غير رسل؟ أو أنهم من عباد الله الصالحين فقط؟

    1.   

    الفرق بين النبي والرسول

    وكذلك اختلف في الفرق بين النبي والرسول، ونحن إذا بينا هذا الفرق فسنذكر الفرق اللغوي أولاً ثم نعدل إلى الفرق الاصطلاحي.

    فرسولٌ: فعولٌ من الرسالة، ويطلق على الرسالة نفسها وعلى مبلغها، فهو في الأصل للرسالة نفسها؛ لقول الشاعر:

    لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى وما أرسلتهم برسولِ

    أي: وما أرسلتهم برسالتي، ثم أُطلق على حامل الرسالة الذي يؤديها فسمي رسولاً.

    وأما النبي: فهو فعيلٌ، فيمكن أن تكون بمعنى فاعلٍ ويمكن أن تكون بمعنى مفعولٍ، ويمكن أن تشتق من النبأ ويمكن أن تشتق من النبوة، فإذا كانت من النبأ فهو الخبر، فالنبي فعيلٌ من النبأ لأنه منبئ عن الله إذا كان فعيلاً بمعنى فاعلٍ، أو لأنه منبأ من الله، أي: مخبر منه إذا كان فعيل بمعنى مفعول، هذا إذا كان من النبأ.

    أما إذا كان من النبوة وهي الارتفاع، فهو لأن الله أعلى منزلته بالنبوة.

    أما في الاصطلاح: فإن كثيراً من العلماء يعرفون الرسول بأنه الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بتبليغه، وعرفوا النبي: بأنه الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بالتعبد به ولم يؤمر بتبليغه، وعلى هذا فكل رسولٍ نبي وليس كل نبي رسولا.

    وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: بل الرسول هو الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بتبليغه، والنبي هو الذي أوحي إليه باتباع وتجديد شرع من قبله، فيكون النبي مجدداً والرسول هو الذي أنزلت عليه الرسالة بكاملها.

    ولكن يُجاب عن هذا بأن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أتته شريعة جديدة.

    ولكن قد يُجاب عن هذا أيضاً بأن يقال: إن الملة لا يقصد بها الشريعة، وإنما يقصد بها ما يتعلق بالجانب الخُلقي والروحي فقط، وقد تبع النبي صلى الله عليه وسلم ملة إبراهيم في هذا الجانب، فلذلك لم يدع على قومه واتصف بالحلم معهم، مع أنه ذكر دعاء غير إبراهيم من أولي العزم من الرسل في القرآن على قومهم وما أصاب قومهم، إلا عيسى عليه السلام وحده، لكن دعاء نوح ودعاء موسى على قومهما معروف، قال موسى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ[يونس:88] ، وقال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا[نوح:26] ، وأما إبراهيم فلم يدعُ على قومه مع ما آذوه به من الأذى، بل قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) فقط، ووعد أباه بأن يستغفر له.

    وعموماً فإن الرسل فيهم مجددون يجددون شرع من قبلهم، فإسماعيل وإسحاق لا يمكن أن تكون شريعتاهما غير شريعة إبراهيم إذ لم يشهر ذلك ولم يعرف، بل هما مجددان لشريعة إبراهيم، وكذلك أنبياء بني إسرائيل فإن بعضهم يجدد شريعة من سبقه، وفي بعض الأحيان يباح له بعض ما حرم من قبله كعيسى عليه السلام فإنه مجدد لشريعة موسى، لكنه يحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم، كما أخبر الله بذلك في كتابه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[آل عمران:50] .

    والله سبحانه وتعالى يقول في وصف الأنبياء: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48] فكل نبيٍ منهم له شرعة وله منهاجٌ، لكن لا منافاة بين أن يكون بعضهم مع بعض في شرعةٍ واحدة، ولذلك فسر ابن عباس : (شرعةً ومنهاجاً)، قال: سبيلاً وسنة، فـ(سبيلاً) تفسيرٌ لـ(منهاجاً) و(سنة) تفسير لـ(شرعة).

    ومن الرسل من يأتي لمكافحة داء ظهر في البشرية ومعصية كبيرةٍ اشتهرت فيها، كما كان لوط عليه السلام مجدداً لشرع من قبله في تحريم اللواط ومنعه، وكذلك شعيب عليه السلام في منع تطفيف المكاييل والموازين، ولذلك فالذي يذكر من نذارتهم في القرآن متعلق بهذه الأمور فقط.

    1.   

    لا يكون الرسل إلا من الملائكة أو البشر

    الرسل كما ذكرنا لا يكونون إلا من الملائكة أو من البشر، كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75] ، وأما غير ذلك من الأصناف فيمكن أن تشملهم رسالة رسل البشر أو رسل الملائكة، فالجن مثلاً شملتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليهما السلام، ولذلك ذكروا هذا في القرآن حين أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى الله، وقد أتاه جن نصيبين ببطن نخلة فخرج إليهم وليس معه إلا ابن مسعود ، وحدث ابن مسعود بما رأى وبما سمع، وأنزل الله ذكرهم في سورة الأحقاف وبين أنهم قالوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى[الأحقاف:30] فكأنهم لم يعلموا بشريعة عيسى عليه السلام.

    ويذكر بعض أهل التفسير أن ذلك ربما رجع إلى تعويذ أم مريم لها وذريتها من الشيطان، وقد قص الله علينا ذلك في كتابه: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[آل عمران:36] ، فلم يتعبد إنسان لتبليغ الرسالة إليهم على هذا.

    وقد تبع النبي صلى الله عليه وسلم عدد منهم وأسلموا، وكانوا سبباً في إسلام من سواهم، فبعض الإنس أسلم عن طريق الجن، ومنهم سواد بن قارب رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان كاهناً في الجاهلية، فأسلم رئيه من الجن فدعاه إلى الإسلام فأسلم بذلك، قال:

    أتاني رئيي بين نومٍ وهجعةٍ ولم يك فيما قد بلوت بكاذبٍ

    ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب

    إلى أن يقول:

    وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب

    وكذلك رجل آخر اسمه خنافر كان له رئي من الجن اسمه ساصر فأسلم ساصر للنبي صلى الله عليه وسلم فدعا خنافراً فأسلم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وفي ذلك يقول أبياته المشهورة:

    ألم تر أن الله عاد بفضله فأنقذ من نفح الزخيخ خنافرا

    وكشف لي عن جحمتي عماهما وأوضح لي نهجاً من الحق داثرا

    وكان مضلي من هديت برشده فـلله مغوٍ عاد بالرشد آمرا

    ومثل هذا راشد بن عبد ربه سيد بني سليم الذي كان يدعى في الجاهلية غاوي بن عبد العزى، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه واسم أبيه وسماه راشد بن عبد ربه، فقد أسلم حين أتاه رجل من الجن يركب نعامة فدعاه إلى الإسلام، فأسلم برسول صلى الله عليه وسلم وأتى بقومه، ومثل هذا حصل لعدد منهم كـالعباس بن مرداس رضي الله عنه.

    وكذلك من أهل اليمن عدد من الناس أسلموا على أيدي الجن.

    ومع هذا فإن للجن بعض الأحكام المختصة بهم، فلا يمكن أن يستوي الجن والإنس في الشرائع التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يتحملون كثيراً مما يتحمله الإنس، ولهم أيضاً من الطاقات في مجالات أخرى ما ليس للإنس، فلهم أحكام، وقد نُص في القرآن على تعذيب من مات منهم كافراً، ولم ينص في القرآن على دخول مسلميهم الجنة إلا بالعموم، لكن جاءت النصوص على أن كل من اهتدى مطلقاً فهو إلى الجنة كقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[النازعات:40-41] ، فهذا يشمل الإنس والجن.

    وعلى هذا فلا يجب عليهم جهاد الكفرة الإنس قطعاً، لكن اختلف هل يجب عليهم جهاد كفرة الجن أم لا؟

    فقالت طائفة من أهل العلم: إن الجهاد ذروة سنام الإيمان، والخطاب به في القرآن عام يشمل الإنس والجن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756354949