إسلام ويب

تعظيم الله تعالىللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعظيم الله زاد يحتاجه كل إنسان، وذهاب هذا الزاد لدى بعض الناس يجعلهم طغاة جبارين يظلمون العباد، ويسعون في البلاد بالفساد، ولو كانت لهم قلوب فإنها حتماً لا تتعظ بغيرهم ممن أذلهم الله بعد العز، ووضعهم بعد الرفعة والعلو.

    1.   

    برهنة تتابع الأحداث على قدرة الله وعموم ملكه

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! ما أحوج الناس إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى وإقداره حق قدره!

    في الأحداث وما يجري على العباد من الأمور دعوة للخلق إلى التفكر في أقدار الله، وأنه سبحانه وتعالى وحده المعز المذل، ذو العزة المطلقة والملك الغالب، المتصرف سبحانه وتعالى في شئون عباده، يعلي أمر من شاء، ويخفض أمر من شاء، هكذا علمنا كتاب الله، دعانا الله سبحانه وتعالى في كتابه إلى تعظيم الله وتمجيده سبحانه وتعالى عندما نرى مشاهد القدرة الإلهية، والتصريف الإلهي لأمور العباد، قال الله في كتابه في آل عمران آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يردد كلمات في هذا المعنى، فقال سبحانه وتعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].

    قل يا محمد! (اللهم) يعني: يا ألله! (مالك الملك) أي: يا مالك الملك! فالملك كله بيدك، ممالك الدنيا وملك الآخرة، الملك العلوي والملك السفلي، مالك الملك كله هو الله عز وجل وحده، ثم بين سبحانه وتعالى مظهراً من مظاهر هذا الملك، وأنه سبحانه وتعالى المتصرف وحده، المالك بحقٍ وحده، وأبرز هذه المظاهر إذلاله سبحانه وتعالى لمن شاء من ملوك الدنيا، وهبته سبحانه وتعالى الملك لمن شاء من عباده ممن كان لا يطمع في ملك، ولا يأمل فيه، ولا يخطر له على بال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ[آل عمران:26]، في هذه الآية إشارة إلى أن ملوك الأرض لا يرغمون أبداً أن يتخلوا عن ملكهم، وأن يتنحوا عن كراسيهم باختيارهم وبرضاهم، الطغاة الظلمة إنما ينزع الملك منهم نزعاً، كما ينزع المسمار من الخشب، هيهات أن يتنازل باختياره ورضاه إذا ألف الطغيان، إذا ألف الاستبداد، إذا اعتاد الاستخفاف بالشعوب، تمر عليه السنون تلو السنون، والعقود تلو العقود وهو يكذب، ولا يجد أحداً من الناس يقول له: لا، وهو يقتل ولا يجد أحداً من الناس يقول له: لا، يسرق ولا يجد أحدا ًمن الناس يقول له: لا، كيف يطيب لهذا أن يتنحى عن كرسيه، وأن يترك ملكه دون أن يجالد في سبيله، ودون أن يقاتل في سبيله، لكن قدرة الله عز وجل فوق كل قادر، ينزع منهم الملك نزعاً رغم أنوفهم، وإن حاولوا البقاء، وإن حاولوا الصمود.

    1.   

    صور حية من انتزاع الله الملك من الطغاة

    إن لله عز وجل طرائق في إذلال ملوك الأرض، ما كان يخلد على بال أحد أن طاغية تونس سيزول بهذه السهولة، ما كان يخطر على بال أحد أن هذا النظام الذي قام على الإجرام، الذي قام على القتل والدماء سينتهي، سمعنا على الشاشات علناً كيف يتحدث المعذبون في السجون، ثلاثة وعشرون عاماً يستخفون بهم، يقول الواحد منهم: ألا تدعو أنت إلى الديمقراطية؟ فيقول: بلا، فيقول: نحن الآن نعطيك الديمقراطية، اختر العصا التي تريد أن نضربك بها فنضربك بها، ما كان يتصور هذا الشعب المظلوم، وما كانت هذه الأمة المقهورة تتصور يوماً أن يعلي الله عز وجل كلمتها، وأن يخرج ظالمها هارباً يطوي المسافات، يبحث عن مأوى يأوي إليه، لكنه نزع الملك من السماء، ينزع الملك ممن يشاء، وما كان أحد يتصور أن جاره وصاحبه يؤخذ منه الملك بخروج الناس إلى الشارع، وامتلاء الشارع بالناس.

    واليوم طاغية آخر لكنه أشد عناداً وأشد عتواً، إنه يجالد في سبيل الحفاظ على ملكه، ولكن سنة الله عز وجل جارية، وسنة الله عز وجل ماضية، فمهما دبر، ومهما صرف، فإن نهاية الظلمة لا بد وأن تجري عليه، إنه أشد عتواً ممن قبله، إنه أشد إجراماً ممن قبله، قبل ثلاثين عاماً أفتى علماء الإسلام بكفره وردته؛ لأنه حرف دين الإسلام، أنكر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدل شرعاً بالشرع، وديناً بالدين، ويجاهر على الملأ بهذه الأقوال، لا يجد أحداً من أمته يقف أمام إجرامه؛ لأنهم مستضعفون؛ لأنهم مستبدون؛ لأنهم مظلومون مقهورون، لا يستطيع أحد أن يقول له: قف، أن يقول له: كفى، لما قويت العزائم، ورأى الناس إمكان التغيير والتبديل، ورأوا الجيران عن اليمين وعن الشمال تذهب طغاتهم، وزالت عروش الظلمة والمتجبرين، لما رأوا ذلك قويت عزائمهم فقاموا، وليست ثورة الجياع كما يزعم بعض الناس، إن أهل ليبيا أغنى من كثير من شعوب الأرض، وعجيب والله كل العجب حينما كنت أسمع التقارير الاقتصادية، إنتاج ليبيا من النفط يعادل إنتاج الكويت وقطر والإمارات، وشعب هذه الدولة يكافئ هذه الأعداد لهذه الدول، إن أعداد السكان في هذه الدولة كأعداد السكان فيها، والإنتاج كالإنتاج منذ عقود متطاولة، إنه شعب ينبغي أن يعيش في ألوان الرفاه، في ألوان النعيم، وها نحن نرى بأعيننا المنافذ تمتلئ بالعاملين على أرض ليبيا بمئات الآلاف، لم يكن الشعب يعاني مجرد الجوع، إنه الظلم، إنه الاستبداد، إنه الطغيان، يقتلون من شاءوا، ويستبيحون حرمات من شاءوا، في ساعة واحدة يقتل ظلماً وعدواناً في السجن أكثر من ألف ومائتي قتيل، لا لشيء إلا لأنهم يقولون: ربنا الله، لا لشيء إلا لأنهم يحفظون كتاب الله، لا لشيء إلا أنهم يأبون تحريف دين الله، طغيان بلغ الزبى، فحق أن تجري عليهم سنة الله، ينزع الملك ممن يشاء، وستجري عليه هذه السنة بإذن الله لا محالة، سيذل كما ذل من قبله بل أشد؛ لأن قانون الله تعالى يجري كذلك، كما جرى على من كان قبله، خرج أبو جهل يعاند رسول الله، يعاند وحي الله يوم بدر والعقلاء يقولون له: نرجع يا أبا الحكم ! لا حاجة لنا ما دام قد سلمت عيرنا، فيسخر منهم، ويستهزئ بهم، ويسخر من شجعانهم وأبطالهم، ويقول: انتفخت رئتكم بالموت، يسخر منهم، ويأمر القينات المغنيات يغنين ليلة بدر، ويضربن الطبل، ويشرب الخمر عتواً واستكباراً، وما يدري أن مصارع الطغاة مع طلوع الشمس، وما كان إلا أن طلع اليوم الثاني فقتله شابان صغيران من أبناء المسلمين، لم يجعل الله مقتله على يد الشجعان، لم يجعل الله مقتله على يد الفرسان، قتله غلامان مراهقان في البلوغ أو دون البلوغ، وجاء راعي الغنم الذي كان يرعى له ولأمثاله في مكة، جاء إليه عبد الله بن مسعود وهو في الرمق الأخير من الحياة فقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وماذا على رجل قتلتموه، يفتخر أنه قتل على يد أعدائه حتى في اللحظات الأخيرة، وهذا يدل على أن بعض الخلق يطمس الله عز وجل على قلوبهم، فيأبى أن يعتبر ولو بقي له في العمر لحظة، وماذا على رجل قتلتموه؟ فيصعد على صدره بقدمه وساقه النحيفة التي كان يضحك منها أصحاب رسول الله مزاحاً له، ويقول له وهو في الرمق الأخير: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم! صعدت على صدر شريف من شرفاء قريش، عظيم قريش، فيجز رأسه، ويذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يأبى الله إلا أن يذل من يشاء ويعز من يشاء، وهكذا سيجري قانون الله على كل طاغية وظالم، أبى الله إلا أن تكون نهايتهم مذلة، لا يرتضون لأنفسهم أن يخرجوا من حياة الناس، ومن مسامع الناس بسمعة مشرفة؛ لأن الله يأبى أن يكتب لهم الذكر الحسن، يأبى الله أن يكتب لهم الصيت الحسن، بعد أن فعلوا ما فعلوا من الأفاعيل، هو اليوم يحاول أن يحافظ على هذا الملك ولو أدى هذا إلى استباحة ما استطاع استباحته من دماء الأبرياء، ولا يبالي بذلك، لكنه لا يدري بأن هذه أيضاً سنة الله تعالى، كل دمٍ يزهق هو مسمار في نعش ملكه، وفي سرير حكمه، وسيذهب لا محالة، وسيفعل الله به ما فعل بالطغاة من قبله.

    1.   

    تدبير الله سبحانه للأمور بتهيئة أسبابها

    هكذا يأمرنا الله في هذه الآية، أن نعرف أن المدبر على وجه الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ليست الشعوب كما يظن بعض المغفلين، هذه الشعوب موجودة، هذه الشعوب أكثر من أربعين عاماً وهي تحكم بهذا النوع من الاستبداد، بهذا النوع من القهر، لكن إرادة الله الغالبة، إذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب، إذا أراد شيئاً أتاح سبحانه وتعالى من السبب ما يهيئ الوصول إلى المطلوب، حتى حلفاؤهم، حتى أسيادهم، حتى من كانوا يحمونهم، يتبرءون منهم، ويتخلون عنهم في مناظر مخزية.

    كنت أسمع الخطاب لمدة ساعتين؛ لأنني موقن بأنه آخر كذب أسمعه لمثل هذا الإنسان، لمدة ساعتين وأنا أسمع الكذب، وهو يتزلف ويتقرب إلى أسياده بأنه إنما قام في ليبيا لمحاربة الإرهاب، لمحاربة الجهاد، لمحاربة الإسلاميين، ومع ذلك يأتي بعد قليل التصريح من الأسياد بأنه لا حاجة لنا بك إلى مقاومة الإرهاب، عليك أن ترحل، إنه التخلي الفاضح، إنه الخزي الذي يكتبه الله تعالى على هذا النوع من البشر، الخزي والذلة والمهانة التي يأبى الله تعالى إلا أن تكون درساً وعبرة لمن يأتي بعدهم، يأبون الخروج من الملك، ويأبى الله إلا أن ينزع الملك ممن شاء سبحانه وتعالى أن ينزعه منه، إنها دعوة الشعوب إلى توحيد الله عز وجل حق توحيده، وتعظيمه حق تعظيمه، والتوكل عليه سبحانه وتعالى، ومعرفة قدره، وأنه سبحانه وتعالى المتصرف وحده.

    يذكر سبحانه في هذه الآية نقائض في تصرفه سبحانه وتعالى في هذا الكون، كيف يدخل الضد على الضد، قال سبحانه وتعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:26-27]، إنه صنع القادر الذي يقدر على جمع المتناقضات، الليل يدخله على النهار عنوة، فيأخذ من ساعات النهار، ويتحول الضياء إلى ظلام، وهكذا يفعل في النهار، فيدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، ويأخذ لهذا من هذا، ولهذا من هذا، فتطول ساعات النهار أحياناً، وتقصر أحياناً أخرى، وهكذا يفعل بالليل، يفعل ما يشاء، يأخذ ممن يشاء، ويعطي سبحانه وتعالى من يشاء، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، يخرج الزرع من الأرض، ويخرج من هذا الزرع حبة من الجماد، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وهو سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، دون أن يخطر على بال أحد، في لحظة من اللحظات، بعد أيام أصبح شعب تونس هو الذي يقرر أنه يريد هذه الحكومة أو يعزلها، وهو الذي يقرر ما الذي ينبغي أن يفعل في المستقبل، وأصبح السياسيون وأهل الكلمة في مصر يراعون كلمة الناس في الشارع، فيخلعون هذا ويصعدون هذا، الله الذي أعطاهم هذا السلطان، الله الذي مكن لكلمتهم، فأصبح الناس يتسابقون لبقائهم في كراسيهم، يتسابقون لتنفيذ رغبات هؤلاء، يرزق من يشاء بغير حساب.

    في مشهد من هذه المشاهد العظيمة في زمن رسول الله، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من صحابته إلى طريق القوافل على الساحل وزودهم جراباً من التمر، فقراء، لا يملكون شيئاً إلا سيوفهم على عواتقهم، وثيابهم المخرقة، وخفافهم المخرقة، ويزودهم الرسول صلى الله عليه وسلم بزاد يسير، هذا الجيش الذي تعداده ثلاثمائة مقاتل يزودهم جراباً واحداً من التمر، كيساً واحداً من التمر، فكان كما قال راوي الحديث وهو في الصحيحين: ( كان يقسم بينهم هذا التمر في اليوم الواحد تمرة تمرة لكل مقاتل، قيل لهم: كيف كنتم تفعلون بها؟ قال: كنا نمصها، ثم نأكل عليها شيئاً من أوراق الشجر )، يخبطون أوراق الشجر ويأكلونه مع التمر، ليحافظوا على قوة أجسادهم فقط، ليحافظوا على رمق حياتهم، ثلاثمائة مقاتل، لكل واحد منهم تمرة، وفجأة تظهر آية من آيات الله؛ لأنه يرزق من يشاء بغير حساب، وهم على سيف البحر، على الطريق الساحلي يخرج الله سبحانه وتعالى من البحر دابة عظيمة كما يقول أبو عبيدة، فإذا هي كالجبل، سمكة عظيمة من البحر كالجبل، كالتل العظيم، تدعى العنبر، فظلوا يأكلون منها شهراً كاملاً، يقول: حتى سمنت أجسادنا، شهراً كاملاً يرزقهم الله وهم في مكانهم يرابطون في سبيل الله، ويقطعون القطعة الواحدة منها كما يقول الراوي: (كالثور) بقدر الثور، وأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً من كبار الصحابة فأجلسهم في حجاج عينه، في حفرة عينه، وأخذ ضلعاً واحداً من أضلاعه فنصبه وأخذ أعلى بعير في القافلة، أعلى بعير موجود، وأطول رجل موجود، وأمره أن يركبه، ومر من تحت ذلك العظم ولم يصل إليه، إنه تصريف الله تعالى للأمور.

    وهكذا ينبغي أن يعلم الناس ويوقنوا بأنه ليس الأمر بيد هؤلاء كما يظنون وكما يزعمون، مهما بذلوا من الأسباب في سبيل البقاء والخلود فإن هناك قوانين إلهية تجري على هذه الأرض، يأبى الله عز وجل إلا أن تمضي سنته بين غمضة عين وانتباهتها، يخلق واقعاً جديداً في ليبيا غير الواقع الذي كان في مصر، وغير الواقع الذي كان في تونس، الناس هناك أسقطوا الأنظمة بمظاهرات سلمية، قتل منهم من قتل، لكنهم لا يملكون سلاحاً، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يقذف الرعب في قلوب بعض الناس، فاضطروا إلى النزول عند رغبات الناس، قذف الله في قلوبهم الرعب، وإلا فقد كان بإمكانهم أن يتجبروا كما تجبر هذا، لكن لله عز وجل حكمته في تصريف الأمور، نزلوا عند رغبات الناس بعد أن قتلوا من قتلوا، وهذا أراد أن يغير السنة، ويريد أن يتبجح بملء فمه، بأن الواقع ليس كالواقع، وأن البلاد ليست كالبلاد، ويتوهم أنه يقدر أن يفعل ما لا يقدر عليه أولئك، لكن فجأة قلب الله عز وجل الأمور، وأصبح هذا الشعب مسلحاً، وفجأة أصبح هذا الشعب تمتلئ به ساحات المعسكرات يتدرب على السلاح، وفجأة أصبح الشعب الأعزل يمتلك مضاد الطيران، وفجأة أصبح هذا الشعب يمتلك القدرات العسكرية، إنها قوانين الله لا أقل ولا أكثر: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].

    1.   

    التوكل على الله والاستعانة به سبب تفريج الكروب وإزالة الطغاة

    هذه دعوة يا إخوان! دعوة إلى التوكل على الله سبحانه وتعالى، واليقين الجازم بأنه وحده المتصرف في أمور العباد، وحق لكل مؤمن أن يستعين بالله وحده، وأن يتوجه إلى الله عز وجل وحده: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، حق للمؤمنين أن ينزلوا حوائجهم بالله، وأن يتوجهوا إلى الله، ولهذا كان من الهدي النبوي، ومن التعليم النبوي الذي جاء في هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شخصاً قد غلبه سلطان الدين، وقد أذله هم الدين، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ هذه الآية، وهو معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كما في الحديث الذي رواه الطبراني وغيره، وحسنه الشيخ الألباني وغيره من أهل العلم، جاء في الحديث أن معاذاً ركبه دين كثير، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام مهموماً، فقال له: ( قل: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:26]، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء، وتمنعهما من تشاء، ارحمني رحمة من عندك تغنيني بها عن رحمة من سواك )، هكذا ينبغي أن يكون التوجه إلى الله وحده، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ( لو كان عليك مثل أحدٍ ديناً لقضاه الله عز وجل عنك ).

    ونحن على يقين بأن أبناء ليبيا اليوم إذا توجهوا إلى الله، وسألوه هذه المسألة فإن الله قادر على أن يقسم ظهر هذا الجبار، ويذله أعظم الذل، وينزل به أعظم الخزي، وما ذلك على الله بعزيز، ما أحوجهم إلى أن يتوجهوا إلى الله، وما أحوجنا يا إخوان نحن أن نتوجه إلى الله بحق، وأن نسأله باضطرار أن يعصم تلك الدماء البريئة، وتلك الأنفس المعصومة، وأن يحفظ تلك الدموع المتألمة، من الثكالى الأمهات، والأطفال التي تيتم، والنساء التي ترمل، ما أحوجنا إلى أن ندعو الله تعالى دعوة بصدق أن ينجيهم من هذا الغم، وأن يكشف عنهم هذا الكرب، فنتحين ساعات الإجابة، ندعو الله تعالى لهم، وهذا مظهر من مظاهر نصرة المسلم لأخيه المسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( أبغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون بضعفائكم )، لقد طغى هذا الجبار وتكبر، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ[الفجر:14]، كما كان بالمرصاد لمن قبلك، فهو بالمرصاد له ولمن بعده، يكيدون ويدبرون، ولكن قد قال الله سبحانه في كتابه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ [فاطر:43]، هذه طريقة الله في الأولين والآخرين، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[فاطر:43].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يكشف عن المسلمين في ليبيا ما هم فيه.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ودود يا دود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تفرج عن المسلمين في ليبيا وفي كل موضع يستضعفون فيه، اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم عليك بالظالمين يا رب العالمين، اللهم زلزل عروشهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم ائتهم من حيث لا يحتسبون يا قوي يا عزيز.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    إذلال الله تعالى للملك الكذاب

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! وهناك موقف آخر من مواقف الذل يدخره الله سبحانه وتعالى لأمثال هؤلاء البشر، هؤلاء البشر الذين لا يعرفون أقدارهم، ينسون حقيقة أنفسهم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه صاحبا الصحيح وغيرهما: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم )، ثلاثة أصناف من البشر تنتظرهم هذه العقوبات الثلاث وكلها خزي، وكلها فضيحة، وكلها ندامة، (لا يكلمهم الله) كلام تكريم يوم يكلم من شاء تكريماً، (ولا ينظر إليهم)، مع أنه ينظر إلى غيرهم نظر تكريم ورحمة، (ولا يزكيهم)، لا يطهرهم من ذنوبهم، بل يعذبون بذنوبهم، فإن كانوا بعد ذلك من أهل الإسلام سيقوا إلى الجنة، وإلا خلدوا في النار، ثم بينهم عليه الصلاة والسلام، فقال: ( شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر )، ثلاثة يقعون في المعاصي والكبائر مع أنهم لا داعٍ يدعوهم إلى الوقوع فيها، شيخ كبير في السن، ذهبت قواه، وانحنى ظهره، وبردت نار شهوته، ومع ذلك يقع في الزنا، (شيخ زانٍ)، إذا كان الزنا قبيحاً من الشاب مع ثوران الشهوة فيه، فكيف سيكون قبحه من الشيخ الكبير المتفاني، (وملكٍ كذاب)، الملك الناس يتزلفون إليه، الناس يتقربون إليه، الناس يخافونه، الناس قد يعذرون إذا كذبوا أمامه، أما هو فهو الآمر الناهي، لكن مع ذلك لدناءة طبعه، لنجاسة أخلاقه، لدناءة معدنه؛ لأنه طبيع بذاته، خبيث بذاته، ليس خبثاً مكتسباً فقط، ولكنه دليل على دناءة الذات، دناءة الطباع، مع أنه لا يخاف، ولا يحتاج إلى كذب، ولكنه مع ذلك يكذب، وأنا وغيري من الناس عاشوا عقوداً متطاولة ونحن لا نسمع منهم إلا الكذب، (ملك كذاب)، ساعتان متكاملتان وأنا أسمع ألواناً من الكذب، وأقبح هذا الكذب أن يستخف بهذه الجماهير في مشرق الأرض وفي مغربها، ويقول: أنا ليس لي منصب حتى أتنحى عنه، وإذا كان الأمر كذلك فالناس لا يريدون منك شيئاً، دعهم ينصبون لهم رئيساً، دعهم ينصبون لهم ملكاً، فإذا لم يكن لك ملك تتنازل عنه، فلا معركة إذاً بينك وبينهم، لكنه الكذب، تتخيل نفسك أمام إنسان كأنه يحاول أن يقول للشمس: هذه ليست شمساً.

    (ملكٌ كذاب) هذا الصنف من الناس موعود بالخزي في دنياه، وموعود بالخزي في آخرته، وسيكون أمر الله لا محالة.

    نحن بحاجة أيها الإخوان! أن نصحح ما بيننا وبين الله، وأن هذه الشعوب ترجع إلى الله على الحقيقة، فتصحح مسارها مع الله، وتجدد حياتها مع الله، والله عز وجل غالب على أمره لا محالة، فهو سبحانه وتعالى الذي هيأ كل هذه الأسباب، ونراهم يخرجون على الشاشات بعد ذلك يتهمون هؤلاء المعارضين لهم بأنهم يريدون تنفيذ مخططات أجنبية، وأنهم عملاء للخارج، إلى غير ذلك من الكذب، (ملكٌ كذاب)، فيستحق لكذبه أن ينزل ما ينزل بالكاذب من الذل والهوان، وسيكون بإذن الله تعالى.

    أنا أدعوكم مجدداً أيها الإخوة! أن تتوجهوا إلى الله، ولا سيما في يوم الجمعة، فإن في آخر هذا اليوم (ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يصلي يسأل الله تعالى فيها شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)، إنها يوم المراغمة، هكذا سموها، يخرجون بأجساد عارية، يتوجهون إلى طغيان لم يعرف الناس له مثيلاً في زماننا هذا، ولكن الله عز وجل ناصرهم بإذنه ومشيئته، ومنزل سبحانه وتعالى عقابه الذي لا يرد بالمجرمين، هذه حقيقة كان ينبغي لهم أن يتدبروها، وأن يتأملوها، وأن يقرءوا ما أنزل الله في كتابه في هذه السنة، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد:11]، ما دام الله عز وجل أراد أن يقلعوا، وأراد أن يغيبوا، وأراد أن ينتهي عن الناس ظلمهم وجبروتهم، فإنه لا راد لقضاء الله، كان ينبغي لهم أن يتعظوا ويعتبروا ويتأقلموا ويتكفيوا مع هذه الحقيقة، وينظروا لأنفسهم نهاية تشرفهم، ولكن يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما تريد، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تفرج عن المسلمين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، وأعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم عليك بعدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز! اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاجعل كيده في نحره، وأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا قوي يا عزيز!

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756665646