أما بعد:
فقال الله عز وجل في سورة الأحقاف: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:21-25].
وهذا المكان الذي كانوا فيه ما بين حضرموت في اليمن وجنوب الجزيرة في منطقة الربع الخالي.
قال تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ ، وهو هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ، وكانوا يعبدون آلة من دون الله سبحانه وتعالى، فحذرهم من عبادة غير الله، وكانوا يعصون الله سبحانه وتعالى، وكانوا يتطاولون على خلق الله، معجبين بأجسامهم، معجبين بقوتهم، وكانوا مترفين منعمين، فأعطاهم الله القوة، وأعطاهم المال، وأعطاهم الأرض الواسعة المنبسطة الفسيحة، وأعطاهم نعماً كثيرة، فلم يشكروا الله سبحانه، وإنما كفروا واغتروا، وكانوا يؤذون خلق الله سبحانه، وقد وصفهم الله بقوله: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر:7] أي: أنهم قبيلة ذات عماد، والعماد جمع عمود، والإنسان يعيش في مكان له أعمدة عادية، لكن إن كان هذا الإنسان طويلاً جداً فيحتاج إلى مثل ذلك، فهم قد أعطاهم الله عز وجل أجساماً في غاية القوة، في غاية الطول، فاغتروا على خلقه، واغتروا بما أعطاهم الله سبحانه، وفعلوا ما يغضب الله سبحانه، ففعلوا أفحش وأعظم ما يقع فيه إنسان يغضب الله من الكفر بالله والشرك به، واتخاذ الآلهة من دون الله، أو يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، فاتخذوها قرباناً آلهة، واتخذوا آلهة صنعوها بأيديهم، فعبدوها تقرباً بزعمهم إلى خالقهم سبحانه وتعالى، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .
وإن من أخلاق الكفار: العلو في الأرض بغير الحق، والإفساد في الأرض، والتعالي على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وعدم الإيمان بالله سبحانه، فهؤلاء صنعوا ذلك، وربنا يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم الذين يشبه صنيعهم صنيع قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، فهذا الذي ابتدأ الله عز وجل بذكره في هذه السورة: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأحقاف:9]، لذلك ربنا يذكر بالأنبياء السابقين، فنفس الذي قاله الأنبياء السابقون، قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ هو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا أي: لا ندري متى نموت؟ وبأي طريقة يكون الموت؟ فعلم ذلك عند الله عز وجل َمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ، فكذلك من قبل قال هذا النبي الكريم هود عليه الصلاة والسلام.
والكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: عجل لنا العذاب، رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16]، قد قاله السابقون قبلهم، قال الله على لسانهم: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77]، وكذلك هؤلاء اللاحقون عندما دعوا على أنفسهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، أليس هذا يدل على جهلهم؟ فقال لهم نبيهم السابق هود عليه الصلاة والسلام: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ، فالجهل موجود في الأمم الماضية.
وكذلك البعد عن الله عز وجل، وطلب ما لا يحل لهم، فبنو إسرائيل جاءهم نبيهم يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا بهم بمجرد ما ينجيهم الله يقولون: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، فهذا هو الجهل، والبعد عن الله سبحانه، وطلب ما لا يحل.
فكذلك هنا ذكر الله عز وجل عن نبيهم أنه قال: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ أي: باستعجالكم عذاب الله سبحانه وتعالى.
وانظر عندما جاء العذاب من الله سبحانه أين ابن نوح الذي اغتر أن أباه نبي؟ واغتر بأنه سيصعد إلى أعلى جبل كي يعصمه من الماء، فقال الله: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43]، فجاء العذاب من السماء، ومن الأرض، فالأرض أخرجت ماءها، والسماء أنزلت ماءها، وأغرق الله من على الأرض كيف شاء وحين شاء سبحانه وتعالى.
وعاد هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8]، فلم يكن هناك أناس بمثل هذه الأجسام، ومثل هذه القوة، لا من قبلهم ولا من بعدهم، ولن يأتي مثلهم، فالله قدر أن يكون هؤلاء عظة لغيرهم، فجاءهم العذاب فدمر هذه القصور العالية، وتتعجب من قصور هؤلاء عندما يجدونها في الحفريات في الرمال تحت الأرض، فيجدون جبالاً لهؤلاء القوم، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، جبال صم ينحتون فيها البيوت، وهذا مستحيل إن فكر أحدنا في ذلك، فكيف وهم قد بنوا قصوراً داخل هذه الجبال؟! فينحتون قرى كاملة في الجبال، أبوابها من الصخر، مدخلها كذلك من الصخر، وأشياء عجيبة جداً، فعمروا سنين طويلة نحتوا فيها الجبال، وبنوا فيها القصور الشاهقة، وظنوا أن هذه الجبال تمنعهم من عذاب الله تعالى، وظنوا أن هذه ستعصمهم من الله عز وجل، فإذا بالله عز وجل يأتيهم بالعذاب من مأمنهم، ومن حيث يظنون الأمن والأمان، ومن حيث يظنون البعد عن البلاء، ومن حيث يظنون مصدر رخاءهم، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأنذرهم غضب الله سبحانه وتعالى، فلم يخافوا وإنما طلبوا العذاب: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ، فمنع الله عنهم الماء، حتى هلكت الزروع والمواشي، وأجدبت الأرض، فماذا عملوا؟
بعثوا أحدهم إلى مكة -المكان هذا كان معروفاً، وكانت الكعبة غير موجودة، فهذا قبل إبراهيم- ليدعو الله لهم هناك، فأرسلوا واردهم ووافدهم، وهنا قصة يسوقها الإمام الترمذي وأحمد بإسناد حسن، وهي: أن رجلاً اسمه الحارث بن يزيد البكري -صحابي جليل- خرج إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ليكلمه في شيء، وفي الطريق قابلته امرأة عجوز، فطلبت منه أن يحملها معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحملها إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولما وصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يستعدون للخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، والقصة طويلة، وإنما الغرض منها: أن الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع قومه أرضاً في المكان الذي هم فيه، فالعجوز التي معه كانت من أهل هذه الأرض، فإذا بها تستفز وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعطيه الماء الكثير؟ وكيف تعطيه الأرض الواسعة؟ ونحن إلى أين سنذهب؟ مع أنها كانت مخالفة لقومها، فهي على الإسلام وقومها كانوا كفاراً، ولكن مع ذلك أشفقت المرأة على قومها، فقالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟ فقال الرجل متعجباً: حملتك من الطريق الفلاني وأتيت بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بك تخاصميني عنده! إنما مثلي كما قال الأول: معزاء حملت حتفها.
وهذه قصة معروفة عند العرب وهي: أن معزة كانت مع صاحبها، وبينما هي تحفر الأرض برجلها وجدت سكينة، فأخذها صاحبها وذبحها بها وأكلها.
ثم قال: (حملت هذه ولا أشعر أنها كانت خصماً لي، أعوذ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن أكون كوافد عاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هيه! وما وافد عاد؟) وهذا من لطف وأدب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف قصة عاد ووافدهم، ولذا عندما يذكر لك أحدهم أمراً من الأمور وأنت تعرفه لا مانع من أن تسمعه منه مرة أخرى، وليس لازماً أن تحرجه وتقول له: أنا أعرف هذه القصة، لا، وإنما اسمع منه ما يقول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟ فقال الرجل: قلت: إن عاداً قحطوا) أي: منع عنهم المطر ثلاث سنوات، قال: (فبعثوا وافداً لهم يقال له:
قال: (خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، قال: بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا)، أي: أن الله أرسل عليهم الريح العقيم التي تدمر كل شيء، فأسقطت السحابة عليهم نيراناً من السماء، وأرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فإذا جبالهم وحصونهم لا تحميهم، وأغرقها الله بالرمال، وكانت الريح ترفع أحدهم إلى علو ثم تشدخه بالأرض: تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8] أي: هل ترى أحداً منهم موجود؟
فقال الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآيات: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي: رأوا سحابات آتية تعرض في السماء، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا أي: قد استجبنا فلسنا محتاجين للرسول، فكان الجواب من الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ أي: هذا هلاككم، فقد كنتم تقولون: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ، وجهلتم قدرة الله سبحانه، جهلتم بطش الله وانتقامه، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ، فدمرت البلاد، ودمرت العباد، وغطت قصورهم وحصونهم وجبالهم بهذه الرمال ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، والآن معروف مكان الرمال، فهي في الربع الخالي، وهو مكان ليس فيه أحد، وفيه يبحثون عن حفريات وآثار للسابقين، وقد صوروا ما كان فيها من البيوت التي بنوها في الجبال، وأما أن أحداً يسكن في هذه الأماكن فلا، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وهذه قراءة عاصم وحمزة وخلف ويعقوب: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25]، وقراءة باقي القراء، فَأَصْبَحُوا لا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، أي: أصبحتَ لا ترى، فلو ذهبت إلى هناك فلا تجد أحداً، وليس هناك أماكن عمران، فلا ترى إلا مساكن هؤلاء القوم.
قوله: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: كل من يجرم فهذا جزاؤه، فنفعل به كما فعلنا بالسابقين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم،
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر