قال
قال
عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى
فهؤلاء المهاجرون أسلموا في مكة أو في غيرها من القرى، ثم تركوا أموالهم وبلادهم؛ لكون تلك البلاد بلاد كفر، وذهبوا بأنفسهم ونجوا برقابهم، وقصدهم بذلك أن يسلموا من الفتن، وأن يهربوا بدينهم، فجاءوا إلى المدينة وليس معهم رءوس أموال، فصاروا محلاً للصدقات والنفقات، فكانوا يشتغلون في النهار فيكتسبون ما يقوتون به أنفسهم وأهليهم، وفي الليل يصلون ويتهجدون، ولما رأوا أصحاب الأموال من أهل المدينة من الأنصار عندهم فضل من أموالهم يتصدقون ويعتقون وينفقون ويجهزون الغزاة في سبيل الله.. ونحو ذلك، غبطوهم على هذا الفعل، وعرفوا أنهم لا يدركونهم في ذلك.
فأرادوا أن يكون لهم بدل هذا الأمر عمل يعملونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكين حالتهم، وأخبروه بما ساءهم من هذا الشيء الذي لا يستطيعونه، ووصفوا له أهل الدثور، وهم أهل الأموال الطائلة الكثيرة الموجودة بأيديهم، وأنهم تفوقوا عليهم، وأنهم عملوا أكثر منهم، فهم أهل بأن يذهبوا في الآخرة بالدرجات العلى وبالنعيم المقيم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي به تفوقوا عليهم، فأخبروه بأنهم يشتركون معهم في الأعمال البدنية، وقالوا: إنهم يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويجاهدون بأبدانهم كما نجاهد، ويتهجدون كما نتهجد، ونشاركهم في الأذكار وفي القراءة، ولكن لا نستطيع أن نحصل على مثل أموالهم، فهم يعملون أعمالاً مالية لا نستطيع أن ندركها، ومن ذلك الصدقات التي مدح الله أهلها بقوله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] ، وحث على الصدقة على الفقراء في قوله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274] .
ومعلوم أن أثرياء الصحابة من الأنصار رضي الله عنهم كان عندهم من الأموال ما يتصدقون بفضله على الفقراء، ويواسون به المساكين، بل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويعطون المستحقين؛ لأجل ذلك عرف فقراء المهاجرين أنهم لا يدركونهم في هذا الأمر الذي هو الصدقة والنفقة في وجوه الخير، حيث إنهم يجهزون الجيوش في سبيل الله تعالى، ويجاهدون بأموالهم وأبدانهم، بخلاف الفقراء فإنهم يجاهدون بالأبدان دون الأموال.
وكذلك غبطوهم بأنهم يعتقون الرقاب، ويفكون العاني وهو الأسير إذا أسره المشركون بأموالهم، وإذا أسلم أحد من عبيد المشركين اشتروه وأعتقوه، والعتق من الأعمال الخيرية التي ورد فيها الوعد بالخير والثواب، فهذه هي التي غبطوا بها هؤلاء الأثرياء.
وأبو صالح هو تلميذ أبي هريرة، رواه عن أبي هريرة ، وذكر سمي أنه حدث به بعض أهله، وأنهم قالوا له: إنك وهمت إنما هو: (تكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتسبحون ثلاثاً وثلاثين)، وهذا هو مراد أبي صالح ، فهو يقول: (تكبرون وتحمدون وتسبحون ثلاثاً ثلاثين)، أي: يكرر كل واحدة ثلاثاً وثلاثين؛ ولأجل ذلك ورد في حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فدل على أنه يقول: سبحان الله والحمد الله والله أكبر، ثم يكررها حتى يبلغ ثلاثاً وثلاثين، فتكون تسعاً وتسعين، فالتسبيحات ثلاث وثلاثون، والتكبيرات ثلاث وثلاثون، والتحميدات ثلاث وثلاثون.
قال العلماء: هو مخيّر بين أن يقول: سبحان الله ويكررها حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين، ثم يسرد التكبير فيقول: الله أكبر، ويكررها حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين، ثم يسرد الحمد فيقول: الحمد لله، ويكررها إلى أن يكمل ثلاثاً وثلاثين.
وإن شاء جمعها بقوله: سبحان الله والحمد لله والله أكبر هذه واحدة، ثم يكرر ذلك إلى أن يبلغ ثلاثاً وثلاثين فيكون الجميع تسعاً وتسعين، ثم يهلل تمام المائة.
ويجوز أن يقدم بعضها على بعض، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأفضل الكلام بعد القرآن وهن من القرآن، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وذكر أن هذه الأربع هي الباقيات الصالحات التي مدح الله أهلها، وكذلك بين أنه يجوز البداءة بأي واحدة منهن، قال (أربع بعد القرآن لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)
وعلى كل حال فهذا الذكر المشروع جعله النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مقام الصدقات، ومقام إعتاق الرقاب ومقام النفقات في سبيل الله، ومقام الأعمال المالية التي تنفق في المشاريع الخيرية، فدل على ميزته وفضيلته وأنه يشرع للإنسان المحافظة عليه.
وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على أن تعد هذه الأذكار فقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) ومعلوم أن مائة مرة تحتاج إلى العد بالأصابع كلها لا بيد واحدة، فإن العد بيد واحدة قد يسبب الغلط والخطأ، وكذلك التهليل الذي ورد مائة مرة أيضاً.
وأما الحديث الذي يستدل به في سنن أبي داود فهو حديث صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الذكر، ويقول لهم: (عليكم أن تسبحوا وتكبروا دبر الصلوات)، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده) هكذا الرواية، وكلمة (بيده) اسم جنس يدخل فيها اليد اليمنى واليد اليسرى، وكثيراً ما تطلق اليد ويراد بها اليدان، أما رواية: (بيمينه) فقد انفرد بها راوٍ واحد تفرد عن عدد من الرواة فأبدل كلمة (بيده) بكلمة (يمينه)، ولا شك أن تطرق الخطأ إليه أولى من تطرق الخطأ إلى عشرين راوياً كلهم يقولون: (بيده).
فيقال أولاً: إن هذا المقام مقام تعليم، وإنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يعد التسبيح بيده ليعلم أصحابه، فيمكن أن يكون اقتصر على يدٍ واحدة، يحتمل أنها اليد اليسرى ويحتمل أنها اليد اليمنى.
ويقال ثانياً: قد يطلق اسم اليد على اليدين، (بيده) يعني بجنس اليد، فيدل على أنه عدّ التسبيح باليدين معاً، ولكن ذكر إحداهما كقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]وكقوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران:26]مع قول النبي صلى الله عليه وسلم (الخير بيديك)، فاليد هنا اسم للجنس يعم اليدين، وعلى كل حال: لا شك أن عدها باليدين وعدّ التسبيح بالأصابع كلها أفضل لكونه عبادة استعمل فيها جوارحه، واستعمال الجوارح الكثيرة أفضل.
وأما استدلالهم بقول عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وفي شأنه كله)فهو حديث صحيح، ولكن ليس معناه أنه يقتصر على اليد اليمنى، بل معناه أن يبدأ بها، فإذا توضأ غسل اليمنى قبل اليسرى، وإذا انتعل لبس اليمنى قبل اليسرى، وإذا ترجل بدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر، فكذلك إذا سبح، يبدأ العد بأصابعه اليمنى ثم بأصابعه اليسرى، فليس فيه أنه يقتصر على واحدة، فعرف بذلك أن الأفضل والسنة أن يستعمل أصابع يديه كلها، ولا حرج في استعمال اليسرى في عدّ الأصابع لأنها إحدى يديه؛ ولأنها طاهرة، ولا يقال: كيف يعد بها التسبيح وهو يستنجي بها أو نحو ذلك؟! فإنها يد طاهرة، ويتكئ عليها في الركوع، ويسجد عليها في السجود، وتوضع على الفخذ في التشهد.
وهي إحدى يديه، فلا مانع من أن يعد بأصابعها التسبيح، والتسبيح ليس باليد ولا بالأصابع إنما هو باللسان، ولكنها مجرد ضبط عدد حتى لا يخطئ.
وعلى كل حال فهذا التسبيح الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (تسبحون وتكبرون وتحمدون ثلاثاً وثلاثين)يدل على فضيلة ومزية الذكر، وأن على الإنسان أن يحرص على الإتيان بهذه الأذكار بعد الصلوات الخمس، فإذا انصرف من الصلاة يقول: اللهم أنت السلام.. إلى آخره، ثم يبدأ بقوله: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين.
إذا قال: الحمد لله، فإن معناه أنه يثني عليه بصفاته التي هي صفات كمال، ويعترف بأنه المنعم المتفضل عليه وعلى غيره، وأن حمده له مقابل نعمه، ومقابل فضله ومقابل صفاته الاختيارية ونحوها.
وإذا قال: الله أكبر، فإن معناه التعظيم والإجلال والإكبار، وأن العبد صغير وحقير بالنسبة إلى كبرياء الله سبحانه، فالتكبير معناه التعظيم والإجلال، فإذا قال: الله أكبر، أي أنه أكبر وأعظم وأجل من كل شيء، وما سواه صغير حقير.. وهكذا، فيستحضر هذه المعاني عندما يقولها فيكون لها أثر في عقيدته، هذا هو السبب في شرعية هذه الأذكار التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قائمة مقام الصدقة، وهي لا تستغرق وقتاً كثيراً يقولها، فقد يقولها الإنسان في خمس دقائق أو أقل، ولكن الكثير من الناس عندما ينصرفون من الصلاة يستبقون الأبواب ويذكرهم الشيطان بحوائجهم، أو يذكرهم بأمور تهمهم، وقد لا يكون لهم أغراض إلا مجرد الخروج والمسابقة إلى الأبواب، فيفوتهم هذا الخير، ولو أنهم حبسوا أنفسهم حتى يأتوا بهذا الذكر لحصلوا على هذا الخير الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مقام الصدقات وقائماً مقام العتق ومسبباً للحاق بالصالحين.
وفي هذا الحديث أن أثرياء الصحابة وأغنيائهم لما سمعوا الفقراء يسبحون سألوهم: ما هذا التسبيح والتكبير؟ فأخبروهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم ذلك، فصار أغنياء الصحابة يسبحون ويكبرون دبر الصلوات ثلاثاً وثلاثين، فذهب فقراء الصحابة إلى الرسول وقالوا: يا رسول الله! قد علم إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، وأنت تقول: (إنه لا يدرككم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) أي: أن الله تعالى هو الذي تفضل عليهم وأعطاهم الأموال، وجعلها رخيصة عندهم بحيث إنهم ينفقونها في وجوه الخير، ولا يقتصرون على البعض، بل ينفقونها ويجودون بها، ثم أعانهم على الأعمال البدنية والأعمال القولية فهو فضل الله ومنته يؤتيه من يشاء، فيدل على أن الغني إذا عمل في ماله وعمل ببدنه أدرك من سواه.
وجاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى النافلة في بيت عائشة ، وكان أمامه قِرام قد سترت به عائشة سهوة لها، يعني: نافذة، فقال: (أميطي عني هذا القِرام فإن تماثيله تعرض لي كلما نظرت إليه ذكرتُ الدنيا)، أي: أن فيه شيئاً من الخطوط والتماثيل، وليست صور حيوانات ولكنها نقوش أو ما أشبهها، فإذا نظر إليها ذكر الدنيا، فأحب أن لا يخطر على باله وفي قلبه شيء من الأمور الدنيوية وهو في صلاته، فأحب أنه متى دخل في الصلاة استقر قلبه فيها وانشرح لها وأقبل بقلبه كله على عبادته حتى تكون الصلاة كلها له لا نقص فيها.
فيؤخذ من هذا أن على الإنسان أن يتجنب الأشياء التي تشوش عليه في صلاته، فإذا كان أمامه شيء مما يشوش عليه فإنه يزيله؛ ولأجل ذلك حرص العلماء على أن لا يكون في جدران المساجد التي أمام المصلين خطوط أو كتابات تشغل المصلين إذا نظروا إليها، بل كره بعضهم الأنوار التي تكون في قبلة المصلي، وكل ذلك لأجل تحصيل حضور القلب للصلاة ليستفيد منها، لأنه ورد في الحديث أنه (ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل) يعني: ما أقبل بقلبه عليها وعقلها.
أما الذي يحدث نفسه في صلاته ويجول قلبه فيها، فلا يدري ما قرأ الإمام ولا يدري ما سبح ولا ما كبر ولا عدد ما دعا به، ولا يقبل بقلبه على الدعاء، فمثل هذا لا يستفيد من صلاته ولا تؤثر فيه ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تزيده إيماناً إلا أن يشاء الله.
فعلى المسلم أن يحرص على الأشياء التي يحضر بها قلبه في صلاته ويبعد ما يشوش عليه في صلاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر