لا يزال المصنف رحمه الله في مسألة الكلام، ومسألة الكلام -كلام الله جل وعلا- اختلف الناس فيها كثيراً، ولكن أدلة الحق واضحة وجلية، ومنها هذه الآيات التي ذكرها المؤلف، وبدأها بقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] .. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وكذلك التصريح بالقول: وإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [آل عمران:55]، وكذلك التصريح بأن له كلمات، وأنه يتكلم: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، وكذلك التأكيد بمصدر الفعل على أنه يكلم من يشاء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهذا إذا جاء بهذه الصيغة فإنه لا يحتمل إلا الحقيقة، كما نص على ذلك أهل النحو وأهل اللغة، وكذلك قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، هذا لفظ الكلام والقول، ثم يذكر النداء، والنداء لا يكون إلا بالقول الذي يستند على الحرف والصوت؛ لأن النداء لمن بعد بخلاف النجوى، فإن النجوى للقريب، والنداء للبعيد، وإن كان الرب جل وعلا كل شيء لديه قريب، ولكنه ينادي من يشاء من عباده كما سيأتي، وهذا جاء في أحد عشر موضعاً من كتاب الله جل وعلا، وهو من أصرح الأدلة على أن الله جل وعلا يتكلم كلاماً بحرف وصوت كلاماً حقيقياً، وكذلك قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، والإضافة تمنع أن يكون الكلام لغيره جل وعلا وقد أضافه إليه؛ والمعنى إذا أضيف يتعين أن يكون صفة، بخلاف العين القائمة بنفسها فإنها تكون من إضافة المخلوق إلى خالقه كقوله: رسول الله .. نبي الله .. عبد الله .. بيت الله .. ناقة الله، فهذه وإن كان يقصد بها التشريف والتكريم والاختصاص ولكن هي من إضافة المخلوق إلى خالقه، بخلاف كلام الله .. سمع الله .. بصر الله.. وما أشبه ذلك، فإن هذا يتعين أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف.
قال رحمه الله: [ وقوله: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75]، وقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] ] وهذا في قصة الحديبية وبيعة الرضوان لما بايع الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت أو على ألا يفروا حسب ما جاء في الحديث، وإذا كانوا لا يفرون فيلزم من ذلك أن الإنسان يقاتل حتى ينتصر أو يقتل ولابد، فأثابهم الله جل وعلا بأن عجل لهم مغانم خيبر التي وعدهم بها، وأمر ألا يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من حضر تلك الغزوة، فأراد بعض المنافقين -لما علموا أن الغنائم مضمونة- أن يتبعوهم وليس عندهم رغبة في الأجر، فأمر الله جل وعلا نبيه أن يقول: لَنْ تَتَّبِعُونَا [الفتح:15] وأخبر أن اتباعهم هذا خلف لوعد الله جل وعلا: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، ووعد الله الذي وعدهم به هو بكلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا على قول.
والقول الآخر: أن التبديل لا يكون لخلق الله، كما قال الله جل وعلا: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، وإنما التبديل يكون للكلام كما أخبر الله جل وعلا أن اليهود يبدلون كلام الله بغيره، فالكلام يمكن تبديله ولو كان الكلام مخلوقاً -كما يقول أهل الباطل- ما أمكن تبديله، هذا وجه الاستدلال من الآية: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، فكونهم أرادوا ذلك فهذا يدل على إمكانه، وقد أخبر جل وعلا أن من اليهود من بدل كلام الله، أما لو كان مخلوقاً -كما يقول أهل الباطل- فإنه لا يمكن؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه [الروم:30]، فخلق الله لا يبدل، إذا خلق الله شيئاً فلا يمكن أن يبدل بغيره.
1- نزول مقيد بأنه من الله، وهذا في مثل هذه الآيات.
2- نزول مقيد بأنه من السماء وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [المؤمنون:18].
نزول مطلق كقوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد:25]، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]، فالنزول في هذه الآية مطلق؛ لأنه يجوز أن يكون: نزول الماء من الفحل في رحم الأنثى، وأما الحديد: فيجوز أن يكون من الأمكنة المرتفعة كالجبال وغيرها، أما النزول المقيد بأنه من السماء -والسماء ما كان فوق- فهذا خاص بإنزال المطر، وأما النزول المقيد بأنه من عند الله فهو خاص بالقرآن، فصار إنزال القرآن صفة من صفاته تعالى، وقيده بأنه نزل من عنده، وأنه أنزله على رسوله، وليس هناك نزول غير هذه الأمور.
أما كون الجبل لو نزل عليه هذا القرآن لتصدع وتفطر فعلى ظاهره، وفي هذا أن الجمادات لها إحساس يعلمه الله جل وعلا وإن كنا لا نعرفه نحن، فهي تسبح لله وتخاف الله، وقد أخبر جل وعلا: أن بعض قلوب بني آدم تكون أشد قساوة من الحجارة، وبين أن الحجارة منها ما يتصدع ويخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله، والهبوط هو الخضوع والذل حقيقةً. وفي هذه الآية يخبر أنه لو نزل هذا القرآن على جبل يعني: لو خوطب الجبل به لخشع وتصدع من خشية الله، وإن كان من حجارة قاسية، ولكن كثيراً من الناس لا تتأثر قلوبهم بهذا القرآن، وهذا يدل على أن التصدع والخشوع والتسبيح أمر محسوس يعلمه الله ويسمعه، وأما خلقه فإنه يسمعهم ما يشاء من ذلك، وقد علم أن الطعام كان يسبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه سلم، والحصى سبح بين يديه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي يقول: السلام عليك يا رسول الله)، ومن الأمور المشهورة أنه لما كان يخطب صلوات الله وسلامه عليه على جذع نخلة يابس في مسجده، ثم أمر أن يصنع له منبر من الخشب، فلما صنع له ترك الجذع، فأول ما قام يخطب على المنبر صار ذلك الجذع يحن كحنين الناقة العشراء إذا فقدت ولدها، وسمعه كل أهل المسجد حتى نزل من على المنبر والتزمه فصار يهدؤه حتى انخفض صوته مثل الطفل حتى يبكي فتلتزمه أمه، وهذا أمر حقيقي، وقد أخبر الله جل وعلا أن كل شيء يسبح بحمده ولكن الناس لا يفقهون تسبيحه.
إذاً: فهذا على ظاهره، وهذا هو الواجب: أن يحمل الكلام على ظاهره إذا لم يأت دليل يمنع ذلك، ولا دليل هنا إلا العقل الذي لا ضابط له، فكل يدعي أن العقل معه.
المقصود بهذا الرد على الذين يقولون: إن كلام الله معنىً واحد، وأنه لا يبدل ولا يغير ولا ينسخ ولا يرفع منه شيء، ولا يكون منه شيء بدل شيء؛ لأنه معنى واحد، أراد المؤلف بهذا الرد على هذه الفرية، وفي قولهم هذا تعجيز لله جل وعلا، وكأنهم يدعون أنهم أكمل من الله تعالى، مع أنهم لا يقبلون أن يقال: إنكم تعجزون الله جل وعلا أن يتكلم، ولكن هذا هو الواقع حيث جعلوه جل وعلا: غير مخاطب وغير متكلم وغير منزل قوله! ثم من المعلوم أن هذا يلزم منه ألا يكون الرب جل وعلا أرسل أحداً، بل ولا خلق شيئاً، بل ولا يقدر على شيء؛ لأن خلقه يكون بقوله إذا أرد شيئاً: (كن) فيكون تعالى الله وتقدس، فنفي ذلك إنكار لصفات الكمال لله جل وعلا؛ وذلك لأن الكلام هو الأصل في هذا، ومن ينكر الكلام يلزمه أن ينكر الرسالة؛ لأن رسالة الله جل وعلا لعبارة عن أمره عباده ونهيه لهم، وتشريعه لهم فمن أنكر ذلك لزمه إنكار الرسالة.
وقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل:102]، هذا الإنزال مقيد بأنه من الله، وهذا خاص بالقرآن الذي نزل من الله قولاً وقوله: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:102]، يعني: أن الهدى في القرآن، ومن اهتدى فإنما يهتدي بالوحي الذي أوحاه الله، وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ [سبأ:50] فإذا كانت هداية الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحاه الله إليه فغيره لا يمكن أن يهتدي إلا بالقرآن الذي أنزله الله تعالى، وهذا معناه: أنه لا يجوز للمسلم أن يعبد الله بغير شرع الله جل وعلا، وقوله: وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:102]، البشرى: بضم الباء ما يعطاه المبشر، والبشارة مأخوذة من البشرة، والناس يسمون بشراً؛ لأن أبشارهم بارزة ليس فيها شعور تغطيها كالبهائم؛ فسموا بشراً لذلك، وإذا بشر الإنسان فإن أثر البشارة يظهر على وجهه، والبشارة إذا أطلقت فالغالب أنها تكون في الخير، أما إذا كانت في الشر فإنها تقيد.
وقد جعل الله جل وعلا هذا القرآن بشرى للمسلمين؛ وذلك لأن فيه: وعد الله بالجنة لهم، ووعده لهم بالنصر والتأييد والظهور في الدنيا إذا تمسكوا بهذا القرآن، والمسلم هو المنقاد للأمر، المستسلم لله جل وعلا، الذي ليس عنده اعتراض أو إباء وامتناع، بل هو منقاد مستسلم راغب في أمر الله، هذا هو المسلم حقيقةً، ومن كان بهذه المثابة فهو مبشر بالنصر والظهور في الدنيا، ومبشر بالجنة بعد الموت.
وقال الله جل وعلا: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] وفي هذا قصة وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم -قبل الوحي- كان يجلس إلى رجل أعجمي، فلما جاء بهذا القرآن قالوا: إن ذلك الرجل الأعجمي هو الذي علمه هذا القرآن! كيف أعجمي ويعلمه القرآن العربي المبين الفصيح؟! فهذا من الافتراء ومن الكذب الذي يدركه كل أحد.
هذه الأدلة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى يقرر فيها: أن الله جل وعلا يتكلم، وأن كلامه يسمى حديثاً، ويسمى كلاماً، وأنه أنزل كلامه، وإذا كان كلامه منزلاً على رسوله فلابد أن يكون مسموعاً مقروءاً، ولابد أن يكون بالحروف والصوت، وكذلك لا فرق بين كونه يسمى كلاماً أو كتاباً أو أنه تنزيل من رب العالمين أو غير ذلك مما وصفه الله جل وعلا به، وأما التفريق بين ذلك فهو تفريق أهل البدع، وهو تفريق باطل.
ثم إنهم قالوا: الدليل على هذا: أن الله جل وعلا لا يجوز أن يكون مشابهاً لخلقه، والتشبيه كفر بالله، فإذا وصف الإنسان ربه جل وعلا بأنه مثل المخلوق فهذا كفر، فلا يجوز أن نقول بشيء يدل على التشبيه، ولو قلنا بالكلام الحقيقي للزم من ذلك التشبيه، كيف يلزم؟ يقولون: الكلام يتطلب لساناً، ويتطلب شفتين، ويتطلب لهوات وحبالاً صوتية، ويتطلب زمناً بعد زمن ليكون الكلام متعاقباً، وهذا كله تشبيه لله جل وعلا بالمخلوق.
هذا دليلهم، وأيدوه بقوله جل وعلا: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] جاء هذا في آيتين من كتاب الله: في آية الحاقة، وفي آية التكوير، فهذا نص في أن القرآن قول الرسول، فإذا كان قول الرسول فلا يمكن أن يكون قول الله تعالى، هذا أهم ما استدلوا به، واستدلوا بأشياء أخرى منها: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فجعل الذي في النفس غير الكلام، وكذلك قول عمر رضي الله عنه: ( زورت في نفسي كلاماً كنت أريد أن أتكلم به يوم السقيفة )، قالوا: إذاً: يصح أن نسمي ما في النفس كلاماً وحديثاً فصح قولنا: إن كلام الله جل وعلا ما قام في نفسه، وسلمنا من التشبيه، وأثبتنا الكلام لله جل وعلا على هذا الوضع! هذا خلاصة قولهم واستدلالهم.
والجواب عن هذا:
أولاً: مذهب المعتزلة والجهمية يقولون: إن كلام الله مخلوق، وهذا واضح وصريح ولا إشكال في رده وفي كفره.
ثانياً: الكلام ينقسم عند الأشاعرة إلى قسمين:
الأول: كلام هو المعنى الذي يقوم بالنفس، وهذا هو كلام الله، ولا يجوز أن يكون مخلوقاً.
القسم الثاني: كلام يكون ملفوظاً ومكتوباً ومنطوقاً به وهذا مخلوق؛ لأن هذا هو كلام البشر وليس كلام الله جل وعلا، إذاً: فهؤلاء يفرقون بين المعنى واللفظ، فالمعنى -عندهم- هو كلام الله، أما اللفظ فليس هو كلام الله.
وأخبر الله جل وعلا أنه خاطب الملائكة وسمعوا قوله فسجدوا إلا إبليس أبى، ثم إن الله كلم إبليس وخاطبه: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وصارت محاورة، والأدلة على هذا لا حصر لها كثيرة جداً، فنقول: إن بطلان هذا المذهب ظاهر جداً؛ ولهذا نص العلماء على كفر من قال به لظهور بطلانه وللأدلة الكثيرة التي إنكارها إنكار للضروري.
هذا كلام الله يخبرنا أن الجلود والأسماع والأبصار والأعضاء تتكلم، فهل الجلد له فم ولسان وشفتان؟! فإذا أمكن أن يتكلم المخلوق وليس له فم ولا لسان... إلخ، فكيف يمتنع الكلام على الخالق البصير العظيم إلا بهذه اللوازم الباطلة؟! وبهذا يتبين بطلان هذا القول.
أما قولهم: إن الكلام معنى قائم بالنفس. فنقول: هذا المعنى الواحد هل سمعه موسى كله؟ فيكون قد سمع كل كلام الله! لأنهم قالوا: كلام الله لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو معنى واحد! فيلزمهم أن موسى سمع جميع كلام الله هذا شيء، الشيء الثاني: أن الله جل وعلا يقول: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، أرأيتم أن الله جل وعلا يتحدى الناس بالشيء الذي في نفسه ولا يعرفه الخلق! هل يمكن هذا؟! كل يعلم أن هذا من أمحل المحال، وإنما تحداهم بالشيء المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (لا يأتون بمثله) أي: بمثل الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم.
استدلوا بهذه الآيات وقالوا: إنه قول الرسول؛ لأنه أضيف إليه.
والجواب: الإضافة هنا لأن الرسول هو الذي بلغه، لا أنه ابتدأه، ويدل على ذلك: أنه أضافه مرة إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله جل وعلا إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:40-41].
ومرة أضافه إلى الرسول الملكي كما في قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20] فالمراد هنا: الرسول الملكي، وأضاف القول إليه؛ لأنه بلغه، أما القائل حقيقة فهو الذي ابتدأ القول وهو الله جل وعلا؛ ولهذا قال تعالى: تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الحاقة:43]، وليس في كلام الله تناقض، فكل إضافة بحسبها، فتارة إضافة تبليغ، وتارة إضافة إلى قائله، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فإياكم وإياهم فإنهم الذين عناهم الله جل وعلا)، فتعلقهم ببعض النصوص المتشابهه وتركهم النصوص المحكمة يُعدّ زيغاً وفتنة، وهكذا أهل الباطل يتعلقون بالمتشابه ويتركون الشيء الواضح الجلي، مع أن هذا ليس فيه إشكال، فإنما أضيف للرسول؛ لأنه أداه مبلغاً عن المرسل، ومعلوم أن الرسول يؤدي الرسالة ولا يأتي بشيء من عند نفسه، وكل من نقل كلاماً لغيره فإن ذلك النقل وذلك التبليغ لا يخرج الكلام عن كونه كلاماً لقائله الذي ابتدأه وأنشأه.
والأصل الذي بني عليه الإيمان بالله جل وعلا وبصفاته هو ما جاء من قوله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، أما النظريات وما يسمونه بالبراهين العقلية فهذا لا يلتفت إليه إذا خالف الوحي، وقد سبق بيان أن العلة في ذلك لشيئين:
أحدهما: أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ومعلوم أن العقل يقيس الغائب بالشاهد، فإذا لم يكن لدى العقل شيء يقيس عليه فإنه لا يستطيع أن يصل إلى الحق في هذا.
الأمر الثاني: أن الله جل وعلا غيب لم يشاهده أحد حتى يمكن أن يصفه، فصار المرجع في هذا قوله جل وعلا وقول رسله الذين جاءوا بالوحي.
الأمر الأول: أن الله يتكلم كلاماً حقيقياً، وأن كلامه بحروف وأصوات، إلا أنها لا تشابه أصوات المخلوقين فإنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
ثم إن النسبة قد اختلفت، ففي الآية الأولى نسبه إلى الرسول البشري فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة:40-41]، فالمراد بالرسول هنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ومن المعلوم أن هذا القرآن ليس من قوله وإنما هو قول الله جل وعلا، وفي الآية الثانية قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20] فنسبه هنا إلى الرسول الملكي الذي هو جبريل عليه السلام، فلو كان قول واحد منهما ما صح أن ينسب إلى الثاني، فدل ذلك على أن نسبته إلى الرسولين البشري والملكي إنما هي نسبة بلاغ، فالرسول الملكي بلغه إلى الرسول البشري، والرسول البشري بلغه إلى أمته ويوضح هذا: أن الله جل وعلا حكم على الذي قال: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] أنه سيصليه سقر، فلو كانت نسبته إلى الرسول صحيحة لكان قول هذا المشرك حقاً، ولكن لما قال الله جل وعلا سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] دل على أن هذا القول كفر، وأن نسبته إلى البشر كفر. قال الله بعد هذه الآية : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:40-42] ثم قال بعد ذلك: تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الحاقة:43] ثم قال بعده: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، فدل هذا على أنه قول رب العالمين، وأن نسبته إلى الرسول نسبة إبلاغ وبيان لمن أمر أن يبلغه، فبطل بذلك تعلق أهل البدع بهذه الآية، وأن تعلقهم بها مجرد شبهة وتغبير في وجه الحق ولكن الحق واضح.
والمقصود: أن هذه المعاني قد تلتبس على بعض الناس، والواجب التمييز بين ما هو صفة لله جل وعلا وبين ما هو فعل للمخلوق، فإذا قيل: لفظي، فهذا يحتمل شيئين: يحتمل أنه يقصد الشيء الذي يتلفظ به، ويحتمل أنه يقصد حركات لسانه وشفتيه والصوت الذي يخرج منه، فيحتمل هذا وهذا، فلما كان الأمر محتملاً لما هو حق ولما هو باطل منع الإطلاق على أنه مخلوق أو غير مخلوق؛ لأنه على أي وجه قاله فإنه يحتمل الخطأ، سواء قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، فإن قال: لفظي بالقرآن مخلوق وسكت، فهذا يحتمل أنه قصد الشيء الذي يلفظ به ويسمع، وهذا كلام الله ولا يجوز أن يكون مخلوقاً، ويحتمل أنه أراد حركة لسانه وحركة شفتيه وصوته وهذا مخلوق، وإذا قال: غير مخلوق، صار مبتدعاً حيث جعل كلامه غير مخلوق، فتبين بهذا أنه لابد من الإيضاح.
أما الأشاعرة فإنهم يقولون: اللفظ مخلوق، والملفوظ به مخلوق، أما الكلام فهو المعنى الذي يقوم بالذات، وهذا الملفوظ الذي يتلفظ به هو عبارة عنه فهو مخلوق، وهذا على أصلهم وهو: أن الكلام معنى واحد يقوم بذات الرب جل وعلا، وأنه يمتنع عليه الصوت والحرف فضلاً عن النطق والإسماع بذلك، على هذا بني مذهبهم، وما بني على باطل فهو باطل، أما أهل الحق فإنهم يقولون: إذا قرأ الإنسان كلام الله فالكلام كلام الباري، ولكن الصوت صوت القاري، يعني: حركة لسانه وصوته الذي يسمع وينطق به شيء مخلوق، أما المصوت به المقروء المسموع منه فهو كلام الله جل وعلا، ولهذا جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، وقال: (زينوا القرآن بأصواتكم)، فجعل الصوت للقارئ، والمصوت به هو القرآن المتلو وهو كلام الله.
مثال ذلك: إذا قال: إن الله في جهة، أو قال: إنه ليس في جهة، نقول: هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل: ماذا تريد بأن الله في جهة؟ فإن قال: أريد أن الله في العلو، وأنه عال على خلقه، ومستو على عرشه. نقول: هذا المعنى صحيح ومقبول، ولكن يجب أن تعبر عن ذلك بالعبارات التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله: بأن الله فوق، وأنه في السماء، وأنه استوى على العرش، وما أشبه ذلك، وإن قال: أريد أن الله في جهة تحويه أو تحيط به. نقول: هذا باطل لفظاً ومعنى، ومثل الجهة الحيز، فإذا قال: إن الله في حيز أو ليس في حيز. وكذلك كلمة العرض أو الجوهر إذا قال: إن الله ليس بعرض، أو إن الله ليس بجوهر، فمن المعلوم عند المتكلمين أن العرض: هو الذي لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره، وأما الجوهر: فهو القائم بنفسه ويرى، العرض مثل: العلم والألوان وما أشبه ذلك التي لابد أن تقوم بغيرها، فإذا قال هذا، نقول: ما مرادك؟ فإن قال: أريد بهذا أنه جل وعلا منزه عن العوارض التي تعرض للناس أو تحل بهم من النقائص، نقول: هذا حق، ولكن التعبير عن هذا يكون بالعبارات الشرعية كقوله جل وعلا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22] وما أشبه ذلك، فإنه لا ند له، ولا مثل له، ولا سمي له، ولا نظير له، فهذه العبارات هي التي يجب أن تعبر بها، أما هذه العبارة فخطأ، وإن قال: أريد أن أنفي عنه الشيء الذي يدل على أنه جسم مثل الكلام والسمع وما أشبه ذلك؛ لأننا لا نعقل شيئاً تقوم به هذه الأمور إلا الأجسام، فنقول: هذا الكلام باطل لفظاً ومعنى. وهكذا بقية الألفاظ المجملة يسلك فيها هذا المسلك، وهذه طريقة أهل السنة.
الجواب: بالعكس، هذا استدل به أهل السنة، وهو قول الله جل وعلا: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]، وقد جاء في آيتين من كتاب الله، لكن الجهمية استدلوا به من طريق آخر وهو أن المحدث مخلوق، وهذا باطل؛ لأن المقصود بالمحدث: الجديد، ولا يشترط أن يكون مخلوقاً، وقد قال ابن عباس : (ما بالكم تسألون أهل الكتاب؟! وكتابكم أحدث شيء بالله، والله ما رأينا واحداً منهم أتى يسألنا) فهو محدث يعني: جديد؛ ولهذا قال أهل السنة: آحاد كلام الله يتجدد، وقد يقال: حادث، يعني: جديد، وأما جنسه ونوعه فهو قديم أزلي؛ لأنه صفة من صفات الذات الأزلية.
الجواب: هذا الكلام كلام أهل البدع كالأشعرية، فإنهم يقولون: إن كلام الله معنىً واحد قائم بنفسه لا يتجزأ ولا يتعدد، أما القرآن والإنجيل والتوراة والزبور وسائر الكتب المنزلة فإنها عبارة عن كلام الله وليست هي كلام الله، وبما أنهم قالوا: إن الكلام معنى واحد لا يتجزأ قالوا: إذا عبر عنه باللغة العربية صار قرآن -عن هذا المعنى الواحد- وإذا عبر عنه باللغة السريانية صار إنجيلاً، وإذا عبر عنه بالعبرية صار توراة، وهكذا، وهذا كله فرع عن المذهب الباطل، وهو باطل لا يدل عليه شيء من الأدلة الشرعية، ولا من العقل ولا من الفطر، بل جميع الأدلة تدل على بطلانه، وما أظنه يحتاج إلى تكلف في الاستدلال على بطلانه؛ لظهور بطلانه فتصوره يكفي في إبطاله.
الجواب: الإنزال الذي ذكره الله في القرآن ثلاثة أقسام: قسمان مقيدان: الأول: مقيد بأنه من عنده، والثاني: مقيد بأنه من السماء، والقسم الثالث: مطلق، وليس في القرآن إنزال غير هذه الأقسام، أما الذي من عنده فهو خاص بالقرآن الذي نزل به جبريل، وأما الذي من السماء فمنه المطر ومنه غيره، وأما المطلق فمثل إنزال الحديد وإنزال الأنعام، فإن الله أخبرنا أنه أنزل لنا ثمانية أزواج، من أين أنزلها؟ ليس في هذا قيد، وأخبر أنه أنزل الحديد: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25]، من أين نزل؟ هل قال: من السماء أو من عنده؟ لا.
والمقصود بهذا التقسيم أن نبين أن القرآن نزل من عند الله جل وعلا؛ ولذلك فهو صفة من صفاته، والذي نزل به جبريل ليس فيه إشكال، فإن الله لم يكلم الناس بنفسه وإنما كلمهم بالوحي، والوحي يأتي به أمينه الذي هو جبريل.
الجواب: أولاً: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رؤيا الأنبياء وحي)؛ ولهذا جاءت بعض الشرائع بالرؤيا التي رأى، وكذلك قص الله جل وعلا علينا قصة إبراهيم حينما أمر في المنام بذبح ابنه، وأراد تنفيذ ذلك، وأثنى الله عليه بهذا، فلو قدر أن هذا وقع فلا ضير في ذلك، ولكن الذي ذكره العلماء: أن القرآن نزل يقظةً لا مناماً، وهذا لا ينافي أن يكون صلى الله عليه وسلم قد رأى شيئاً أنزل عليه في المنام ثم نزل به جبريل، ومعلوم أن الوحي عدة أنواع، وأشدها أن ينزل عليه جبريل عندما يكون متيقظاً ثم يتغشاه الشيء الذي يثقل عليه جداً حتى إنه ليتصبب عرقاً في اليوم الشاتي من شدة ما يتغشاه، حتى إنه أحياناً إذا نزل عليه وهو راكب على راحلته ما تستطيع الراحلة أن تحمله فتبرك لثقل الوحي، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:1-5].
الجواب: لأن القرآن صفة من صفات الله، وليس المراد بالمصحف الورق والحبر، وإنما المراد: الكلام الذي فيه وهو كلام الله، والحلف يكون بالله أو بصفة من صفاته.
الجواب: ليس لأجل التحدي ولا بالصرف كما تقول المعتزلة، ولكن لأن الله حفظه، ولولا ذلك لأمكن تبديله كما بدلت التوراة والإنجيل قال الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالله تولى حفظه، ومن حفظه: أن الأمة تحفظه: صغارها وكبارها، وكذلك هو محفوظ كتابة فلو حاول إنسان أن يغير شكلة في آية فأراد أن يجعل الرفع نصباً أو النصب خفضاً؛ فإنه لا يستطيع، ولرد عليه الصبيان الذين في المدارس وهذا من حفظ الله له، بخلاف الكتب السابقة فإن أهلها لم يحفظوها.
والمقصود أن الكلام يمكن تبديله، والذي لا يمكن تبديله هو خلق الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].
الجواب: يجوز أن يترحم عليها، ويعمل عنها عمرة، ويصلى عليها، والإثم على من حملها على ذلك، أما هي -وإن كانت متوعدة على هذا- لا تخرج من الدين الإسلامي، لكن إثم الذي حملها على ذلك أكبر من إثمها، نسأل الله العافية.
الجواب: المقصود إنه إذا قال شيئاً فإنه لا يبدل: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، فهو لما أخبر أن جهنم ستمتلئ من الجن والإنس أجمعين فلا أحد يستطيع أن يبدل هذا فيجعل جهنم -مثلاً- تمتلئ من الحجارة فقط.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر