يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
أما بعد:
فالإيمان برسل الله تبارك وتعالى والإيمان بالرسالات أصل من أصول الإيمان بالله تعالى، يقول الله عز وجل: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] .
وقال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136].
وقيل أيضاً: النبي مشتق من النبوة، والنبوة هي المكان المرتفع عن سطح الأرض. وتطلق أيضاً على كل علم من أعلام الأرض يهتدي به الإنسان في سيره.
والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: أن النبي له قدر عظيم عند الله تبارك وتعالى وعند الناس، والأنبياء أعلام هدى يخرج الله عز وجل بهم الناس من الظلمات إلى النور.
وقيل أيضاً: الرسول هو الذي يتابع أخبار من أرسله، من قول العرب: جاءت الإبل رسلاً، يعني: جاءت الإبل متتابعة؛ فالرسول هو: من أرسله الله عز وجل إلى قوم بعينهم ليبلغهم أخبار الله تبارك وتعالى ووحيه.
فقال فريق من العلماء: لا فرق بين النبي والرسول، فالنبي هو الرسول.
ويرد عليهم قول الله تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54] فلو كان النبي هو الرسول لما ذكر الصفتين.
وأيضاً يقول المولى عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52]، ففرق الله عز وجل بينهما.
وأيضاً فرق المصطفى صلى الله عليه وسلم بينهما، فذكر عدداً للأنبياء وعدداً للرسل، فلو كان النبي هو الرسول لكان عددهم واحداً.
فالقول الأول بأن النبي هو الرسول قول خطأ، وإن ذهب إليه فريق من العلماء.
القول الثاني: إن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
وكتب الأزهر تقول: الرسول: هو رجل أرسله الله تبارك وتعالى إلى قوم من البشر وأمره بتبليغ الرسالة، والنبي: هو رجل أوحى الله عز وجل إليه ولم يأمره بتبليغ الرسالة.
وهذا القول قول خطأ، وإن كان موجوداً في أكثر الكتب.
بل إنه قال: إن حديث: (لا نبي بعدي) قصم ظهور الأولياء، وما أبقى للأولياء حاجة.
وذهب أيضاً في كتابه فصوص الحكم إلى أن للأولياء خاتماً، وقال: أنا خاتم الأولياء، وبي ختمت دولة الأولياء.
ثم فضل خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، وقال: إن خاتم الأولياء يأخذ من الله مباشرة، أما خاتم الأنبياء فإنه يأخذ من الملك، أي: يأخذ بواسطة، وأما نحن فنأخذ من المعين الذي يأخذ منه الملك. وهذا قوله صراحة في فصوص الحكم.
الدليل الأول: أن المولى عز وجل نص صراحة في القرآن الكريم أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل، والإرسال
يقتضي البلاغ، فعندما أقول لك: أنا أرسلتك إلى قوم، فالمعنى: بعثتك إليهم حتى تبلغهم شيئاً معيناً، فالإرسال يقتضي البلاغ، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52]، فالله عز وجل نص على أنه أرسل الرسل ووجههم كما وجه الأنبياء إلى قوم بعينهم، فالإرسال يقتضي البلاغ.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والإمام النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط)، أي: النبي يأتي يوم القيامة ومعه جماعة من الناس، قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد).
فمعنى قوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) أو: (رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) أن النبي تكلم معهم وبلغهم شيئاً من أمر الله، فاستجابوا له وامتنع الباقون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت النبي)، لم يقل: رأيت الرسول.
فإذا قال أحد: إن الحديث مروي بالمعنى، قلنا: هذا رواه الإمام مسلم ، والإمام مسلم كان يروي الحديث باللفظ دون المعنى.
الدليل الثالث: قول الله تبارك وتعالى عن يوسف: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، ويوسف كان نبياً ومع هذا بلغ الرسالة إلى صاحبي السجن بنص القرآن الكريم.
الدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246] وهذا يوحي أن النبي كان يبلغ شيئاً من وحي الله تبارك وتعالى وينفذ تعليمات الملك إلى قومه.
الدليل الخامس: وهو أوضح الأدلة على وجوب البلاغ على الأنبياء، وهو حديث الحارث الأشعري كما في الوابل الصيب: (إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات تعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب).
ولو كان لا يجب عليه البلاغ لأنه نبي وليس برسول، لما قال: إني أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب؛ لأن ترك الأمر المستحب لا يوجب عقاب المولى عز وجل.
إذاً: التعريف الذي نحن نختاره: أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله.
فسيدنا موسى عليه السلام نزل برسالة وهي التوراة، وبعد موت موسى عليه السلام قام أنبياء بشريعة التوراة وليس بشريعة جديدة، وإنما قاموا يبلغون ويقررون شريعة رسول الله الذي قبلهم، ولذلك فإن داود وسليمان وزكريا ويحيى -وهم أنبياء- بعثهم الله تبارك وتعالى بشريعة موسى عليه السلام، وهي التوراة، ولذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري : (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم -أي: تحكمهم- الأنبياء بشريعة موسى، كلما مات نبي خلفه نبي).
والله عز وجل من رحمته بالخلق أرسل عدداً كثيراً من الأنبياء والرسل، يقول المولى عز وجل: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
ويقول الله تبارك وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً صححه الشيخ الألباني عن أبي ذر الغفاري قال: (قلت: يا رسول الله! كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً).
وفي رواية أبي أمامة عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! كما وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً).
وسيدنا أبو ذر يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً)، رواه الإمام أحمد ، وأورده التبريزي في مشكاة المصابيح، وقال الشيخ الألباني : حديث صحيح.
وهناك رسل قصهم الله عز وجل في القرآن، ورسل قصهم علينا الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، ورسل لم يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم شيئاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، ومعنى ذلك: أن في رسل المولى عز وجل من لم يقص الله من أخبارهم شيئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول المولى عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78].
فنحن نؤمن بأن الله عز وجل أرسل رسلاً وأنبياء، وقص علينا بضعاً منهم في القرآن الكريم، وقص علينا الرسول شيئاً عنهم في السنة، والله عز وجل تفرد بأخبار رسل لم يقصها على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يأتي أحد فيقول: الرسل والأنبياء هم المذكورون في القرآن الكريم فقط، فنقول له: بل هناك رسل غيرهم لا نعرف عنهم شيئاً، فهناك رسل لم يقصهم الله تبارك وتعالى.
والرسل والأنبياء الذين ذكرهم الله عز وجل في القرآن الكريم بأسمائهم خمسة وعشرون رسولاً ونبياً، ثمانية عشر منهم ذكروا في سورة الأنعام، والسبعة الباقون متفرقون في سور القرآن الكريم.
فالذين في سورة الأنعام قصهم الله عز وجل علينا في قوله تبارك وتعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:84-86]، فهؤلاء ثمانية عشر.
وقد ذكر أنبياء ورسلاً متفرقين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33]، وسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً، واختصه الله بالتكليم كما اختص موسى وكما اختص رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً.
وفي الحديث الصحيح: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبي مكلم).
وقال الله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29].
وقال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [هود:50].
وقال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [هود:61].
وقال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [هود:84].
وقال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85].
والأنبياء رسل، وإن لم يقل بهذا الشيخ محمد علي الصابوني ، والأسباط كانوا رسلاً بنص قول الله تبارك وتعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136]، أي: وما أنزل إلى الأسباط، وهذا يدل على نبوتهم.
ويقول المولى عز وجل: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] فالأسباط أنبياء كما في هذه الآية.
ودليل آخر: قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84].
و الخضر ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته، وإلا لما اختلف العلماء هل كان نبياً أم لا؟ والراجح وهو جمهور أهل السنة: أنه كان نبياً، ولكن لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على ذلك.
وشيث ابن سيدنا آدم، أنزل الله عز وجل عليه خمسين صحيفة، كما رواه الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، وقال: وكان نبياً بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً: (أنه أنزل عليه خمسون صحيفة).
وقد خصه الله بفضيلة عظيمة، حيث إن الله عز وجل ما حبس الشمس إلا له، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والإمام مسلم : (غدا نبي من الأنبياء -وهو سيدنا
قال: (ولا رجل قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفه)، أي: لأنه يريد أن يأتي بالحديد والإسمنت فهو مشغول عن الجهاد.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي انفرد بروايته الإمام أحمد -وهو حديث صحيح على شرط البخاري -: (إن الشمس لم تحبس إلا لـ
يقول الله عز وجل: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86]، فهل قال الله عز وجل هذا القول لـذي القرنين مباشرة أو عن طريق نبي؟
يميل سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الجزم بنبوة ذي القرنين، وجزم بهذا أيضاً الحافظ ابن حجر وقال: وظاهر القرآن يؤيد ذلك، أي: وظاهر القرآن يؤيد نبوة ذي القرنين.
وسيدنا علي بن أبي طالب نفى ذلك بإسناد صحيح عنه، فهذا نتوقف في الحكم له بالنبوة أو عدمها.
الأولى أن نتوقف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف، فلم يقطع بالنبوة ولم ينفها عن ذي القرنين أو عن تبع .
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني : (ما أدري أ
فالرسول صلى الله عليه وسلم توقف في الحكم بالرسالة لـذي القرنين ولـتبع، ولم يثبت النبوة لهما ولم ينفها عنهما.
والخضر يستدل به الصوفية على أن الولي يجوز له أن يخرج عن ظاهر الشريعة؛ بدليل أن الخضر قتل الغلام، وأن الولي خير من النبي؛ بدليل أن سيدنا موسى قال: أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، والحقب ثمانون سنة، وذلك حتى يذهب إلى الخضر ثم يجلس بين يديه مجلس الطالب المتعلم الذليل المتواضع له، فيقولون: الولي أفضل من النبي، حتى قالوا:
مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي
وقال قائلهم أيضاً: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.
وعبد الحق بن سبعين يقول: لقد حجر ابن آمنة واسعاً إذ زعم أن لا نبي بعده.
وأولى الأقوال -وهو ما ندين به لله عز وجل وعليه أهل السنة والجماعة- أن الخضر كان نبياً.
والدليل الثاني وهو أوضح: أن سيدنا موسى نبي ورسول من أولي العزم، وهو معصوم في تحمل الرسالة وفي أدائها وفي تبليغها، وقد أجمع علماء المسلمين أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي، أو أن ينقص منه، أو أن يشك فيه، أو أن ينسى شيئاً منه، هذا في جانب التبليغ؛ قالوا: فكيف يجوز لنبي معصوم من أولي العزم مثل موسى عليه السلام أن يتلقى العلم من رجل غير معصوم.
يعني: لو كان الخضر ولياً فيمكن أن يخطئ في العلم ويمكن أن يصيب، فكيف يتلقى المعصوم علمه من رجل غير معصوم في تبليغ العلوم الشرعية، بل ويحرص على لقياه ولو أن يمضي ثمانين سنة، وعندما يقابله يتواضع له ويجله ويجلس منه مجلس المتعلم الذليل، قالوا: وهذا يحق في شأن الخضر؛ لأنه نبي يعلم موسى أن الله عز وجل قد خصه بأسرار من علمه تبارك وتعالى لم يخص بها موسى.
ولذلك جاء في القصة التي يروونها: أن العصفور أتى ونقر نقرة من ماء البحر فوضعها على فخذ الخضر، فقال: أتدري ما يقول العصفور يا موسى؟! قال: علم ذلك عند ربي، قال: يقول العصفور: أنت يا خضر! على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ولا موسى، وموسى على علم علمه الله إياه لا أعلمه أنا ولا أنت، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت ولا موسى، وما علمي وعلمك وعلم موسى بجانب علم الله إلا كهذه القطرة إلى جانب الماء. أي: اختص الله عز وجل نبيه الخضر بشيء من الوحي لم يخص به موسى عليه السلام، فاحتاج موسى إلى معرفته؛ حتى يستزيد من هذا العلم.
وأيضاً الخضر أقدم على قتل الغلام وخرق السفينة، ولو كان هذا مجرد خاطر فقد أجمع العلماء على أن الأولياء خواطرهم غير معصومة، ولا يجوز للولي أن يخرق ظاهر الشريعة، ويقول بسقوط التكليف، ولا يقول: أنا ولي ويفعل الفاحشة؛ فضلاً عن أن الخضر يقول: أوحي إلي بالقتل، وزيادة على ذلك يقول: إنه أمر بقتل الغلام، وأنه لو امتد به العمر لكان سبباً في كفر والديه، فكيف يعلم هذا؟
والدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، ففصل الخضر لموسى أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى، قال: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81]، ويقول المولى عز وجل: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82].
وهذا يدل على أن الخضر كان نبياً ولم يكن ولياً.
اختلف في ذلك أقوال العلماء، حتى اضطرب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، فهو يقول عنه في مجموع الفتاوى في صفحة: إنه حي، وفي الصفحة التي بعدها يقول: إنه ميت، وهذه فتوى صريحة لا تحتمل تأويلاً، وهي بحاجة إلى مراجعة في مجموع الفتاوى، وهذا مما اضطرب فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية .
وذهب جمع كثير من العلماء إلى: أن الخضر حي لم يمت، وأن إلياس حي لم يمت، ووردت في ذلك أخبار كثيرة؛ وهي ضعيفة وباطلة لدرجة أن الإمام النووي قال: إن الرجل الذي يخرج من المدينة ويقتله المسيح الدجال ثم يحييه مرة ثانية هو الخضر. قال هذا في شرح مسلم، وهذا القول قول مرجوح.
وذهب كبار المحدثين ومنهم الإمام البخاري وابن دحية وابن كثير وابن حجر العسقلاني إلى أن الخضر قد ميت.
والدليل على أن الخضر قد مات: ما قاله الإمام أحمد بن حنبل لما سأله إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وإلياس وأنهما باقيان يشاهدان ويروى عنهما؟ فقال: من أحال على غائب لم ينصف. ثم قال الإمام أحمد: وما ألقى هذا إلا الشيطان.
والدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما كان جالساً في حلقة من أصحابه كما رواه الإمام البخاري : (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد).
والدليل الثالث: أنه لو كان الخضر حياً لكان قاتل في معركة بدر وفي أحد وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان فك الخلاف في سقيفة بني ساعدة ولاستشاره المسلمون، فليس من المعقول أن يذهب إلى البراري والفيافي والقفار والجبال ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب وحده حتى يشج رأسه في أحد، وكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وكيف وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على النبيين والخضر منهم؛ يقول المولى عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
فكيف يترك الخضر نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان حياً؟! هذا لا يعقل ولا يجوز.
وإذا أتيت بواحد منهم وقلت: أنت تعترف بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ يقول لك: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وهذه الشهادة لو قالها نصراني دخل في الإسلام.
ولو أن أحداً ارتد عن الإسلام فإنه لا يرجع إليه إلا بالنطق بالشهادتين وبنقض ما ارتد به وخرج به من الإسلام، يعني: إن كان قال: الصلاة في الإسلام ليست واجبة، فنقول له: أنت مرتد، ارجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، ثم بالإقرار بأن الصلاة واجبة، أي: يعترف بما جحده.
وإذا قال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول للعرب وليس للناس جميعاً، أي: أنه معترف بالرسول لكن للعرب فقط وليس لجميع الناس؛ فإن علم ذلك من حاله فنطقه بالشهادتين لا يكفي لدخوله في الإسلام، بل لا بد من الإقرار بأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة، وأن رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع. فهؤلاء كفرة بنص القرآن الكريم.
وأما من قال: إن قرقيس وخالد بن سنان والرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى آل ياسين في سورة يس رسل؛ فنسأله: هل هناك رسل بعد سيدنا عيسى عليه السلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بيني وبينه)؟ فليس هناك أنبياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سيدنا عيسى.
فلو قال: إن هؤلاء الأنبياء بين سيدنا عيسى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز، فإن كانوا قبل عيسى فخير وبركة كما ذهب إليه الشيخ عمر الأشقر .
وقول من قال: إن خالد بن سنان -وهو عربي- كان نبياً من الأنبياء بين عيسى والمصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخلت عليه بنت خالد بن سنان قال: (أهلاً بابنة أخي، أهلاً ببنت نبي ضيعه قومه) فهذا الحديث لا يصح.
والأنبياء من العرب أربعة: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر !
والعقلانية تقول: إن الأنبياء الخمسة والعشرين كانت لزمان العيش في الجبال، وأما في القرن العشرين ونحن نركب الصواريخ ونطلق الأقمار فإن الناس غير محتاجة للرسل، وإن العقل بمفرده كاف لهداية البشرية؛ بدليل أنهم يردون الوحي الذي هو حق المولى عز وجل من القرآن ومن السنة ويقدمون عليه العقل، فيجعلون العقل حاكماً على الكتاب والسنة.
وهؤلاء البراهمة الذين يقولون: إن العقل يغني عن الرسل، كان أحدهم قائداً كبيراً جداً في القرن العشرين ولم يغنه عقله حتى عبد البقرة، فـغاندي كان يقول للناس: عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع.
ثم يقول: وأمي البقرة تفضل على أمي الحقيقية من عدة وجوه:
فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طوال العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً ولا تطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي.
ثم يقول: إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين. فهذا زعيم ورجل كبير يعبد البقرة.
وأكبر من هذا ما نقلته مجلة العربي الكويتية عن معبد أنفق عليه ملايين الملايين من الدولارات، وهو مكسو بالرخام الأبيض، وهذا المعبد ينفق عليه آلاف النذور والهدايا، والإله الذي يقدمون إليه هذه النذور هو الفئران، فهم يعبدون الفئران، فانظر كيف قاد العقل البشرية إلى الدمار!
والأوامر الشرعية والنواهي والمباحات، وأن هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مندوب، وهذا جائز، لا يستطيع العقل أن يخبرنا عنها شيئاً بدون الشرع، وصفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه وأفعاله عز وجل بالأمم الغابرة لا يستطيع العقل أن يتكلم عنها.
وهناك مجالات يقف العقل أمامها عاجزاً، حتى قال القائل:
من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد
ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد
هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج
فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد
فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد
والعاقل ينهى عن أن يقحم العقل في غير مجاله.
أيضاً: إن كان الفعل فيه مصلحة وفيه مفسدة فكيف يحدد العقل أن المصلحة تربو على المفسدة أو أن المفسدة تربو على المصلحة؟
والعقل السليم النظيف لا يصطدم بالوحي الصريح الصحيح، فالوحي يخبر بمحارات العقول، أي: عن الحاجات التي يحتار فيها العقل، فالوحي يفسرها له ويوضحها، فهو يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، يعني: لو كان العقل نظيفاً وسليماً مائة في المائة فلا تأتي سنة صحيحة بمخالفته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض المنقول مع صريح المعقول، أو: درء تعارض العقل والنقل.
وقالوا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في الإصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين: إن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها. وهذه قبيحة نسبوها إلى سارة ، وهي بريئة منها.
وقالوا أيضاً كما ورد في سفر التكوين إصحاح (19) عدد (30): إن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بهما الواحدة بعد الأخرى!
وقالوا: إن يعقوب عليه السلام سرق مواشي حميه وخرج بأهله خلسة دون أن يعلمه! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (31) عدد (17).
وقالوا: إن روابين ابن سيدنا يعقوب زنى بزوجة أبيه يعقوب، وإن يعقوب عليه السلام علم بهذا الفعل القبيح وسكت! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (35) عدد (32).
وسبحان الله! حتى الغيرة برءوا منها الأنبياء، وأحد الناس شكته امرأته في محكمة شرعية وكانت منتقبة وادعت أنه ضربها على وجهها، فأمرها القاضي أن ترفع النقاب، فقال له زوجها: ما حصل هذا الكلام ولكن الذي تقوله حق، لكن لا ترفع عنها النقاب، ثم نظر إلى امرأته وقال:
أغار عليكِ من نفسي ومني ومنكِ ومن مكانكِ والزمان
ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
فقال القاضي: اكتبوا هذا في ديوان الأدب.
وهم يقولون: إن سيدنا يعقوب علم أن ابنه زنى بامرأته ثم سكت.
وقالوا: إن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل ذلك الرجل فقتل، وبعدئذ أخذ داود هذه الزوجة وضمها إلى نسائه، فولدت له سليمان.
وقالا: إن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها الهياكل والتماثيل! هؤلاء هم اليهود.
وفي إنجيل يوحنا إصحاح (2) عدد (4): أن يسوع أهان أمه في وسط جمع من الناس، أي: شتم أمه في وسط جمع من الناس. فأين هذا من قول الله تبارك وتعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي [مريم:32]؟
وأيضاً في إنجيل يوحنا إصحاح (10) عدد (8): أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص. يعني: أن سيدنا المسيح عليه السلام قال: إن كل الأنبياء سراق، وهذا طبعاً لا يجوز.
أما بعد النبوة فقالوا: إن الأنبياء لا يجوز عليهم تعمد الكبائر أو فعلها، ويجوز عليهم الصغائر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. يعني: أن الأنبياء معصومون من الكبائر ومن صغائر الخسة، وأما بقية الصغائر فيجوز عليهم أن يفعلوها، ولكنهم إذا فعلوها تابوا منها وأقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة. وهذا القول الفصل، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
والدليل على ذلك: قول الله تبارك وتعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، هذا عن آدم عليه السلام.
وأما عن نوح عليه السلام فإنه لما فقد قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45]، قال له الله عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، فقال نوح عليه السلام: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47].
وسيدنا داود عليه السلام قال الله عز وجل عنه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] وذلك لما حكم لخصم دون أن يسمع من الآخر.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1].
وقال الله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2].
وأما في تبليغ الرسالة للأنبياء فإن إجماع العلماء على عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي ولا أن ينقص منه ولا أن يشك فيه، ولا أن ينسى شيئاً منه، إلا شيئاً ينسيه الله عز وجل إياه.
قال الله عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] .
وقال الله عز وجل: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46].
والأفعال البلاغية للأنبياء التي علموها القوم على سبيل التعليم، كأن يصلوا أمام الناس حتى يتعلموا الصلاة، هذا لا يجوز عليهم فيه الخطأ ولا السهو ولا النسيان.
فإذا استقر الأمر واستقر هذا الفعل وعلمته الأمة ثم فعله النبي عبادة جاز عليه النسيان، كما نسي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وأيضاً يجوز عليهم الغضب، فإن نبياً من الأنبياء لدغته نملة، فأمر بمتاعه فأخرج من تحت الشجرة، ثم حرق قرية النمل، فعاتبه الله عز وجل فقال: (فهلا نملة واحدة)، ومن هنا جاء النهي وتحريم قتل النمل.
والأزارقة جوزوا الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعد البعثة، فقالوا: ممكن للنبي أن يبعثه ربه بالرسالة ويبلغها ثم يكفر. وهذا قالت به الأزارقة من الخوارج الذين هم جماعة نافع بن الأزرق .
وأما الفضلية من الخوارج فجوزوا الذنب على الأنبياء بعد البعثة، وكل ذنب عندهم كفر، فكفروا الأنبياء، وجوزوا كفر الأنبياء بعد البعثة.
والأزارقة الذين قالوا بجواز الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها استدلوا بقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7].
والإمام أحمد قال: من قال بكفر النبي قبل البعثة يعزر ويؤدب، وهذا القول قول سوء، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه قط.
وأما قول الله عز وجل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7] فإن الضلال في اللغة يطلق ويراد به أشياء، فيأتي الضلال بمعنى: الاضمحلال، يعني: الذهاب، كما في قوله تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ [السجدة:10]، أي: إذا غبنا في الأرض، تقول: ضل اللبن في السمن، وضل السمن في اللبن، يعني: غاب السمن في اللبن. فالضلال يأتي بمعنى الذهاب والاضمحلال.
ويأتي الضلال أيضاً بمعنى: الكفر، ويأتي أيضاً بمعنى: الذهاب عن حقيقة الشيء، كما في قول الله عز وجل: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، يعني: لا يذهب عن حقيقة الشيء بل يعلم حقيقة كل شيء، وكما في قوله عز وجل: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].
إذاً: يكون معنى قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا [الضحى:7]، أي: ووجدك غافلاً عن أحكام الشرائع، لا تعرف الظهر كم ركعة، والعصر كم ركعة، والمغرب كم ركعة، والعشاء كم ركعة.
وفي تفسير ثان وإن لم يختره الشيخ الشنقيطي ولكن اختاره قوم كثيرون من علماء التفسير، قالوا: وَوَجَدَكَ ضَالًّا [الضحى:7]، أي: محباً، أي: ووجدك محباً للهدى فهداك.
وقد جاء القرآن بذلك، فقال إخوة يوسف لأبيهم: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95]، يعني: في حبك القديم ليوسف.
وهناك قول أصرح وهو قول كثير عزة لـعزة:
هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا
يعني: حبك أشاب مني المفرقا.
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
يعني: بعد هذه السنين كلها وبعد شيبي في حبها.
فيكون معنى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا [الضحى:7] أي: وجدك محباً للهدى فهداك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الجواب: عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا. وهذا ثابت عن عمر ، فإن كان قاله عمر رضوان الله عليه فأحرى بنا أن نقوله، ولكن لم يستدل به العلماء، ففيما قرأته للحافظ ابن حجر لم يستدل به. والله أعلم.
الجواب: صغائر الخسة مثل لها الشيخ محمد بن سليمان الأشقر بسرقة الأشياء الصغيرة التافهة. والله أعلم.
الجواب: العلماء فرقوا بين الهم والعزم، فقالوا: الهم: بدء الإرادة، والعزم: منتهاها، وقالوا: الهم هو الميل الغريزي أو الميل الطبعي، وقالوا: إن صرفه عنه وازع التقوى كتب له به حسنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالسيئة فلم يفعلها كتبت لها بها حسنة).
وأما العزم فاختلف العلماء هل يعاقب عليه الرجل أم لا يعاقب؟ ومال الشيخ الشنقيطي إلى أن الرجل يعاقب بالعزم على المعصية؛ لقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: قد عرفنا القاتل فما بال القتيل؟ قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه). والله أعلم.
الجواب: قال الشافعي : إن لم يكن العلماء أولياء لله تبارك وتعالى فليس على ظهر الأرض لله ولي. والولاية العامة يدخل فيها صالحو المؤمنين، ولكن الصوفية حينما يتكلمون عن الأولياء يقصدون العابد الذي يجري عليه الله عز وجل الكرامات أو خوارق العادات أو المشهور بالتعبد.
فهم يقولون -وخاصة الذين يميلون إلى الفلسفة منهم كـالعفيف التلمساني وعبد الحق بن سبعين وابن إسرائيل ومحيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجيلي -: بأن الأولياء أعلى رتبة من الأنبياء ومن الرسل، وقال أبو يزيد البسطامي: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.
وثبت هذا القول عنهم:
مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي
والولي يطلق في الاصطلاح على طائفة من العباد من خواص عباد الله تبارك وتعالى الذين هم دون الأنبياء منزلة. والله أعلم.
الجواب: ما يميل إليه الشيخ عمر سليمان الأشقر : أن الرسول يأتي برسالة جديدة، وأما النبي فلا يأتي برسالة جديدة وإنما يرسله الله عز وجل بشريعة من كان قبله يقررها ويعمل بها ويدعو إليها.
فمثلاً: سيدنا موسى كان رسولاً إلى بني إسرائيل وأتى بشريعة التوراة، والأنبياء ممن أتوا بعده دعوا قومهم إلى الله تبارك وتعالى وبلغوهم وحيه وهو التوراة.
السؤال: ما حكم العمل بحديث الآحاد؟
الجواب: بالنسبة لحديث الآحاد فالقول الراجح وهو قول الشافعي والبخاري: أنه يعمل به في مجال العقائد.
وهناك رسالة طيبة للشيخ الألباني في حجية خبر الآحاد، والله تعالى يرسل الواحد إلى قومه بالتوحيد، وبعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن بالتوحيد، فقال له: (فادعهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، فإن هم أجابوك لذلك ...) والتوحيد لا يحتمل الشك ولا الظن.
وأيضاً يقول المولى عز وجل في سورة التوبة: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122]، والفقه في الدين يشمل الفقه الأكبر وهو التوحيد، والطائفة تطلق على الواحد فما فوقه.
ويقول المولى عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، يقول الإمام البخاري : إن الطائفة تطلق على الواحد فأكثر. والله أعلم.
فمذهب أهل السنة والجماعة حجية خبر الآحاد في مجال العقائد، وأن الأمة مطالبة شرعاً بالتعبد والعمل بخبر الآحاد.
وبالنسبة لأحاديث عذاب القبر فقال العلماء: هي أحاديث آحاد، ولكن لا يكفر من ينكرها. والله أعلم.
السؤال: ما حكم أكل المرأة وشربها من مال أبيها الذي تعلم أن مصدره حرام؟
الجواب: إن كانت تقيم مع أبويها وينفق عليها والدها، وكان ماله مختلطاً من حلال وحرام، فيجوز لها أن تتورع عنه، وإن كان الغالب على مال أبيها الحلال فيجوز لها من باب الدعوة له أن تأخذ منه، ولكن إن كانت قادرة على الإنفاق على نفسها أو على أهلها من مالها فلا يجوز لها أن تأكل أو تشرب منه. والله أعلم.
السؤال: ما حكم مجالسة النصرانية ومحادثتها والأكل من طعامها بقصد دعوتها إلى الإسلام؟
الجواب: يجوز الأكل من مال النصرانية من أجل دعوتها، ويجوز الكلام معها، وإن جاز الأكل جاز الكلام من قبيل الدعوة، ولكن لا تواليها. والله أعلم.
السؤال: ما هي الخصال التي تنصح طلاب العلم بالتحلي بها؟
الجواب: السلفيون المفروض أن يكونوا أرق الناس أفئدة، فالرجل المتحلي بالعلم لا بد أن يكون من أرق الناس، وطالب العلم منوط به حفظ العلوم الشرعية مثل البخاري ومسلم نقول له: طلب العلم أولى، ولكن لو لم تكن كـ البخاري ولا الألباني ولا ابن باز ولا ابن عثيمين ، ولا حتى تخطب جمعة، ولا تدرس درساً فعليك أن تحرص على العبادة والطاعات، وعليك الأخذ بقسط وافر من قيام الليل وخاصة في الشتاء، وقد صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: الشتاء غنيمة العابدين.
وقال أبو هريرة كما وصح عنه: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، فالتعب بالصوم والبرد ينسيك ألم الجوع، ثم تذهب إلى الله عز وجل بيوم قد حكم لك فيه بالصيام.
ويقول الحسن البصري: إن الملائكة لتفرح بالشتاء للمؤمن.
ويقول يحيى بن معاذ: ليل الشتاء طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.
فعلى الإنسان أن يكثر من قيام الليل، وعليه أن يكثر من الصيام فيأخذ نفسه ويجربها في صيام الإثنين والخميس، فإن استقامت يجربها في صيام يوم وإفطار يوم، وهذا أفضل الصيام.
و عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما مات حتى سرد الصوم، وكذلك عائشة ومالك بن أنس، لكن لا تأتي اليوم وتقول: أصلي من العشاء إلى الفجر وأصوم يوماً وأفطر يوماً، وبعد أسبوع تبغض نفسك العبادة، فلا تصلي حتى الصلوات الخمس.
فالإنسان يأخذ نفسه بالتدرج حتى يستقيم على حال، فيأخذها بقيام الليل، ثم بالصيام، ثم بكثرة الأذكار، ثم بكثرة ذكر الموت وزيارة المقابر.
ونقول للإخوة: عليكم بصلاة الفجر ولو عرفتم وغلب على ظنكم أنكم لا تصلون الفجر فناموا في المسجد لو كنتم عزاباً، ولو كنتم متزوجين فناموا عند أهاليكم ثم تعالوا إلى المسجد حتى لا تفوتكم صلاة الفجر، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في ركعتي الفجر لأتوهما ولو حبواً).
وإذا أراد الرجل أن يرطب قلبه فليرطبه عند ثلاث: عند قراءة القرآن، وعند صلاة الفجر، وعند الذكر، فإن وجده وإلا فليعلم أن الباب مغلق، وليسأل الله عز وجل أن يمن عليه بالقلب فليس له قلب.
وبالنسبة للورد القرآني فاجعل لك ورداً تختمه كل أسبوع، تبتدئ من ليلة السبت ثم تختم يوم الخميس، وقد ورد أن الصحابة كانوا يختمون في الأسبوع.
وإن ترقى بك الحال وعظم بك المقام فاختم في كل ثلاثة أيام، ولكن عليك بالوسط، فاختم في الأسبوع، ولا يفوتنك ولو ركعتين من القيام، وعليك بالصيام وكثرة الذكر والصمت وزيارة المقابر وصلاة الجماعة والحرص عليها، والمواظبة على الصف الأول وعلى صلاة الفجر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر