إسلام ويب

سلسلة العقيدة - شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [6]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأصل في الناس الذين في بلدان المسلمين أنهم مسلمون، ولا يجوز التتبع لمعرفة حالهم، ونحملهم على الأصل ولا ننقلهم منه إلا بدليل، فهم مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، ومن الفرق التي ضلت عن الحق: المرجئة والقدرية، والجهمية والرافضة، والخوارج، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة, ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر، ومن الألفاظ المحدثة: لفظي بالقرآن مخلوق. وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر.

    1.   

    امتحان الناس في الإيمان

    قال المصنف رحمه الله: [ والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ولا ندري ما هم عند الله عز وجل ].

    وهذا هو الأصل، أن الناس ممن يخالطون في بلدان المسلمين أن الأصل فيهم الإيمان، فلا نتتبع كل واحد منهم لنثبت إيمانه، لا، وإنما نحمله على الأصل ولا ننقله منه إلا بدليل.

    قال: "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم"، يعني: لا نسأل إذا جاءت قضية عند أحد أو نحو ذلك، هلك هالك، ولا نبحث وراء ذلك، هل ارتفع الإيمان عنه أو لم يرتفع، حتى يؤثر ذلك بقسمة التركة ولوازمها لا, نحمله على الإسلام، ولا نتتبع في أمره؛ لأن السرائر في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى فنعمل في ذلك في الظاهر، ولهذا نقول: إن البلدان على نوعين: بلدان إسلام وبلدان كفر، بلدان الإسلام الأصل فيها الإسلام على الأعيان, وبلدان الكفر الأصل فيها الكفر على الأعيان، ويكون دخول الإسلام في ذلك استثناء، ثمة صور نادرة في هذا، أن يكون مثلاً في بلد من بلدان المسلمين من حمل اسم كذا فليس بمسلم، فإذا جاء عند قاض أو جاء عند أحد يريد قسمة تركة الأصل أنه يقسمها على قسمة المسلمين ما قامت قرينة، فإذا رأى اسمه يقول هل هو كافر أو مسلم؟ يقوم بالتثبت؛ لماذا؟ لوجود القرينة، وذلك كالاسم أو وجود عائلة أو نحو ذلك لا تنتمي للإسلام، فهذه أشياء استثناء.

    قال: "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم"، لدينا في أبواب الإيمان والكفر أسماء وأحكام، الأحكام لازمة للأسماء, والأسماء لا يلزم منها أحكام بكل حال، وذلك أنه إذا حكمت على أحد بالكفر لا يلزم من ذلك أن تقوم بقتله أو أن تستبيح دمه أو عرضه أو غير ذلك، فهذا حكم زائد عن الاسم، ولكن ليس لك أن تقول: إن فلاناً مسلم ثم تقوم باستباحة دمه؛ لأن الأصل أن الحكم لا بد من ورود الاسم معه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث )، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود وغيره، ولهذا نقول: نثبت الأسماء على من ظهر منه موجبها, ونُتْبِع الحكم إذا قامت الحجة عليه؛ وذلك إذا كان مثلاً هناك شخص تلبس بالكفر، طرأ, هذا كافر لتلبسه بالكفر, لكن قد تقوم قرينة تحتاج في ذلك أن تنزل الحكم عليه، تقيم الحجة عليه، الذين يطوفون على القبور والأضرحة وغير ذلك في بلدان المسلمين ويسجدون لها من دون الله وينذرون ويسألونها من دون الله سبحانه وتعالى هؤلاء مشركون، لكن هل للإنسان أن ينزل عليهم حكم الله لمجرد نزول الاسم؟ لا، لا يلزم من ورود الاسم ورود الحكم حتى يكون موجب الحكم أيضاً, وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل.

    [ فمن قال إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع, ومن قال هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين, ومن قال هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب ].

    وهنا في قوله: "فمن قال إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع"، وذلك لأمرين: أن الإيمان حقيقة لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى, كذلك أيضاً فإن مقياس الإيمان هو مقياس الشريعة, لا مقياس ذات الإنسان وتقييمه له، لأنه لو وكل الناس إلى نفوسهم وإلى آرائهم وأهوائهم لكان كل أحد يقول: أنا مؤمن وانتهى الأمر، ولهذا اليهود والنصارى كل طائفة منهم تقول عن الطائفة الأخرى: ليست على شيء، وهم يتلون الكتاب، يعني: يقرءون، لكن يتأولون ذلك، ولكن نقول: إن كل دعوة في ذلك لا اعتبار بها لأن مردها إلى الله سبحانه وتعالى, وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113].

    وفي قول المصنف رحمه الله: "ومن قال هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين"، وهنا أراد التنبيه على معنى؛ لأنه لا يعلم الإنسان منزلته لأسباب: منها أن الإنسان ينسى سيئته ويذكر حسنته فلا يعلم مقياس إيمانه، فإن الإيمان له منزلة ومرتبة وهي أعلى من الإسلام، والشيطان له مداخل على الإنسان أن يستحضر العمل الصالح في ذهنه وأمام عينيه؛ حتى يعظم ويتواكل وينسى سيئاته، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في مواضع كثيرة في أحاديث ( أن الإنسان يفاجأ يوم القيامة بعدد السيئات التي نسيها )، يفعلها ونسيها وأحصاها الله سبحانه وتعالى، ما الذي يذكر؟ يذكره الشيطان بالحسنات؛ حتى يسكن ويرتاح ويتمادى في السيئات ويطمئن حتى لا يأمن من مكر الله سبحانه وتعالى عليه، ولهذا قال: "من قال هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين"؛ لأنه ما يدري حاله، قيمته عند الله؛ لماذا؟ هل السبب في عمل الإنسان؟ الله عز وجل عدل, يعطيك على عملك, ولكن الخلل في ذلك أنك تجهل نفسك وتنسى أمرك، من جهة ماذا؟ من جهات: منها: أن تنسى العمل كله، الماضي منك, ومنها أيضاً: أن تجهل قيمة العمل الذي فعلته أنت، ربما تؤدي الصلاة، أديتها لكن هل خشعت فيها؟ هل حضر قلبك فيها؟ ما هو مقدار القبول عشرها، ربعها، ثلثها، نصفها، ثلثيها أكثر من ذلك أم أقل، ما مقدار هذا الأمر؟ الإنسان غالباً ينظر إلى الأمور الظاهرة, والله عز وجل كما جاء في حديث أبي هريرة ( لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى القلوب التي في الصدور )، هذه القلوب هي موضع الخداع والغرر عند الإنسان، لهذا الإنسان يجهل تقييم نفسه بنسيانه لما مضى من عمله، وتقييمه لعمله الحاضر؛ لأنه ما يدري أمره، كذلك أيضاً: أن الإنسان ربما يغلب عليه هواه فيظلم ويظن أنه ليس بظالم، ولهذا يقول الله جل وعلا عن بعض الظالمين الذي يقع منه ظلم ويظن أنه على خير: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]، يظن أنه على خير، هذا الظن هو الذي يجعل بعض الناس يقول: أنا مؤمن عند الله، أنت لا تعلم ما حالك عند الله، ربما كابرت لأجل الهوى فتظن أنك على حق وأنت على باطل، ولهذا قال: ومن قال هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب, يعني: يكل أمره على ما علم من أمره لا عند الله، لا من أمر الله، لأنه لا يعلم أمر الله سبحانه وتعالى إلا هو، يعني كقول الإنسان: لا أعلم عن فلان إلا خيراً، أو أحسبه كذلك، فهو يرجع إلى حسبانه، فإذا جاز شهادة الإنسان لغيره ممن خارج عنه، فشهادته لنفسه عند نفسه فيما يعلمها منها لا عند الله، فهذا جائز من باب أولى؛ لأن غيره أخفى عليه.

    1.   

    الفرق الضالة عن الحق

    فرقة المرجئة

    [ والمرجئة والمبتدعة ضلال ].

    وهذا على ما تقدم في مسائل الإرجاء، تقدم معنا بسط ذلك في مسألة الإيمان ومراتبهم والإشكال في مسألة العمل.

    والإرجاء اشتق من إنساء العمل وإرجائه وعدم إعطائه وزنه الحقيقي؛ كإرجاء الدين وإرجاء الأجل فيه، كذلك أيضاً يرجئ العمل ويفك عن القول والاعتقاد.

    فرقة القدرية

    [ والقدرية المبتدعة ضلال ].

    يقول: "والقدرية المبتدعة ضلال"، تقدم معنا أيضاً الكلام عن القدرية, ونفيهم للقدر, والخلل أيضاً في هذا الباب هو علة هذا النفي، تقدم معنا الإشارة إليه.

    [ فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لا يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر ].

    وهذا إشارة إلى ما تقدم إلى أن من نفى القدر يلزم منه أن ينفي العلم، ولهذا يقول الإمام الشافعي وكذلك الإمام أحمد أن القدرية يخاصمون بالعلم، فإذا نفوا العلم كفروا، وإن أثبتوه خوصموا, كيف يعلم دقائق الأشياء وهو لم يقدرها، إلا الذي رسمها سبحانه وتعالى، وذلك أنه يُعلم في الماديات في نظر الإنسان أنه لا يعلم دقائق الأشياء إلا من وقف عليها ابتداء ولله المثل الأعلى، ولهذا الإنسان أو الطبيب يجهل حال الإنسان في تركيبته؛ لماذا؟ لأنه ما خلقه، ولهذا الله عز وجل يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، يعلمه لأنه هو الذي خلقه, وهو الذي قدره سبحانه وتعالى، وجعل أيضاً له مقاديره وأحواله، ولهذا يخاصم القدرية في أمر العلم.

    فرقة الجهمية

    [ وأن الجهمية كفار ].

    يقول: وأن الجهمية كفار, وهم أتباع الجهم بن صفوان , تقدم أيضاً معنا الإشارة إلى الجهمية, وضلالهم أيضاً في أبواب الأسماء والصفات, وضلالهم في جانب القدر، وأيضاً في مسألة الحلول والاتحاد ونفي التمايز بين الخالق والمخلوق.

    فرقة الرافضة

    [ وأن الرافضة رفضوا الإسلام ].

    والرافضة نشأت ابتداء تشيعاً وموالاة لأهل البيت، ثم بعد ذلك غلوا على ما تقدم الكلام عليه، أول ما بدأ التشيع في حب علي وتقديمه على عثمان , ثم أخذوا يقدمونه مرتبة وعتبة حتى وصلوا إلى تأليهه، ولهذا نقول: من إحكام الله عز وجل للشريعة أن الشيء الصحيح لا يمكن أن ينتقض إلى قيام الساعة، والشيء الباطل لا بد أن يصطدم بشيء باطل ولو بعد قرن أو قرنين، ولهذا العقيدة الضالة يتناسخ فيها الضلال، والعقيدة الحق ثابتة لا تتغير، لهذا الرافضة لما نشأ لديهم عقيدة الإمامة وهي عصمة الأئمة؛ أرادوا من ذلك لأنهم كانوا يطعنون في الصحابة، من أين يأتيك التشريع وأنت تطعن في الصحابة؟ كيف تصلي وتصوم وتتصدق؟ أوجدوا الأئمة المعصومين، يعني: لا بد من وسيط، أوجدوا الأئمة، هؤلاء الأئمة لما جاءوا الإمام الحادي عشر لم يولد له، أغلق الباب، إذاً ماذا يفعلون بعد ذلك، أوجدوا السرداب، دخلوا في متاهات، في مسألة السرداب، من الوسيط بينهم وبين السرداب، أصبح كل شخص يقول: أنا وسيط بينه وبين السرداب، وأصبحوا يأتون بمتناقضات، ولهذا الجهالات تتناسخ والحق الثابت، ولهذا ترون عقيدة السلف الصالح من الصحابة الذين يجرون على الكتاب والسنة ومن جاء بعدهم، يجرون على عقيدة واحدة لا يمكن أن تولد باطلاً، أما أهل الضلال فإن الضلال يتراكم في ذلك كالبناء حتى يصبح في ذلك هرماً عظيماً، ولهذا ينغمس الرافضة في أبواب الجهالة، قيل أنهم سموا بالرافضة؛ لرفضهم الحق ورفضهم الإسلام وهذا قول لجماعة من السلف، نشأ الرفض في زمن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, في خلافة علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، وأول من قال به عبد الله بن سبأ ثم تبع على هذا القول, وغلوا في هذا الجانب، يقول: "وأن الرافضة رفضوا الإسلام"، وذلك أن من رفض أصلاً من أصوله رفضه كله، ولو آمن ببعض شعائره أو ظواهره العامة فإن هذا لا ينفعه.

    فرقة الخوارج

    [ والخوارج مراق ].

    وهنا تقدم الكلام معنا فيما يتعلق في مسألة الخوارج، وذلك أنهم مراق من الحق، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )، يعني: أنهم يدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ثم يرجعون إليه بسلاسة وسهولة؛ لجهالة وطمأنية بال فيه، ولهذا من أعظم مكر الله عز وجل على أهل الضلال أنه يتبع الضلال وهو سعيد بضلاله، ويتبع الغي وهو سعيد بغيه، ولهذا يخرج منه ويعود إليه بسرعة بلا تردد، الإنسان الوجل قلق لا يسرع، ولهذا تجدون في طبائع الناس أن الإنسان إذا أراد أن يذهب في سفر ونحو ذلك وهو لا يعرف الطريق، لا يدري كم المسافة التي يقطعها، ربما يتجاوز البلدة التي يريدها، يمشي الهوينى؛ لماذا؟ لأنه ينتظر أحد يسأل، شك لديه، أما الذي في ضلال ويسرع دليل على ماذا؟ دليل على غاية في الجهل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )، يعني: سراعاً.

    وفي هذا إشارة أيضاً إلى معنى آخر أن السهم هو الذي رمى بنفسه أو رمي به؟ رمي به, أنهم يعيشون في التقليد أكثر من التحرر، يعيشون في دائرة التقليد ويرمى بهم لا يرموا بأنفسهم، ولهذا أعظم بلية العقول التقليد، هي التي تضلها، ولهذا أكثر صراع أهل النار حجة الذين اتبعوا للذين اتبعوا، أنَّا اتبعناكم في هذا الباطل، لهذا ينبغي للإنسان أن يسأل عن الحجج، يسأل عن البينات، يقف عندها, فإذا سمع قولاً؛ ما دليله من الكتاب والسنة، لأن الله عز وجل أوجد لك عقلاً، وأنزل كتاباً بلسانك تفهمه لو أردت أن تفهم، وما ألزمك بأن تتبع الناس، وقد يتبع الإنسان إماماً ويقلده لكن لا بد من أصل يتكئ عليه أن هذا الرجل صادق؛ لأن الشريعة فيها جزء عظيم تسليم، ولكن تسليم لله سبحانه وتعالى، فتجعل هذا الإمام وهذا العالم بعد اختباره وسبر لحاله أنه من أهل الصدق وأنه لا يفتري على الله ولا يقول إلا الحق في مسائل عريضة، لا حرج عليك أن تقلده في مسائل أخرى من غير اتباع؛ لماذا؟ لأنه تمحض لديك صدقاً فيما عداها، فلم تسلم له تسليماً تماماً ولم تنقد له انقياداً تاماً.

    والخوارج هم الذين يكفرون بالكبيرة، ويلزم من ذلك أنهم يقاتلون أئمة الجور لأنهم كفروا بجورهم، فعظم أمرهم في الإسلام؛ لعظم أثرهم في هذا، فلا يقرون ببيعة, ولا يقرون بجماعة، لأنه ما من أحد إلا ويبلى بكبيرة، إلا ويبلى بكبيرة حتى أن عند بعض المتأخرين ممن يدون في الفقه أن من حلق لحيته كافر؛ لأن حلق اللحية يرون أنه كبيرة فيلزم من ذلك الكفر، على هذا يتبعها من شروط من مسائل النكاح، ومسائل التوريث، ومسائل الولاية كل هذا يدخل في هذه الدائرة, وهذا ضلال مبين، ولهذا هذه المسألة في التكفير بالكبيرة لشدة لوازمه العامة والخاصة على الدين وعلى الدنيا عظم فساد الخوارج على الإسلام وعلى دنيا المسلمين.

    1.   

    حكم من قال القرآن مخلوق

    [ ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة, ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر ].

    وهنا بعد أن ذكر المصنف في ابتداء هذه الرسالة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ذكر في هذا الموضع حكم من قال بأن القرآن مخلوق وليس بكلام الله سبحانه وتعالى، وأئمة السلف من التابعين وأتباعهم وأتباعهم وأتباعهم على أن من قال أن حرفاً من القرآن مخلوق فهو كافر؛ لأن القرآن كلام الله، وكلامه صفة من صفاته، والقول بخلق الصفة يؤدي إلى القول بخلق الخالق جل وعلا، وهذا ضلال مبين، إضافة إلى تكذيب ما تصمنه كلام الله سبحانه وتعالى من نسبة الأمر إليه، ولهذا نقول: إن ما يزعمه بعض العقلانيين من أن هذه المسألة ينبغي ألا تعظم؛ لأنها من الخلاف اللفظي، قال: نحن نؤمن بما في كتاب الله من معاني وأحكام فلماذا نعظم هذا الأمر ما فيه من أحكام نعمل به سواء قلنا هو كلام أو كان مخلوق أو خلقه الله عز وجل أوجده في الأرض، هذا يسلسل كثيراً من الباطل، منها نفي علو الله، نحن نعبد الله سواء أثبتنا علوه أو جعلناه بغيره من الأرض، ونحن نعبد الله عز وجل سواء قلنا سميعاً أو بصيراً أو لم نثبت السمع والبصر، نعبده ونؤدي له هذه الصلوات، يلزم من ذلك أن ننقض الدين كله ما دمنا نتفق على أداء الرسالة، لمن تؤديها؟ لأن الضلالة في ذات الله أعظم من الضلال في العبادة التي تصرف لله، الضلال في ذات الله أعظم من الضلال في العبادة التي تصرف لذات الله؛ لأن ذلك الأمر يتعلق في ذات الله سبحانه وتعالى وهو أعظم في التعدي، ولهذا ولله المثل الأعلى نجد في الناس أن الإنسان إذا طعن في شخصه وفي ذاته أعظم عنده من إذا طعن في عمله، لأن العمل منفك عنه، لكن لا تطعن في ذاته، من جهة ما خلقني الله عز وجل عليه, من صفتي أو لوني أو طولي أو قوامي يجد في ذلك أثراً عظيماً في نفسه، أما ما كان منفكاً عنه من فعل, لم يتقن العمل ونحو ذلك دون ذلك مرتبة، هذا في ذات الناس، لله المثل الأعلى، الضلال في هذا الجانب ضلال عظيم، مع أن الله سبحانه وتعالى لن يبلغه أحد بضر فيضره، ولا يبلغ أحد أيضاً بأذية فيضره سبحانه وتعالى، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46]، ولكن الله جل وعلا قد جعل الذنوب والشرك على مراتب، جعل الشرك على مراتب، فكفر الوثنيين يختلف عن كفر اليهود والنصارى، كفر الملاحدة الذين ينفون وجود رب يختلف عن كفر المشركين الذين يثبتون وجود رب ولكن يجعلون واسطة, ولهذا نقول: إن الضلال في ذلك على مراتب، وبهذا نعلم فساد من يقول بأن القول بخلق القرآن هو من المسائل التي لا أثر لها في العمل، ويغيب عنهم أن هذا يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى، ولو انتهوا إلى ما انتهى إليه السالفون من الصحابة والتابعين أن أمضَوا ما هذا؟ هذا كلام الله، وما تطرقوا لشيء من التعليلات والتفصيلات وغير ذلك لكان أسلم من قولهم ذلك، ولهذا يقول المصنف رحمه الله: "من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر"، وقد كفر من قال بخلق القرآن مئات من السلف، وقد أُحصوا أنهم نحو خمسمائة، ومنهم من يقول: ألف إمام الذين نصوا على كفر من قال بخلق القرآن أو حرف من القرآن مخلوق, وهنا يريد أن يبين حقيقة الكفر, فقال: "فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة"، هذا هو قول أبي حاتم وأبي زرعة أو من أدركنا من علماء الحجاز وعلماء الشام وعلماء العراق وعلماء اليمن, هم من أدركوا من هؤلاء العلماء.

    وينبغي أيضاً أن نعلم أن المسائل البدعية والضلالية إذا تقادم عليها الزمن رقت في قلوب الناس، ولكن ميزانها من جهة الحقيقة واحد ولو توطن عليها الناس.

    قال: "ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر"، هنا أحال الأمر إلى الفهم؛ لأن الذي شك في كفره لم يقل بقوله وإلا لدخل في حكمه وما سئل عنه، ولكنه يقول بخلاف قوله وما أدرك شناعة قوله، إذا كان يدرك قوله وحقيقته فهو كافر.

    1.   

    مسألة إقامة الحجة وفهم الحجة

    قوله هنا: "ممن يفهم" يدلنا إلى مسألة من المسائل وهي ما يسمى بفهم الحجة عند العلماء، لدينا مسألتان:

    المسألة الأولى: إقامة الحجة، المسألة الثانية: فهم الحجة.

    إقامة الحجة أن يؤدي الإنسان الحجة لمن يريد أن يحتج عليه بلغة يفهمها لو أراد أن يفهم، تخاطبه بالعربية إذا كان عربي، وهو في حال يقظة لا في حال منام، وفي حال انتباه لا في حال شغل، وإذا خوطب بشيء من أمر آخر من أمر دنياه ونحوه أدرك فهو حينئذ قامت عليه الحجة، فلا تخاطب العجمي بالعربية ولا العربي بالأعجمية؛ لأنه على لغة لم يفهمها لو أراد أن يفهم لم يستطع ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل حجته لا تقوم على الأمم والشعوب إلا ببعث نبي بلسان قومه، ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل كلامه وهو أعظم كلام على لسان من أراد أن يبعث إليهم الحجة حتى تقوم الحجة، كذلك أيضاً بالنسبة للداعي، إذا أراد أن يبلغ الحق عليه أن يبلغ الحق بلغتهم التي يريد أن يقيم الحجة عليهم بها وهم يتكلمون بها.

    الثاني: هو فهم الحجة، تقدم معنا بمسألة الإقامة، إقامة الحجة؛ أن الشريعة اكتفت بتبليغها وأن يكون الإنسان حاضر الذهن على لغة يفهمها لو أراد أن يفهم؛ لأن الله عز وجل يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ [التوبة:6]، أو قال يفهم؟ قال: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]. الثاني: هو الإفهام، لدينا في الشريعة ربط الإفهام بالأسماء والأحكام، وهل يلزم من ذلك تعطيل الشريعة للإفهام أم لا؟ الشريعة لم تعطل للإفهام، ولكنها فرقت بين إقامة الحجة وفهمها، فمن قامت عليه الحجة لا يلزم أن يعلن فهمه بها؛ لماذا؟ لأن فهم الحجة إحالة إلى باطن، والباطن إلى الله، لأن قوم شعيب ماذا كانوا يقولون؟ يقولون: ما فهمنا، مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [هود:91]، لا ندري، هؤلاء فهموا أو لم يفهموا؟ فهموا، سمعوا أو لم يسمعوا؟ سمعوا لكنهم لم يفهموا، يقول: ما نفهم، إذاً يبقى الإنسان تبلغه قل: لا إله إلا الله، يقول: لم أفهم، ويبقى على هذا الأمر، هل يسقط الجهاد؟ لا يسقط، تقول له: الزنا حرام؛ لماذا تقع في هذا الأمر؟ يقول: لا أفهم, برر لي, أعطني تحليل مقنع، تحليل صحيح, لم أقتنع أو غير ذلك، هل هذا نحن بحاجة إليه؟ لسنا بحاجة إليه، لهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحجة ويفهمها أو لا يفهمها؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم الحجة والأصل بإقامة الحجة أن يفهمها لكنه لا يربط الحكم والاسم بالإفهام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً، هل هو كلها لإقامة الحجة أم لإقامة الحجة والإفهام؟ لإقامة الحجة والإفهام لكن لم يأمره الله عز وجل حينها بإقامة الأحكام، لم ينزل الله عز وجل عليه الجهاد، ولو مات أحد من المشركين في تلك الحقبة وممن بلغته الحجة لكان من أهل النار؛ لأن البلاغ قد بلغك وكنت على هذا الأمر، وفهم الحجة مرده إلى باطنك, فهذا يرجع فيه إلى محال، لهذا النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يكتب إلى ملوك البلدان: أسلم تسلم )، يخاطبه بالرسالة التي يفهمها لو أراد أن يفهم, وأما الإفهام فالشريعة تتشوف إليه للقبول وكسر حواجز النفس في حال تعذر وجود الحكم أو المشقة بالقيام به، يقوم الإنسان بالاستمرار حتى يفهم؛ كمناظرة أهل البدع والضلال, مناظرة أيضاً من خالف السنة أو يترك الطاعات ونحو ذلك؛ لأنك لا تملك أيضاً إقامة الحكم عليه فاستمر في الإفهام، ولو قلنا أنه لا ننزل حكماً على أحد إلا بإفهامه، لا يلزم من ذلك أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم خاطئ، جلَّ عليه الصلاة والسلام من ذلك، إقامة الحدود وغير ذلك، النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بذلك بالإسماع، ولهذا ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الناس بعبارات يوصلها إليهم ولا يتجاوز ذلك ), لأنهم لو أرادوا أن يفهموا لفهموا مثل هذا الأمر.

    وفي قول المصنف رحمه الله: ومن شك في كفره ممن يفهم، احتاج إلى الفهم هنا لأن الأمر لا يتعلق به بذاته وإنما هو في غيره، ويتعلق في غيره، يعذره أو لا يعذره، لهذا من قال بخلق القرآن فهو كافر، ومن لم يكفره ويفهم حقيقة جرمه ووضوحه فهو كافر بالله سبحانه وتعالى، وكأن المصنف يميل إلى أن الإنسان إذا كان لا يكفر من قال بخلق القرآن لعدم إدراكه لمثل هذا الجرم الذي وقع فيه، وكذلك أنه ربما كان معذوراً أو ملتبساً عليه أو نحو ذلك، فهذا مبحثه عنده آخر.

    [ ومن شك في كلام الله عز وجل فوقف شاكاً فيه يقول: لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي ].

    وذلك أتباع الجهم بن صفوان الذين يقولون بخلق القرآن, وكذلك أيضاً فإن هذا التردد يكفي فيه الكفر بكلام الله سبحانه وتعالى, أن الإنسان لم يكن متيقناً بحكم الله عز وجل وبيانه لهذه المسألة في كتابه، وذلك أن من تردد في شيء بينه الله؛ كحال الإنسان الذي يقول: لا أدري الزنا حرام أم حلال، الخمر حرام أم حلال، هذا خرج من القول بتحريمه، وخرج من القول بإباحته، فبقي بين الأمرين، ومجرد الشك في ذلك جرم في ذاته؛ لأن الله عز وجل قد بين حقيقته وأمره.

    1.   

    العذر بالجهل

    [ ومن وقف في القرآن جاهلاً عُلِّم وبُدِّع ولم يكفر ].

    يقول: "ومن وقف في القرآن عُلِّم وبُدِّع ولم يكفر"، الجاهل في ذلك هل يعذر بإطلاق أو لا يعذر بإطلاق؟ أم يعذر وما مقدار عذره فيما بين ذلك؟ نقول: الأصل في أصول الإسلام ومعالمه أن الإنسان لا يعذر بجهله في أصول الإسلام العامة، لا يعذر الإنسان بجهله، أما هل هذا على إطلاقه أم لا؟ نقول: نحن نتكلم هنا على مسألة من المسائل وهي لمن كان داخل دائرة أمة الإسلام, وأما من كان ليس داخلاً في دائرة الإسلام كمن يكون في بلد ناء من بلدان الشركية؛ كالقرى البعيدة مثلاً في أقاصي أفريقيا أو في القرى الهندية البعيدة حتى عن حواضر الهند في ذاتها فضلاً أن تكون بعيدة عن حواضر الإسلام فلا يصل إليها شيء وهم على غير ملة الإسلام هل هؤلاء نقول بأنهم ليسوا بمعذورين؟ نقول: هؤلاء معذورون؛ لأنهم ما سمعوا بشيء يدعو إلى الإسلام حتى يتبعوا، وما هو المقدار في ذلك من مسألة العذر في الجهل وكيف يعذر؟ نقول: العذر بالجهل ينظر فيه إلى ثلاث جهات:

    الجهة الأولى: أن ينظر إلى المسألة المجهولة وقيمتها في الدين، ما كان من أصول الإسلام وأموره العظام الأصل فيها عدم العذر، وأعلى هذه الأصول هو وجود الله سبحانه وتعالى وتصرفه بالكون وتدبيره له، لا يعذر أحد بذلك؛ لأن هذا أقوى الأشياء في فطرة الإنسان فضلاً عن شرائعه سبحانه وتعالى، فالدليل في ذلك قائم من الحس والفطرة, والنظر, وقائم كذلك أيضاً في السمع من الوحي من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلي بعد ذلك ما يتعلق بالرسل؛ رسل الله عز وجل، وما يتعلق أيضاً بالأصول العظيمة التي شرعها الله سبحانه وتعالى للناس من تحريم القتل وغير ذلك فيها على مراتب تذكر بحسبها.

    فلا نجعل مسائل الدين على مرتبة واحدة، المسألة المجهولة، أصول, كلية, عامة, وفرعيات، الفرعيات تختلف عن الأصليات، فالذي يجهل شريعة من الشرائع؛ مثلاً يجهل العمرة ولا يعرف أحكامها ولا يدري عنها ولم يسمع بها يختلف عمن يجهل الحج أو يجهل الصلوات الخمس، فإذاً هي على مراتب، أو من يجهل ما دل عليه الدليل من الشرع والطبع، يختلف عمن يجهل شيء دل عليه الدليل من الشرع فقط؛ لأن ما دل عليه دليل من الشرع والطبع أعظم عند الله، والعذر فيه أضيق حتى يعدم؛ وذلك مثل القتل، القتل هل هو بحاجة إلى نص سمعي، أم الفطرة دالة عليه قبل أن يرد النص؟ الفطرة دالة عليه قبل أن يرد النص، ولهذا الملحد، والوثني، واليهودي والنصراني يعلمون بأن القتل مستقبح ومنبوذ ولا تستقيم الحياة به، فيعلمون أنه ممنوع ولكن يختلفون في ردع القاتل، إذاً فطر الله عز وجل الناس على هذا الأمر، فدل الدليل الشرعي عليه، فاجتمع دليل شرعي ودليل طبع، ودليل الشرع ودليل الطبع يختلف عن مسألة لم يدل عليها إلا دليل الشرع؛ وذلك كمسألة الحج، فالذي يجهل أو يدعي الجهل بحكم القتل أعظم عند الله ممن يدعي الجهل بالحج؛ لأن الحج ينفرد به الشرع.

    الجهة الثانية: تقدم الجاهل، ونوع الجاهل وحاله، هل هو جاهل حديث عهد بكفر, حديث عهد بجاهلية أم جاهل قديم في الإسلام يدعي الجهل؟ يختلف بين هذا وهذا، ولهذا ( الصحابة عليهم رضوان الله لما كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومروا بشجرة كان المشركون ينوطون بها أسلحتهم قالوا: يا رسول الله, اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة )، إذاً النبي صلى الله عليه وسلم حمل هذا القول على أنه شرك، لكن هل كفر وشرك القائلين؟ لا؛ لأنه قال في الخبر قال: ( ونحن حدثاء عهد بجاهلية )، لهذا قد تتفق المسألة المجهولة ويختلف الحال وهي الجهة الثانية؛ الجاهل، فنفرق بين جاهلين في مسألة واحدة، فلو أن إنساناً في المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من التابعين بعد استقرار الإسلام قال: أريد ذات أنواط، هل يختلف عن الحالة أو لا يختلف، المسألة واحدة أو ليست بواحدة؟ هي واحدة، هذا الثاني لا نعذره والأول عذرناه، هذا لأنه في بيئة إسلام وذاك حديث عهد بجاهلية؛ نظير هذا أيضاً لديك نصراني لم يعش في بلدان المسلمين حتى يعلم منهم أن الخمر حرام, وهو يتناول الخمر بناء على ما يعلمه من دينه, ثم دخل الإسلام، فأصبح سكراناً في صبيحة إسلامه أو بعدها بيوم أو أيام, ثم احتج قال: لم أعلم أن هذا محرم في الإسلام، ورجل آخر شرب الخمر معه وأصبح سكران، وهم من أهل الإسلام، وكل منهما ادعى الجهل، أيهم يقبل وأيهم لا يقبل؟ يقبل حديث عهد بنصرانية ولا يقبل ذاك، ولا يقبل هذا.

    الجهة الثالثة: البلد التي وقع فيها الجهل، لدينا مسألة مجهولة ولدينا جاهل ولدينا بلد جُهِل فيها أو الأرض التي وقع فيها الجهل، جاهل في مكة يختلف عن جاهل في أفريقيا أو في الهند أو في السند أو غير ذلك؛ لماذا؟ لأنه قريب موضع بموضع العلم, فيسمع الناس ويتحدثون, ويلتقون بالناس بالمشاهدة، قطع العذر عليه، قد يقول قائل: ألا يحتمل ولو واحد بالمائة أنه جاهل في هذه المسألة الظاهرة؟ نقول: يحتمل أنه واحد بالمائة وربما خمسة بالمائة أنه فعلاً ليس لديه علم لكن لا نعذره؛ لماذا؟ لأنه هو الذي قصر في عدم رفع الجهل عن نفسه، لأن الله عز وجل أوجد الخلق لعبادته أم ليضربوا في الأرض؟ لعبادته، فلماذا لم يستقصي بمعرفة أن الصلاة واجبة عليه؟ وهو في موضع إيمان وبلد إسلام ثم يقول: لا أدري أن الصلاة واجبة أو لا أدري بأن الحج واجب، أو أنه ركن من أركان الإسلام، لا يعذر بهذا ويعذر البعيد النائي، لهذا نقول: هذه الجهات إذا ضبطها الإنسان عرف وجوه الاختلاف في عدم العذر في موضع والعذر في موضع, وعدم العذر في فرد والعذر في فرد آخر, وعدم العذر في مسألة والعذر في مسألة أخرى، يعرف الإنسان هذه المواضع وهي التي يجري عليها العلماء غالباً في مسألة العذر بالجهل.

    وهنا في قوله: "ومن وقف في القرآن جاهلاً علم وبدع ولم يكفر"، إنما قال المصنف عليه رحمة الله هذا الكلام؛ لأن هذه المسألة شاع القول بها ولبس على الناس في ذلك الزمن, وقام بتأييد ذلك سلاطين وحكام ودعم ذلك والتمكين لمن يقول بهذا القول، ومواجهة من يقول بخلافه، وكذلك أيضاً فإن هذه المسألة لم تكن منصوصة صراحة ووضوحاً في الشريعة يفهمها العجم، خاصة مع العلم أن العجم من المسلمين أكثر من العرب، مع دخول العجمة أيضاً واستفحالها في زمن الفتوحات وكثرتها ثم أرادوا أن يبحثوا في النصوص ولم يجدوا نصاً يقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، لم يجدوا هذه العبارة، ويرونها مكتوبة في الأوراق وغير ذلك فيلبس على باطل، وكأن المصنف رحمه الله جعل ابتداء الجهل بذلك عذر فتقام عليه الحجة فيرتفع حينئذ العذر؛ لأن هذه مما يقع فيها الجهل حال انتفاء القائمين بذلك والمعلمين لمثل هذا الحكم، فإذا كان في بلد يظهر فيها الجهل ويقل في ذلك العلم مع التباس المعاني في ذلك فإن هذا مقياس من مقاييس اعتبار الجهل والعذر.

    1.   

    حكم قول لفظي بالقرآن مخلوق

    [ ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي, أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي ].

    وهذا من المسائل المولدة عن المسألة الأم وهي القرآن مخلوق أو ليس بمخلوق، الذين قالوا بأن القرآن مخلوق لما ووجهوا بالأدلة من الكتاب والسنة بأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى تكلم به على الحقيقة، أخذوا يولدون مسائل ويقولون أو ناس يتوسطون ويقولون: إن كلامي أو لفظي بالقرآن مخلوق، منهم من يسكت عن أصل القرآن ومنهم من يقول: القرآن ليس بمخلوق لكن لفظي بالقرآن مخلوق، ويريد بذلك أن يخلط بين الصوت وبين الكلام، والله سبحانه وتعالى قد أثبت أن الكلام كلام الله ولو تكلم به المتكلم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الصوت صوت القارئ؛ كما في قوله: ( زينوا القرآن بأصواتكم )، فجعله هو القرآن ولو خرج صوتك به، وفي قول الله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فهو كلام الله ولو تلفظت به أنت، فإذا قرأت القرآن وقال لك أحد: كلام من هذا؟ تقول: كلام الله، وهذا أيضاً تجده -ولله عز وجل المثل الأعلى- في حال الإنسان إذا أراد أن ينقل قولاً، يقول: هذا الكلام لمن؟ تقول: كلام لفلان، الصوت لمن؟ هذا صوتي، والكلام كلام الله، ولهذا يريدون التلبيس في هذه المسألة, وكذلك أيضاً الرد على من يقول بأن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، ولهذا العلماء يقولون: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي, يعني: سلك طريقة الجهمية ووطأ عتبتهم الأولى في القول بخلق القرآن، قال: "أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي", والمعنى في ذلك متقارب.

    1.   

    من علامة أهل البدع الطعن في أهل الأثر

    [ قال أبو محمد: وسمعت أبي يقول: وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر ].

    وهذه عادة أهل البدع؛ لأنهم لا يستطيعوا أن يقعوا في الأثر بعينه فوقعوا في الحملة؛ كحال المنافقين لا يقعون في الوحي؛ لأنه يكشف أمرهم وردتهم فيقعون في الحملة وهم الصحابة، ولهذا كانوا يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، ما قالوا القرآن، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، ولهذا من عادة أهل البدع أن يتوجهوا إلى رموز الإسلام لا يتوجهوا إلى الإسلام ليسقطوا رمزية الإسلام ويسقطوا الحملة، وهذا ظاهر بالتوجه لأهل السنة وأهل الأثر وعلماء الإسلام؛ لأنهم حملة الإسلام، فإذا سقط الحامل سقط تبعاً له المحمول، وهذه قاعدة، فيشككون بذلك بهذه الطريقة؛ لأنهم اشتركوا بحمل السنة، ثمة علماء في الشرق والغرب والشمال والجنوب في الشام والعراق ومصر والحجاز وغيرها من بلدان المسلمين، ثمة علماء يدعون إلى الأثر، لماذا يسبونهم مع اختلاف بلدانهم؟ لم يجمعهم لون ولا عرق ولا لغة ولا نسب ولا حسب, ما اشتركوا إلا بالأثر، إذاً فالوقيعة فيهم إنما لأمر اشتركوا فيه.

    [ وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الآثار ].

    وهذا على ما تقدم سواء يصفونهم مثلاً بالمجسمة أو الحشوية؛ وذلك لأنهم يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى على وجه الحقيقة؛ لماذا؟ لأنهم إن أثبتوا تنقدح في أذهانهم لوازم هم هربوا منها، فعطلوا أسماء الله عز وجل، إذاً عقيدتهم أثبتوها لأجل تشبيه، فإذا أثبت أهل السنة لله عز وجل الأسماء والصفات قالوا بلوازمهم التي فروا منها وأهل الأثر لا يلتزمون بذلك.

    [ وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة ].

    وهذا على ما تقدم معنا أن الطوائف في أبواب الأسماء والصفات ثلاثة: طرفان ووسط، الذين يغلون في الإثبات يقبحون أهل السنة في إثباتهم للصفات وعدم الأخذ باللوازم والإطراد في ذلك والتوسع، والمعطلة يقعون فيهم لأخذهم في ظنهم بلوازم متوهمة وهم لا يقولون بذلك, لا يميلون إلى لوازم غلاة المثبتة ولا أيضاً يعطلون كما يعطل أهل التعطيل في ذلك وإنما يقفون وسطاً امتثالاً لقول الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    [ وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية ].

    وهذا هو على ما تقدم حتى في مسألة القدرية في مسألة القدر في لمزهم للسنة؛ لأنهم هربوا من أن يوصف الله عز وجل بالظلم، فالمعتزلة وغيرهم، نفوا قدر الله عز وجل وجعلوا الإنسان يخلق أفعاله, ولهذا المعتزلة الذين يسلكون هذا الاعتقاد من أصولهم العدل؛ والسبب في ذلك أنهم يرون أن الله عز وجل لا يعذب أحداً وقد قدر عليه شيئاً، فرفعوا القدر ليثبتوا العذاب، والطائفة الأخرى أثبتوا الجبر ونفوا العذاب، أهل السنة أثبتوا القدر وأثبتوا الثواب والعقاب وتوسطوا في ذلك، إذ جعلوا لله عز وجل مشيئة قاضية ماضية، وللإنسان مشيئة, اختيار يختار فيها فعله وعليه يثاب ويعاقب.

    [ وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة ].

    وهذا كل طائفة تصف غيرها, وهذه الأوصاف والألقاب وكذلك أيضاً التنابز بها؛ ينبغي أن لا يرد صاحب الحق عن الحق الذي هو عليه، وهذه أمارات يذكرها المصنف ربما تتغير من زمن إلى زمن أو تتولد أو تتنوع بمسائل حادثة، لهذا نوع توطين إذا وصف السلف بأمثال هذه الأوصاف مع جلالتهم وعلو فضلهم، وصفهم غيرهم بأوصاف مذمة فإن أتباعهم سيسلكون هذا الطريق في كل مسألة متجددة، يوصفون بالذم أو التقصير أو التقبيح أو غير ذلك، أو الوصف مثلاً بالإرهاب أو غير هذا من الأوصاف التي تلحق المسلمين، لهذا نقول: ينبغي للإنسان في هذا أن يلزم الحق وألا يتأثر بكل وصف يوصف به فلا يدفعه إلى قول أو فعل في هذا الباب، وإنما يلزم الدليل كتاباً وسنة، لا يجازف لأجل مدح المادحين ولا يحجم لذم الذامين وإنما يعتدل؛ لأن الله عز وجل سائله عن قوله وعمله واعتقاده.

    [ ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء ].

    وذلك أن أهل السنة هم أهل الإسلام الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة وغيره, ( لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الطائفة الناجية المنصورة قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فكان هذا من تمسك بذلك فهو موصوف بالنجاة وموصوف بالنصر, وهو موصوف أيضاً بالسنة والاتباع والاقتداء. أما قول المصنف هنا أن اتحاد أوصاف الذم لهم من عدة طوائف دليل على كذبها، وأن بعضهم يكذب بعضاً.

    1.   

    هجر المبتدع

    [ قال أبو محمد: وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع, يغلظان في ذلك أشد التغليظ, وينكران وضع الكتب برأي في غير آثار, وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين, ويقولان: لا يفلح صاحب كلام أبداً ].

    ومسألة الهجر المراد بذلك: الهجر والمفارقة, ومنه الهجرة ومفارقة بلد الكفر إلى بلد الإيمان، والله سبحانه وتعالى نهى عن القعود في مجلس يخاض فيه في آيات الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأمور منها: أن السكوت إقرار, وهذا مشاركة بالإثم والعدوان، ومنها: أن الإنسان يتأثر ولو مع طول مراس على الباطل الذي يسمعه، فيتأثر في سمعه حتى يألف، فأراد الله عز وجل أن يصون الإنسان والحق الذي معه بمفارقته بذلك، أما بالنسبة للمهاجرة حتى لو لم يسمع الباطل في مجالسة الباطل نقول: إذا قصد إصلاحاً يرجع في ذلك إلى المصلحة، لأن الإنسان لا يمكن أن يدعو أحداً إلا ويخالطه، أن يجالسه بتدريسه، بتعليمه، بإقامة الحجج عليه، ببيانه، هذا نقول: إذا رام قبولاً من ذلك بإنصاف وعدل بلا هوى فلا حرج عليه أن يخالطه لتعليمه ودفع الشبهة عنه، وإذا علم أنه إن قاطعه أنه سيزداد عناداً ومفسدة في ذلك فإنه يصل ويتألف قلبه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما يتألف بعض المنافقين, ويتألف أيضاً من يخالفه عليه الصلاة والسلام في هذا، وربما أيضاً تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض المخالفين من اليهود وغيرهم ببيع أو شراء أو رهن أو غير ذلك، هذا يربط في ذلك بمصالحه وأحواله، والأصل في العلاقة بأهل البدع الهجران؛ وذلك لأن أهل البدع يخشى على الإسلام منهم؛ لأنهم في داخل دائرة الإسلام ويخشى على الإسلام من تلبيسهم، بخلاف العدو البين كاليهود والنصارى وغيرهم, أو الوثنيين أو الملاحدة أو غير ذلك؛ لأنهم خارج دائرة الإسلام فلا يخشى من تأثر أهل الإسلام بهم لشدة المفارقة في ذلك، وإن كان الأصل في مسألة المخالطة الاشتراك في هذا الباب ولكن الخطورة في هذا على مراتب.

    وهنا في قول المصنف رحمه الله: "وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين ويقولان: لا يفلح صاحب كلام أبداً" لأن الكلام يعتمد على الفلسفة والنظر، والنظر تعتمد على قوة إدراك الإنسان وحدة تأمله، ويلحق في ذلك من القصور ضعفاً وغيره، ولهذا كل الناس في زمن يرون أنهم بلغوا من الحذق والدراية والمعرفة العقلية ما لم يدركه غيرهم, فيضلوا، فيغتر لحذقه ويضل, ولهذا ذكر الله عز وجل أحوال أمم غرتهم المادة وقدرتهم على الأرض لو ننظر إليها في زماننا لرأينا أنهم متخلفون؛ لماذا؟ لحال عيشهم وأمرهم في ذلك الزمن مقارنة بأحوال الناس اليوم، قد بدأ الناس اليوم من رغد العيش حتى يلبس ربما متوسط الناس ما يلبسه الملوك من كسرى وقيصر في الزمن السابق، ولو أعطي الواحد من أهل العصر من متوسط أهل العصر لباس كسرى وقيصر لما لبسه اليوم لخشونته وبعده عن التنعم، وهو الذي أورث كبراً عند الأوائل وظنوا أنهم قد بلغوا فيه مبلغاً، لهذا هذه المسألة نسبية، والله جل وعلا قد جاء بوحي عظيم فوق مدارك العقول, وجب عليهم أن يسلموا، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، مما يجمعون مماذا؟ من الدنانير، من الذهب والفضة، ومن النوع الثاني من أمور المعاني من الآراء والأفكار والدساتير والقوانين والأنظمة وغير ذلك مما يفرح الناس بجمعه، الله سبحانه وتعالى كفى الإنسان ذلك كله بهذا الكتاب الحكيم العظيم من عنده سبحانه وتعالى.

    [ قال أبو محمد: وبه أقول أنا، وقال أبو علي بن حبيش المقري: وبه أقول، قال شيخنا ابن المظفر: وبه أقول. وقال شيخنا يعني: المصنف: وبه أقول، وقال الطريثيثي: وبه أقول، وقال شيخنا السلفي: وبه نقول ].

    وبه نقول.

    وبالله التوفيق, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755802230