إسلام ويب

تفسير سورة النساء (85)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعث الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، وأنزل عليه القرآن، وأمره بتبليغ دينه لكل من على وجه البسيطة من الإنس والجن، وأمر الناس من جانب آخر باتباع هذا النبي الخاتم، الذي ختمت برسالته الرسالات، وجاء الكتاب المنزل عليه مهيمناً على الكتاب كله، مبيناً لهم أن إيمانهم به هو خير لهم، ومن كفر منهم فإن الله غني عنه.

    1.   

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق رجاءنا، فإنك ولينا ولا لي لنا سواك.

    ومازلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، ولكنا سندرس الآية الرابعة الأخيرة منها، وتلاوة هذه الآيات الأربع تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين بعد أعوذ بالله من الشيطان: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:167-170].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! علمنا -والحمد لله- أن الصد عن سبيل بعد الكفر صاحبه ضال ضلالة لا يهتدي بعده، فيا ويل من كفر وصد عن سبيل الله، وذلك لقول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:167].

    ثانياً: أن الذي يكفر ويزيد فوق كفره ظلماً، أي: ظلم نفسه وظلم غيره، إذ الظلم يتناول أولاً ظلمه لنفسه ثم ظلمه لغيره، وقد يظلم ربه فيأخذ حق سيده ومولاه ويعطيه لعبيده ومخلوقاته، ألا وإن الشرك من أعظم أنواع الظلم، إذ هو اعتداء على حقوق الله عز وجل، فهذا الذي كفر وظلم يخبر تعالى عنه أنه لن يغفر له، ولن يهديه طريق السلامة والنجاة والسعادة، ولكن سيهديه طريق جهنم والخزي والعذاب الأبدي، وتأملوا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:168-169]، فما هو بالصعب أبداً ولا الشاق الممتنع، فالله أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فهو والله يكون، فلا يعجز أن يدخل البشرية كلها والجن كلهم والملائكة كلهم في عالم الشقاء، إذ إنه على كل شيء قدير.

    ومن أراد أن ينظر إلى قدرة الله فليرفع رأسه إلى الشمس، ويسأل علماء الفلك: من أوجد هذا الكوكب العظيم؟ بنو فلان؟! الدولة الفلانية؟! إن هذا الكوكب كتلة من النار، فمن أوجد هذه الكتلة من النار؟ ما مادتها؟ إن هذا الكوكب العظيم أكبر من كوكبنا الأرضي بمليون ونصف المليون مرة، فمن أوجده؟ من سخره وأداره في فلكه لحكمة أرادها؟ أبعد هذا تشك في قدرة الله تعالى يا ابن آدم؟! وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم...)

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:170].

    نداء الله للخلق كافة وإخبارهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم

    قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:170]، هذا النداء عام، فيشمل الكتابي والمشرك والمؤمن والكافر والأبيض والأصفر، أي: كل بني آدم، ولكن في الدرجة الأولى يتناول اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بالنبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مع علم علمائهم ورجال العلم عندهم أنه النبي الخاتم محمد بن عبد الله الذي يخرج في جبال فاران، والله ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن الحفاظ على المنصب والكرسي والطعام والشهوات حرمهم أن يعترفوا بالحق، قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، قال عبد الله بن سلام الحبر العظيم من بني إسرائيل من اليهود في المدينة، وقد أسلم أول من أسلم: والله إني لأعرف رسول الله أكثر مما أعرف ابني، لم؟ قال: لأن أم ولدي يمكن أن تخونني وأنا لا أدري، أما هذا فوالله لرسول الله، وقد ورد ذكره في الكتب السابقة، كالتوراة والإنجيل، إذ إن فيهما صفات ونعوت رسول الله، بل تكاد هذه الكتب أن تنطق بها، واسمع ما قاله عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وهو موجود في الإنجيل.

    والشاهد عندنا: ثقوا وصدقوا بأن التوراة والإنجيل تحملان صفات رسولنا ونعوته التي تكاد أن تنطق بها، لكن أعداء الله وأعداء البشرية وأرباب المادة وعباد الشهوات والشياطين والأهواء، قد جحدوا الحق بعدما عرفوه، ولا تعجب، بل ولا غرابة في هذا، إذ إن المسلمين بينهم وفيهم من جحد الحق وأنكره وتنكر له وكذب به أيضاً، لا لشيء إلا لمصالح دنيوية هابطة ولشهوة البطن والفرج.

    فاسمع يا عبد الله! إلى نداء الحق جل جلاله وعظم سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء:170]، ما قال: قد جاءكم رسول، وإنما (الرسول) المعهود عندكم، والمعروف بينكم، والذي جحدتموه وأنكرتموه وكذبتموه، وقلتم فيه ما قلتم، الرسول الأعظم الأكمل في رسالته وكمالاته، وإنه والله لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني، من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام.

    فهذا النداء ينبغي أن تصغي إليه الآذان، إذ إنه نداء خالقنا ومالك أمرنا ومولانا، فهو يقول لنا: قد جاءكم الرسول، فقولوا: مرحباً به، وأهلاً وسهلاً بمجيء حبيب الله ورسوله ومصطفاه، لكن قالوا: لا، هذا يريد أن يحكم ويسود، ويريد أن يستغلنا وأن يستعبدنا، فأخذوا يحرفون كلام الله ويبدلونه ويغيرونه، فيا ويلهم من عذاب جهنم، وثَّم يذكرون حالهم ويبكون ولا يجديهم البكاء، وتتمزق قلوبهم حسرات ولا ينفعهم ذلك في شيء.

    إن هذه إنعامات الله وإفضالاته علينا، إذ إنه ينادي البشرية بعنوانها العام: يا أيها الناس! قد جاءكم الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم بالحق يحمله إليكم من أجل أن تكملوا في دنياكم وتسعدوا فيها وفي أخراكم، وما جاء ليجمع أموالكم أو ليتسلط عليكم أو ليسودكم، وإنما جاء بالحق يحمله، من أين؟ قال: مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، فكيف نرد ما جاءنا من ربنا؟! مجانين نحن لا عقول لنا؟! أيجيئنا رسولٌ يحمل الهدى والنور من ربنا وسيدنا وخالقنا والذي إليه مصيرنا فنرده؟! لماذا لا نقول: أهلاً وسهلاً ومرحباً؟! لكن إبليس وأعوانه وقفوا في الطريق؛ لأنهم ما يريدون لهذا الآدمي أن يكمل أو يسعد أبداً، ولذا حسبنا أن نسمع كلمة العدو وهو بين يدي الله تعالى، وهو يحلف بالله فيقول: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، أي: فبعزتك يا الله لأغوين بني آدم عن آخرهم، لم يا عدو الله؟ قال: لأنني أُبلست وأيست من الخير بسببهم، بل وطردت من الجنة وحق عليَّ القول بأنني من أهل النار، وبالتالي فسأعمل أيضاً على إضلالهم وإغوائهم حتى يدخلوا معي النار.

    وأنت يا أبا مرة! يا عدو الله، يا عدو الإنسانية! ألست أنت الذي أخرجت أبانا وأمنا من دار السلام بفتنتك؟ بل أنت ما أبلست ولا طردت إلا لأنك تكبرت، إذ أمرك مولاك أن تسجد لآدم، فحملك الكبر كيف تسجد لهذا المخلوق من الطين وأنت المخلوق من النار؟ فمن سبب الشقاء إذاً؟ أنت يا إبليس عليك لعائن الرحمن.

    ولذلك لما خلق الله آدم بيديه، وهذه ميزة خاصة بآدم، ونفخ فيه من روحه، أمر ملائكته أن يحيوه، وذلك بأن يسجدوا لآدم، فسجد الملائكة كلهم، كم ملياراً؟ والله لا تعرف عددهم، وهذا الملعون عدو الله الذي يوجد الفتن بيننا، ويوغر صدورنا، وينفخ فينا الخبث والباطل، قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ أي: كيف أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ ثم قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء:62]، أي: إذا طولت في عمري إلى آخر الدنيا سأفعل وسأفعل بأولاده وذريته كذا وكذا.

    إذاً: إبليس عدو الله هو السبب، لكن لسنا بأنعام ولا أبقار ولا أغنام، فينفخ فينا روح الباطل فننتفخ ونهتز، بل يجب أن نحذر هذا العدو، وعندك مشعل من نار لا يقوى هذا العدو أبداً على أن يقرب منك إذا قلته، ألا وهو قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإذا شعرت به وحام حول قلبك، فاستعمل هذا الجهاز الإلهي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يرجل عنك بعيداً.

    ولكن معاشر المستمعين! هذه القضية تحتاج إلى إيجاد جهاز سليم صحيح، فالذي لا يملك هذا الجهاز لا يستطيع، فاسمعوا هذه الآية من سورة الأعراف، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

    فتأملوا هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، اتقوا ماذا؟ الحر والبرد والجوع والظمأ؟ لا والله ، وإنما اتقوا الله ربهم، فلم يجاهروا بمعاصيه، ولم يعلنوا العصيان والخروج عن طاعته، وإنما إذا قال: صوموا صاموا، وإذا قال: أفطِروا أفطَروا، وإذا قال: امشوا مشوا، وإذا قال: قفوا وقفوا، وبهذا يتقى الله عز وجل، إلا أنه لابد من معرفة فيمَ نطيع الله تعالى؟ وما هي أوامره التي نقف عندها وننهض بها؟ وما هي نواهيه ومحرماته التي نتجنبها ونبتعد عنها؟ لابد من العلم، أحببنا أم كرهنا، إذ من لم يعلم لن يصل إلى مستوى الكمال بحال من الأحوال.

    إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، فانظر إلى حالهم: إِذَا مَسَّهُمْ [الأعراف:201]، طيف، طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فالعدو يحوم كالطائرة الغازية للعدو حول مركز حي في البلد، وإذا بالأجهزة المتهيئة لذلك تشعر بها وتطردها، والذي ما عنده جهاز صالح فإن الشيطان يحوم ويدخل قلبه، ويتصرف فيه ويسخره كالبقرة، فيقوده ويدفعه إلى الجرائم والشهوات التي قد تشمئز منها الحيوانات.

    وتأملوا هذه الكلمة من كلام الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، أي: ربهم، بماذا؟ بطاعته، في ماذا؟ فيما أمرهم به ففعلوه، وفيما نهاهم عنه فتركوه، فأصبحت قلوبهم مشرقة وأرواحهم زكية، والأنوار تملأ قلوبهم، إذ ما إن يحوم الشيطان حول قلوبهم حتى يتفطنوا له ويلعنوه فيبعد، والذي ما عنده إشعاع ولا نور ولا حراسة، يأتي إليه الشيطان وينزل على قلبه، ثم يسخره كما يشاء، والرسول الكريم قد علمنا فقال: ( إذا اعتراك الشيطان -أي: اعترضك- وأنت في الصلاة فالتفت عن يسارك وقل ثلاث مرات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يرحل )، وبالتالي فما من إنسان يشعر بأنه يريد أن يرتكب معصية قد زينها له العدو، فتفطن وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والله لقد نجا، ولا يقع في تلك المعصية.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، و(أل) في (الرسول) للتفخيم والتعظيم، وللإجلال والإكبار، وهي للعهد، أي: الرسول المعهود عندكم في التوراة والإنجيل، ومع ذلك تحاولون تحريف كلام الله تعالى، وتقولون: هذا الرسول ليس هو، وهذا الرسول كذا وكذا، وهو في الحقيقة الرسول المعروف، وقد جاءكم بالحق، فهل جاء رسول الله بالباطل؟ والله لو تجتمع البشرية وتأخذ تحلل وترتب وتقدم وتؤخر في شريعته الثابتة عنه في كتابه، والله ما عثروا على شيء اسمه باطل، لا في الآداب ولا في الأخلاق ولا في السياسة ولا في الحرب ولا في السلم ولا في التقنين ولا في التشريع، إذ مستحيل أن يكون هناك باطل يحويه كتاب الله وتثبته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    بيان مجيء الحق من الله تعالى

    ومن أين جاء هذا التشريع والتقنين والآداب والعبادات وهذه الكمالات؟ أي: من أين مصدرها؟ قال: مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، قالوا: مَن ربنا؟! سبحان الله! قل لي: من ربك أنت؟ كوكب؟! هل رأيت الكوكب قد صنعك؟ جبل؟ هل رأيت الجبل قد صنعك؟ إنه لا يسعك إلا أن تقول: ربي اسمه الله، أي: خالقي ورازقي وواهب حياتي ومعطيني ما طلبته منه، ولا رب سواه عز وجل.

    ملحوظة: قبل المذهب الشيوعي البلشفي الأحمر، والذي قد أراحنا من الصليبية! مزقها؟ داسها؟ ماذا فعل بها؟ سلبها عقيدة وجود الله والإيمان به وبلقائه، إذ إن ثلاثة أرباع المسيحيين ملاحدة بلاشفة، وثلاثة أرباع الصليبيين في هذا القرن لا يؤمنون بالله ولا بالجنة ولا بالأنبياء ولا بالرسل، فمن فعل بهم هذا؟ بنو عمنا اليهود؛ لأنهم حجر عثرة في طريقهم من أجل إيجاد مملكتهم وسيادتهم، وقد قلت ألف ما مرة: أيام كان المسيحي يؤمن بالله وبلقائه وبدار السلام، كان ينظر إلى اليهودي لا يستطيع أن يفتح عينيه فيه أبداً، وذلك لشدة بغضه له؛ لأنه قد قتل إلهه وصلبه كما يزعم! وبالتالي فكيف ينظر إليه؟! فاستطاعوا بهذه الحيلة العجيبة أن يرموا النصارى بالبلشفة ولا إله والحياة مادة، كما واستطاعوا أن يكسبوا مغانم كبيرة لا يشك في هذا ذو علم ومعرفة، وهم الآن يتحكمون في أوروبا وأمريكا والعالم، وقد نجحوا، لكن الذي أردت أن أقوله: إنه قد تهيأت لنا أوروبا وأمريكا واليابان، فقبل وجود البلشفة والشيوعية الحمراء كان لا يستطيع المؤمن أن يؤذن في أوروبا أو يدخلها أبداً، لكن شاء الله وهو يدبر، وهو العليم الحكيم، أن تأتي هذه البلشفة وتهبط تلك العقيدة وتزول، وتصبح أوروبا كأمريكا داراً مفتوحة للإسلام والمسلمين، فتجد فيها المساجد والتعليم، ووالله لقد صلينا في المطارات، وقبل ذلك لا يمكن أن يظهر مسلم أبداً.

    فهيا نغتنم هذه الفرصة وننشر دعوة الله في تلك الديار التي فتح الله لنا أبوابها، وقد نادينا وصرخنا: يجب أن تتكون لجنة عليا للعالم الإسلامي يشارك فيها كل قطر وإقليم بعالم أو عالمين، وتضرب تلك اللجنة العليا فريضة على كل مؤمن بدرهم أو دينار في العام أو في الشهر، فتوجد ميزانية ضخمة لا تعادلها أي ميزانية في الدنيا، وتقوم فقط بنشر دعوة الله في تلك الأرض التي فتح الله لنا أبوابها، وتبعث بالمرشدين والمعلمين البصراء، وتبني المسجد وتعطي تكاليف المسجد من الإمام وما إلى ذلك، وتوزع الكتاب في هدوء، وتربي تلك الجماعات، وتنتزع من نفسها ذاك الشرك والخرافة والضلالات والحزبيات والوطنيات، فيصبح المسلمون في أوروبا أو في أمريكا جسم واحد، لا قبلي ولا بربري ولا عربي، لا حنفي ولا شافعي ولا مالكي، وإنما مسلم فقط، وكأنهم الملائكة، وما إن ينظر إخواننا الكفار هذه الأنوار حتى يتدفقوا عليها، إذ من يكره هذه الأنوار؟! فيشاهدون المسلمون وهم كلمة واحدة، والصوت ليس مرفوعاً، فلا ضجيج ولا صخب ولا حرب ولا قتال، وإنما الطهر والصفاء والمودة والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الإثم والعدوان، وكأنهم كالملائكة، ووالله ما تمضي خمسة وعشرون سنة وإلا تدفق الناس على الإيمان والإسلام، لكن للأسف الفرصة الآن قد ضاعت، فالفتنة دائرة في بلاد العرب، إذ إنهم يقتلون النساء والأطفال، ويذبحون بعضهم بعضاً، ويفعلون الأعاجيب، فيقولون: انظروا إلى هذا الإسلام! ووقفوا الآن موقفاً، وأنا أخشى ذلك، وقد قلت لكم: والله إن لم نستقم حقاً ونعود فإن إخواننا المسلمين في أوروبا وفي أمريكا سيرمونا في البحر وينهون وجودنا، فما لنا لا نستيقظ ولا نفيق ولا ننهض ولا نتحرك؟! أين الصحوة هذه؟ إنها سكرة من أعظم السكرات، والعجب أنهم سموها صحوة!

    الهدف من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم

    قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء:170]، يحمله معه، مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، لا من جهة من الجهات، ولا طائفة من الطوائف، ولا زعيم من الزعماء، ولا ملك من الملوك، وإنما مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، إذاً: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، أي: آمنوا بهذا الرسول خيراً لكم من الكفر ألف مرة، إذ إن إيمانكم يكن خيراً لكم من الكفر، فهذه دعوة الله بين أيدينا نحن بني آدم على هذه الأرض، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، ولا تقل: جاء من ألف وأربعمائة سنة، لا، إذ إن رسالته هي هي، وكلماته التي قالها محفوظة بالحرف الواحد، إذ ما ضاع منها شيء أبداً، قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا [النساء:170]، وهذا أمر الله، وآمنوا، أي: صدقوا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامشوا وراءه يصل بكم إلى دار السلام، فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، فالله هو خالق الخير والشر، يعلمنا أن إيماننا به خيرٌ لنا من الكفر به، وهو والله لكذلك، خير لنا في الدنيا والآخرة على حد سواء.

    غنى الله المطلق عن عباده

    ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:170]، فهل معنى ذلك أنكم انتصرتم؟ أي: إن رفضتم أمر الله وما قبلتموه وكفرتم به، فهل معناه: أنكم سوف تغلبون الله، ولا تبالون بسلطانه ولا بدولته؟! يقول تعالى: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النساء:170]، فكل شيء في الملكوت الأعلى والأسفل بيده سبحانه وتعالى، فأين تذهبون؟ أنتم كالنعاج فقط بين يدي الله، فلا تفهموا أنكم إذا رددتم أمر الله وقلتم: ما نؤمن بهذا الرسول ونكفر به، تظنون أنكم غلبتم الله، واستطعتم أن تعجزوه؛ لأنكم ما آمنتم، لا، إذ إن له ما في السموات وما في الأرض، وهم في قبضته وملكه، فيعطي ويمنع، ويرفع ويضع، ويحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

    إثبات صفتي العلم والحكمة لله تعالى

    وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:170]، بخفايا الأمور وبظواهرها وعلانيتها، عليماً بالكافر من هو؟ وبالمؤمن من هو؟ والبار والفاجر والصالح والطالح والحاضر والغائب والحي والميت، حكيماً [النساء:170]، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، ومعنى هذا: إن كفرتم فقد وقعتم في المحنة ولن تخرجوا منها، ألا وهي خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ لأن الملك جل جلاله يملك كل شيء فينا، ومما يملكه فينا رقابنا، فهو يسوقنا حيث شاء، ويدخلنا حيث يريد، وهو حكيم، والحكيم لا يضع أبداً أهل الإيمان والطهر في أتون جهنم، ولا يضع أهل الكفر والشرك والنفاق والمعصية في دار السلام، إذ حاشاه سبحانه وتعالى عن ذلك.

    معنى الإيمان برسول الله ولوازمه

    قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، الحق الكامل المعروف عندكم في كتبكم، وقد جاءكم بالحق مصحوباً به يحمله إليكم، ألا وهو دين الله الإسلام، وبناء على هذا: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، أي: الإيمان خير لكم من الكفر، وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:170]، وقد فعلوا، فلتعلموا أن لله ما في السموات وما في الأرض، وأنتم من جملة ما يملك سبحانه وتعالى، وسوف يجزيكم بعملكم، فإنه عليم بخلقه، حكيم في قضائه وتدبيره، فلا إله إلا الله! فمن يبلغ هذا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى؟ ومن يقرأ هذا عليهم؟ لا نستطيع الآن، لكن أيام كنا سادة وقادة، وكانت الأنوار تغمرنا والعالم يتطلع إلى وجودنا، مشينا وغزونا وفتحنا ونشرنا دين الله تعالى، أما اليوم والظلام معتم علينا، ونحن في محنة الجهل والظلم والشر والفساد، فمن يقبل منا الإسلام؟! لقد صرفناهم عن الإسلام! بل وصددناهم صداً كاملاً بسلوكنا وبعجزنا وضعفنا وبمكرنا وخداعنا لبعضنا البعض!

    معاشر المستمعين! نعود مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأولاً: هل نحن مؤمنون به أم لا؟ يا رب! آمنا برسولك الذي أرسلته إلينا بالحق، فاجعل إيماننا خيراً لنا يا ربنا، ويبقى السؤال التالي وهو: ما هو الإيمان بالرسول؟ الإيمان به يعني أن تؤمن به رسولاً لله تعالى، ولا يتم هذا ولا يصدق صاحبه فيه إلا إذا أطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إذ الذي لا يطيع رسول الله ما آمن به، والذي لا يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوامره ونواهيه الملزمة للفعل والترك ما آمن به أيضاً، وهو القائل: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني )، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دليل الإيمان وبرهانه، والذي يأمره الرسول فلا يمتثل، وينهاه فلا يترك، ويرغبه فلا يرغب، ويخوفه فلا يخاف، فكيف نقول: إنه قد آمن؟

    وفوق الطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم الحب له عليه السلام، إذ من لم يحب رسول الله ما آمن به، واسمعوه وهو يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي: ( والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )، أي: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم، ويصبح المؤمن بحق، والصادق في إيمانه، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فهل نحب رسول الله فعلاً؟ ولذا فالحب له عليه السلام: أن يحب شيئاً فتحبه بحبه، ويكره شيئاً فتكرهه لكرهه، وهذه علامة الحب، أي: علامة الحب، فإذ كان يحب المحبوب شيئاً فتحبه بحبه وإن كان غير موافق لمزاجك وطبعك، وغير محقق لرغبتك، لكن مادام حبيبك يحبه فأنت تحبه، وإذا كان حبيبك يكره الشيء فإن كنت محباً صادقاً فتكره ذلك الشيء، وإن كانت نفسك تريده وترغب فيه وتتلذ به، لكن مادام الحبيب قد كرهه، فتحمل نفسك على كرهه والابتعاد عنه، وقد سمعتموه وهو يقول: ( والذي نفسي بيده! )، وهو الله تعالى، ( لا يؤمن أحدكم )، معاشر المؤمنين والمؤمنات! ( حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ).

    وقد جاء عمر إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيه فقال له: ( يا رسول الله! والله إنك لأحب إليَّ من ولدي ووالدي والناس أجمعين إلا نفسي، فقال عليه السلام: والله لا تؤمن حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر )، أي: الآن آمنت يا عمر، فهل بلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمع زمارة راع في السفر فأدخل أصبعيه في أذنيه وأبى أن يسمع؟ هو يكره الزمارة، والزمارة هي البيانو والكمان وغيرها من آلات اللهو والعبث، فكيف أنت تصغي إليها وتجعلها في غرفتك، بل وتجلس أنت وأبناؤك دونها تسمعون؟! وهل هذا يحب رسول الله؟! لا، ووالله لولا الجهل لقلنا: ما آمن، إذ إن أغلب الناس جهال لا يعرفون ما يحب الله ولا ما يكره، وهذا مثال واحد فقط، ولذلك فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب كذا فيجب أن تحبه وإن كان منافياً لغرائزك وطباعك وعاداتك، وذلك حتى تصبح المحب والمؤمن الصادق، واسمع إلى هذا البيان من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، يخاطب أمته في صورة أصحابه، ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ )، أحمق هذا أو مجنون؟ كيف يأبى فلا يدخل الجنة؟! فقال عليه السلام: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، فكلكم أيها المستمعون! تدخلون الجنة إلا من أبى فقال: لا أدخل، فهل يوجد عاقل يقول: أنا لا أدخل؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، أي: أبى أن يدخل.

    فأين أهل العلم والدرس في هذه الحلقة المباركة؟ ما السر في هذا؟ هل أراد فقط أن يستعبد الناس ويخضعهم لطاعته، وبذلك يدخلون الجنة أو لا يدخلونها؟ اسمع وهو يقول: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، فإنه لا يدخل، فعجباً يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، فهل يريد منا أن نطيعه ويستعبدنا ويستغل طاقاتنا وأن يرأسنا؟! إياك أن تفهم هذا، إن سر هذه يا معشر المستمعين هي: أن طاعة رسول الله هي طاعة لله تعالى، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، أي: أن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى، والذي لا يطيع رسول الله والله ما أطاع الله تعالى، ومن لم يطع الله يكرمه ويدخله في جواره في دار السلام؟! حاشا وكلا والله، وإنما يدخله دار البوار ومقرات الفجار والكفار.

    والسر والحكمة في طاعة الله وطاعة الرسول معاشر المستمعين هي: أن هذه الطاعات عبارة عن عبادات مقننة بالكمية والكيفية والأزمنة والأمكنة والهيئات والصفات، فتولد وتنتج الحسنات المعبر عنها بالنور، فمن عمل بها طاعة لله ولرسوله زكت نفسه وطابت روحه، وأصبحت أهلاً للملكوت الأعلى حيث النور والملائكة، ومن عصى الله ورسوله فعمل بالملوثات لروحه والمدسيات لها والمخبثات لها، فأصبحت روحه كأرواح الشياطين والكافرين، فيستحيل في حقه أن يدخل دار السلام.

    وأمامكم هذه الآية الكريمة فاسمعوها، وهي بيان إلهي: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، أي: حتى يدخل البعير في عين الإبرة، وهذا مستحيل جداً، فكذلك صاحب الروح الخبيثة العفنة المنتنة بأوضار الشرك والمعاصي، يستحيل في حقه أن تدخل روحه دار السلام، وهذه هي الحقيقة، أي: أن طاعة رسول الله هي طاعة الله تعالى، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله تعالى، والسر في فعل الأوامر هي تزكية النفوس وتطهيرها والله العظيم، وإن أحببتم أن أريكم صورة، فخذوا هذا المثل: أعطوني عالماً بربه عارفاً بعبادة مولاه يعبد الله، وأحضروه أمامكم، هل يزني ويسرق ويكذب ويغش ويخدع ويتكبر ويسب ويشتم؟ لا والله؛ لأن روحه طاهرة، ونفسه زكية، وليس عليها ظلمات الخبث والنتن والشر والفساد، وأعطني مجرماً من مجرمي المدينة أو فاسق من فساق البلاد، وانظر إلى حاله، ستجد فيه الجهل وارتكاب الذنوب والمعاصي، فهذه هي الحقيقة التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، أي: أن يدخل، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ( من أطاعني يدخل الجنة ) لماذا؟ لأنه زكى نفسه وطيبها طهرها، ولأنه استعمل أدوات التزكية من أنواع العبادات من الحج إلى الجهاد، إذ هذه كلها موضوعة لتزكية النفس، كما أنه أبعد نفسه عن الشرك والخرافات والضلالات والبدع المدسية للنفس الملوثة لها، فمات وروحه طاهرة نقية، فأين ينزل؟ والله في الملكوت الأعلى، ومن لم يطع رسول الله فما أطاع الله، وعلى أي شيء تزكو نفسه؟ على لعب الكرة؟! أعطونا ألعاباً تزكو بها النفس؟ أغاني، رقص، أكلات، شطحات تزكو بها النفس؟ على عقاقير وضعها الجبار، فقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة تمحو كل ما على نفسك من قذر ووسخ؛ لأنها فعالة، وصلاة ركعتين مستقبل بهما بيت الله الحرام، فتتكلم مع ربك وعيناك هكذا حياءً منه، تخرج بعدهما وكأنك كتلة من نور، فلو تُعرض لك الدنيا كلها أمامك والله لتعزف نفسك عنها ولا تقبلها.

    إذاً: الإيمان برسول الله يحمل صاحبه على أن يحب رسول الله أكثر من نفسه فضلاً عن غيره، وأن يطيعه في أمره ونهيه، ويؤثر طاعته على طاعة هواه ودنياه وأهله وقبيلته.

    ذكر بعض الآداب التي تجب على المسلم تجاه نبيه عليه السلام

    وأخيراً: الأدب معه صلى الله عليه وسلم، إذ إن الذين لا يتأدبون مع رسول الله فإيمانهم ليس بشيء، فاسمع يا عبد الله! إن من الآداب التي أمرنا الله بها مع نبيه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1]، لبيك اللهم لبيك، مرنا يا ربنا، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، امشوا وراءه، ولا تأتي عن يمينه وتريد أن تقنن وتشرع كما يشرع هو ويقنن، ولا تمش أمامه تهديه وتدل على ما هو خير ومصلحة! بل يجب أن تمشي وراء رسول الله، فما أحله هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، وما قبحه هو القبيح، وما مدحه هو الممدوح، وما أعطاه هو المعطى، وما منعه هو الممنوع، ومن أراد أن يمشي أمام رسول الله هلك، ومن أراد أن يمشي إلى جنبه الأيمن والأيسر يتصرف كما يتصرف، فيبيح ويمنع بهواه، فهذا ليس والله بالمؤمن، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

    وهذا نداء آخر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:2]، لبيك اللهم لبيك، مرنا يا ربنا، لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فلا يحل لمؤمن الآن في مسجد عليه السلام وخاصة عند حجرته أن يرفع صوته، فهذا عمر رأى رجلاً من الطائف قد رفع صوته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائتوني به لأؤدبه، فجيء به ترتعد فرائصه، فقال له عمر: ما لك ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: يا عمر! إن هذا الرجل ليس من أهل البلاد، إذ إنه ما تأدب بعد ولا تعلم، فقال عمر: لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضرباً، فهل عرفتم الأدب مع رسول الله؟ لا ترفع صوتك في حضرته عليه السلام، فكيف بالذي يترك العمل بسنة رسول الله ويعمل ببدعة ابتدعها الشيطان عدو الله؟! وهذا مالك وهو يدرس السنة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد أن يدرس السنة يتطهر ويتطيب، ويستحي أن يرفع صوته في مسجد رسول الله وهو يعلم.

    ومن الآداب أيضاً مع رسولنا صلى الله عليه وسلم: ألا تناديه فتقول: يا محمد! لقول الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، وإنما قل: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أما يا محمد! فقد أسأت الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! نسأل الله تعالى أن يحقق إيماننا به وبرسوله، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك، وآمنا بكل ما أمرتنا أن نؤمن به، فأعنا ربنا على ذلك وثبتنا، وحقق لنا الإيمان يا رب العالمين، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم اجمع كلمة المؤمنين، اللهم أذهب هذه الغفلة عنهم، رب أنقذهم يا رب العالمين، وحد كلمتهم واجمع قلوبهم على تقواك، ليتعانقوا ويتحابوا ويدفعوا الشر والبذاءة والأذى عنهم يا رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الصلاة خلف إمام يدعو الأولياء ويستغيث بهم

    السؤال: هنا سؤال وهو: إمام يصلي بنا في ديارنا وهو يدعو الأولياء ويستغيث بهم! فهل تصح الصلاة خلفه؟

    الجواب: والله لا تصح، وحرام أن يبقى هذا الرجل يؤم الناس، بل ترفع به شكوى إلى حاكمكم ليبعده، إذ كيف مشرك يدعو ويستغيث غير الله، ويحاد الله بذكر فلان وفلان؟! لا يصح السكوت أبداً عن هذا، إذ الدعاء هو العبادة، فمن دعا غير الله فقد انمسخ وسقط، ووالله لو يموت قبل التوبة ما رأى الجنة ولا شم ريحها، وإن كان ابن النبي أو أباه؛ لأن حكم الله قاطع: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    فإن قيل: إذا الإمام يحلق لحيته، قلنا: حلق الإمام لوجهه شيء آخر، فلا تساوي الشرك بالحلق للحية، إذ إن حلق الوجه معصية وصاحبه آثم، لكن داعي غير الله مشرك هالك، وما هو بالمؤمن.

    فيا معاشر المستمعين! بلغوا إخوانكم: أنه لا يصح لمؤمن أبداً أن يقول: يا رسول الله المدد،! أو يا سيدي فلان أعطني كذا! أو يا مولاي فلان كن لي كذا! إذ إن الذي ينادي غيره إنما ينادي غائباً لا يسمع صوته ولا يرى مكانه، بل ولا يستطيع أن يعطيه حاجته، ومع ذلك فقد أشرك بالله وكفر به، ولم يعترف بكتابه ولا برسوله، والذي ندعوه في البر والبحر، في الظلام والضياء، في الحاجة وغيرها هو الذي يسمع الدعاء، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فهذا الذي نرفع أصواتنا به، أما يا فاطمة! يا رسول الله! يا سيدي فلان! يا عبد القادر! والله لمغضبة لله عز وجل، ولو سمعها الرسول لغضب غضباً شديداً، ولذلك قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قل: ما شاء الله وحده، ما زدت أن جعلتني لله نداً )، فكيف يرضى رسول الله بذلك؟ وكيف أن الله خالقك ورازقك وأنت بين يديه تعمى عنه وتقول: يا رسول الله! أعطني كذا، أو يا سيدي عبد القادر، أو يا فلان اعمل لي كذا؟! تغضب ربك هذا الغضب وأنت لا تدري، ولا نلوم أكثر؛ لأننا ما عرفنا، ما دلونا عن الطريق، فقد صرفونا عن الحق، ونحن أيضاً قد شردنا وبعدنا، إذ لا نجتمع على قال الله وقال رسوله، وإنما نقضي أوقاتنا في الملاهي والمقاهي، وهذا جزاؤنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974873