إسلام ويب

دورة تدريبية في مصطلح الحديث [1]للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ظهر علم مصطلح الحديث للذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحفاظ عليها من وضع الوضاعين، ولقد اهتم العلماء بهذا العلم فوضعوا قواعده وأصوله وأسسه التي قام عليها، واعتنوا بذلك أشد العناية، حتى غدت قواعده أسساً انبنت عليها العلوم الأخرى.

    1.   

    فضل طلب العلم

    طلب العلم طريق إلى الجنة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وسلم. وبعد:

    مرحباً بكم وأهلاً وسهلاً، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا على مائدة الكتاب والسنة إلى يوم نلقاه.

    روى الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه القيم جامع بيان العلم وفضله بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلك طريقاً يلتمس فيه علماً إلا سهّل الله له طريقاً إلى الجنة). وهذا يبين فضل العلم وعاقبته في الدنيا، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: إنه سهّل له طريق طلب العلم، وإنما سهّل له طريقاً يقابل ويزيد عن هذا الطريق، ألا وهو طريق الجنة. (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). والحديث صحيح، وهو عند الإمام مسلم في صحيحه وغيره.

    فلو أن إنساناً تقاعس في عمله ولم يكن هدفه فيه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فإنه لا يرتفع بهذا العمل عند الله حتى وإن كان مرفوعاً في نسبه بين الناس، لكونه لم يبتغ به وجه الله.

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، أي: في مسجد من مساجد الله عز وجل (يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا حفتهم الملائكة). ومطلع هذا الحديث يدلنا على أدب من آداب طالب العلم، وهو ألا نتبعثر ونتفرق في المجلس، فالحديث فيه: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله). فلا يجلس واحد في زاوية، وآخر في زاوية، وثالث في الشارع، ورابع في بيته، فكل هذا ليس من آداب العلم، بل من أتى درس العلم فينبغي عليه أن يزاحم حتى يجلس في الصفوف الأول، أو في الأماكن الأول.

    قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه)، أي: يتفقهون في كتاب الله عز وجل، وليس المقصود بالكتاب القرآن فقط، وإنما المقصود به مصادر التشريع من كتاب وسنة وإجماع وقياس، (إلا حفتهم الملائكة)، وهذا في مجلس العلم، فمجالس العلم تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة، (وغشيتهم الرحمة). وتتنزل عليها السكينة والطمأنينة والأمان، (وذكرهم الله فيمن عنده)، أي: في الملأ الأعلى، أو بين ملائكته.

    درجات العلم من حيث الانتفاع به وفضله

    وقد جاء هذا الحديث بروايات وطرق كثيرة.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير). والغيث هو المطر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبّه ويمثّل العلم بالمطر، أي: بغزارته ونفعه للناس.

    (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً)، أي: نزل هذا المطر بأرض، (فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب)، يعني: كانت هذه الأرض التي أصابها الماء والمطر صالحة استفادت من الماء، وأنبتت ما فيها من العشب والكلأ وغير ذلك.

    (وكانت منها بقعة أمسكت الماء)، أي: هي صالحة تمسك الماء في بطنها. (فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا). فالأرض لم تكن سيئة، فقد ابتلعت الماء كله وحفظته في بطنها فانتفع به الناس.

    (وكانت منها طائفة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ).

    فالعلم على ثلاث درجات: علم ينفع الله به صاحبه فقط، وعلم ينفع الله تعالى به صاحبه وينفع به الناس، وعلم لا ينتفع به صاحبه وإن كان الناس ينتفعون به.

    فأما العلم الذي ينتفع به صاحبه فهو العلم الذي تعلمه ثم عمل به.

    وأما الذي ينتفع به صاحبه وينتفع به الناس فهو العلم الذي يعمل به ويعلمه الناس فيعملون به.

    وأما العلم الذي ينفع الناس ولا ينفع صاحبه فهو العلم الذي لا يعمل به صاحبه، ولكنه يعلمه الناس فينتفعون به. (وذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل وعلم الناس، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

    العالم يستغفر له كل شيء

    يقول صلى الله عليه وسلم: (معلم الخير يستغفر له كل شيء، حتى الحوت في البحر)، وفي رواية (يستغفر له من في السماء ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر).

    وقيل في سبب استغفار الدواب والحيوانات والأشجار والحيتان في البحر للعالم: أنه يوصي بالإحسان إليها، وعدم اتخاذها غرضاً، إلا إذا كان غرضاً شرعياً وغير ذلك، فإذا وجد رجلاً يسوق حماراً أو فرساً أو غير ذلك ويضربه ضرباً شديداً قال له: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، وهذه دعوة لرحمة الحيوانات، وإذا وجد رجلاً يصطاد حيتاناً أو أسماكاً بالكهرباء أو غيرها، أو يصطادها ويرميها ولا ينتفع بها نهاه عن ذلك؛ لأن هذا الصيد فيه نهي شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ الحيوانات والطيور أغراضاً، فلا يصطاد الشخص إلا بقصد الانتفاع.

    العلم ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة

    يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح).

    فكلما جرت هذه الصدقة على المتصدق بها عليه دعا للمتصدق فينتفع الميت بهذا الدعاء، وهذه هي الصدقة الجارية، وذلك مثل رجل اشترى كتب علم أو مصاحف أو غير ذلك ووزعها على الناس يقرءون بها، أو رجل بنى مسجداً ليصلي فيه الناس، فكلما سجد رجل أو ركع فلا شك أن ذلك في ميزان من بنى ذلك المسجد، وهذا في الصدقة وليس الهدية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صدقة جارية). ولم يقل: هدية.

    ثم يقول: (أو ولد صالح يدعو له). وقيد الولد بالصلاح.

    والشاهد من هذا الحديث هو (أو علم ينتفع به)، أي: في حياته وبعد مماته، والعلم النافع هو العلم الشرعي في الدرجة الأولى، مثل القرآن والعقيدة واللغة وعلوم الآلة التي تساعدنا على فهم العلوم الأصلية.

    العالم يدل غيره على الخير

    يقول أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! احملني)، أي: جهّزني للقتال بفرس ودرع وغير ذلك، (فإنه قد أُبدع بي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أجد ما أحملكم عليه، فأت فلاناً)، يعني: اذهب إلى فلان فإنه صاحب مال وخيل وغير ذلك، (فأتاه فحمله)، أي: قضى له وطره وحاجته، (فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره)، أي: بأنه قد حمله فلان، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الدال على الخير كفاعله)، أي: في الأجر.

    وما أعظم ما يدل عليه العالم! فهو يدل الأمة كلها على سبيل الله عز وجل، وعلى طريق الهداية، ويحذرهم طريق الغواية والضلال، ولا شك أن العالم هو أحسن من يدل على الخير، و(الدال على الخير كفاعله)، وفي رواية بزيادة: (والدال على الشر كفاعله). وهذا من باب المقابلة.

    الغبطة على العلم

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه على هلكته في الحق) وفي رواية: (آناء الليل وآناء النهار، أو وأطراف النهار) (ورجل آتاه الله علماً) وفي رواية (ورجل آتاه الله القرآن فهو يعمل به ويعلمه الناس آناء الليل وأطراف النهار).

    فلا شك أن الحسد وهو الغبطة في هذا الحديث، بمعنى: أن يتمنى الإنسان أن يكون في مثل مقامه دون أن يتمنى زوال هاتين النعمتين عن صاحبهما، وهما المال الصالح للرجل الصالح، وكذلك العلم النافع عند الرجل الذي ينفعه الله تعالى به -أي: بهذا العلم- وينفع به الناس.

    لعن الدنيا وما فيها سوى ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها). وتفصيل بعد إجمال. (إلا ذكر الله وما والاه). وهذا تخصيص بعد عموم، يدل على أنه ليس كل الدنيا ملعونة؛ لأن فيها أشياء نافعة يتخذها العبد قنطرة وعبوراً إلى دار الآخرة، ألا وهي (ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم).

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقرن هنا بين ذكر الله وما والاه وبين العالم والمتعلم، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العالم والمتعلم شريكان في الأجر).

    الملائكة تحف بطالب العلم وتظله بأجنحتها

    في حديث صفوان بن عسال أنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، قال: (قلت: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم). وهذا فيه إثبات الرحلة في طلب العلم. (قال: مرحباً بطالب العلم). ولذلك يقول العلماء: يُسن للعالم أن يرحّب بمن يتعلم منه، وأن يقول: مرحباً بطالب العلم، أو يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال: (إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظلله بأجنحتها). وهذا فضل عظيم، وشرف كريم، (فيركب بعضها فوق بعض)، أي: هذه الملائكة التي تحف طالب العلم يركب بعضها فوق بعض، (حتى تعلو إلى السماء الدنيا من حبهم لما يطلب، فما جئت تطلب؟) يسأل النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن عسال (قال: قلت: يا رسول الله! لا أزال أسافر بين مكة والمدينة، فجئت أسأل عن المسح على الخفين). واليوم لو سألنا في أساسيات المسح على الخفين لم نجد من يريحنا بجواب، فدل ذلك على أن كل مسألة وإن بدت لك صغيرة أو لا تستحق الرحلة والسؤال والطلب فاعلم أن ذلك من الجهل وليس من العلم.

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (نضّر الله امرأً سمع منا مقالة)، أي: حديثاً، وفي رواية (فحفظها وبلغها، فرب حامل فقه ليس بفقيه)، أي: ورب حامل فقه في عقله وفي صدره ولكنه ليس بفقيه، وهذا مثل من يتحمل الحديث ولا يفقه معناه، فإذا قصه ورواه إلى غيره انتفع ذلك الغير به أكثر من انتفاع صاحب الحديث به.

    الإخلاص في طلب العلم

    1.   

    إطلاق اسم المصطلح على مباحث علوم الحديث

    (علم مصطلح الحديث) اشتهر بهذا الاسم، والصواب أن يسمى: علم أصول الحديث؛ لأن كل علم شرعي له أصول، فعلم التفسير له أصول، وعلم الفقه له أصول، وعلم النحو له أصول، وهي قواعد اللغة.

    والأصل أن يقال: إن علم قوانين الرواية هو أصول الرواية، أو أصول الحديث، والمتعارف بين الناس من الخواص والعوام أن هذا العلم يطلق عليه مصطلح الحديث، ولكل فن وعلم من العلوم الشرعية بل وغير الشرعية مصطلحات، فالفقهاء لهم مصطلحات، والأصوليون لهم مصطلحات، واللغويون لهم مصطلحات، فلو قلنا: (مصطلح) وسكتنا لم نفهم المقصود؛ لأن المصطلحات كثيرة، ولزمنا أن نسأل أهو مصطلح المحدثين أم الفقهاء أم الأصوليين أم غيرهم؟ ولو قلنا: أصول، لانصرف الذهن إلى أصول الفقه، في حين أن بقية العلوم أيضاً لها أصول، فكل العلوم الشرعية وغير الشرعية لها أصول وقواعد وضوابط تحكمها وتضبطها، فالأصل أن نقول: أصول كذا، ومن هنا نعلم أن تخصيص كلمة مصطلح بعلم الحديث من باب التحكم، كما أن وقف كلمة أصول على أصول الفقه أيضاً من باب التحكم؛ لأن المقصود هي القواعد الكلية أو الجزئية التي تحكم أي علم في ذاته.

    فعلم أصول الحديث هو المشهور والمشتهر على ألسنة الناس بمصطلح الحديث.

    1.   

    مبادئ علم مصطلح الحديث

    إن كل علم له مبادئ، وهذه المبادئ عشرة، جمعها البعض في قوله:

    مبادئ أي علم كان حد وموضوع وغاية مستمد

    وفضل واضع واسم وحكم مسائل نسبة عشر تعد

    فالأصول والمبادئ العشرة لأي علم في هذين البيتين وهي: الحد، والموضوع، والغاية، والاستمداد، والفضل، والواضع، والاسم، والحكم، والمسائل التي فيه، والنسبة.

    والحد هو التعريف، والأصل في الحد أن يكون جامعاً مانعاً، أي: جامعاً لشتات المسائل التي تدخل في هذا الموضوع، مانعاً من دخول غيرها عليها.

    تعريف مصطلح الحديث

    علم المصطلح: هو العلم بقواعد وأصول يُعرف بها حال الحديث سنداً ومتناً من حيث القبول والرد.

    ولو أتينا بألفاظ زائدة على ما في التعريف فستكون زائدة وليس لها داع، ولو أخرجنا منها كلمة واحدة لظهر في التعريف خلل، وهذا ما نعنيه بأن يكون الحد جامعاً مانعاً.

    موضوع علم المصطلح

    موضوع هذا العلم: سنة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخُلُقية، هذا الشق الأول، وهو ما يُطلق عليه علم الرواية.

    والشق الثاني وهو علم الدراية، وهو الذي ينصب على السند، من حيث شروط الرواية والتحمل والأداء، ومن حيث المعايب والمحاسن التي تلحق الأسانيد سواء كانت راجعة إلى الراوي أو إلى الإسناد، فإن كان الراوي ضعيفاً في نفسه أو سيء الحفظ أو كذّاباً، فلا شك أن هذا عيب يلحق الراوي نفسه، وأما إن كان الحديث فيه انقطاع وسقط، فهذا السقط يطعن في عموم الإسناد.

    والمقصود بالدراية الإسناد، والرواية هي المتن.

    غاية علم المصطلح

    غاية علم مصطلح الحديث: هي تمييز الصحيح من السقيم من الآثار والأخبار، سواء كان ذلك من المرفوع أو الموقوف أو المقطوع.

    والمرفوع هو ما كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخلُقية.

    وما كان من الأخبار أو الآثار موقوفاً فإنما هو من قول الصحابي أو فعله أو تقريره.

    وأما ما كان مقطوعاً فهو ما كان موقوفاً على من هو دون الصحابي، أي: التابعي ومن دونه.

    ولا يقال لإسناد إنه إسناد إلا إذا كان فيه ثلاث طبقات، وهذا أقل ما يُطلق عليه مصطلح الإسناد.

    والصحة والسقم حقيقة في الأجسام ومعنى في غيرها، ويقال: فلان صحيح وفلان سقيم، ولكن استعير هذا المعنى من حقيقته فكان مجازاً في غيره من الأشياء، فعندما نقول: هذا حديث صحيح، أو قوي، أو جيد، أو حسن؛ فإنما هو من باب المعنى لا من باب الحقيقة.

    والشق الثاني من غاية هذا العلم هو الفوز بسعادة الدارين: دار الدنيا ودار الآخرة، ولا شك أنه لا يفوز في الدنيا بهذا الحديث إلا من عمل به، ومن كان من العاملين بعلمه في الدنيا فلا شك أنه من الفائزين بفضل الله ورحمته، وإن كان غير ذلك في الدنيا فهو في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة.

    فغاية هذا العلم من شقين: الأول: التمييز بين الصحيح والسقيم.

    والثاني: الفوز بسعادة الدارين.

    استمداد علم مصطلح الحديث وفضله

    استمد هذا العلم من الكتاب والسنة، فأصله موجود في الكتاب والسنة.

    والسنة عند الإطلاق يقصد بها أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها حديث: (نضّر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها -أو فحفظها- فأداها كما سمعها)، أي: لم يزد فيها ولم ينقص، وسواء كان هذا الأداء باللفظ أو بالمعنى على خلاف بين أهل العلم.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين، أو الكاذبَين).

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويُسمع منكم).

    ويقول الله عز وجل: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]. وفي قراءة: (فتثبتوا)، وهذا أمر بالتثبت، وما أكثر ما حض الله عز وجل على اتخاذ شهود عدول في القرآن الكريم، ووصفهم بالعدول، وشرط العدل في الرواية.

    ولذلك أجمع أهل العلم إلا الأحناف -وقيل أبو حنيفة على وجه الخصوص- أنه يشترط في الشاهد العدالة، أبو حنيفة أجاز شهادة الفاسق، وقال: لعموم البلوى، وانتشار الفساق في القرن الثاني، فما بالكم بالقرن الذي نحن فيه، نسأل الله العافية!

    وفضل هذا العلم قد ذكرناه في بداية المحاضرة.

    واضع علم مصطلح الحديث

    وأما واضعه فأول من جمع قواعد الرواية أبو محمد الرامهرمزي في كتاب المحدث الفاصل، ولكن كتابه مبعثر وغير مرتب، فأحياناً تجد المصطلحات البسيطة التي نأخذها في البداية موجودة في آخر كتابه، ومسائل من آخر العلم موجودة في بداية كتابه، وغير ذلك.

    وأتى بعد ذلك ابن الصلاح فقنن القوانين وأصّل الأصول وقعد القواعد في مقدمته، ولكنه لم يستوعب جميع مسائل هذا العلم، ثم اشتغل العلماء بعد ذلك بشرح وترتيب وتصنيف وتبويب هذا الكتاب، حتى اشتهرت مقدمة ابن الصلاح، بحيث إنك لو سألت طلبة العلم: من أول من وضع هذا العلم؟ لقال لك: ابن الصلاح ، ونسي الرامهرمزي ؛ لأن كتابه في الحقيقة قليل النفع إذا قورن بكتاب مقدمة علوم الحديث لـابن الصلاح.

    وليس معنى أنه قليل النفع أنه لا ينتفع به أبداً، بل بالعكس، ففيه مسائل لا تجدها في غيره، ويكفي أنه كتاب في قوانين الرواية مسنداً، يعني: يرويه بإسناد، وهذه ميزة لا تتوفر في أي كتاب صُنف في أصول الرواية مطلقاً، فلم يصنف أحد في أصول الراوية كتاباً مسنداً إلا أبا محمد الرامهرمزي.

    ثم بعد ذلك تتابع العلماء وتكاثروا في التصنيف في هذا الفن وفي هذا الشأن. ومنهم من اهتم بقوانين الرواية، ومنهم من اهتم بالآداب التي ينبغي على الراوي والمستمع أن يتحليا بها، وبرز في هذا الشأن الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، فإنه صنف في كل فن يمس الرواية، سواء من حيث القوانين أو من حيث الأدب، وأشهر كتاب له وأجمعه في قوانين الراوية كتاب الكفاية، وقوانين الرواية هي: الأصول العلمية والقواعد الكلية لعلم مصطلح الحديث، وصنف كتاباً عظيماً غزير الفائدة في أدب الرواية، أي: فيما ينبغي على العالم والمتعلم أن يتحليا به من أخلاق وآداب، سواء كانت هذه الأخلاق والآداب مع الله عز وجل، أو مع طلبة العلم، أو مع الكتب التي يتعامل معها؛ سواء العالم أو المتعلم.

    اسم هذا العلم هو: أصول الحديث، ومصطلح الحديث، وأصول الرواية، ومصطلح أهل الأثر.

    حكم تعلم مصطلح الحديث

    تعلمه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، فإذا لم يقم به أحد أثم من كان بإمكانه أن يتعلم فتقاعس.

    وحكم أي علم فرض كفاية، ولكن الشروع فيه يجعله فرض عين، فإذا تعلمت علم أصول الفقه مثلاً أو شرعت في تعلمه، ثم آنست من نفسك الرشد والتقدم في الطلب في هذا الباب، وزكّاك من كان أهلاً للتزكية بأنك كفؤ لهذا العلم؛ فإن تقاعست ورجعت مرة أخرى فأنت آثم.

    ولا يجوز لك في هذه الحالة أن تقول: سأتركه، فإنما هو فرض كفاية، نعم كان فرضاً كفائياً عليك قبل أن تشرع فيه، ولكن بشروعك فيه وجب عليك أن تستمر فيه.

    مسائل علم مصطلح الحديث ونسبته إلى غيره من العلوم

    مسائله: هي المسائل المتعلقة بالسند والمتن من حيث القبول والرد.

    وأما نسبته فهذا العلم مباين للعلوم الأخرى تماماً؛ لأن له قواعده وأصوله الخاصة به، فهو مباين للعلوم الأخرى ومخالف لها، فمسائله غير مسائل أصول الفقه، وغير مسائل الفقه، وغير مسائل اللغة العربية.

    1.   

    أهمية علم مصطلح الحديث لبقية العلوم

    يقول علماء الحديث: إن علم أصول الحديث هو أصل جميع العلوم الشرعية؛ لأن القواعد والأصول التي وضعها المحدثون أو النقّاد استفاد منها جميع الطوائف، سواء في التاريخ والكتابة فيه، أو في اللغة والتأصيل اللغوي، وغير ذلك من العلوم الشرعية، فقد استفادوا من القواعد والموازين التي وضعها النقاد وعلماء الحديث، وقالوا: إن أهمية هذا العلم لبقية العلوم تأتي في المرتبة العليا؛ لأن العلوم الأخرى تستفيد مباشرة من هذا العلم ولا يستفيد هذا العلم كثيراً من بقية العلوم.

    يقول المصنف: إن علم أصول الحديث وقواعد اصطلاح أهله لا بد منها للمشتغل برواية الحديث؛ إذ بقواعده يتميز صحيح الرواية من سقيمها، ويعرف بها المقبول من الأخبار والمردود، وهذا العلم كقواعد النحو التي يعرف بها صحة التراكيب العربية، فلو سمي منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار لكان اسماً على مسمى.

    أي: لو سمينا هذا العلم وهو علم مصطلح الحديث: منطق المنقول -والمنقول، هو: ما نقل إلينا تواتراً أو آحاداً- وميزان تصحيح الأخبار لكان هذا أيضاً يصدق على هذا العلم.

    يقول: وقد حرّر العلماء هذه القواعد التي وضعوها لقبول الحديث وحققوها بأقصى ما في الوسع الإنساني؛ احتياطاً لدينهم، فكانت قواعدهم التي ساروا عليها أصح القواعد للإثبات التاريخي، وأعلاها وأدقها، وتبعهم فيه العلماء في أكثر الفنون النقلية، فاتبعهم علماء اللغة وعلماء الأدب والتاريخ وغيرهم، فاجتهدوا في رواية كل نقل في علومهم بإسناده، وطبقوا قواعد هذا العلم عند إرادة التوثق من صحة النقل في أي شيء يرجع فيه إلى النقل، فهذا العلم في الحقيقة أساس لكل العلوم النقلية.

    1.   

    أصل نشأة علم مصطلح الحديث

    ثم يقول: وقد نشأ هذا العلم مع نشأة الحديث الشريف -يعني: نشأ هذا العلم ومسائله منذ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم- وكان صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام هو الواضع لجذور هذا العلم وأسسه، فقد جاء عنه أنه قال: (نضّر الله امرأ)، الحديث.

    يقول: وقوله: (من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة). فهذان الحديثان أصلان عظيمان في ضبط الرواية، فالحديث الأول في ضبط الرواية، (نضّر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها). والحديث الثاني في وجوب تبليغ الحديث ونقله، وهذا أيضاً أصل من أصول الرواية، وقد فهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا، وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه إما متواترة في اللفظ والمعنى، وإما متواترة في المعنى فقط، وإما مشهورة أو غير مشهورة. أي: أحاديث الآحاد.

    وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وهذا الحديث أصل عظيم في التحذير من وضع الحديث واختلاقه. أي: وصنعه عليه صلى الله عليه وسلم وهو لم يقله.

    وكما أن في القرآن الكريم توجيهاً عاماً إلى بعض قواعد هذا الفن، وهو التثبّت من صدق الراوي والتروي في تصديق خبره -أي: والتمهُّل في تصديق خبر المُخبِر- وذلك من قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]. وهذه الآية بمفهوم المخالفة تدل على أن العدل لو أتى بالرواية لا يلزمنا أن نبحث فيما أتى به، وإنما نقبله لعدالته وضبطه وتوثيقه، إلا أن الصحابة الكرام كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم أمناء ضابطين، وما صدر عن بعضهم إنما هو نوع من السهو والخطأ والغلط؛ لأن هذا لا ينفك عنه إنسان، إلا الأنبياء فإنهم معصومون فيما أُمروا فيه بالبلاغ.

    يقول: وهو نزر يسير -يعني: ما أخطأ الصحابة إلا في النزر اليسير- لا يكاد ينسب إليهم ولا تنبني عليه قواعد، وقد تلقى الصحابة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم منه مباشرة، وشهدوا أفعاله وأحواله، فإذا أُشكل عليهم شيء كان يمكنهم الرجوع إليه صلى الله عليه وسلم لرفع هذا الإشكال أي: أنهم لم يكونوا بحاجة إلى علماء ونُقّاد يرجعون إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يُغني عنهم وعن الأمة كلها.

    فلم يكن لتشعب هذا العلم من حاجة في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصر هو عصر وحي وتشريع، فلم يكن يُحتاج لأكثر من التحرز عن الوهم والخطأ والنسيان.

    1.   

    تشدد الخلفاء الراشدين في قبول الرواية

    ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عصر الخلفاء الراشدين شدد هؤلاء الخلفاء في قبول الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملوا على ضبطها وتقليلها؛ خشية انفلات الناس عن القرآن الكريم واشتغالهم بها، وخوفاً من أن يتخذها المنافقون ذريعة للزيادة فيها، وسلماً لتزييف الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئلا تزل أقدام المكثرين فيسقطوا في هوة الخطأ والنسيان، فيكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون.

    وأما عملهم على التقليل من الرواية فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل له: أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ أي: أكنت تكثر من الرواية في زمن عمر كما تكثر في هذا الزمان؟ قال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثلما أحدثكم لضربني بمخفقته، أي: بالدرة.

    وجاء مسنداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.

    وعن عثمان أنه أرسل السائب بن يزيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: قل له يقول لك أمير المؤمنين عثمان بن عفان : ما هذا الحديث عن سول الله صلى الله عليه وسلم؟ -أي: ما هذا الحديث الكثير الذي تحدث به عن رسول الله؟ لقد أكثرت لتنتهين أو لألحقنك بأرض دوس، وهذا تهديد من عثمان بن عفان لـأبي هريرة ، وأبو هريرة دوسي.

    وقد دافع أبو هريرة رضي الله عنه عن نفسه حينما خشي على نفسه التهمة، فأجاب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قالت له: ما أكثر ما تحدث عن رسول الله -أي: إنك تحدث كثيراً- إنك لتحدث بأشياء ما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها، فرد عليها بقوله: كان يشغلكِ عنها المرآة والمكحلة، أي: أن السبب في عدم سماعكِ للرواية التي سمعتها شغلك بالتزين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أنا فكنت أتبعه على شبع بطني، وفي رواية عند البخاري أنه قال: كان الأنصار أهل زراعة، وكان أهل مكة أهل تجارة، فكان هذا ينصرف إلى تجارته وهذا ينصرف إلى زراعته، وأما أنا فكنت ألزم النبي صلى الله عليه وسلم. وبناء عليه فقد تحمّل أكثر من غيره.

    يقول: كان يشغلكِ عنها المرآة والمكحلة، ولم يشغلني عنها شيء.

    1.   

    طريقة نقد الحديث عند الصحابة

    يقول: وكان يستعمل الصحابة طريق النقد للحديث -أي: مسألة نقد الحديث- بعرضه على كتاب الله تعالى، فكانوا يأخذون الحديث فيعرضونه على كتاب الله، ونصوص آياته المحكمة، وقد كانوا يردون بعض الروايات إن خالفت نصاً من القرآن الكريم، ومثال ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه في رد رواية فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثاً، فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سكنى ولا نفقة بقوله: لا نترك كتاب الله ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت.

    فالله عز وجل جعل لها السكنى والنفقة في قوله: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1].

    ومنه قول عائشة رضي الله عنها حينما سمعت حديث عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، قالت: (رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذّب المؤمن ببكاء أحد، ولكن قال: إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه). وقالت: حسبكم القرآن: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. وإن كانت المسألة فيها كلام آخر، لعله لا يخفى على الجميع.

    وأعداء الإسلام في الطعن يطعنون في أبي هريرة ، ويقولون: إنه كان يأتي بهذه الأحاديث من عنده، وأنه كان يختلقها ويصنعها ويكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستدلون على ذلك بأنه كان يخاف من الرواية من عمر ، فلما مات عمر لم يكن هناك أي داع من الخوف، فانطلق يكذب على رسول الله هنا وهناك.

    علة تشدد الصحابة في رواية الحديث والتحرز منها

    ولو عرفنا العلة والحكمة من حرص الصحابة على تقليل الرواية وتشددهم في قبول الأخبار؛ لعلمنا أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك من باب الاحتياط والتحرز، لا رداً ولا تكذيباً لما يأتي به الصحابي؛ لأن الصحابة كلهم عدول، ومن قال فيهم بغير ذلك فإنما هو الفاسق.

    يقول: وجدير بالتنبيه أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ضبط الحديث، لا لتهمة أو سوء ظن، وإنما من باب الاحتياط والتحرز في قبول الأخبار.

    والكذب منتف من الصحابي، وأما التحرز فخوفاً من سهو الصحابي ووهمه وخطئه، وكل ذلك إنما يصدر عن الصحابي عن غير عمد، فلزم من ذلك أن نتحرز ونحتاط لقبول روايته، وهذا في حالة الشك فيما أتى به الصحابي، لا في كل الأحاديث ولا في كل ما ينقله الصحابي، وإنما في حالة الشك فقط، وإلا فالأصل أن تُقبل رواية الصحابي بلا تحرز أو احتياط أو تصنيف؛ لأنها ليست محلاً للشك، ولا تخالف أصلاً من أصول الشريعة، فهي لا تخالف كتاب الله، ولا حديثاً آخر، ولا غير ذلك من وجوه المخالفة.

    1.   

    رد الصحابة لبعض الأحاديث لمخالفتها للأصول

    ويقول: وكذلك رد بعض الأحاديث كان اجتهاداً منهم، لمخالفتها ما استنبطوه من القرآن، ولذلك نجد بعض الصحابة ومن بعدهم عملوا بما رده غيرهم.

    إذاً: كان رد الصحابة لهذه الأحاديث بأصول، ولا أدل على ذلك أن العلماء الذين أتوا من بعدهم عملوا بما رده البعض، ولو كان مردود حكماً لما جاز العمل به بعد ذلك.

    يقول: ولذلك نجد بعض الصحابة ومن بعدهم عملوا بما رده غيرهم؛ لأنهم باجتهادهم رأوه غير معارض للأدلة.

    1.   

    وجود أحاديث متعارضة لم يتوصل فيها إلى جمع أو رد

    وهناك أحاديث ظاهرها التعارض ولم يتوصل فيها إلى جمع أو رد، يعني: كلما نأتي بوجه من وجوه الترجيح لا ينطبق عليها، فقالوا: إن هذه الروايات تظل هكذا بلا عمل، لا من باب أنها ضعيفة ومردودة، وإنما من باب أنه ليس هناك وجه يترجح به قبول إحدى الروايتين على الأخرى أو رد إحداهما، وربما يأتي بعد ذلك من يجتهد في العمل بالروايتين أو أحدهما بوجه من وجوه الترجيح.

    1.   

    ظهور الوضع في الحديث وسببه

    ولما وقعت الفتنة بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تبع ذلك من التفرق وظهور الأحزاب والفرق في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخاصة بعد مقتله، كالشيعة والخوارج.

    وهاتان الفرقتان متضادتان، فالشيعة هم أشياع علي وأتباعه، والخوارج هم من خرجوا على علي بن أبي طالب.

    وبظهور هاتين الفرقتين ظهر الوضع، وخاصة في بعض فرق الشيعة، وكذلك في بعض فرق الخوارج؛ لأنهم كانوا يستحلون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكان الداعي لكل فرقة في وضع الأحاديث نصرة المذاهب، فالشيعة يضعون أحاديث لنصر مذهب التشيع، أو يضعون أحاديث في فضل علي وآل البيت، والخوارج يضعون أحاديث في فضل خروجهم على علي ، أو في ذم علي ومن تبعه من الشيعة.

    ورافق ذلك دخول بعض الملحدين بين صفوف المسلمين لإيقاد نار الفتنة بين تلك الفرق، كشأن الفُسّاق والمجرمين في كل زمان ومكان، ولتوسيع شقة الخلاف فيما بينها، وقد نشط بعض أولئك الملحدين وأهل البدع والأهواء في وضع الأحاديث المكذوبة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة مذهبهم، وتعظيم بدعتهم والالتفاف حول فرقتهم.

    وقد تنبه العلماء من أهل السنة إلى هذا الخطر العظيم الداهم على السنة وأهلها، فوقفوا تجاه هذا الخطر موقفاً حكيماً، يدل على نباهتهم ودقتهم، فلم يعودوا يقبلون الأحاديث من أي إنسان، واشترطوا على الراوي ذكر من روى عنهم، فاشترطوا الإسناد في الرواية حينما وقعت الفتن وظهر الكذب، وكانوا ينظرون في الإسناد تارة وفي المتن تارة أخرى، فإن كان الإسناد فيه راو شيعي نظروا فيه، فإن كان شيعياً غالياً ردوا روايته، وإن كان غير غال نظروا بعد ذلك، هل الرواية التي رواها تؤيد بدعته أم لا؟ فإن كانت تؤيدها ردوا روايته، وإن لم تكن تؤيدها قبلوا روايته مع أن أحد رواتها مبتدع أو على خلاف منهج أهل السنة؛ لأن معظم الفرق لم تكن تستحل الكذب، والعدل يقتضي أخذ الكلام المنضبط من أصحاب العدالة ومن غير أصحاب العدالة، ما دام الكلام نفسه منضبطاً.

    قال: وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين وغيره من أهل العلم أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد.

    1.   

    ظهور الأحاديث المرسلة وسببها

    ثم ظهرت مشكلة الأحاديث المرسلة، فقد كان كثير من علماء القرن الأول الهجري الذين يروون الأخبار والآثار يرفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كـسعيد بن المسيب وقيس بن أبي حازم وغيرهما من كبار التابعين، فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يحددوا الصحابي أو التابعي الذي رووا عنه هذا الحديث؛ لأنه لم يكن هناك حاجة إلى ذكر الإسناد، ولا إلى ذكر من سمع منه ذلك الرجل، فلما شدد العلماء في الرواية لظهور الفتن ظهرت هذه المشكلة، ولذلك نجد معظم المراسيل عند كبار التابعين؛ لأنه لم يكن يشترط في الرواية ذكر السند في ذلك الوقت، ولذلك هناك أحاديث كثيرة عند كبار التابعين لم يُعرف لها اتصال سند.

    قال: عن ابن سيرين رحمه الله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم -أي: حتى يعرف من هو من أهل البدع ومن هو من أهل السنة- فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.

    فكانت بداية التحرز والنقد وضبط الأسانيد بظهور الفتن.

    1.   

    حث الصحابة والعلماء على الاحتياط في قبول الحديث

    وقد حث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به ديناً وحفظاً.

    والدين المقصود بها العدالة، والحفظ المقصود بها الضبط: ضبط صدر وضبط كتاب، حتى شاع في عرف الناس هذه القاعدة: إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم.

    وهذا القول الذي قال عنه المصنف: إنه قاعدة كلام جميل، وإنما هو ثابت من كلام عبد الله بن المبارك رحمه الله.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755811689