بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فنفتح اليوم صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي في الأندلس، وذكرنا في الدرس السابق كيف وصل الحال في بلاد الأندلس إلى انهيار مروع وضياع للهيبة وللعزة، وذل وهوان وانكسار وفرقة وتشتت بين المسلمين، وصراع بين الإخوة، وموالاة للنصارى، وكاد الإسلام أن ينتهي من بلاد الأندلس، لكن الإسلام لا ينتهي أبداً.
فقد حدثَ حدث غيّر من شأن بلاد الأندلس، وهو حصار إشبيلية، لما حاصرها ألفونسو السادس أياماً وشهوراً، ثم إذا به يرسل رسالة إلى المعتمد على الله بن عباد يحذره ويهينه فيها، ويقول له: لقد آذاني الذباب في بلادك، فإن شئت أن ترسل لي بمروحة أروح بها عن نفسي فافعل، أي: أن جيش ابن عباد وشعبه وحصونه أهون من الذباب عند ألفونسو السادس .
فرد عليها المعتمد على الله بن عباد رداً قوياً، لما قرأها ألفونسو السادس انسحب بجيشه، قال له فيها: والله لئن لم ترجع لأروحن لك بمروحة من المرابطين. ودولة المرابطين قامت في المغرب العربي ووسط أفريقيا، وكانت دولة إسلامية قوية جداً.
و ألفونسو السادس كان يعلم بأس المرابطين؛ لأنه مطلع على أحوال العالم المحيط، ويعلم دولة المرابطين، لذلك انسحب مع جيشه.
فاجتمع ما يقارب من اثنين وعشرين أمير في مؤتمر القمة الأندلسي الأول، وأخذوا ينددون بشدة بالاحتلال القشتالي لطليطلة، مع أن قشتالة دولة صديقة لهم، ولم يفكروا أن يرفعوا شكواهم إلى الله عز وجل، بل لربما أنهم يشتكون للبابا أو لملك فرنسا، أو لملك ليون .. أو لغيرهم من ملوك النصارى.
واجتمع الأمراء ومعهم العلماء، والعلماء يفهمون الموقف، ويفهمون أصل الهزيمة، فأشاروا عليهم بالجهاد؛ لأن في تاريخنا ما يثبت أن المسلمين إذا ارتبطوا بربهم وجاهدوا في سبيله انتصروا، حتى لو كانت قواتهم ضعيفة، لكن الأمراء رفضوا كلام العلماء، وقالوا: إن أهم شيء هو إيقاف نزيف الدماء، ونحن سنحاول أن نحل الموقف بشيء من السلام مع قشتالة، ونتفاوض مع ألفونسو السادس ، على أن تترك له طليطلة أو يأخذ جزءاً منها ويترك لنا الباقي، ونعيش معاً بسلام، بهذا أشار الأمراء.
أما العلماء فرأوا أن الوضع مزر، ومن المحال أن يتغير الوضع بهذه الطريقة، فالأمراء يدفعون الجزية لمدة (70) أو (80) سنة، وقد ألفوا الهوان والذل، فليس من الممكن أبداً أن يجاهد هؤلاء الأمراء، فأشار عليهم العلماء برأي جديد، فقالوا: لا داعي أن نجاهد ما دام أنكم تخافون من الجهاد، لكن أرسلوا إلى دولة المرابطين لتأتي وتواجه النصارى في موقعة فاصلة، وتبعدهم عن أرضنا، فإنهم رجال أقوياء، فإنهم سيحاربون النصارى ونحن نتفرج على الأحداث!
فهذا اقتراح معقول، لكن لم يقبله الأمراء؛ لأن دولة المرابطين قوية جداً، ويخشون منها أنها لو هزمت النصارى أنها ستحتل الأندلس، وما المانع لو أن دولة المرابطين احتلتها فإنها دولة إسلامية وفيها شرع إسلامي، ولم الشمل أفضل من بقاء الأندلس مفرقة ومشتتة أكثر من عشرين جزءاً، لكن رفض الأمراء ذلك الأمر وتجادلوا كثيراً، إلى أن منّ الله سبحانه وتعالى على رجل منهم وفتح عليه، وهو المعتمد على الله بن عباد ، فقام وخطب في الحضور، ومما قاله في آخرها: ولا أحب أن ألعن على منابر المسلمين، لأنني لم أستعن بالمرابطين، ولأن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا.
فلما قال ذلك تحركت النخوة في قلوب البعض، فأول من وافق على هذا الأمر هو المتوكل بن الأفطس الذي أرسل رسالة إلى ألفونسو السادس ولم يدفع له الجزية في حياته، ثم قام عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة ووافق أيضاً على هذا، فهذه ثلاث ممالك إسلامية ضخمة: غرناطة وإشبيلية وبطليوس، وافقت على استجلاب دولة المرابطين لمحاربة النصارى ورفض الباقون، فجهزوا وفداً عظيماً مهيباً من العلماء والوزراء يذهب إلى بلاد المغرب ليستعين بملك المرابطين لينقذهم من بأس النصارى في بلاد الأندلس.
فالقبيلة التي كانت تسكن في منطقة جنوب موريتانيا هي جدالة، وكان على رأس هذه القبيلة رجل اسمه يحيى بن إبراهيم الجدالي ، كانت فطرته حسنة، نظر في أحوال قبيلته فوجد الناس من حوله قد أدمنوا شرب الخمور، ووجد الزنا قد فشا في الناس، إلى درجة أن الرجل كان يزاني حليلة جاره ولا يعترض عليه جاره، كما وصف ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29]، فقد كانوا يأتون المنكر في ناديهم، والرجل منهم لا يعترض على ذلك؛ لأنه يفعل نفس الأمر؛ وكثر الزواج من أكثر من أربع نسوة ولا ينكر عليهم منكر، وأصبح السلب والنهب هو الأصل، والقبيلة القوية تأكل الضعيفة، والقبائل مشتتة ومفرقة، والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف، بل هو أشد، ولا يخفى علينا جميعاً أن الوضع في سنة (440) سواء في بلاد موريتانيا أو الأندلس هو أشد وطأة مما نحن عليه الآن.
فكان هذا الرجل صاحب الفطرة الطيبة يعلم أن كل هذا من المنكر، لكن ليست في يده طاقة للتغيير؛ لأن الشعب كله يعيش في ضلال وبعد عن الدين، وليس عنده من العلم ما يغير به أحوال الناس، ولا يعرف ما هي الأصول الصحيحة، إنما يعلم أن كل ما يحدث من حوله هو خطأ، لكن كيف يغير؟
فهداه ربه إلى أن يحج وعند رجوعه من الحج يمر على أكبر مدن الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان، التي هي موجودة الآن في تونس، وعلماء القيروان مشهورون بالعلم، فذهب بالفعل إلى الحج، ثم عاد إلى القيروان، وهناك قابل أبا عمران الفاسي شيخ المالكية في مدينة القيروان، والمذهب المالكي هو المنتشر في كل بلاد الشمال الإفريقي، وهو المذهب السائد في بلاد الأندلس؛ فحكى له المنكرات التي تحدث في قومه، والجهل المطبق عليهم، فأرسل معه رجلاً يعلم الناس دينهم، وهو الشيخ عبد الله بن ياسين ، فذهب معه حتى وصلا إلى جنوب موريتانيا، فوجدها أرضاً شديدة الجدب، وفقيرة وشديدة الحر، ونظر في الناس فرأى هذه المنكرات تفعل أمام كل الناس، ولا ينكر عليهم منكر، فبدأ في أناة شديدة يعلم الناس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فثارت عليه جميع الفصائل، وثار عليه أصحاب المصالح، وثار عليه الشعب؛ لأن الناس تريد أن تعيش في شهواتها، وأصحاب المصالح مستفيدون من هذا الذي يحدث في قبائل جدالة في هذه المنطقة، فبدأ الناس يجادلونه ويصدونه عما يأمر به، ولم يستطع يحيى بن إبراهيم الجدالي زعيم القبيلة أن يحميه؛ لأن الشعب ليس متربياً، لذا فهو رافض، ولو أصر يحيى بن إبراهيم الجدالي على هذا الأمر لخلعه الشعب، ولخلعته القبيلة، وبدأ يحاول مرة ثانية وثالثة، فبدأ الناس يهددونه بالضرب إن استمر في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل، لكنه كان يدعو ولا يبالي بفعلهم حتى قاموا فعلاً بطرده من البلاد، فخرج الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله من البلد ودموعه تنحدر على خده، وهو يقول والحسرة في قلبه: يا ليت قومي يعلمون، يريد أن يغير ولكنه لا يستطيع، فيحدث نفسه: أأرجع مرة أخرى إلى القيروان، إلى طلاب العلم؟ ولمن أترك هؤلاء الناس؟ فحز في نفسه أن يولد الناس في هذه البلاد فلا يجدون من يعلمهم، ففكر أن يدخل إليهم مرة أخرى، لكنه سيموت، وما الفائدة في موته، إذا كان الموت لن يفيد، فتعمق أكثر في الصحراء، في جنوب موريتانيا، حتى وصل إلى شمال السنغال، وهي بلاد إسلامية كبيرة جداً، (90%) أو أكثر من سكان السنغال من المسلمين.
فنزل في شمال السنغال على مصب نهر من الأنهار، في غابة من غابات إفريقيا هناك فوضع خيمته على مصب النهر، وبعث برسالة إلى أهل جدالة في جنوب موريتانيا أن من أراد أن يتعلم العلم فليأتني في هذا المكان، وكان في جدالة مجموعة من الشباب تتحرق قلوبها للدين، لكن أصحاب المصالح وأصحاب القوى في هذه البلاد يمنعونهم من الارتباط بالدين، فلما علموا أن الشيخ في شمال السنغال، تاقت قلوبهم إلى لقياه، فاتجهوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال، وجلسوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في خيمته، وكانوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة فأخذ يعلمهم أن الإسلام دين شامل ومتكامل ينظم كل أمور الحياة، فبدأ يعلمهم العقيدة الصحيحة، وكيفية العبادة والجهاد في سبيل الله، وركوب الخيل، وحمل السيف، وكيف يعتمدون على أنفسهم، فيذهبون إلى الغابات فيصطادون الصيد ويأتون به إلى الخيمة يطبخونه ويأكلونه ولا يسألون أكلهم أو طعامهم من الفرق المحيطة بشمال السنغال؛ فذاق هؤلاء الشباب حلاوة الدين، وشعروا أنه من واجبهم أن يأتوا بأحبابهم وأصحابهم وأقاربهم إلى هذا الذي ذاقوا حلاوته، فذهبوا إلى جدالة، فعاد كل واحد منهم برجل، فبدلاً من خمسة أصبحوا عشرة، فأخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يعلمهم، فتكاثروا حتى ضاقت عليهم الخيمة، فأقاموا خيمة ثانية وثالثة ورابعة، وبدأ العدد يزداد، وبدأ الناس يتعلمون الإسلام كما أنزل من كل جوانبه، وأنه إذا تعارض شيء مع القرآن والسنة فلا ينظر إليه، إنما يقدم أولاً القرآن والسنة، فتعلموا الأصول التي يجب على طالب العلم أن يتعلمها ويفهمها ويطبقها.
ولما كثر عدد الطلاب أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يقسمهم إلى مجموعات، ومع كل مجموعة يختار نابغاً من النابغين في العلم يعلم أفراد مجموعته، وهذا نفس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فقد كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته في مكة يعلمهم الدين حتى قامت لهم دولة، وأفراد، بيعة العقبة الثانية كانوا (72) رجلاً من أهل المدينة المنورة، فقسمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اثني عشر قسماً، وجعل لكل خمسة نقيباً، وبعثهم مرة أخرى إلى المدينة المنورة، ثم قامت للمسلمين دولة، وهكذا كان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين ؛ وبدأ العدد يتزايد من سنة (440هـ) إلى سنة (444هـ) حتى وصل إلى ألف رجل، وهذا نصر من الله وفتح مبين، فالرجل نزل بمفرده وطرد وأوذي في الله وضرب وهدد بالقتل، فإذا به يرحل إلى أعماق الصحراء بشمال السنغال وحيداً طريداً شريداً، ثم في مدة أربع سنوات يصبح عدد أتباعه ألف رجل، فقال الشيخ عبد الله بن ياسين لمن معه: لن يغلب ألف من قلة، فأخذ هؤلاء الرجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعرفون الناس الدين، ويعلمونهم الأحكام، فبدأت جماعتهم تزداد، وبدأ الرقم يرتفع من (1000) إلى (1200) إلى (1300) في تقدم ملموس.
وفي سنة (453هـ) يعلم أبو بكر بن عمر اللمتوني أن هناك خلافاً بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدة عن دويلة المرابطين، وأن هذا الخلاف شر، وأنه لو استشرى بين الناس فلن يكون هناك مجال للدعوة، فسار بجيشه ليحل الخلاف، مع أن الناس ليسوا في جماعته ولا في قبيلته، وكان عدد الذين ساروا معه سبعة آلاف رجل، أي: نصف عدد أفراد جماعته الذين بلغ عددهم أربعة عشر ألف رجل، وأمّر على دولة المرابطين ابن عمه يوسف بن تاشفين رحمه الله، فاستطاع أبو بكر بن عمر رحمه الله أن يحل الخلاف، لكنه يفاجأ أن في جنوب السنغال بجوار هذه القبائل المتصارعة هناك قبائل وثنية، لا تعبد الله بالكلية، إنما تعبد الأشجار والأصنام.. وما إلى ذلك، فهذه القبائل لم يصل إليها الدين بالمرة، فحز ذلك في نفسه، فقد تعلم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يغير الأمور بنفسه وأن يحمل هم المسلمين والناس أجمعين، حتى وإن لم يكونوا مسلمين، فصار يعلمهم الإسلام، ويعرفهم الدين، فيتعلمون ويجدون أمراً عجباً، وهو أن هذا الدين المتكامل الشامل فيه كل شيء، وهم يعيشون في أدغال أفريقيا، ويفعلون أشياء عجيبة، فيعبدون أصناماً غريبة، ولا يعرفون رباً ولا إلهاً، فأخذ يعلمهم بصبر شديد، فدخل منهم جمع في الإسلام وقاومه آخرون من أهل الباطل الذين يحافظون على مصالحهم، ويستفيدون من وجود هذه الأصنام، فصارعهم والتقى معهم في حروب طويلة، وظل يتوسع في قبيلة تلو قبيلة، وينزل من مكان إلى مكان، حتى عاد بعد ذلك إلى بلاد المرابطين سنة (468هـ) أي: استمر خمس عشرة سنة يدعو إلى الله في أدغال أفريقيا.
أما الشيخ يوسف بن تاشفين فإنه اتجه إلى جنوب المغرب العربي، وشمال موريتانيا، فوجد أموراً عجيبة، فعلى سبيل المثال: قبيلة غمارة من قبائل البربر هناك، قد ظهر فيها رجل اسمه حاميم بن من الله ادعى النبوة، وهو من المسلمين، ولم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ يشرع للناس شرعاً والناس يتبعونه في ذلك، ويظنون أن هذا هو الإسلام، ففرض عليهم صلاة في الشروق وصلاة في الغروب فقط، وألف لهم قرآناً بالبربرية، ووضع عنهم الوضوء والطهر من الجنابة وفريضة الحج، وحرم عليهم أكل بيض الطيور، وأحل أكل أنثى الخنزير، وحرم أكل السمك حتى يذبح، لكن اللافت للنظر أن الناس يعتقدون أن هذا هو الإسلام.
وقبيلة أخرى من قبائل البربر وهي قبيلة برغواطة كان رئيسها صالح بن طريف بن شمعون ، وأصل جده يهودي ثم أسلم، ثم جاء الحفيد صالح وادعى النبوة، وفرض على الناس خمس صلوات في الصباح وخمس صلوات في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمين بالإضافة إلى غسل السرة وغسل الخاصرتين، وفرض عليهم الزواج من غير المسلمات فقط، والزواج بأكثر من أربع نسوة، وفرض عليهم تربية الشعور للرجال وظفرها.
وقبيلة أخرى وجدها تعبد الكبش وتتقرب إلى رب العالمين بذلك، وكانت في جنوب المغرب، في البلد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي الله عنه عنهم ورحمهما الله.
فشق ذلك على يوسف بن تاشفين رحمه الله، فانطلق إلى الشمال يدعو الناس للإسلام فقاومه وحاربه كل من صالح بن طريف ، وحاميم بن من الله وقبائلهما، وكذا قبيلة زناتة السنية التي كانت لا تعرف الإسلام إلا في جانب العبادات والعقيدة، فهم يصلون كما تنبغي أن تكون الصلاة، ويزكون كما تنبغي أن تكون الزكاة، لكنهم يسلبون وينهبون ما حولهم، والقوي فيهم يأكل الضعيف، فقد فصلت الدين تماماً عن قيادة الأمة، فالدين عندهم صلاة وصيام وحج، لكن غير ذلك من المعاملات فقد كانوا يفعلون ما بدا لهم.
فأخذ يوسف بن تاشفين يدعو هؤلاء للإسلام، فدخل معه بعضهم، أما المعظم فحاربهم بالسبعة آلاف رجل حتى أخضعهم للإسلام.
عاد الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة (468هـ) فرأى أن يوسف بن تاشفين قد استولى على مساحات شاسعة تمتد من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا؛ وتشمل حالياً: السنغال بأكملها، وموريتانيا بأكملها، والمغرب بأكملها، والجزائر بأكملها، وتونس بأكملها، أي: صار أميراً على دولة واحدة تمتد من تونس إلى السنغال، ووجد أن جيش الإسلام قد بلغ عددهم مائة ألف فارس، وقد كانوا سابقاً سبعة آلاف رجل، ووجد أن هناك مدينة لم تكن على الأرض مطلقاً، أسست على التقوى؛ وهي مدينة مراكش، أسسها الأمير يوسف بن تاشفين رحمه الله، وأول شيء بناه في مراكش هو المسجد، وبناه بالطين واللبن مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأمير ينزل بنفسه ويحمل الطين مع الناس تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان مطاعاً في جيشه، زاهداً متقشفاً ورعاً تقياً عالماً بدينه، طائعاً لربه رحمه الله.
ففعل أبو بكر بن عمر اللمتوني فعلاً لم يحدث إلا في تاريخ المسلمين فقط، وهو أنه تنازل بالحكم للشيخ يوسف بن تاشفين ؛ لأنه أحق أن يملك البلاد، أما هو فقد أحس أن دوره يتمثل في إدخال الناس في الإسلام، فعاد مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا يدعو إلى الله على بصيرة، فأدخل الإسلام إلى غينيا بيساو جنوب السنغال، وسيراليون وساحل العاج، ومالي وبوركينا فاسو، والنيجر، وغانا، وداهومي وتوغو ونيجيريا، ويعتبر هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجيريا؛ وكذا الكاميرون وأفريقيا الوسطى والجابون، أي: أكثر من خمس دول أفريقية دخلها الإسلام على يد المجاهد البطل أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله. قال فيه ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية: لما كان يدعو إلى الجهاد في سبيل الله كان يقوم له خمسمائة ألف مقاتل! فما صلى مصل في النيجر أو مالي أو نيجيريا أو غانا إلا وأضيفت إلى حسنات أبي بكر بن عمر اللمتوني ، وما فعل رجل من الرجال خيراً من تلك البلاد إلا دخل ذلك في حساب أبي بكر بن عمر اللمتوني ومن معه.
وفي وسط المضيق ترتفع الأمواج ويهيج البحر وتكاد السفن أن تغرق، فيقف ذليلاً خاشعاً يدعو ربه والناس تدعو معه، فكان يقول: اللهم إن كنت تعلم في عبورنا هذا البحر خيراً لنا وللمسلمين فسهل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره، وهذا من الاتصال مع رب العالمين، فتسكن الريح ويعبر الجيش، والوفود منتظرة لاستقبال الفاتحين، وأول شيء عمله عندما وصل البلد سجد لله شكراً أن مكنه من العبور والجهاد، وأن اختاره ليكون جندياً من جنوده سبحانه وتعالى؛ فيدخل يوسف بن تاشفين إلى قرطبة، وإلى إشبيلية ويستقبله الناس استقبال الفاتحين، ثم يتجه إلى مملكة قشتالة النصرانية المرعبة لكل هؤلاء الأمراء من المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس في ذلك الوقت، وهو في رباطة جأش عجيبة، وأهل الأندلس الذين كانوا يدفعون الجزية للنصارى لمدة (70) أو (80) سنة في ذل وهوان وخضوع للنصارى، لكنهم عندما رأوا (7000) رجل يتحركون في سبيل الله يحملون أرواحهم على أكفهم، تغيرت فيهم أشياء كثيرة جداً من رؤية القدوة؛ فخرج معهم رجال من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصلوا إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية على حدود قشتالة وعددهم ثلاثون ألف رجل؛ لأنهم عندما وجدوا مجاهدين في سبيل الله تاقت نفوسهم إلى الجهاد، والناس فيهم فطرة طيبة، وإياكم أن تفقدوا الأمل من الناس فإن فطرهم طيبة، وعندما قامت الانتفاضة في فلسطين تحرك الناس، حتى الذين لا يصلون ولا يصومون تحركت عواطفهم لفلسطين.
وموقعة الزلاقة من أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ، لم يكن يعرف بالزلاقة في ذلك الوقت، ولكن اشتهر بذلك الاسم بعد الموقعة، وسنذكر إن شاء الله لماذا سميت بالزلاقة؟
أما النصارى فقد استعانوا بستين ألفاً من المقاتلين، وكان على رأسهم ألفونسو السادس ، بعد أن استعان بفرنسا وبإيطاليا وبإنجلترا وألمانيا، وبعد أن أخذ من البابا وعوداً بالغفران لكل من شارك في موقعة الزلاقة، جاء ألفونسو السادس وهو يحمل الصلبان فيها صورة المسيح، ويقول: بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس، وأقاتل ملائكة السماء، وأقاتل محمداً وصحبه! فكلامه يدل على أن الحرب الصليبية ضد الإسلام، وهنا يفاجئنا يوسف بن تاشفين بأمر عجيب، فيرسل رسالة إلى ألفونسو السادس كعادة الجيوش في ذلك الوقت، يقول له فيها: بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفن تعبر بها إلينا فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14]، وإني يا ألفونسو السادس أعرض عليك الإسلام أو الجزية عن يد وأنت صاغر أو الحرب، ولا أؤجلك إلا ثلاثاً وبعد ذلك سأحارب مباشرة.
فتسلم ألفونسو السادس الرسالة فاغتاظ بشدة، فأرسل رسالة يهدد فيها يوسف بن تاشفين فقال له: فإني اخترت الحرب فما ردك على ذلك، فأخذ يوسف بن تاشفين الرسالة وكتب عليها من ورائها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى.
فهذا رد شديد جداً على ألفونسو السادس أمام جيشه، فما استطاع أن يتكلم فاختار الحرب، فأرسل رسالة فيها شيء من التخاذل، فقال له: غداً الجمعة والجمعة عيد من أعياد المسلمين، ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، والسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، والأحد عيدنا، فلو أنك تسمح لنا أن نؤجل الحرب ثلاثة أيام إلى يوم الإثنين كان أحسن وأفضل.
فـيوسف بن تاشفين القائد المحنك لم ير جيشه هذه الرسالة، لأنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، ويعلم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، ويكذبون على الله، وقد قال الله فيهم: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، فجهز جيشه كامل التجهيز وعبأه على أكمل تعبئة، حتى إذا حدث هجوم مباغت يوم الجمعة يكون جاهزاً للرد على هذا الهجوم، وبالفعل فإنه رتب جيشه رحمه الله في يوم الخميس، وكان من ضمن الجيش ابن رملية من شيوخ المالكية في قرطبة، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام في تلك الليلة، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فإن الشيطان لا يتمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن رملية إنكم منصورون وإنك ملاقينا، فيستيقظ ابن رملية فرحاً مسروراً لا يستطيع أن يملك نفسه من شدة الفرح، فيوقظ يوسف بن تاشفين والمعتمد على الله بن عباد والمتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين ؛ ويوقظ كل قواد الجيش ويشرح لهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بـيوسف بن تاشفين ومن معه من القواد لا يملكون أنفسهم من الفرحة فصاحوا بكل الجيش في نصف الليل: ابن رملية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: إنكم منصورون وإنك ملاقينا، وإذا الجيش كله يعيش لحظة من لحظات السعادة العجيبة جداً، لم يذوقوها منذ سنوات في أرض الأندلس، فتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين جيشه بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بأن يحفزوا الناس على الجهاد، ويمر هو بنفسه رحمه الله على الفصائل ويقول لهم: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي له الأجر والغنيمة.
أما الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تاشفين رحمه الله فهو يختفي خلف تل من التلال بعيداً عن أرض الموقعة، وعدد أفراد الجيش الثاني خمسة عشر ألفاً، وقد قسم الجيش الثاني إلى نصفين، يتكون من أحد عشر ألف مقاتل وكانوا مع يوسف بن تاشفين ، ثم النصف الثاني يتكون من أربعة آلاف من رجال السودان المهرة؛ كانوا يحملون سيوفاً هندية، ورماحاً طويلة، وكانوا من أعظم المحاربين في جيش المرابطين، وجعلهم في آخر الجيش، وكانت خطة يوسف بن تاشفين نفس خطة خالد بن الوليد في فتوح فارس، في موقعة الولجة، ونفس خطة النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه في موقعة نهاوند أيضاً في فتوح فارس فقد كان ابن تاشفين يقرأ التاريخ ويعتبر بالتاريخ.
وتبدأ الموقعة، وإذا بستين ألف نصراني يهجمون على خمسة عشر ألف مسلم وبقية الجيش لا يقاتلون، يريد يوسف بن تاشفين أن تحتدم الموقعة حتى تنهك قوى الطرفين ولا يستطيعان القتال، هنا يدخل يوسف تاشفين بجيشه ليعدل الكفة في صف المسلمين، وهذه سياسة النفس الطويل، كالذي يجري في (الماراثون) في سباق طويل جداً (10كيلو) أو (20كيلو)، فلو جرى في أول السباق بحمية شديدة لن يستطيع أن يكمل السباق، لكنه يبدأ بالتدريج حتى يصل إلى آخر السباق فيسرع ويكمل السباق لصالحه، هكذا فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله.
فإذا بستين ألفاً من النصارى، وكأنهم أمواج تتلوها أمواج، وأسراب تتبعها أسراب يهجمون على جيش المسلمين والمسلمون صابرون، فقد مات على المعتمد على الله بن عباد ثلاثة خيول وهو صابر حتى كان لا يرى من كثرة الدماء، حتى أتى وقت العصر وهناك يشير يوسف بن تاشفين إلى من معه أن انزلوا وساعدوا إخوانكم، فينزل يوسف بن تاشفين ومن معه وهم مستريحون بعد طول صبر، فيحاصرون الجيش النصراني؛ وقد قسم يوسف بن تاشفين المقاتلين الذين معه إلى قسمين: قسم يساعد المسلمين، وقسم يلتف خلف جيش النصارى، وأول شيء عمله خلف جيش النصارى أن حرق خيام النصارى في خلف الجيش، وقد كانت الخيام فارغة لا يوجد بها أحد، وإنما فعل ذلك حتى يعلم النصارى أن يوسف بن تاشفين ومن معه خلف الجيش، فلما علموا أنهم محاصرون من خلفهم، دبت الهزيمة في قلوبهم، وبدأ يحدث الخلل والانسحاب، والتف الناس حول ألفونسو السادس يحمونه، وبدءوا ينسحبون فحدثت خلخلة عظيمة في جيش النصارى في موقعة الزلاقة، فكانت الضربة الأولى لـيوسف بن تاشفين أن قتل من النصارى عشرة آلاف رجل، وذلك بعد العصر، حتى قال المؤرخون: إن يوسف بن تاشفين الأمير على ثلث أفريقيا كان في هذه الموقعة يتعرض للشهادة؛ فيلقي بنفسه في المهالك رحمه الله ورضي الله عنه وعن أمثاله، وتزداد الموقعة في الحدة حتى قبيل المغرب، ثم يشير يوسف بن تاشفين رحمه الله إلى الأربعة آلاف فارس، فيأتون من بعيد يستأصلون النصارى، فقد قتل في موقعة الزلاقة من النصارى تسعة وخمسين ألف وخمسمائة وخمسين رجلاً، نجا منهم أربعمائة وخمسون فارساً فقط! فيهم ألفونسو السادس بساق واحدة، فقد بترت ساقه في موقعة الزلاقة، وانسحب في جنح الظلام هو وأربعمائة وخمسين فارساً إلى طليطلة، وهناك دخلوا طليطلة بمائة فارس فقط، فقد مات في الطريق ثلاثمائة وخمسون فارساً من الجراح المثخنة في موقعة الزلاقة.
موقعة الزلاقة تقاس بلا مبالغة بموقعتي اليرموك والقادسية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر