إسلام ويب

حدائق الموتللشيخ : محمد بن عبد الرحمن العريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الموت حقيقة لا ينكرها أحد، ولن يفلت منها أحد، وما زال للّذات مكدراً، وللنعيم مغيراً، وليست المشكلة في الموت، بل المشكلة الكبرى، والداهية العظمى فيما بعد الموت، أفي جنات ونهر، أم في ضلال وسعر، وقد أتى الشيخ بأمثلة من سلف الأمة ولجوا إلى حدائق الموت مستبشرين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عرج إلى بعض المشاهد لمن احتضروا، وختم حديثه بمسائل تتعلق ببدع تصدر من أهل الميت وبعض الجهلة في أيام العزاء.

    1.   

    إلى الواردين حياض المنايا

    الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، الحمد لله الكريم الوهاب، الحمد لله الرحيم التواب، الحمد لله الهادي إلى الصواب، مزيل الشدائد وكاشف المصاب، الحمد لله فارج الهم وكاشف الغم، مجيب دعوة المضطر، فما سأله سائل فخاب، يسمع جهر القول وخفي الخطاب، أخذ بنواصي جميع الدواب، فسبحانه من إله عظيم لا يماثل ولا يضاهى ولا يرام له جلال، هو ربنا لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المرجع والمتاب.

    سبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء، واستأثر باستحقاق البقاء، وأذل أصناف الخلائق بما كتب عليهم من الفناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    حدائق الموت! تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب تنتظر البعث والنشور أن ينفخ في الصور، اجتمع أهلها تحت الثرى ولا يعلم بحالهم إلا الذي يعلم السر وأخفى، نعم. إنه الموت!

    حقيقة الموت

    أعظم تحد تحدى الله تعالى به الناس أجمعين.. الملوك والأمراء، والحجاب والوزراء، والشرفاء والوضعاء، والأغنياء والفقراء، كلهم عجزوا عن أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي: قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168].

    أين الجنود؟! أين الملك؟! أين الجاه؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الزعماء؟!

    أتى على الكل أمر لا مرد له     حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

    وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلكٍ     كما حكى عن خيال الطيف وسنان

    مرض أبو بكرة رضي الله تعالى عنه، فلما اشتد مرضه عرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب فأبى، فلما نزل به الموت واشتدت عليه السكرات صرخ بأبنائه وقال: أين طبيبكم.. أين طبيبكم ليردها علي إن كان صادقاً؟!!

    ووالله لو جاءه أطباء الدنيا ما ردوا إليه روحه أبداً، قال الله: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:83-96].إنه الموت! هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، المنايا تجوس كل البلاد، وتبيد كل العباد.

    حياض المنايا .. ورود بغير صدور

    لتنالن من قرون أراهـا     مثل ما نلنا من ثمود وعاد

    هل تذكرت من خلا من     بني الأصفر أهل القباب والأطواد

    هل تذكرت من خلا من     بني ساسان أرباب فارس والسواد

    أين داود أين سليمـان     المنيع الأعراض والأجناد؟

    أين نمرود

    وابنه أين قارون     و هامان

    أين ذو الأوتاد؟

    وردوا كلهم حياض المنايا     ثم لم يصدروا عن الإيراد

    أتناسيت أم نسيت المنايا؟     أنسيت الفراق للأولاد؟

    أنسيت القبور إذ أنت فيها     بين ذل ووحشة وانفراد؟

    أي يوم يوم الممات وإذ     أنت تنادي فما يجيب المنادي

    أي يوم يوم الفراق وإذ     نفسك ترقى عن الحشى والفؤاد

    أي يوم يوم الفراق وإذ     أنت من النزع في أشد الجهاد

    أي يوم يوم الصراخ وإذ     يلطمن حره الوجوه والأجياد

    باكيات عليك يندبن شجواً     خافقات القلوب والأكباد

    يتجاوبن بالرنين ويذرفن     دموعاًتفيض فيض المزاد

    أي يوم يوم الوقوف إلى الله     ويوم الحساب والإشهاد

    أي يوم يوم المرور على النار     وأهوالها العظام الشداد

    أي يوم يوم الخلاص من النار     وهول العذاب والأصفاد

    كم وكم في القبور من أهل ملك     كم وكم في القبور من قواد

    كم وكم في القبور من أهل دنيا     كم وكم في القبور من زهاد

    وردوا كلهم حياض المنايا     ثم لم يصدروا عن الإيراد

    ومن تأمل في الموت علم أنه أمر ُكبّار، وكأس تدار على من أقام أو سار، يخرج به العباد من هذه الدنيا إلى جنة أو نار، ولو لم يكن في الموت إلا الإعدام، وانحلال الأجسام، ونسيان أجمل الليالي والأيام؛ لكان والله لأهل اللذات مكدراً، ولأصحاب النعيم مغيراً.

    وليست المشكلة في الموت، فالموت باب وكل الناس داخله، لكن المشكلة الكبرى والداهية العظمى في الذي يكون بعد الموت، أفي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ أم في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر؟

    ولأجل ذلك فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم، ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة، نعم. هم يفرحون بالموت ما دام أنه يقربهم إلى ربهم.

    1.   

    أم إبراهيم تدفع مهر حورية في الدنيا

    ذكر بعض المؤرخين: أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام؛ فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة وواعظها فحث الناس على البذل والجهاد ووصف لهم ما في الجنة من نعيم، ثم وصف الحور العين وقال:

    غادة ذات دلال ومرح     يجد الواصف فيها ما اقترح

    خلقت من كل شيء      حسن طيب فالليت عنها مطرح

    أترى خاطبهـا يسمعها إذ     تدير الكأس طوراً والقدح

    يا حبيباً لست أهوى غيره     بالخواتيم يتم المفتتح

    لا تكونن كمن جد إلى     منتهى حاجاته ثم جمح

    لا فما يخطب مثلي من سهـا     إنما يخطب مثلي من ألح

    فاشتاق الناس إلى الجنة وارتفع بكاء بعضهم، ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله، فوثبت عجوز من بين النساء، هي أم إبراهيم البصرية .. وثبت ثم قالت: يا أبا عبيد ! أتعرف ابني إبراهيم الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة إلى بناتهم وأنا أبخل به عليهن؟ قال: نعم. قالت: والله قد أعجبني حسن هذه الجارية، وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم فكرر ما ذكرت من أوصاف لعل نفسه تشتاق، فقال أبو عبيد :

    إذا ما بدت والبدر ليلة تمه     رأيت لها فضلاً مبيناً على البدر

    وتبسم عن ثغر نقي كأنه     من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر

    فلو وطأت بالنعل منها على الحصى     لأزهرت الأحجار من غير ما قطر

    ولو شئت عقد الخصر منها عقدته     كغصن من الريحان ذي ورق خضر

    ولو تفلت في البحر حلو لـعابها     لطاب لأهل البر شرب من البحر

    أبى الله إلا أن أموت صبابة     بساحرة العينين طيبة النشر

    فلما سمع الناس ذلك اضطربوا وكبروا وقامت أم إبراهيم وقالت: قد والله رضيت بهذه الجارية زوجة لابني إبراهيم ، فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة، وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار لعل الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعاً لي ولأبيه يوم القيامة؟! فقال أبو عبيد : لئن فعلتِ فأرجو والله أن تفوزي فوزاً عظيماً.

    فصاحت العجوز: يا إبراهيم ! يا إبراهيم ! فوثب شاب نضر من وسط الناس وقال: لبيك يا أماه! فقالت: أي بني! أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ومهرها أن تبذل مهجتك في سبيل الله؟! قال: إي والله يا أماه!

    فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها ثم جاءت بعشرة آلاف دينار ووضعتها في حجر عبد الواحد بن زيد ثم رفعت بصرها إلى السماء وقالت: اللهم إني أشهدك أني زوّجت ولدي من هذه الجارية على أن يبذل مهجته في سبيلك، فتقبله مني يا أرحم الراحمين!

    ثم قالت: يا أبا عبيد ! هذا مهر الجارية عشرة آلاف دينار تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله، ثم انصرفت واشترت لولدها فرساً حسناً وسلاحاً جيداً، ثم أخذت تعد الأيام لمفارقته وهي تودعه في كل نظرة تنظرها وكلمة تسمعها، والمجاهدون يعدون العدة للخروج، فلما حان وقت النفير؛ خرج إبراهيم يعدو، والمجاهدون حوله يتسابقون، والقراء يتلون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

    ثم نظرت إليه لما أرادت فراقه، ودفعت إليه كفناً وطيباً يطيب به الموتى ، ثم قالت له -وكأن قلبها يخرج من صدرها-: يا بني! إذا أردت لقاء العدو فالبس هذا الكفن، وتطيب بهذا الطيب، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها، وكتمت من عبرتها، وأخذت تشمه وتودعه وتقبله، ثم قالت: اذهب يا بني! فلا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه يوم القيامة.

    فمضى إبراهيم والعجوز تُتبعه بصرها حتى غاب مع الجيش، فلما بلغوا بلاد العدو، وبرز الناس للقتال؛ أسرع إبراهيم إلى المقدمة فابتدأ القتال! ورميت النبال! وتنافس الأبطال، أما إبراهيم فقد جال بين العدو وصال وقاتل قتال الأبطال، حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو، فلما رأى العدو ذلك أقبل عليه جمع منهم، هذا يطعنه وهذا يضربه وهذا يدفعه، وهو يقاوم ويقاتل حتى خارت قواه، ووقع من فرسه فقتلوه.

    ثم انتصر المسلمون وهزم الكافرون، ورجع الجيش إلى البصرة ، فلما وصلوا تلقاهم الرجال والعجائز والأطفال، و أم إبراهيم بينهم تدور عيناها في القادمين، فلما رأت أبا عبيد قالت له: يا أبا عبيد : هل قبل الله هديتي فأهنى، أم ردت علي فأعزى؟ فقال لها: بل والله قد قبل الله تعالى هديتك وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق، فصاحت قائلة: الحمد لله الذي لم يُخيّب فيه ظني وتقبل نسكي مني.

    ثم انصرفت إلى بيتها وحدها بعدما فارقت ولدها يشتد شوقها؛ فتأتي إلى فرشه فتشمها وإلى ثيابه فتقبلها، حتى نامت، فلما كان الغد جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت: السلام عليك يا أبا عبيد ! بشراك بشراك! قال: ما زلت مبشرة بالخير يا أم إبراهيم ! ما خبرك؟ فقالت: يا أبا عبيد ! نمت البارحة فرأيت ولدي إبراهيم في المنام في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاج يتلألأ، وأكليل يزهر وهو يقول: يا أماه! أبشري قد قبل المهر وزفت العروس.

    نعم هؤلاء أقوام أيقنوا أن لا مهرب من نزول الموت فسعوا إليه قبل أن يسعى إليهم، أحبوا لقاء الله فأحب الله لقاءهم، وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله، فما هو الجزاء؟

    وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:169-172].

    والله إن ذلك لهو الفوز الكبير، إذا أوقفهم ربهم بين يديه فرحوا بما ماتوا عليه؛ فيبيض وجوههم، ويرفع درجاتهم، بل كان الصالحون يفتنون في دينهم ويهددون بالموت فلا يلتفتون إليه، نفوسهم صامدة على نحو غاية واحدة هي: الموت على ما يرضي الله، فهم كما قال الله لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    1.   

    الرعيل الأول.. ثبات حتى الممات

    لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه على جذع نخلة ليقتلوه لم يفزع ولم يجزع بل أخذ ينظر إليهم ويقول:

    لقد جمع الأحزاب حـولي وألبوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

    إلى الله أشكـو غربتي ثم كربتي     وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي

    ولـست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

    وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

    ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس قال: جئتك بأقوام يحبون الموت كما تحبون الحياة.

    وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين، وتتسابق السهام من الكفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان أبو طلحة رضي الله تعالى عنه يرفع صدره ويقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: [يا رسول الله! نحري دون نحرك؛ لتقع السهام في صدري دون صدرك].

    نعم. نحري دون نحرك يا رسول الله! ما دام أن الموت في رضى الرحمن، فمرحباً بالموت، بل كانت المعاصي والشهوات، والآثام والملذات تعرض على الصالحين فلا يلتفتون إليها، فيهددون بالموت فيختارونه، فربهم أعظم عندهم من كل شيء.

    ثبات عبد الله بن حذافة السهمي أمام قيصر الروم

    ذكر ابن كثير وغيره: أن عمر بن الخطاب بعث جيشاً لحرب الروم، وكان من ضمن هذا الجيش عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه، فطال القتال بين المسلمين والروم وعجب قيصر الروم من ثبات المسلمين وجرأتهم على الموت، فأمر أن يحضر بين يديه أسير من المسلمين، فجاءوا بـعبد الله بن حذافة يجرونه، والأغلال في يديه، والقيود في قدميه، فلما أوقفوه أمام قيصر، تحدث معه فأعجب بذكائه وفطنته، فقال له: تنصَّر وأطلقك من الأسر، فقال عبد الله : لا. فقال: تنصَّر وأعطيك نصف ملكي. قال: لا. قال: تنصَّر وأعطيك نصف ملكي وأشركك معي في الحكم. فقال عبد الله: [والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت!!].

    فغضب قيصر وقال: إذاً أقتلك. قال: اقتلني.

    فأمر به قيصر فسحب وعلق على خشبة، وجاء قيصر وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه، وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت، فلما رأى قيصر إصراره أمر أن يمضوا به إلى الحبس، ففكوا وثاقه، ومضوا به إلى الحبس، وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب، فمنعوهما حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع، أحضروا له خمراً ولحم خنزير فلما رآهما عبد الله قال: [والله إني لأعلم أني مضطر وأن ذلك يحل لي الآن في ديني، ولكني لا أريد أن يشمت بي الكفار] فلم يقرب الطعام، فأخبر قيصر بذلك فأمر له بطعام حسن، ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة، فأدخلت عليه أجمل النساء وجعلت تتعرض له وتتزين وهو معرض عنها، وهي تتمايل أمامه وتتغنج وهو لا يلتفت إليها، فلما رأت المرأة ذلك خرجت وهي غضبى، وهي تقول: والله لقد أدخلتموني على رجل لا أدري أهو بشر أم حجر، وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر!!

    فلما يئس منه قيصر، أمر بقدر من نحاس، ثم أغلي فيها الزيت، ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود حتى ألقوه في هذا الزيت، وغاب جسده في الزيت، ومات وطفت عظامه تتقلب فوق الزيت، وعبد الله ينظر إلى العظام.

    فالتفت قيصر إلى عبد الله وعرض عليه النصرانية فأبى، فاشتد غضب قيصر وأمر به أن يطرح في القدر، فلما جروه إلى القدر وشعر بحرارة النار، بكى ودمعت عيناه، ففرح قيصر وقال: تتنصر وأعطيك.. وأمنحك.. قال: لا. قال: فما الذي أبكاك؟! فقال عبد الله: [أبكي -والله- لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر فتموت، ولقد -والله- وددت أن لي بعدد شعر رأسي نفوساً كلها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة].

    فقال له قيصر: قَبِّل رأسي وأخلي عنك، فقال عبد الله: وعن جميع أسرى المسلمين عندك؟ قال: نعم. فقبل رأسه ثم أطلقه ومعه الأسرى.

    عجباً!! لله در هذا الصحابي، أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]؟ إن من المسلمين اليوم من يتنازل عن دينه لأجل دراهم معدودات، أو تتبع الشهوات، أو الولوغ في الملذات، ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله.

    ومن عدل الله تعالى: أن العبد يختم له في الغالب بما عاش عليه، فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام والصدقات والصيام ختم له بالصالحات، ومن تولى وأعرض عن الخير خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه، ولأجل هذا الفرق العظيم، كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله، بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات في التزود ورفع الدرجات، فتجده يجاهد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويشتغل بالطاعات إلى آخر نفس يتنفسه، وآخر خطوة يخطوها.

    الموت ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم

    ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع، جعل مرض الموت يشتد عليه يوماً بعد يوم، وهو في كل كلمة يتكلمها ونظرة ينظرها يودع هذه الدار، ولما اشتدت عليه الحمى وأيقن بالنقلة للدار الأخرى أراد أن يودع الناس فعصب رأسه، ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد فجمعهم، فاستند صلى الله عليه وسلم إليه حتى رقى المنبر، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس! إنه قد دنا مني خلوف من بين أظهركم ولن تروني في هذا المقام فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ولا يقولن قائل: إني أخشى الشحناء ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له علي أو حللني، فلقيت ربي وليس لأحد عندي مظلمة).

    ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى إلى بيته وبدأت الحمى تأكل جسده وهو يتحامل على نفسه، ويخرج إلى الناس ويصلي بهم، حتى صلى بأصحابه المغرب من يوم الجمعة، ثم دخل إلى بيته، وقد اشتدت عليه الحمى، فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه، وظل على فراشه تكوي الحمى جسده، ثم ثقل به مرض الموت، وهو على هذا الفراش، واجتمع الناس لصلاة العشاء، وجعلوا ينتظرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض، يحاول النهوض من فراشه فلا يقدر.

    فلما أبطأ عليهم، جعل بعض الناس ينادي: الصلاة! الصلاة! فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله ثم قال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك) فتأمل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حرارة جسده تمنعه من النهوض فقال لهم: (صبوا لي ماءً في المخضب) وهو إناء كبير، فصبوا له الماء وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب فوق جسده صلى الله عليه وسلم، فلما برد جسده وشعر بشيء من النشاط جعل يشير لهم بيده، فأوقفوا عنه الماء، فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه.

    فلبث ملياً ثم أفاق فكان أول سؤال سأله أن قال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب) فوضعوا له الماء فاغتسل وجعلوا يصبون عليه الماء، حتى إذا شعر بشيء من النشاط أراد أن يقوم فأغمي عليه.

    فلبث ملياً ثم أفاق، وكان أول سؤال سأله أن قال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك قال: ضعوا لي ماءً في المخضب) فوضعوا له الماء، وجعلوا يصبون الماء البارد على جسده وأكثروا الماء حتى أشار إليهم بيده، ثم اتكأ على يديه ليقوم فأغمي عليه.

    وأهله ينظرون إليه تضطرب أفئدتهم وتدمع أعينهم، والناس عكوف في المسجد ينتظرونه، فلبث مغمىً عليه ملياً، ثم أفاق فقال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك) فتأمل في جسده فإذا الحمى قد هدته هداً، ذلك الجسد المبارك الذي نصر الدين وجاهد لرب العالمين، ذلك الجسد الذي ذاق من العبادة حلاوتها، ومن الحياة شدتها، الجسد الذي تفطرت منه القدمان من طول القيام، وبكت العينان من خشية الرحمان؛ عذب في سبيل الله وجاع وقاتل!!

    لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله وتمكن المرض من جسده التفت إليهم وقال: (مروا أبا بكر

    فليصلِّ بالناس) فيقيم بلال الصلاة، ويتقدم أبو بكر في محراب النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي بالناس، ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه، وانتهت صلاة العشاء، ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر فيصلي بهم أبو بكر ، ويجتمع الناس بعدها للصلوات ويصلي أبو بكر بهم أياماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه.

    فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الإثنين وجد صلى الله عليه وسلم نشاطاً في جسده، فدعا العباس وعلياً فأسنداه عن يمينه ويساره، ثم خرج يمشي بينهما تخط رجلاه في التراب، وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد، فإذا الصلاة قد أقيمت والناس يصلون، فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة، فنظر إلى وجوه مباركة، وأجساد طاهرة، أكثرهم قد أصيب في سبيل الله، منهم من قطعت يده، ومنهم من فقئت عينه، ومنهم من ملأت الجراحات جسده، طالما صلى بهؤلاء الأخيار وجاهد معهم، وجالسهم، كم ليلة قامها وقاموا معه! وأياماً صامها وصاموها! كم صبروا معه على البلاء وأخلصوا معه الدعاء، كم فارقوا لنصرة دينه الأهل والإخوان وهجروا الأحباب والأوطان، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

    ثم ها هو اليوم يفارقهم إلى تلك الدار التي طالما شوقهم إلى سكناها، فلما رآهم في صلاتهم تبسم حتى كأن وجهه فلقة قمر، ثم أرخى الستر وعاد إلى فراشه صلى الله عليه وسلم وبدأت تصارعه سكرات الموت.

    قالت عائشة : [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، فجعل يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، قالت: فجعلت فاطمة

    تبكي وتقول: وا كرب أبتاه! فيلتفت إليها ويقول: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، قالت عائشة

    : فجعلت أمسح وجهه بيدي وأدعو له بالشفاء، وهو يقول: لا. بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل
    ] ثم لما ضاق به النفس، واشتدت عليه السكرات جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا، بل كان يتكلم فيما أهمه، يحذر من صور الشرك ويقول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .. (اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد) وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).

    ثم مات! نعم. مات سيد المرسلين وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، مات وليس أحد يطالبه بمظلمة، ولا آذى أحداً بكلمة، لم يتدنس بأموال حرام ولا غيبة ولا آثام، بل كان إلى الله داعياً، ولعفو ربه راجياً، يأمر بالصلاة وعبادة الرحمان، وينهى عن الشرك والأوثان، قال الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    وكذلك كان الصالحون من بعده يستعدون للموت بالإكثار من الطاعات، والمسارعة إلى القربات، وهم مع كثرة أعمالهم وحسن أفعالهم إذا فاجأهم الموت رجوا رحمة ربهم وخافوا من عقابه، ولم يركنوا إلى أعمالهم.

    عمر رضي الله عنه في آخر مواقف الثبات

    عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الذي نصر الدين وجاهد لرب العالمين، وأطفأ نيران دولة المجوس، حقد عليه الكافرون، وكان من أكثر الناس حقداً عليه أبو لؤلؤة المجوسي وكان عبداً حداداً في المدينة ، وكان يصنع الرحى، وهي حجران يوضع أحدهما فوق الآخر ويوضع الشعير بينهما وتدار باليد فتطحن.

    أخذ هذا العبد يتحين الفرص للانتقام من عمر فلقيه عمر يوماً في طريق في المدينة ، فسأله وقال: [يا أبا لؤلؤة

    حدثت أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تدور بالريح، فالتفت العبد عابساً إلى عمر

    وقال: بلى. لأصنعن لك رحى يتحدث بها أهل المشرق والمغرب، فالتفت عمر

    إلى من معه وقال: توعدني العبد
    ].

    ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان مقبضه من وسطه، فهو إن طعن به من هذه الجهة قتل، وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل، ثم أخذ يطليه بالسم، حتى إذا طعن به يقتل إما بقوة الطعن أو انتشار السم، ثم جاء في ظلمة الليل، واختبأ لـعمر في زاوية من زوايا المسجد، فلم يزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ينبه الناس لصلاة الفجر، ثم أقيمت الصلاة وتقدم بهم عمر فكبر، فلما ابتدأ القراءة خرج عليه المجوسي ، وفي طرفة عين عاجله بثلاث طعنات، وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه، والثالثة تحت سُرته، فصاح عمر ووقع على الأرض وهو يردد قوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38].

    وتقدم عبد الرحمن بن عوف ، وأكمل الصلاة بالناس، أما العبد فقد طار بسكينه يشق صفوف المصلين ويطعن المسلمين يميناً وشمالاً، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، ثم وقف شاهراً سكينه لا يقترب منه أحد إلا قتله، فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً غليظاً فاضطرب المجوسي وعلم أنهم قدروا عليه، فطعن نفسه.

    وحمل عمر رضي الله عنه إلى بيته، وانطلق الناس معه يبكون وظل مغمىً عليه حتى كادت أن تطلع الشمس، فلما أفاق نظر في وجوه من حوله، ثم كان أول سؤال سأله أن قال: [أصلى الناس؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، قال: الحمد لله، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة].

    ثم دعا بوضوء فتوضأ وأراد أن يقوم ليصلي فلم يقدر، فأخذ بيد ابنه عبد الله وأجلسه خلفه وتساند إليه ليجلس فجعلت جراحه تنزف دماً، قال عبد الله بن عمر : [والله إني لأضع يدي على جرح أبي فتدخل أصابعي في بطنه، فربطنا جرحه بالعمائم فصلى الفجر، ثم قال: يا بن عباس

    انظر من قتلني؟ فقال ابن عباس

    : طعنك الغلام المجوسي ثم طعن معك رهطاً ثم قتل نفسه، فقال عمر

    : الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها لله قط
    ].

    ثم دخل الطبيب على عمر لينظر إلى جرحه فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر فخرج الماء من جروحه، فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصديد، فسقاه لبناً فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته، فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده، فقال: يا أمير المؤمنين! أوصِ فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً، فقال عمر: [صدقتني ولو قلت غير ذلك لكذبتك، ثم قال عمر

    : والله لو أن لي الدنيا كلها لافتديت بها من هول المطلع -يعني: الوقوف بين يدي الله تعالى- فقال له ابن عباس

    : وإن قلت ذلك فجزاك الله خيراً، أليس قد دعا لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله بك الدين والمسلمين إذ يخافون بـمكة ، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين، ثم قبض وهو عنك راضٍ، ووازرت الخليفة من بعده وقبض وهو عنك راضٍ، ثم وليت بخير ما ولي الناس، مَصَّر الله بك الأمصار، وجبى الله بك الأموال، ونفى بك العدو، ثم ختم لك بالشهادة فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين.

    فقال عمر

    : أجلسوني، فلما جلس قال لـابن عباس

    : أعد علي كلامك، فلما أعاده عليه، قال له عمر

    : والله إن المغرور من تغرونه، أتشهد لي بذلك عند الله يوم تلقاه يا بن عباس

    ؟ قال: نعم. ففرح عمر

    وقال: اللهم لك الحمد
    ].

    ثم جاء الناس فجعلوا يثنون عليه ويودعونه، وجاءه شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين! صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال عمر: وددت أني خرجت منها كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر الشاب فإذا إزاره يمس الأرض فقال عمر: [ردوا علي الغلام، ثم قال: يا بن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك] ثم اشتد الألم على عمر وجعل يتغشاه الكرب ويغمى عليه، قال عبد الله بن عمر : [غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري فأفاق فقال: ضع رأسي على الأرض ثم غشي عليه، ثم أفاق ورأسه في حجري، فقال: ضع رأسي على الأرض، قلت: يا أبتاه وهل حجري والأرض إلا سواء؟ فقال: يا بني! اطرح وجهي على التراب لعل الله تعالى أن يرحمني، فإذا قبضت فأسرعوا بي إلى حفرتي فإنما هو خير تقدموني إليه أو شر تضعونه عن رقابكم!!].

    ثم قال عمر: [ويل لـعمر

    وويل لـأم عمر

    إن لم يغفر الله له
    ] ثم ضاق به النفس، واشتدت عليه السكرات ثم مات رضي الله عنه، ودفنوه بجانب صاحبيه.

    نعم. مات عمر بن الخطاب ، لكن مثله في الحقيقة لم يمت، قدم على أعمال صالحات ودرجات رفيعات، وصاحبه في قبره قراءته للقرآن، وبكاؤه من خشية الرحمان، تؤنسه صلاته في وحشته، ويرفع جهاده في درجته، تعب في دنياه قليلاً لكنه استراح في آخرته طويلاً، عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرين بالجنة، بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا: هذا لـعمر

    ، فذكرت غيرته فوليت مدبرا ،فبكى عمر

    وقال: أعليك أغار يا رسول الله
    ).

    من مشاهد الاحتضار لأرباب التعبد والأسرار

    هكذا كان الصالحون، أيقنوا بنزول الموت فاستعدوا للقائه في كل لحظة.

    لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدريس ،اشتد عليه الكرب فلما أخذ يشهق بكت ابنته عند رأسه قال: يا بنيتي ما يبكيك؟ قالت: يا أبتاه أخاف مما أنت مقبل عليه! فقال: يا بنيتي لا تبكي فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة كلها لأجل هذا المصرع!!

    أما عامر بن عبد الله بن الزبير فلقد كان على فراشه يعد أنفاس الحياة، وأهله حوله يبكون، فبينما هو يصارع الموت سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب ونفسه تحشرج في حلقه، وقد اشتد نزعه، وعظم كربه، فلما سمع النداء قال لمن حوله: خذوا بيدي! قالوا: إلى أين؟ قال: إلى المسجد! قالوا: وأنت على هذا الحال؟ قال: سبحان الله! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه، خذوا بيدي! فحملوه بين رجلين فصلى ركعة مع الإمام ثم مات في سجوده!

    فمن أقام الصلاة وصبر على طاعة مولاه ختم له برضاه.

    اصبر لمر حوادث الدهر     فلتحمدن مغبة الصبر

    وامهد لنفسك قبل ميتتها     وادخر ليوم تفاضل الذخر

    فكأن أهلك قد دعوك فلم     تسمع وأنت محشرج الصدر

    وكأنهم قد هيئوك بمـا     يتهيأ الهلكى من العطر

    وكأنهم قد قلبوك عـلى     ظهر السرير وظلمة القبر

    ياليت شعري كيف أنت عـلى     ظهر السرير وأنت لا تدري؟

    أم ليت شعـري كيف أنت إذا     غسلت بالكافور والسدر؟

    أم ليت شعري كيف أنت إذا     وضع الحساب صبيحة الحشر؟

    ما حجتك فيما أتيت وما     قولك لربك بل وما العذر

    ألاّ تكون أخذت عذرك     أو أقبلت ما استدبرت من أمر

    بل كان الصالحون يتحسرون عند الممات على فراق الأعمال الصالحات، ويودون لو طالت بهم الحياة للتزود ورفع الدرجات، وتكثير الحسنات، وتكفير السيئات.

    احتضر عبد الرحمن بن الأسود فبكى، قيل له: ما يبكيك وأنت أنت؟! يعنون في العبادة والخشوع والجهد والخضوع، فقال: أبكي والله أسفاً على الصلاة والصوم، ثم لم يزل يتلو القرآن حتى مات.

    أما يزيد الرقاشي فإنه لما نزل به الموت أخذ يبكي ويقول: من يصلي لك يا يزيد إذا مت، ومن يصوم لك، ومن يستغفر لك من الذنوب؟!! ثم تشهد وأخذ يسبح الله ويذكر الله ثم مات.

    هذه مشاهد الاحتضار لأرباب التعبد والأسرار، فلو رأيتهم تجافوا عن دفء فرشهم في الأسحار، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. دفنوا تحت الثرى وقد أرضوا من يعلم السر وأخفى، هذا هو احتضار المؤمنين، وما عند الله خير وأبقى.

    الموت لا يفرق بين صغير وكبير، ولا غني وفقير، ولا عبد وأمير.

    هارون الرشيد ذلك الذي ملك الأرض وملأها جنوداً، ذاك الذي كان يرفع رأسه فيقول للسحابة: أمطري في الهند أو الصين أو حيث شئت، فوالله ما أمطرت في أرض إلا وهي تحت ملكي.

    هارون الرشيد خرج يوماً في رحلة صيد فمر على رجل يقال له بهلول ، فقال هارون : عظني يا بهلول ، فقال يا أمير المؤمنين: أين آباؤك وأجدادك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك؟ قال: ماتوا، قال: فأين قصورهم؟ قال: تلك قصورهم، قال: وأين قبورهم؟ قال: هذه قبورهم. فقال بهلول: تلك قصورهم وهذه قبورهم، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم. قال: صدقت. زدني يا بهلول !

    قال بهلول : أما قصورك في الدنيا فواسعة فليت قبرك بعد الموت يتسع، فبكى هارون وقال: زدني يا بهلول ! قال: هب يا أمير المؤمنين أنك ملكت كنوز كسرى وعمرت السنين فكان ماذا؟ أليس القبر غاية كل حي وتسأل بعده عن كل هذا؟ قال: بلى.

    ثم رجع هارون وانطرح على فراشه مريضاً، ولم تمض عليه أيام حتى نزل به الموت، فلما حضرته الوفاة وعاين السكرات صاح بقواده وحجابه، اجمعوا جيوشي! فجاءوا بهم بسيوفهم ودروعهم وسلاحهم، لا يكاد يحصي عددهم إلا الله، كلهم تحت قيادته وأمره، فلما رآهم بكى، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه!

    ثم لم يزل يبكي حتى مات، فلما مات هذا الخليفة الذي ملك الدنيا، أودع في حفرة ضيقة لم يصاحبه فيها وزراؤه، ولم يساكنه ندماؤه، لم يدفنوا معه طعاماً، ولم يفرشوا له فراشاً، ما أغنى عنه ملكه وماله:

    سل الخليفة إذ وفاة منيته     أين الجنود وأين الخيل والخول

    أين الكنوز التي كانت مـفاتحها     تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا

    أين الجيوش التي أرصدتها عـدداً     أين الحديد والبيض والأسل

    لا تنكرن فما دامت على أحـد     إلا أناخ عليه الموت والوجل

    أما عبد الملك بن مروان فإنه لما نزل به الموت، وجعل يتغشاه الكرب ويضيق عليه النفس أمر بنوافذ غرفته ففتحت فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دكانه، فلما رآه بكى، ثم قال: يا ليتني كنت غسالاً! يا ليتني كنت نجاراً! يا ليتني كنت حمالاً! يا ليتني لم ألي من أمر المؤمنين شيئاً! ثم مات!!

    عجباً باتوا على قلل الأجبال تحرسهم     غُلب الرجال فما أغنتهم القلل

    واستنزلوا بعد عزٍ من معاقلهـم     وأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

    ناداهم صارخ من بعد مـا دفنوا     أين الأسرة والتيجان والحلل؟

    أين الوجوه التي كـانت منعمة     من دونها تضرب الأستار والكلل؟

    أين الرماة ألم تُمنع بأسهمهـم     لما أتتك سهام الموت تنتصل؟

    أين الأحبة والجيران أجمعهم     أين الأطباء ما أغنوا ولا الحيل؟

    ما ساعدوك ولا واساك أقـربهم     بل سلموك لها يا قبح ما فعلوا

    ما بال ذكرك منسياً ومطرحـاً     وكلهم باقتسام المال قد شغلوا

    مـا بال قبرك وحشاً لا أنيس به     يغشاه من جانبيه الروع والوهل

    ما بال قبرك لا يأتي به أحد     ولا يمر به من بينهم رجل

    فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم     تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

    قد طالما أكلوا ظهراً ومـا شربوا     فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

    وطالما كنزوا الأموال وادخـروا     فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

    وطالما شيدوا دوراً لتحصنهـم     ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

    نعم. انتقلوا إلى دور ليس فيها خدم يخدمون، ولا أهل يكرمون، ولا وزراء ينادمون، انتقلوا إلى دور تجالسهم فيها أعمالهم، وتخاصمهم صحائفهم، وما ربك بظلام للعبيد.

    وهناك فريق من الناس وسع الله عليهم في أرزاقهم، وعافاهم في أبدانهم، فغفلوا عن الاستعداد للموت، حتى باغتهم فبدد شملهم، وأخذهم على قبيح فعلهم، فلما عاينوا الموت طلبوا الرجوع للدنيا لا لتجارة ولا مال، ولا أهلٍ ولا عيال، وإنما لإصلاح الأحوال، وإرضاء القوي المتعال، ولكن قد حكم الخالق العظيم أنهم إليها لا يرجعون، أولئك العصاة والمذنبون اللاهون المضيعون غلب عليهم حبهم لدنياهم، وغفلتهم بها، فكان لهم في احتضارهم عذاب وتهويل، وحيل بينهم وبين ذكر الخالق الجليل.

    من مشاهد الاحتضار عند أهل الغفلة

    ذكر القرطبي أن أحد المحتضرين ممن بدنياه انشغل، وغره طول الأمل، لما نزل به الموت واشتد به الكرب اجتمع حوله أبناؤه يودعونه ويقولون: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يشهق ويصيح فأعادوها عليه، فصاح بهم وقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا، والدكان الفلاني اقبضوا منه كذا، ثم لم يزل يردد ذلك حتى مات، مات وترك بستانه ودكانه يتمتع بهما ورثته، وتدوم عليه حسرته.

    وذكر ابن القيم أن أحد تجار العقار ذُكِّر بلا إله إلا الله عند احتضاره فأخذ يقول: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشترٍ جيد، وهذا كذا.. وهذا كذا.. حتى خرجت روحه وهو على هذا الحال، ثم دفن تحت الثرى بعدما مشى عليه متكبراً، قد جمع الأموال وكثر العيال، فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه.

    قال ابن القيم : واحتضر رجل ممن كان يجالس شراب الخمور، فلما حضره نزع روحه، أقبل عليه رجل ممن حوله وقال له: يا فلان! قل لا إله إلا الله، فتغير وجهه وتلبد لونه وثقل لسانه، فردد عليه صاحبه، يا فلان! قل لا إله إلا الله، فالتفت إليه وصاح: لا. اشرب أنت ثم اسقني، ثم ما زال يرددها حتى فاضت روحه إلى باريها، نعوذ بالله.

    وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سـبأ:54].

    وذكر الصفدي أن رجلاً كان يشرب الخمر ويجالس أهلها، وكان إذا سكر ونام يمشي ولا يعقل، فكان يمشي في سطح داره ويشد رجله بحبل كي لا يقع، فسكر ليلة ونام، فقام يمشي فسقط من السطح، فأمسكه الحبل فبقي معلقاً منكساً حتى أصبح ميتاً.

    وذكر في أنموذج الزمان أن محمد بن المغيث كان رجلاً فاسقاً مفتوناً بشرب الخمر، ولا يكاد يخرج من بيت الخمار، فلما مرض ونزل به الموت، وخارت قواه، سأله رجل ممن حوله: هل بقي في جسمك قوة؟ هل تستطيع المشي؟ فقال: نعم. لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار، قال صاحبه: أعوذ بالله أفلا قلت أمشي إلى المسجد! فبكى وقال: غلب ذلك عليّ.

    لكل امرئ من دهره مـا تعودا     وما جرت عادتي بالمشي إلى المساجد

    وقال ابن أبي رواد : حضرت رجلاً عند الموت فجعل من حوله يلقنونه لا إله إلا الله، فحيل بينه وبينها وثقلت عليه، فجعلوا يعيدونها عليه ويكررون ويذكرونه بالله وهو في كرب شديد، فلما ضاق عليه النفس صاح بهم وقال: هو كافر بلا إله إلا الله، ثم شهق ومات.

    قال: فلما دفناه سألت أهله عن حاله فإذا هو مدمن للخمر، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، بل نعوذ بالله من أم الخبائث، ورأس الفواحش، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، (بل من شرب الخمر في الدنيا كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل يا رسول! وما طينة الخبال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عصارة أهل النار) إلا أن يتوب قبل موته.

    أما أهل المعازف والغناء فلهم عند الموت كربة وبلاء!

    ذكر ابن القيم أن رجلاً من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة، فلما اشتد به نزع روحه قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يردد أبياتاً من الغناء، فأعادوا عليه التلقين: قل لا إله إلا الله، فثقل عليه لسانه عن ترديد الغناء، ويقول: تنتنا.. تنتنا.. حتى خرجت روحه من جسده وهو إنما يهذي ويغني.

    أما أهل الجريمة الكبرى والداهية العظمى، أنصار الشيطان وأعداء الرحمان، وهم خصوم المؤمنين وإخوان الكافرين، الذين يحشرون مع فرعون وهامان ويتقلبون معهم في النيران، هم تاركو الصلاة، (بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة)، وحالهم عند الموت وما بعده أدهى وأفظع.

    ذكر ابن القيم أن أحد المحتضرين كان صاحب معاصٍ وتفريط فلم يلبث أن نزل به الموت، ففزع من حوله إليه وانطرحوا بين يديه، وأخذوا يذكرونه بالله، ويلقنونه لا إله إلا الله، وهو يدافع عبراته، فلما بدأت روحه تنزع صاح بأعلى صوته وقال: أقول لا إله إلا الله وما تنفعني لا إله إلا الله، وما أعلم أني صليت لله صلاة! ثم مات.

    هذا هو الموت أول طريق الآخرة، وما بعده أفظع وأكبر!

    1.   

    أحوال أهل القبور

    أما أحوال أهل القبور فهي أدهى وأخطر، فكم من جسد صحيح.. ووجه صبيح.. ولسان فصيح.. هو اليوم في قبره يصيح.. على أعماله نادم، وعلى ربه قادم.

    خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة بعض أهله، فلما أسلمه إلى الديدان، ودسه في التراب؛ التفت إلى الناس فقال: [أيها الناس! إن القبر قد ناداني من خلفي أفلا خبركم بما قال لي؟! قالوا: بلى. فقال: إن القبر ناداني فقال: يا عمر بن عبد العزيز ! ألا تسألني ما صنعت بالأحبة؟ قلت: بلى. قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم، وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟! قلت: بلى. قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين!!].

    ثم بكى عمر وقال: [ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها؟! ما صنع التراب بأبدانهم، والديدان بعظامهم؟! كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة بين خدم يخدمون وأهل يكرمون، فإذا مررت بهم فنادهم وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم، سل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، سلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، سلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان!

    محت الألوان وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه ومحت المحاسن، وكسرت القفا وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، أين خدمهم وعبيدهم، أين جمعهم ومكنوزهم؟

    والله ما زودوهم فراشاً ولا وضعوا لهم متكأً، أليسوا في منازل الخلوات، وتحت أطباق الثرى في الفلوات؟! أليس الليل والنهار عليهم سواء؟!!

    قد حيل بينهم وبين العلم وفارقوا الأحبة والأهل، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم.. ومنهم والله الموسع له في قبره الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته.

    ثم بكى عمر وقال:

    يا ساكن القبر غداً! كيف أنت على خشونة الثرى، ليت شعري بأي خديك يبدأ الدود والبلى؟ ليت شعري! ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي] ثم بكى بكاءً شديداً ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة ومات رحمه الله.

    أهل القبور إما معذبون أو منعمون، بل لعله في القبر الواحد قد دفن عدة أشخاص هذا إلى الجنة وهذا إلى النار، بل إن الأمر أعجب من ذلك، لعل تحت قدميك الآن أقواماً يعذبون أو ينعمون، بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواماً قد حبسوا في حفر من جهنم، يعرضون على النار بكرة وعشياً، من يدري فالناس كثير، والأرض تضيق عنهم.

    صـاحِ هذي قبورنا تملأ الرحب     فأين القبور من عهد عاد

    خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض     إلا من هذه الأجساد

    رب قبر قد صار قبراً مراراً     ضاحكاً من تزاحم الأضداد

    ودفين على رفات دفين     من قديم الأزمان والآباد

    تعب كلها الحياة فلا أعجب     إلا من راغب في ازدياد

    أي عيش صفا وما كدره الموت! وأي قدم سعت وما عثرها الموت! أما أخذ الآباء والأجداد! أما سلب الحبيب وقطع الوداد، أما رمل النسوان وأيتم الأولاد؟!

    عزاء فما يصنع الجازع     ودمع الأسى أبداً ضائع

    بكى الناس من قبل أحبابهم     فهل منهم أحد راجع

    فدل ابن عشرين في قبره     وتسعين صاحبها رافع

    يسلم مهجته راغماً     كما مد راحته البائع

    ولو أن من حَدَّث سالماً     لما خسف القمر الطالع

    وكيف يوقى الفتى ما يخاف     إذا كان حاصده الزارع

    1.   

    القبر روضة من الجنة أو حفرة من النار

    إن القبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران.

    وإنه للفيصل الـذي به     ينكشف الحال فلا يشتبه

    إن يكن خيراً فالذي من بعده      أفضل عند ربنا لعبده

    وإن يكن شراً فما بعد أشد     ويل لعبد عن سبيل الله صد

    روى الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وهو يُلحد له، قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت عليه السلام! حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة: اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك! هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، كنت والله سريعاً في طاعة الله بطيئاً عن معصية الله، فجزاك الله خيراً).

    نعم أيها الإخوة والأخوات! يقول له: أنا عملك الصالح، أنا صلاتك وصومك، وبرك وصدقتك، وبكاؤك وخشيتك، وحجك وعمرتك، وقراءتك للقرآن وحبك للرحمان، وقيامك في الأسحار، وصومك في النهار، وخوفك من العزيز الجبار، وبرك لوالديك، وطلبك للعلم، ودعوتك إلى الله، وجهادك في سبيل الله.

    فإذا رأى العبد المؤمن هذا الوجه الصبوح يبشره، والتفت حوله رأى قبره قد أصبح واسعاً، فيه فرش من الجنة، وعليه لباس من الجنة، علم أن النعيم الذي هو فيه لا يساوي شيئاً بما ينتظره في الآخرة، فيدعو ربه ويقول: (رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي).

    قال: (وإن العبد الكافر أو الفاسق إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة؛ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم مسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيلعنه كل ملكٍ بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يضعوها في ذلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملك من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سجين -في الأرض السفلى- فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ها ها لا أدري!! فيقولان ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري!! فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري!! فيقولان: لا دريت ولا تليت، فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك!! هذا يومك الذي كنت توعد، كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً في معصية الله، فجزاك الله شراً! فيقول: من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث).

    نعم. أنا عملك.. وقوعك في الشرك، وحلفك بغير الله، وطوافك على القبور، وشربك للخمور، بل أنا وقوعك في الزنا، وأكلك للربا، وسماعك للغناء، وتكبرك على الصالحين، وجرأتك على رب العالين، عندها يتحسر هذا العبد وهل تغني الحسرات؟ ويشتد ندمه، وهل تنفعه العبرات؟ أين كان هذا البكاء وأنت تنظر إلى المحرمات وتتهاون بالصلوات، وتواقع الفواحش والشهوات؟ كم نصحت بحفظ فرجك وصيانة سمعك وبصرك! فابكِ اليوم أو لا تبك فلن تنجو من العذاب، قال الله: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] عندها يوقن هذا العبد أن ما يلقاه بعد القبر أشد وأبقى، فيقول: (رب لا تقم الساعة، رب لا تقسم الساعة، ثم يقيض له ملك أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كانت تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين) نسأل الله تعالى أن يلطف بنا في قبورنا.

    1.   

    مسائل تتعلق بالجنائز والقبور

    أيها الإخوة والأخوات: قبل الختام أنبه على تسع مسائل هامة تتعلق بالجنائز والقبور:

    المسألة الأولى: الموت إذا جاء فلا سبيل إلى تأخيره

    قال الله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران:145] فلا أحد يعلم متى يموت ولا أين يموت.

    ذكر أن وزيراً جليل القدر كان عند داود عليه السلام، فلما مات داود صار وزيراً عند سليمان بن داود عليهما السلام، فكان سليمان يوماً جالساً في مجلسه في الضحى وعنده هذا الوزير، فدخل عليه رجل يسلم عليه، وجعل هذا الرجل يحادث سليمان ويحد النظر إلى هذا الوزير، ففزع الوزير منه، فلما خرج الرجل قام الوزير وسأل سليمان، وقال: يا نبي الله! من هذا الرجل الذي خرج من عندك قد والله أفزعني نظره إلي، فقال سليمان: هذا ملك الموت يتصور بصورة رجل ويدخل علي، ففزع الوزير وقال: يا نبي الله! أسألك بالله أن تأمر الريح فتحملني إلى الهند ، فأمر سليمان الريح فحملته، فلما كان من الغد، دخل ملك الموت على سليمان يسلم عليه كما كان يفعل، فقال له سليمان قد أفزعت صاحبي بالأمس فلماذا كنت تنظر إليه، فقال ملك الموت: يا نبي الله! إني دخلت عليك في الضحى فرأيته عندك وقد أمرني الله أن أقبض روحه بعد الظهر في الهند ، فعجبت أنه عندك!

    قال سليمان فماذا فعلت؟ قال ملك الموت: ذهبت إلى المكان الذي أمرت بقبض روحه فيه فوجدته ينتظرني، فقبضت روحه، قال الله: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[الجمعة:8].

    ومن مات فإنه لا يرجع من موته ولا يخرج من قبره حتى ينفخ في الصور يوم القيامة، فمن ادعى أن أحداً من الأئمة أو الأولياء أو الأنبياء يرجع بعد موته فقد قال بأعظم البهتان وصار من أنصار الشيطان.

    المسألة الثانية: عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة

    قال الله عز وجل: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46]. وقال تعالى عن المنافقين: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ[التوبة:101] قال جموع المفسرين العذاب الأول في الدنيا، ثم عذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب عظيم في النار.

    أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه فهي كثيرة، بل قد صرح ابن القيم وابن أبي العز والسيوطي أنها متواترة وبين يدي الآن أكثر من خمسين حديثاً في إثبات عذاب القبر ونعيمه، من ذلك ما في الصحيحين : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) وفي الصحيحين : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر).

    المسألة الثالثة: عذاب القبر ونعيمه أمور غيبية لا تقاس بالعقل

    الإيمان بالغيب من أهم صفات المؤمنين، قال الله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3] فجعل أول صفاتهم الإيمان بالغيب، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور.

    المسألة الرابعة: حرمة النياحة والعويل على الميت

    من المحرمات ومن الأمور التي تقع من بعض الناس ومن النساء خاصة ما يقع من العويل والنياحة والصراخ، ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) قال صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب).

    فعلى من أصيب بموت حبيب أن يصبر ويحتسب، وليبشر بالأجر العظيم على صبره، ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).

    المسألة الخامسة: مشروعية زيارة القبور للرجال

    ويكون قصده من الزيارة الاعتبار والاتعاظ، دون قصد التبرك بالقبر أو بتربة القبر، أو الانتفاع بالمقبور، ولا يجوز أن يخصص يوماً معيناً للزيارة لا جمعة ولا غيرها؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خصص أياماً معينة للزيارة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

    والمشروع للزائر أن يدعو للميت ويستغفر له، وبعض الناس يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور، وهذا من البدع إذ لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ شيئاً من القرآن عند القبور، ولا يجوز السفر لزيارة قبر من القبور لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). متفق عليه.

    المسألة السادسة: بدعة وضع الزهور على القبور وغيرها

    من المخالفات والبدع في الجنائز: وضع الزهور على الجنازة أو على القبر وهذا تشبه بالكفار في دينهم وشعائرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند أحمد في المسند : (من تشبه بقوم فهو منهم) وكذالك من البدع الحداد على أرواح الشهداء أو غيرهم بالوقوف والصمت لمدة دقيقة ترحماً عليهم، فهذا بدعة منكرة، وإنما يكتفى بالدعاء والاستغفار لهم، وكذلك لا يجوز تعليق صور لأموات بل ولا لأحياء، لذكرى ولا لغيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم قال لـعلي : (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).

    ومن المخالفات: رفع الصوت أثناء تشييع الجنازة بالتهليل أو التكبير الجماعي، والمشروع أن يدعو المرء ويذكر الله في نفسه، وكذلك من البدع الأذان في القبر، أو بعد وضع الميت في قبره، ولم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وكذلك من البدع الدعاء الجماعي بعد صلاة جنازة أو بعد دفن الميت، بل المشروع أن يدعو كل واحد في نفسه.

    ومن المخالفات: دفن الميت في تابوت، والأصل أن يدفن الميت بكفنه في القبر من غير تابوت، إلا إذا دعت الحاجة إلى دفنه في تابوت، كتقطع الجسم مثلاً، أو كان نظام الدولة التي يدفن بها يلزم بدفنه في تابوت، ولا يستطيع أصحاب الجنازة المخالفة، عندها لا بأس بدفنه في تابوته.

    المسألة السابعة: حدود إهداء القربات للميت

    فعل القربات من الحي وإهداء ثوابها للميت جائز في حدود ما ورد الشرع بفعله، كالدعاء له، والحج والعمرة، والصدقة والأضحية، وصوم الواجب عمن مات وعليه صوم واجب، أما قراءة القرآن أو الصلاة بنية أن يكون ثوابها للميت فلا تجوز؛ لأنها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك من البدع استئجار قارئ يقرأ القرآن للأموات في المآتم وغيرها.

    المسألة الثامنة: تجهيز الميت من تركته

    قبل توزيع التركة يجب إخراج تكاليف تجهيز الميت وسداد ديونه وتنفيذ وصيته، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد : (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).

    المسألة التاسعة: حرمة الطواف والدعاء عند القبور

    وهذه هي المسألة الكبرى، والمصيبة العظمى والشرك الواقع عند القبور كمن يطوف عند القبور أو يسأل أهلها الحاجات واعتقاد أن الأولياء الموتى يقضون الحاجات والله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194] وبعض عباد القبور يطوفون بها ويستلمون أركانها ويتمسحون بها ويقبلون أعتابها، ويسجدون لها، ويقفون أمامها خاشعين لحاجاتهم سائلين من شفاء مريض أو حصول ولد، ولربما نادى الزائر صاحب القبر وقال: يا سيدي المقبور! جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني! والله يقول: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ[الأحقاف:5].

    وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) ولا تغتر بما يشاع أن فلاناً الفقير دعا عند القبر الفلاني فاغتنى، أو أن فلاناً المريض دعا فشفي أو رزق بولد، فإن كل ذلك من الباطل، ولا يدعى إلا الله تعالى.

    ويحرم بناء المساجد على القبور، بل لا تجوز الصلاة في المسجد إذا كان فيه أو في ساحته أو قبلته قبر، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).

    بل يحرم البناء على القبور، على أي شكل كان، ففي صحيح مسلم : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) والمشروع أن يدفن الميت ثم يعاد على القبر التراب الذي أخرج منه ولا يزيد ارتفاعه عن الشبر.

    كما يحرم بناء القباب على القبور لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي فيما رواه مسلم : (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلى سويته) وقال جابر فيما رواه مسلم : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه).

    ومن على القبر سراجاً أوقد      أو ابتنى على الضريح مسجداً

    فإنه مجدد جهاراً     لسنن اليهود والنصارى

    كـم حذر المختار عن ذا ولعن     فاعله كما روى أهل السنن

    بل قد نهى عن ارتفاع القبر     وأن يزاد فيه فوق الشبر

    وكل قبر مشرف فقد أمر     بأن يسوى هكذا صح الخبر

    فانظر إليهم قد غلوا وزادوا     ورفعوا بناءها وشادوا

    بالشيد والآجر والأحجار     لا سيما في هذه الأعصار

    وللقناديل عليها أوقدوا     وكم لواء فوقها قد عقدوا

    ونصبوا الأعلام والرايات     وافتتنوا بالأعظم الرفات

    بل نحروا في سوحها النحائر     فعل أولي التسييب والبحائر

    والتمسوا الحاجات من مـوتاهم     واتخذوا إلهاهم هواهم

    سبحان الله! قال عز وجل: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:191-198].

    أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يخلص توحيدنا له وحده لا شريك له، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يهدي ولاة المسلمين في كل بلد لإقامة التوحيد ونسف مظاهر الشرك في جميع بلاد المسلمين، اللهم اجعلنا بطاعتك عاملين، وعلى ما يرضيك مقبلين، وتوفنا وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين.

    وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756624826