إسلام ويب

شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [2]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أصول الفقه حقيقته: معرفة الأدلة الإجمالية، والأدلة عند العلماء منها ما هو متفق عليها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومنها أدلة مختلف فيها وهي الاستحسان، والمصلحة، وأفعال الصحابة، والعرف أو العادة، وغير ذلك من الأدلة التي هي من مواضع الخلاف عند العلماء. ويتفرع عن مسألة الأدلة ومعرفتها من الكتاب والسنة معرفة أقسام هذه الأدلة وما تتضمنه من أحكام شرعية، من الأمر والنهي، والإباحة، وغير ذلك وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع، فإن الله جل وعلا أمرنا بالاقتداء به، والأدلة الشرعية لها: نص وظاهر ومنطوق ومفهوم، والمفهوم هو: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.

    1.   

    أصول الفقه.. تعريفه وموضوعه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين والحاضرين يا رب العالمين.

    قال العلامة ابن بدران رحمه الله: [ أصول الفقه ].

    بعد إيراد المصنف للمقدمة وبيان مقصوده من التأليف مع الإشارة إلى أهمية أصول الفقه، وما ينبغي لطالب العلم أن يتعلمه منها، والطرق التي يسلكها في ذلك.

    وهنا شرع في بيان حقيقة أصول الفقه، وقد تقدم معنا أن أصول الفقه: معرفة الأدلة الشرعية الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.

    وأصول الفقه إذا أردنا أن ننظر إليها من جهة التعلم والتفقه نعلم أن محلها الأدلة الإجمالية كما تقدم الإشارة إليه، وليست المباحث الفرعية، فضلاً عن أن تكون هي من جهة الأدلة التفصيلية، ومعرفة القضايا العينية أو معرفة العلة، وكذلك أيضاً مدار الحكم على مسألة بعينها، فضلاً عن أقوال الأئمة القائلين بهذه المسائل، وإنما هي قواعد عامة من جهة الاستدلال، فأراد المصنف رحمه الله أن يبين حقيقة هذا العلم والمقصد من وجوده، وكذلك أيضاً التأليف فيه وتعليمه وتعلمه.

    1.   

    الأدلة الإجمالية وكيفية الاستدلال بها

    قال رحمه الله تعالى:

    [ أمر ونهي والقياس في الطلب فعل وإجماع بذال يصطحب

    تلك الأدلة على الإجمال يليهما كيفية استدلال ]

    تقدم معنا أن موضوع وحقيقة أصول الفقه: معرفة الأدلة الإجمالية، وليس معرفة الأدلة التفصيلية؛ إذ أن الأدلة التفصيلية هي معرفة الحكم العيني بدليله، والقائل به، وكذلك وجه الاستدلال، وهذا ليس محل ما يسمى بأصول الفقه.

    فأراد رحمه الله أن يبين ما هي هذه الأدلة، فذكر أنها

    ( الأمر والنهي والقياس في الطلب فعل وإجماع بذال يصطحب )

    يعني: أراد أن يبين أن هذه هي الأدلة الشرعية التي سنشرع فيها.

    وتقدم معنا: أن الأدلة عند العلماء منها ما هو متفق عليه، وهو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، باستثناء ما يذهب إليه بعض أهل الظاهر من نفي بعض صور القياس، وهو ما يسمى بقياس الشبه وما دونه، وأما بالنسبة لقياس الأولى على اختلاف عندهم في تحقق الوصف فيه، فإنهم يقولون به، كما هو ظاهر في استدلال ابن حزم رحمه الله في كثير من المواضع، وجرى على نهجه بعض أئمة أهل الظاهر من المتأخرين، وكذلك بعض الفقهاء من المتمذهبين في بعض أنواع الأقيسة.

    وقد ذكر بعد ذكره للأمر والنهي، وكذلك أيضاً القياس في الطلب، والفعل، والإجماع، أن هذه الأدلة على الإجمال هي المرادة بالأدلة الشرعية.

    أقسام الأدلة الإجمالية

    ومعلوم أن الأدلة على قسمين: أدلة شرعية أو نقلية، وأدلة عقلية، وهذه المباحث التي نتكلم عليها متعلقة بالأدلة الشرعية، التي تتعلق بالأدلة العقلية من بعض الوجوه كما في مسائل القياس، وكذلك أيضاً بعض الطرق التي توصل إلى فهم الدليل الشرعي.

    ويتفرع عن مسألة الأدلة ومعرفتها من الكتاب والسنة معرفة أقسام هذه الأدلة وما تتضمنه من أحكام شرعية، من الأمر والنهي، وكذلك أيضاً الإباحة، وغير ذلك فهذه أدلة شرعية ثبتت في كلام الله سبحانه وتعالى وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب أن تكون دليلاً.

    تعريف الدليل

    والدليل المراد به هو: المرشد للإنسان، ويسمى الخريت دليلاً باعتبار أنه يعرف الدليل، ويرشد للوصول إلى الغاية التي يقصدها المسافر، وكذلك الإنسان بالنسبة لنظره في الأدلة من الكتاب والسنة واصطحابه لها، فإنها ترشده إلى معرفة الغاية التي يريد أن يصل إليها، وهي امتثال ما أمر الله عز وجل به واجتناب ما نهى عنه، وهو المراد به بالطاعة، سواء كان بالفعل أو كان بالترك، ويأتي الكلام على أنواعه، وكذلك التفصيل فيهما يتعلق بالأمر والنهي، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالقياس، والكتاب والسنة وهي أدلة متفق عليها.

    خبر الآحاد قبولاً وعملاً

    ولا خلاف فيها عند أهل الإسلام إلا بعض الطوائف المنتسبة للإسلام، ممن يردون بعض وجوه السنة بالهوى، أو تحت مسمى رد أخبار الآحاد وعدم الاحتجاج بها، وهذا عند طوائف متنوعة منهم كطائفة القرآنيين الذين يقولون لا نحتج إلا بقرآن، وأما ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحتج إلا بالمتواتر منه، ومنهم من يقول: لا نأخذ بأخبار الآحاد في أمور العقائد، ونأخذ بها فيما عدا ذلك، ومنهم من يرد الآحاد مطلقاً في الشريعة ولا يأخذ بها إلا فيما يسمى بأبواب الآداب والأخلاق، وكذلك ما يتعلق بأمور السير والمغازي، وهذا لا شك أنه من الكلام المردود الباطل.

    والله سبحانه وتعالى أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجابة النذر والرسل الذين يبعثهم النبي عليه الصلاة والسلام، فكم أراق النبي عليه الصلاة والسلام من دماء بعدم إجابة كتاب كتبه إلى أحد من الناس حمله ثقة من أصحابه، وهذا من أخبار الآحاد، فاستباح الدماء، وأجلى أقواماً، وفعل فيهم كثيراً مما لا يحل للإنسان أن يفعله إلا بدليل بين، فدل ذلك على أن أخبار الآحاد إذا حملها الثقة العدل فهي من جهة الاعتبار والاعتداد كأخبار التواتر، على اختلاف في ذلك من جهة العلم بها: هل هي من باب غلبة الظن أو من باب علم اليقين وعين اليقين؟

    تعريف القياس

    وأما ما يتعلق بالقياس فإن القياس هو: إلحاق نظير بنظيره هذا من جهة اللغة، وأما من جهة اصطلاح الفقهاء: فهو إلحاق فرع بأصل؛ لعلة جامعة بينهما، وهذه العلة إما أن تكون ظاهرة، وإما أن تكون خفية، وإما أن تكون منطوقة، وإما أن تكون مستنبطة، وهذه المباحث يأتي الكلام عليها في مسألة القياس، وكذلك مسألة العلة.

    أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقسامها وأحكامها

    وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع، فإن الله جل وعلا أمرنا بالاقتداء به، كما هو ظاهر في القرآن قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وأمر الله جل وعلا بما هو أبعد من ذلك فأمر بالاقتداء بسير السابقين الذين سبقوا النبي عليه الصلاة السلام، من الأنبياء والأولياء والصديقين، الذين ثبت الخبر عنهم، مما لم يخالفه ظاهر النص في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].

    وفعل النبي صلى الله عليه وسلم سنة وهدي وهو على ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: هو فعل عبادة، وهذا هو الأصل، فكل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو عبادة، وذلك من هديه: من ذهابه ومجيئه وزيارته، وكذلك أعماله في صلواته، وكذلك أيضاً صلته، وكذلك إهداؤه وقبوله، وأسفاره، ونحو ذلك، والأصل في ذلك أنها تشريع، فإذا ذهب النبي عليه الصلاة والسلام في سرية أو غزوة فهذه من العبادة، وإذا زار النبي عليه الصلاة والسلام أحداً بعينه من أرحامه أو جيرانه أو نحو ذلك أو أجاب دعوة فهذه الأفعال بمجردها هي من أفعال العبادة، وعلى هذا نقول: إن الأصل في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام التعبد إلا لصارف يصرفها عن ذلك.

    النوع الثاني: أفعال عادة يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام بحكم العادة، وهذه أمارتها أن يشترك النبي عليه الصلاة والسلام مع عادة أهل عصره مؤمنهم وكافرهم، فهذا الذي يصرف الفعل من العبادة إلى العادة، وهذه الأفعال التي يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام كالألبسة، والأشربة, ونوع الطعام, ونحو ذلك مما يفعله النبي عليه الصلاة والسلام كسائر قومه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل مما يأكل منه أهل زمنه، ولا يجلب له طعاماً مخصوصاً بعينه، وإنما يأكل ما يأكل منه الكافر، وما يأكل منه المؤمن، شريطة ألا يدل الدليل في كلام الله تعالى على تحريمه، وهذا لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا امتثالاً لربه، فيحمل امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك على أنه عبادة؛ لقرينة ورود الدليل.

    وعلى هذا نحمل ألبسة النبي عليه الصلاة والسلام وكذلك طعامه؛ لأنه يشترك مع غيره، فالإزار، والرداء، والعمامة، والحذاء، وكذلك لبس الجبة، والألوان، ونحو ذلك، فان هذا مما يعتاد عند العرب، فالنبي عليه الصلاة والسلام يلبس ألبسة يلبسها كفار قريش؛ لهذا نقول: إن أبا لهب وأبا جهل وأمية وغيرهم يلبسون لباس النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً: هذا اللباس ليس من لباس العبادة وإنما هو من لباس العادة.

    وعليه يمكن القول: إنه لا يوجد لباس في الإسلام يسمى لباس الصالحين، وإنما يوجد لباس أهل الإسلام، ولباس أهل الكفر، وما عدا ذلك لا يوجد شيء يختص بأهل الصلاح عن أهل الفساد، وأهل الفساد إذا لبسوا لباساً بعينه، فإنه إما أن يقال إن هذا اللباس قد اختصوا به؛ لأنهم خرجوا عن مجموع أهل الإسلام، ولم يخرجوا عن مجموع أهل الصلاح.

    ولهذا فإن الألبسة التي يلبسها كثير ممن ينتسب إلى العلم في بعض البلدان الإسلامية، من عمامة أو قبعة أو غير ذلك، هل هذا زي صحيح أم ليس بصحيح؟ ليس بصحيح؛ لهذا نقول: إنه لا يوجد زي لأهل العلم، ولا يوجد زي لأهل الصلاح، وإنما يوجد زي لعامة أهل الإسلام، يلبس الإنسان ما يلبس أهل عصره، فإذا تزيا عالم بزي فهذا من الإحداث والابتداع، فيلبس ما يلبسه جاره، وما يلبسه أهل السوق ونحو ذلك كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يلبس.

    النوع الثالث من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: فعل الجبلة، وفعل الجبلة ما يفعله الإنسان فطرة من غير اختيار، وهذا يخرج النوع الأول والثاني؛ وذلك أن فعل العبادة يختاره الإنسان، وفعل العادة يختاره الإنسان، كاختيار الإنسان للون اللباس والجبة والعمامة، فهو باختياره لذلك أراد موافقة أهل عصره، أما فعل الجبلة فهي التي يفعلها الإنسان طبيعة خلق عليها، وذلك كمشيته، بالطريقة التي اعتادها؛ ولهذا يراه من قفاه من بعيد فيقول هذا فلان؛ لأن له جبلة اعتادها وفطر عليها.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام من أفعاله الجبلية أنه إذا مشى كأنما يمشي من صبب، أي: كأنه منصب من قمة الوادي إلى بطنه، من رأس الجبل إلى أسفله، فنقول: إن مثل هذا جبلة، فالإنسان قد يكون سريعاً، وقد يكون بطيئاً، وقد يكون متراخياَ، وقد يكون مائلاً أو نحو ذلك، فهذه من المشية التي لا يختارها الإنسان، ويدخل في ذلك ما يسمى بالتشهي، من تشهي الإنسان لطعام معين ونحو ذلك، فإذا اختار الإنسان طعاماً معيناً بعينه فهذا مرده إلى الجبلة، كأكل الدباء، أو الكتف من الشاة ونحو ذلك، فهذه يختارها الإنسان جبلة؛ ولهذا تجد الناس في بيت واحد هذا يحب طعاماً، وهذا يحب طعاماً، وهذا يحب طعاماً، من غير اختيار من أب أو أم، وهذا أمر فطري لا علاقة للإنسان به.

    لهذا نقول: إن أكل الدباء ليس بسنة، ونهس الإنسان من الكتف ليس بسنة، ولكن هذا من أمور الجبلة التي يجبل عليها الإنسان بحبه طعاماً بعينه، إلا إذا دلت قرينة صارفة عن ذلك، وذلك بفعل الأمر المقترن، أو كذلك حث غيره عليه، فاقترن الفعل بالقول، فعرف أن المراد بذلك التشريع، وهذا يدخل فيه كثير من الأمور: كمسألة شرب ماء زمزم ونحو ذلك؛ فإن هذا لم يكن مجرد فعل، ولو ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى مكة وشرب من ماء زمزم ولم تأتِ أدلة بالحث عليه وبيان فضله، لقيل بأن هذا من أمور العادة، وهو بئر من الآبار، ولكن اقترن الفعل بحث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان فضله، فكان ذلك من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية والقولية.

    1.   

    الإجماع والاستصحاب

    وأراد المصنف رحمه الله أن يبين منزلة الإجماع، وأنه من الأدلة المتفق عليها، والإجماع لا خلاف عند العلماء فيه، وتقدم معنا تعريفه، وأعلى الإجماع وأفضله وأقواه هو إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا أمر باتباع سبيل المؤمنين، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كما يروى في الخبر -وقد تكلم فيه العلماء- قال: ( إن الأمة لا تجتمع على ضلالة )، وهذا محل اتفاق عندهم، وبالنسبة لإجماع الصحابة فإنه يعرف بالنقل، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام حكي الإجماع عنهم في بضع مئين من الحكايات والمواضع، وهي تقرب من ثلاثمائة موضع، بعضها يتعلق بالأصول الكلية، وبعضها في أعلام المسائل ومشهورها من جملة الفروع.

    أما اصطحاب الحال أو اصطحاب الأصل فهو أيضاً من الأدلة عند العلماء، فمما يقول به جمهور العلماء: إن الإنسان إذا لم يكن لديه دليل ناقل عن الأصل، فيبقى على الأصل الذي هو عليه، فإذا كان على حكم معين فيستديمه الإنسان.

    مثال ذلك: أن الإنسان لا يدري هل هو مقيم أو مسافر، والأصل فيه الإقامة، فيكون الأصل في ذلك أنه مقيم؛ باعتبار أن الشك إنما ورد على السفر لا على الإقامة، والأمر أيضاً بعكسه في حال الإنسان إذا كان مسافراً فشك هل هو مقيم أم لا، والعلماء يخرجون من ذلك مسألة الاحتياط في هذا.

    وأما بالنسبة لمسألة اصطحاب الأصل فإذا كان الإنسان يعلم أن فلاناً جاره اليهودي لا يطبخ إلا لحم خنزير، فالأصل فيه أنه لا يطرأ عليه شيء يخالف ذلك لو قدم إليه طعاماً، باعتبار أن هذا هو الأصل.

    وثمة أدلة مختلف فيها عند الفقهاء، وهي ما يتعلق بمسألة الاستحسان وضده الاستقباح، وكذلك مسألة المصلحة، وأفعال الصحابة، والعرف أو العادة، وغير ذلك من الأدلة التي هي من مواضع الخلاف عند العلماء، فذكر رحمه الله أن هذه هي الأدلة على سبيل الإجمال، وأما التفصيل فإنه سيشير إليها فيما يأتي بإذن الله تعالى.

    كيفية الاستفادة من الأدلة

    وتقدم أن علم أصول الفقه هو: معرفة الأدلة الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، وهنا ذكر كيفية الاستدلال، أي كيف تستدل فهذه الأدلة؟ وكيف تستنبط منها؟ وهذا يدخل فيه جملة من القواعد في معرفة الحقائق الشرعية، بمعرفة الحقائق اللغوية فيما يتعلق بالعام والخاص والمنطوق والمفهوم، وغير ذلك من وجوه وأساليب الاستدلال من هذه الأدلة، القواعد التي تفيد الإنسان في كيفية الاستدلال بهذه الأدلة سواء كانت من السنة أو كانت من القرآن، فهذه قواعد عامة وضوابط يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى، وهي مباحث أصول الفقه التي يتخذها الإنسان سبيلاً إلى معرفته لهذا العلم، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بمناهج العلماء في أخذهم لهذا العلم، وقد تقدمت الإشارة إلى المنهجين المشهورين في هذا، ويأتي بإذن الله مزيد بيان لذلك.

    1.   

    صفات المجتهد والمستدل

    قال رحمه الله تعالى:

    [ صفات حال الاجتهاد المستدل معروفة وهكذا عنهم نقل ]

    المستفيدون مما يسمى بأصول الفقه هم اثنان: المجتهد والمقلد، وذلك أن المجتهد يستفيد من هذا العلم بالبحث والنظر والتقصي، وإلحاق المسائل الفرعية بأصولها؛ حتى يخرج بالحكم إلى المقلد، والمقلد يأخذ بهذا الحكم، فقد يقال: إن المجتهد عامل وباحث، وأما بالنسبة للمقلد فهو عامل وليس بباحث، فما يعمله المقلد يعمله المجتهد وزيادة، فالمجتهد اجتهد وعمل، والمقلد عمل ولم يجتهد؛ ولهذا كان المجتهد أشرف وأفضل من العامي؛ باعتبار أنه سلك السبيل لتمحيص الحق بنفسه، فعمل به لنفسه، وهذا أعلى مراتب اليقين: أن الإنسان يلتمس الحق ويعرف السبيل بنفسه حتى يكون على طمأنينة من ذلك، بخلاف العامي الذي يقلد غيره، فربما قلد غيره في مسألة، ولم يجد خياراً إلا ذلك فوقع في قلبه شيء من الريبة.

    والاجتهاد: هو استفراغ الوسع وبذل الجهد لمعرفة الحكم من دليل شرعي.

    1.   

    أنواع دلالات النص

    والأدلة الشرعية لها: نص وظاهر ومنطوق ومفهوم، والمفهوم هو: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، هذه المواضع التي يستفيد منها الإنسان أو المجتهد بالنظر إلى الدليل فهو إما أن ينظر إلى النص، وإما أن ينظر إلى ظاهره، وإما أن ينظر إلى منطوقه، وإما أن ينظر إلى مفهومه، وأقوى وجهي المفهوم هو مفهوم الموافقة، ويأتي بعد ذلك في المرتبة الثانية مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة يسميه الأصوليون بدلالة الخطاب، وهو ما يعرفه الإنسان باللزوم، أنه يلزم من هذا النص معنى آخر.

    وقد نقول: إن دلالة النص يستفيد منها الإنسان بثلاثة أشياء:

    الأول: بتضمن للدليل للحكم، وهذا التضمن أن يكون الدليل أعم، ويلحق حكم هذه المسألة بالدليل العام، فيكون الدليل قد شمل هذه المسألة وغيرها، فتضمن هذا الحكم دليلاً عاماً، وهذا يكون في الآيات العامة، وكذلك أيضاً الأحاديث الكلية، ويكون في القواعد.

    الثاني: المطابقة، مطابقة الحكم للدليل بعينه، ككثير من الأدلة التي تطابق الحكم بعينه، ولا يستفيد منها الإنسان غير ذلك، كالدليل الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام بالإشارة بالسبابة في الصلاة فهو دليل مطابق لهذه المسألة لا يستفاد منه غير هذه المسألة، كذلك أيضاً النظر في موضع السجود ونحو ذلك، فهذا يستفاد منه في هذه المسألة بعينها، فهو مطابق لها لا يدخل فيه غير هذه المسألة؛ لهذا نقول: إن الأدلة الشرعية إما أن تكون متضمنة لذلك الحكم، وإما مطابقة له، وإما أن يكون ذلك على سبيل اللزوم، فتكون الدلالة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام، وهذا ما يدخل فيه أبواب المفهوم، هذه هي الطرق التي يسلكها الناظر في معرفة الدليل.

    وأعلى ما يلتمسه المجتهد في الدليل هو النص، فإذا جاء نص في مسألة من المسائل فإنه أقوى وجوه الأدلة، ثم يأتي بعد ذلك الظاهر، ثم يأتي بعد ذلك المنطوق، ثم يأتي بعد ذلك المفهوم بقسميه، مفهوم الموافقة والمخالفة، ومفهوم الموافقة تأتي فيه الأنواع السابقة، أي أن هذا الحكم قد وافق الدليل إما بنصه وإما بمنطوقه وإما بظاهره.

    1.   

    الأحكام التكليفية الشرعية

    قال رحمه الله تعالى: [ باب تعريف الفقه والواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح ].

    هنا بدأ المصنف بذكر التفاصيل التي تتضمن تلك الأدلة، ومعلوم أن الأدلة الإجمالية التي ذكرها هي الكتاب والسنة والقياس والإجماع ونحوها وأن هذا يتضمن جملة من التفصيلات، وهذه التفصيلات هي الأحكام التكليفية؛ لهذا نقول: إن الأحكام الشرعية: أحكام تكليفية وأحكام وضعية، وما ذكر يتعلق بالأحكام التكليفية الشرعية، وأما الأحكام الوضعية فهي: ما كان وصفاً لغيره لا وصفاً لذاته، ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

    وهنا بين أنه يريد أن يعرف الفقه، ثم ذكر جملة من صوره، وهذا من عطف الخاص على العام، ومعلوم أن الفقه هو متضمن للواجب، وكذلك المندوب والمحرم والمكروه والمباح، بل إن الفقه مركب من هذه الأنواع، وهذا سائغ؛ ولهذا جرى عليه أسلوب القرآن والسنة.

    العلم الضروري والعلم النظري

    قال رحمه الله تعالى:

    [ معرفة أحكامنا الشرعية فعلاً قريب القوة الفرعية

    بالفقه تدعى عند أهل العلم فافهم مقالي واستمع للنظم ]

    هنا ذكر المصنف الفقه، والفقه هو جزء من العلم، والعلم أوسع من ذلك؛ وذلك أن العلم الذي يصل إلى الإنسان على نوعين: علم ضروري، علم نظري.

    فالعلم الضروري لا يسمى فقهاً باعتبار أن صاحبه لا يسمى فقيه مهما استكثر من ذلك؛ لأن معرفته في ذلك بداهة، وإنما الفارق في ذلك هو بين العاقل وغير العاقل، فكل عاقل لديه علم ضروري، وهذا أمر يتباين أيضاً حتى في البهائم، فالبهائم لديها علم ضروري ولديها عقل، ولكنه عقل خاص بها، فهذه المسألة نسبية، فالبهائم عالمة عارفة عاقلة بحالها، والإنسان بالنسبة لها بهيم، وهي بالنسبة للإنسان بهيمة، فنسميها بهيمة بالنسبة لنا، وأما نحن بالنسبة لها فنحن أيضا بهائم؛ ولهذا النملة حينما جاءها سليمان ماذا قالت؟ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، يعني: لا يدركون ما يقع فيكم من ضر، أنت حينما تأتي بهيمة إلى دارك أو نحو ذلك وأراد ابنك إلحاق أذية بها فإنك تقول: دعها فإنها بهيمة لماذا؟ لأنها لا تعرف مقاصدك أنت، فلها مقاصد في ذاتها خاصة بها.

    والبهيمة تعلم شيئاً من أحوالها لا يعلمه الإنسان؛ ولهذا يقع لديها التكليف، فالبهائم مكلفة في الحقوق التي بينها، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، أو ليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء )، فالبهائم حينما تتناطح فإنما تتناطح في حق بينها حتى في المطعم، وإذا أكلت نباتاً واعتدت عليها الأخرى بأكلها من حياضها فلم تأكل مما يليها فهذا نوع من التعدي، فيأخذ الله عز وجل للجماء من القرناء، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف مخلوقاً إلا بعلم سابق، فلا يكون ثمة علم سابق للبهائم أن ثمة حدود، وهذه الحدود لا تعلم بالفطرة، وإنما تعلم بشيء من الوحي.

    لهذا نقول: إن بهيمية البهائم والدواب هي نسبية، بل إن البهائم تعلم من الطبيعة ما لا يعلمه الإنسان، وتعلم بمجموعها ما لا يدرك الإنسان منه مثقال ذرة من أمور الطبيعة، وهذا أمر معلوم؛ ولهذا تجد البهائم منذ أن خلق الله البشرية تطير في السماء، والبشر لم يخلقوا طائرة إلا بعد قرون مديدة، وتجد أنها تدرك وتسمع وتحس وترى شيئاً بعيداً مما لا يراه الإنسان ويبصره إلا بآلة، بل ربما تدرك باطن الأرض بنفسها مما لا يدركه الإنسان إلا بغيره، وهذا شيء جعله الله عز وجل في مخلوقاته لحكمة عظيمة.

    ذكرنا أن أصول الفقه هو: معرفة الأدلة الشرعية الإجمالية، أما بالنسبة للفقه فهو: معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية، أو معرفة الأدلة الشرعية التفصيلية، فالمراد بالتفصيلية هو معرفة كل مسألة بعينها تفصيلاً، وأن تكون هذه الأعمال عملية، ويخرج من ذلك مسائل الاعتقاد؛ لأنها ليست من مواضع الاجتهاد، وإنما هي من مواضع النص القطعي الذي يأخذه الإنسان ويلتزمه.

    وأما بالنسبة للعلم النظري فهو: الذي يلزم لمعرفته النظر، وهو الذي يجعل الإنسان يتأمل، وإنما قلنا نظري؛ لأن الإنسان يطلق نظره في شيئين: إما في معقولات، وإما في محسوسات، فالنظر في المعقولات هو ما يسمى بالنظر وهو العلم النظري، وأما النظر في المحسوسات فهو التخيل.

    إذاً: إطلاق النظر في محسوس يسمى التخيل، وأما بالنسبة للمعقولات فإنه يسمى النظر، وهذا يدخل فيه أبواب السبر سواء كان الذهني أو كان المحسوس، فالإنسان إذا أراد أن يتفكر بشيء فيجمع أجزاءه؛ حتى يخرج بنتيجة، فهذا هو العلم الضروري، كأن تقول للإنسان: إن خمس نصف العشرة واحد، فهذا يحتاج إلى نظر، لكن أن تقول: واحد زائد واحد يساوي اثنين هذا ضروري، أو تقول: إن الكل أصغر من الجزء، أو إن السماء فوق الأرض، أو الأرض تحت السماء، فهذا أمر ضروري لا يحتاج إلى نظر، ولكن هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤدى المستقر في أذهان الناس، والناس يتباينون في ذلك باعتبار أنه لا يوجد علم في الإنسان إلا وهو مكتسب، فالإنسان أخرجه الله عز وجل من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فعقل الإنسان هو كحال المرآة يلتقط هذه المعلومات، ثم يقوم بقياسها وتأليفها مع بعضها، فهو خالي من كل شيء، وهذا العلم الضروري الذي تحصَّل لديه من أن واحد زائد واحد يساوي اثنين لم يتحقق لديه أصلاً إلا بنظر سابق، ولكن نستطيع أن نقول: إنه لا يمكن أن يكون ثمة شيء ضروري في الإنسان إلا وسبقه نظري، إلا في الأشياء النادرة التي يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، كالحزن وكذلك أيضاً البكاء ومشاعر الإنسان ونحو ذلك؛ ولذلك تجد البهيمة تدرك من حالها ما ينفعها من أول وضعها؛ مما يدل على عدم وجود اكتساب، فهي تتبع أمها، وهذا شيء يتعلق بالعاطفة وجد معها ابتداء.

    تعريف الفقه في اللغة ومنزلته من العلوم

    والفقه المراد به الفهم، وقد تقدم الكلام عنه، وهو أشرف أنواع العلم، وذلك أنه يحتاج إلى نظر، والنظر يحتاج إلى تتبع واجتهاد، وهذا التتبع والاجتهاد هو سبيل الجنة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وغير ذلك من الأدلة التي تدل على فضل العلم ومزيته، وفضل الفقه ومزيته على غيره من أنواع العلوم.

    العلم والفقه إذا أطلق في الشريعة فإنه يراد به العلم والفقه الشرعي لا يراد به غيره، والدليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( العلماء ورثة الأنبياء )، فذكر العلماء، وما وصفوا بالعلماء إلا بتحقق العلم فيهم، وجعل ذلك العلم موروث من الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، كما في الحديث: ( العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ).

    أقسام الجهل

    والعلم ضد الجهل، والجهل على نوعين: جهل مركب، وجهل بسيط، الجهل البسيط: هو عدم معرفة الشيء بذاته يعني انتفاء العلم، وأما الجهل المركب: فهو معرفة الشيء على غير الحقيقة، وهو كالذي يظن أن زيداً عمراً فهذا جهل مركب، والجهل البسيط كالذي يقول: لا أعرف زيداً، هذا انتفى عنه العلم فلم يجعل زيد عمرواً، فلم يكن ثمة جهل مركب.

    وفي قوله: ( فافهم مقالي واستمع للنظم ) هنا استحثاث للسمع، وهذا أسلوب قرآني، أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يضرب مثلاً جزيلاً أو أمراً مهماً أن يشحذ ذهن غيره؛ ولهذا قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] وينبغي كذلك للإنسان أن يستنصت الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جرير في الصحيح: ( استنصت الناس ).

    المباح وما يتعلق به

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وإن يعاقب أو يثبه التارك فواجب مكروه قد يشارك ]

    هنا بدأ المصنف رحمه الله بذكر الأحكام التكليفية، وهي على خمسة أنواع: الواجب والمندوب والمكروه والمحرم والمباح، والمباح هو الأصل، والدليل على ذلك قول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29].

    فالله سبحانه وتعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً، وجعله ملكاً لنا من جهة التصرف والاختيار والانتقاء، وهذا دليل على الملكية وحرية الفعل من لباس وشراب، وكذلك أيضاً الضرب في الأرض، فالله سبحانه وتعالى جعل الأصل في هذه المخلوقات أنها لنا، فكل مطعوم الأصل فيه الإباحة، وكل أرض الأصل فيها إباحة السكنى، وكل مشروب الأصل فيه إباحة الشرب، وهذا هو الأصل، كذلك أيضاً في أفعال الناس؛ لأن أفعال الناس متعدية إنما هي أخذ وعطاء، أو انتقال وتحول، أو مكث وحركة، فهذا تصرف في تلك المخلوقات التي خلق الله عز وجل فيها الإنسان ليختار، وهذا دليل على أن الأصل في الأحكام الإباحة.

    وهناك من يتحفظ على ذكر الإباحة في الأحكام التكليفية؛ باعتبار عدم وجود كلفة فيها، وإنما يذكرون ذلك على سبيل التفصيل والبيان، وذلك أن الإباحة لا يظهر فيها التكلف، والله جل وعلا أمر بجملة من الأحكام، وجعل تلك الكلفة على قدرها، وإنما سميت تكليفية لإثبات الشارع الكلفة فيها، قال الله جل وعلا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فأثبت الكلفة، ولكنها على قدر الوسع والطاقة، فهذه التكليفات هي تلك الأوامر الشرعية.

    فالإباحة هل هي من أحكام التكليف أم لا؟ نقول: إن تناول المباح الأصل فيه أنه لا كلفة فيه، ولكن قد يقع فيه كلفة، وذلك بإظهار نعمة الله عز وجل على الإنسان، وكذلك بضربه في الأرض وسعيه فيها في الأمور المباحة، بالتنقل والذهاب والمجيء، فهذه أمور مباحة، ولكن لا مشقة على الإنسان فيها، وإنما هي رغبة، وهذه الرغبة يقع للإنسان فيها مشقة بالتبع، فالذي يسافر وسفره مباح، وهو راغب سياحة أو ضرب في الأرض ونحو ذلك، فهذا وإن كان مباحاً إلا أنه يجد فيه مشقة وكلفة تتضمن ذلك المباح، كذلك أيضاً بالنسبة لإباحة الأكل يجد الإنسان كلفة بتناول الطعام والشراب وطبخه، وكذلك وضعه ربما يجد الإنسان فيه مشقة.

    ولهذا نقول: إن المباح في ذاته من جهة الأصل لا كلفة فيه؛ باعتبار أن النفس ترغب فيه، وأما بالنسبة لعمله فإنه يرد في ذلك كلفة ولكنها محبوبة لدى الإنسان، كما في حال العبادة أيضاً فالإنسان يكلف بالأمر الواجب، ولكن الواجب قد يصبح لدى بعض الناس الصالحين محبباً على كثير من ملذات أهل الشهوات، فيجد متعة في العبادة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة: ( وجعلت قرت عيني في الصلاة )، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الله قرة عينه في الصلاة، أي كما تقر عين الإنسان بالمال وبالزوجة وبالولد جعل الله عز وجل قرة عين النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، وهذا مقام على أن الإنسان أن يتشوف إليه، والأصل في ذلك أنها كلفة، ويخرج من ذلك الحال النادرة.

    الواجب وما يتعلق به

    وذكر هنا أول هذه الأقسام فقال: ( وإن يعاقب أو يثبه التارك فواجب مكروه قد يشارك ) الوجوب في لغة العرب: هو السقوط؛ ولهذا قال الله عز وجل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] أي: سقطت، وإنما سمي الواجب واجباً؛ لأن الله أنزل وأسقط حكمه في الأرض، فأنزله من السماء إلى الأرض فسمي واجباً؛ ولهذا نقول: إن اللفظ في لغة العرب جاء موافقاً لبعض الاستعمالات الشرعية، كما جاء في الصحيح في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )، أي: مشروع أنزله الله عز وجل علينا.

    فالوجوب هو السقوط والنزول من علو، وهذا فيه إشارة إلى تشريف ذلك المأمور به؛ لهذا كان المأمور الواجب أفضل وأعظم عند الله من غيره باعتبار كونه منسوباً إلى العلو، وذلك أن الإنسان إذا أُمر من شريف امتثل ذلك الأمر وعينه قريرة؛ لهذا كان فعل الواجبات أعظم من فعل المستحبات على الإنسان وأعظم أجراً، فكل واجب أعظم من المستحب من جنسه ومن غير جنسه إلا بقرينة.

    فالصلاة المفروضة أفضل من جميع السنن من جنسها؛ لهذا نقول: ما أوجبه الله من الصلوات الخمس أعظم من السنن الرواتب، وما كان متأكداً أعظم مما كان مطلقاً، فالسنن التي شرعها الله عز وجل تحديداً كالسنن الرواتب: وهي سنة الفجر، وسنة الظهر، وسنة المغرب، وسنة العشاء، كذلك صلاة الوتر أفضل من المطلقة، فكل ما قيِّد العمل به بنوع من أنواع التقييد في ذاته أو في وصفه بزمن معين فإنه آكد من غيره؛ لأن الكلفة زادت إما من جهة الوصف، وإما من جهة الزمن، أو من جهة العدد، فنقول: إن هذا دليل على مقدار إيمانه؛ لأن الإنسان بطبعه يريد الاختيار، فإذا جاء ذلك على خلاف طبعه دل على أن امتثاله أمارة على قوة إيمانه، وهذا كما أنه في المأمورات كذلك أيضاً في المنهيات.

    فالله ينهى عن أشياء، فإذا كانت هذه المنهيات موسعة دل ذلك على تعظيمها عند الإنسان وتعظيمها عند الله، فالإنسان حينما يُنهى عن شيء على سبيل الدوام فإن هذا أعظم عليه من جهة الحرج؛ لهذا تجد إطلاق البصر محرم في كل حين ولا يرخص في حين دون حين، هذا هو الأصل فيه، بخلاف ما يتعلق بالحاجات والضرورات فهذا أمر آخر، كذلك ما يتعلق بحال الإنسان بالسرقة والزنا وشرب الخمر، فكلما تلبس الإنسان به وكان قريباً منه فإن الأجر في ذلك أعظم عند الله والثواب فيه أعظم؛ لأن الإنسان يتلبس به، وهذا ينافي اختياره، بخلاف المنهي على سبيل التعيين، كالنهي عن الصلاة مثلاً عند طلوع الشمس وعند غروبها، وهذا يخالف مسألة النهي فيما هو أوسع من ذلك؛ لهذا نقول: إن النهي من صلاة العصر إلى صلاة المغرب أطول من النهي عند طلوع الشمس، فمن أقبلت نفسه على الصلاة، وكان من أهل الصلاة، فإن امتثاله للنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس آكد وأعظم في نفسه وأعظم أجراً عند الله.

    وكذلك ما تقدم الإشارة إليه من أن تعظيم الأعمال يرجع فيه إلى أمرين: يرجع فيه إلى تقدير الشارع لذلك الفعل، وإلى تعظيم ذلك في نفس الإنسان، والشارع يعظم منهيات من وجه: كتعظيمه النهي عند طلوع الشمس وعند غروبها فهو أعظم من النهي بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، ولكنها لما كانت موسعة فتكون عند المتعبد المقبل أشد حرجاً، وامتثاله أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى، وهذا له صور متنوعة.

    وأما الواجب من جهة الاصطلاح: فهو ما يثاب الإنسان على فعله، ويعاقب على تركه، وأما بالنسبة للمكروه: فهو ما يثاب الإنسان على تركه امتثالاً، ولا يعاقب على فعله، ويقابله في ذلك المندوب وهو المستحب، ويأتي الكلام عليه، والواجب أمر الله سبحانه وتعالى به لمصلحة العبد بذاته؛ لهذا جعله الله عز وجل على قدر المستطاع، فقال سبحانه وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).

    هذا هو الأصل في الأحكام الشرعية، إثابة الفاعل وإثم التارك في الواجب، لكن قد تأتي صورة استثنائية إذا فعل الإنسان فيها الواجب أثم، وإذا تركه أجر، وهذا يكون حال ورود مفسدة على الإنسان أو وجود هلكة فيه، كإنسان مثلاً أوجب الله عليه القيام في الصلاة وقد نصحه الأطباء وبينوا له أنك إذا قمت في الصلاة ستصاب بالأذى أو بالموت أو نحو ذلك، أو من عمل عملية في عينه أو نحو ذلك، وقال له الطبيب: إن سجدت ستسقط عينك فنقول في مثل هذا: إن فعلك للواجب هنا إثم، وتركك له احتساباً أجر، وهذا له صور متنوعة؛ وإنما عطلنا هذا الدليل في هذا الموضع لدليل أولى وأعظم من ذلك، ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

    المحرم وما يتعلق به

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وإن بذاك فاعل يخصصا فالندب والتحريم فيه نصصا ]

    التحريم مأخوذ من الحرمة، وهي الحياطة أو وضع السياج؛ ولهذا يسمى حريم البئر حريماً وهو حده، وكذلك أيضاً تسمى المرأة حرمة، والصلة بين الرجل والرجل أيضاً حرمة لوجود حد فاصل بينهما؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( لا يحل لامرأة تسافر إلا مع ذي حرمة أو مع حرمة )، أي: لوجود حد بينهما يمنع من الوقوع في الحرام.

    وفي الاصطلاح: المراد به ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه امتثالاً، فهو عكس الواجب يثاب فاعله ويعاقب تاركه، أما بالنسبة للحرام فإذا ترك الإنسان الحرام فإنه يثاب إذا كان ذلك على سبيل الامتثال، وإذا فعل الحرام فإنه يعاقب، وأما بالنسبة للمكروه فلا يعاقب فاعله، ولكن إذا تركه امتثالاً فإنه يثاب على هذا الامتثال، وذلك ككثير من المكروهات، مثل ترك الإنسان للنبيذ الذي مضى عليه يومان أو نحو ذلك، أو الأكل متكئاً، أو المشي بنعل واحدة، أو بخف واحدة، فهذا من المكروهات، وأما المحرمات فهي كثيرة كشرب الخمر, والزنا, والسرقة, والربا, وعقوق الوالدين, والسحر, وقتل النفس، وغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى.

    وإنما قدم ذكر الواجب؛ لأن الواجب أشرف أنواع التكليف، إذ به يظهر الامتثال، بخلاف التحريم؛ لأنه ترك، والوجوب فعل وعمل، والعمل يظهر أكثر من التروك، والتروك في الغالب أنها تكون أظهر في اعتراضها من الأفعال، والأفعال ترد على الإنسان أكثر من التروك؛ لأن الإنسان لا بد أن يفعل امتثالاً، وأما الترك فقد يترك بلا امتثال، ولهذا ربما الإنسان تعاف نفسه السرقة، وتعاف نفسه الربا، وتعاف نفسه قتل النفس، وتعاف نفسه السحر ونحو ذلك، ولكن ليس في ذلك أنه امتثال لله عز وجل ولا يأثم بذلك.

    ومن وجه آخر: أن الواجب لا بد أن تتحقق فيه النية، وإذا تحققت فيه النية لا بد أن يتحقق في النية السلامة, وإلا لا يسمى امتثالاً؛ ولهذا نقول: إن ما يؤمر به الإنسان ويفعله امتثالاً فهو العمل الواجب.

    وأما من جهة حقيقة الأمر الواجب المنفصل عن الفعل فنقول: إن الواجب: ما يثاب فاعله امتثالاً ويعاقب تاركه، فالإنسان إذا فعل الواجب من غير امتثال فقد وقع في محرم، وأما إذا فعل الواجب امتثالاً فإنه يثاب على ذلك، أما المحرم إذا تركه من غير امتثال لا يعاقب على ذلك، فترك الإنسان السرقة احتراماً لأبيه، وترك السحر لطلب حب الناس له، فهو ترك هذا العمل خشية أن يقع الناس في عرضه، هل هذا أمر من الأمور المقصودة؟ نعم هذا من الأمور المقصودة؛ لأن ترك المحرم لغير الله مقصود في ذاته وهو من مقاصد الشريعة، وترك المحرم لله مقصود أيضاً وهي مرتبة الصالحين، والدليل على ذلك حديث النعمان بن بشير في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات ) أو ( أمور مشبهات ) ( لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ).

    ولهذا يصح أن تأمر أحداً بفعل معين فتقول: يا فلان صل فإن الله قد فرض عليك الصلاة، ويصح أن تقول: يا فلان اترك الربا وظلم الناس فإنك ابن فلان، ومن الأسرة الفلانية، ومن البلدة الفلانية، لا ينسب الباطل إليكم، وأنتم من قبيلة كذا، هذا صحيح أو ليس بصحيح؟ صحيح لا حرج في هذا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، لهذا لا حرج على الإنسان أن تأمره بالإقلاع عن المحظور من غير امتثال؛ لأنك تعلم أنه يقلع عن ذلك أكثر مما لو امتثل للدين؛ لهذا يقول عمر وعثمان: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ويزع: يعني يردع، والردع يكون في ترك المحظور لا في فعل الواجب في الغالب؛ ولهذا نقول: إن فعل الواجبات أعظم وأشرف من ترك المحظورات، وإن كان يلزم لفعل الواجب ترك المحظور، فحينما يأتي الإنسان بالتوحيد يلزم من ذلك ترك الشرك، لكن ليس على كل حال، فالإنسان قد يدع الزنا ولا يتزوج، وقد يدع الربا ولا يبيع وهكذا، وقد يدع السرقة ولا يتكسب وهكذا.

    ولهذا نقول: إن فعل الواجب أشرف من ترك المحظور؛ لأن الواجب لا يمكن أن يصح إلا بامتثال، وأما المحظور فيصح بلا امتثال، والمرتبة العلية للمحظور أن يدع الإنسان المحظور عنه امتثالاً لله عز وجل، ولكن لا يجوز للإنسان أن تأمره بالصلاة فتقول: يا فلان صل لأنك ابن فلان هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنك تحثه على أن يعمل العمل لغير الله، وهذا العمل هو واجب، أما ترك المحظور فتقول: يا فلان دع هذا اللباس فأبوك فلان، وأخوك فلان، وأنتم من أسرة كذا، فهذا اللباس لباس محرم، لبس الحرير، أو لبس الشهرة، أو التشبه، ونحو ذلك، فهذا أمر جائز؛ لأن المقصود الإقلاع، وأما بالنسبة لورود النية فيكسب بها الإنسان أجراً ولا يرفع بها إثماً، وإنما الإثم يكون بالتروك.

    ولهذا نقول: إن الواجب إنما يقدمه العلماء لشرفه وعلو منزلته؛ لهذا أكد الله عز وجل الأوامر في الشريعة، وجاءت المأمورات في الشريعة أكثر من المنهيات؛ ولأن المنهيات أيضاً تنافي أصل الاختيار في الإنسان بخلاف الأمر بالفعل، وذلك من وجه: وهو أن الإنسان إذا أمره الله عز وجل أن يفعل شيئاً بعينه، والإنسان يحب أن يختار، نقول: افعل، ثم اختر ما تشاء.

    إذاً: الوجوب في ذاته لا ينافي حق الإنسان في اختياره في غير ذلك الواجب، ولا يعطل له غيره، أما بالنسبة للنهي فإنه يعطل أمراً للإنسان على سبيل الدوام، فينهى عن السرقة وينهى عن الزنا، وينهى عن شرب الخمر، ينهى عن الربا على سبيل الدوام، فليس للإنسان اختيار في هذا الأمر.

    ولهذا نقول: إن الشريعة في أمور المحظورات تلغي، وأما في أمر الواجبات فإنها لا تلغي؛ ولهذا نقول: إن المحظور إنما كان أقل وروداً في الشريعة من الواجب لأنه إلغاء، وهذا فيه كلفة على الإنسان، والله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بأمر الواجبات؛ لأنه ليس فيها إلغاء لغيرها، وإنما هو عمل داخل بين أعمال أخرى فيزاحم ولا يلغي، وأما المحظور فإنه يلغي ويزاحم أيضاً.

    المكروه والمستحب وما يتعلق بهما

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [ وإن يكن عقاب كل منتفي فهو المباح يا أخي فاعرف ]

    إذا انتفى العقاب عن أحد فهذا الأصل فيه الإباحة، وهنا أراد بذلك ما يخرج عن الأنواع السابقة، ومعلوم أن العقاب ينتفي أيضاً عن المكروه، ولكنه أراد ما يخرج عن المكروه، ولكن نقول: هل العقاب ينتفي عن المكروه على الإطلاق أم لا؟ نقول: إن المكروه لا ينتفي عنه العقاب على الدوام، وإنما المراد بذلك الأفعال العارضة لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يداوم الإنسان على مكروه إلا وجر إليه محرم، كذلك إذا داوم الإنسان على سنة فالسنة تضبط الواجب وتجلبه وتؤكده؛ ولهذا تجد الفرائض عند الإنسان الذي يحرص على السنن الرواتب أضبط من الذي يفرطها، ولا يمكن أن تجد إنساناً يضبط الفرائض ضبطاً أكثر من شخص يؤدي السنن الرواتب؛ لأن الرواتب أمر زائد عن الفرائض، فإذا وقع في نفس الإنسان امتثالها فلا يتحقق ذلك إلا بضبط ما هو أولى منها، فإذا فرط الإنسان في ذلك لا يمكن أن يضبط الفرائض أكثر من غيره.

    ولهذا نقول: إن المستحبات متممات للواجبات، وإن المكروهات محصلات للمحرمات، فكثير من المكروهات التي يفعلها الإنسان يتجرأ بها شيئاً فشيئاً على الحرام، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وبينهما أمور مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه )، ولهذا جاء في خبر عمر: فمن وقع في الشبهات فلا يلومن إلا نفسه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755947116