إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب البيع [8]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دلت أصول الشريعة الإسلامية على أن معلومية الثمن عند البيع من شروط صحته، فإن كان مجهولاً -سواء كانت جهالة كلية أو جزئية- كالبيع بالرقم والتشريك في الثمن أو البيع بما ينقطع به السعر لم يصح؛ لأن هذه البيوع تفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً. ومن البيوع التي تحتمل الصحة وعدم الصحة: البيع المعلوم والمجهول على تفصيل فيه، أما بيع الحلال والحرام، وبيع ما يملك وما لا يملك، وبيع المشاع، فإن البيع يصح في جزء منه ولا يصح في الجزء الآخر.

    1.   

    من شروط صحة البيع: أن يكون الثمن معلوماً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن يكون الثمن معلوماً].

    شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشرط الأخير من شروط البيع، وهو (أن يكون الثمن معلوماً)، وهذا الشرط دلت عليه أصول الشريعة الإسلامية، وذلك أن جهالة الثمن تُفضي إلى الغرر، وقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، فإذا كان الثمن مجهولاً فإمّا أن يكون مجهولاً عند البائع، وإمّا أن يكون مجهولاً عند المشتري، أو يكون مجهولاً عندهما، وفي جميع هذه الأحوال الثلاث لا يجوز البيع، ولا يصح؛ لأنه غرر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: (وأن يكون الثمن معلوماً)، فيقول له: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فيبين جنس الثمن، ويبين نوعه، ويبين قدره، ولا يجعله مجهولاً في أي حالةٍ من هذه الأحوال، فلا يجعله مجهولاً جهالة كليّة كأن يقول له: أشتري منك البيت، يقول له: بكم تشتريه؟ يقول: سأرضيك.. بما يرضيك.. نتفق.. لا يضرك.. سأعطيك ما تحب، ونحو ذلك من الألفاظ التي لا يبين فيها حقيقة الثمن، فإذا صار البيع بثمن مجهول فإنه لا يصح، وهكذا لو حدد له جنس الثمن ولكنه لم يحدد له القدر أو لم يحدد له النوع كقوله: أشتري منك هذه الدار بمالٍ، ولم يبين ما هو المال.. أشتري منك هذه الدار بذهب، ولم يحدد قدر هذا الذهب.. أشتري منك هذه الدار بفضة، ولم يحدد قدر هذه الفضة.. أشتري منك هذه الأرض بمئات الألوف، ولا يحدد أهي ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف، فقوله: (بمئات) وإن كان قد حدد النوع لكنه لا تبرأ به الذمة، ولا تزول به الجهالة، إذاً لابد وأن يكون الثمن معلوماً، ونحن قد ذكرنا أنه يُشترط أن يكون المثمن معلوماً، فكما أن الشيء الذي يباع ينبغي أن يكون معلوماً عند الطرفين؛ كذلك ينبغي أن يكون الشيء الذي يُدفع لقاء السلعة أو لقاء الصفقة معلوماً عند المتعاقدين، وحينئذٍ يكون كلا المتعاقدين على بينة من أمره، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده.

    وقوله رحمه الله: (أن يكون الثمن معلوماً) هذا -كما ذكرنا- مبنيٌّ على نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وبإجماع العلماء على أن هذا الشرط يشترط لصحة البيع، فلا يصحُّ البيع بالثمن المجهول.

    حكم البيع بالرقم

    [فإن باعه برقْمه، أو بألف درهمٍ ذهباً وفضَّةً، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما: لم يصحّ].

    قوله: (فإن باعه) أي: باع الشيء المعروض (برقمه)، بيع الرقم موجودٌ إلى الآن في زماننا، ويختلف من عصر إلى آخر، وأشبه ما يكون به في زماننا التسعيرة التي تكتب على الكتب، أو تكتب على الأقلام، أو على الساعات، فهذه التسعيرة رقم معين يذكر فيه المبلغ الذي يريده البائع في السلعة، فإذا كان الرقم معلوماً عند البائع غير معلوم عند المشتري لم يصحّ البيع، كأن يقول له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فيقول: برقمه الذي عليه، والمشتري لا يدري كم هو؟ فيقول المشتري: رضيت، فإنه قد رضي بمجهول؛ لأنه قد يظن أنه ثمن معقول فإذا به يطلب ثمناً غير معقول، وقد يظنه بعشرة فإذا به بعشرين، وهكذا.

    فالمقصود: أنه إذا قال له: أبيعه برقمه، وكان الرقم مجهولاً عند المشتري، أو كان مجهولاً عند البائع، وهذا يقع في حالة ما إذا سعّروا الكتب، ثم مضت مدة من الزمان ونسي كم وضع على كتابه؟ فقال له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ قال له: برقمه، أي: التسعيرة التي عليه، فلربما أنه يرضى أن يعطيك الكتاب بتسعيرته، وإذا بها تسعيرة قد وضعها في زمان الكساد؛ لأن البيع يقع في حال الكساد والرخص وحال الزيادة، فلربما كان الثمن مكتوباً في حال الكساد، فيرضى به في حال الكساد، أما في حال الغلاء وحال الزيادة فلا يرضى البائع بهذا السعر، ومن هنا: لابد وأن يكون الرقم معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإذا أخذت الكتاب، وقرأت تسعيرته وعلمت التسعيرة التي عليه، وجئت وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة التي هي مكتوبة عليه، صحَّ البيع إذا علماه، ولم يصحّ إذا جهلاه أو جهله واحدٌ منهما.

    إذاً القاعدة: أن يكون الثمن معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإن جَهل البائع بطل البيع، وإن جهل المشتري بطل البيع؛ لأن جهل البائع يفوت حقه في بذل السلعة بما يرضاه، وجهل المشتري كأنه أُخذ على غرة، ويكون من بيع المجهول؛ لأنه يُفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً.

    حكم التشريك في الثمن

    [أو بألف درهم ذهباً وفضَّة].

    والذهب يخالف الفضة، فهو أغلى وأنفس منها، ولا يمكن في زمان أن تستوي قيمة الذهب والفضة، بل إن قيمة الذهب دائماً أغلى من الفضة، وعلى هذا فإنه إذا أعطاه رقماً، وجعله متردداً بين الذهب والفضة، أو جعله جامعاً بين الذهب والفضة بدون تحديد النسبة لم يصحّ، كأن يقول له: بمائة من الدراهم والدنانير، فهذه مائة مشتركة فيها دراهم وفيها دنانير، أو يقول له: بمائة درهم أو دينار، فإن قيمة المائة درهم ليست كقيمة المائة دينار، هذا مثال ما كان في القديم، ونمثل بالموجود الآن، مثلاً: عندنا الريالات وعندنا الدولارات، فلو أن الدولار أصله ذهب، والريال أصله فضة، فيأتي ويقول له: أبيعك هذه السيارة أو أبيعك هذه الأرض بمائة ألف ريال ودولار، فإن المائة ألف ريال لا تساوي مائة ألف دولار، فلربما أن المشتري اشترى ونيته مائة ألف ريال؛ لأنها أرخص، فيقول له البائع: لا، بل قلت لك: أو دولار، أي: ألزمك إمّا بمائة ألف ريال، أو ألزمك بمائة ألف دولار، وهذا هو الذي جعل بعض العلماء يجعله في حكم بيعتين في بيعة، فهو يجعل له ثمنين مختلفين ليسا متكافئين، إمّا أن يدخلهما مع بعضهما بالتشريك ولا يحدد نسبة كل واحد منهما، وإمّا أن يجعلهما على المقابلة فيدمجهما مع بعضهما، كأن يقول: (بمائة دراهم ودنانير) -كما ذكرنا في القديم- وفي العصر الحديث يقول: (بمائة ألف ريالات ودولارات)، فقد يصدق على (99%) منها أن تكون ريالات، و(1%) تكون دولارات والعكس، ويصدق أن تكون مستوية، ويصدق أن تكون متباينة، إذاً: كأنه ردده بين أسعار متعددة مختلفة، فإن جاء المشتري يعطي القليل قال له البائع: لا بل نويت الكثير، فيصبح البيع متردداً بين القليل والكثير، وإذا شئت أن تحصرها أيضاً بصورة المقابلة أن تقول: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف ريال أو بعشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال لا تساوي العشرة آلاف دولار، أمّا لو ساوتها وردده بين قيمتين متساويتين كأن تكون المائة ألف ريال تعادل عشرة آلاف دولار صحَّ البيع؛ لأنه خيره بين مائة ألف ريال، وبين صرفها عشرة آلاف دولار، وهكذا لو قال له: بمائة دينار أو ألف درهم، أي: إن شئت أن تدفعها دنانير، وإن شئت أن تدفعها دراهم.

    الخلاصة: أن العلماء رحمهم الله لما قالوا: يشترط في البيع أن يكون الثمن معلوماً، يُفهم من هذا أنه لا يصحّ البيع بالمجهول، وإذا كان لا يصحّ بالمجهول فمعناه أنهم سيذكرون لك أمثلة، فإمّا أن تكون الجهالة كليّة أو جزئية، والكليّة مثلما قال: (برقمه)، فلا ندري كم الرقم؟ فأنت تجهل قدر هذا الثمن؟ أو جزئية مثلما يقول لك: بمائة ألف ريال أو عشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال والدولارات ليستا بمتكافئتين، فحينئذٍ رددك، وصحيح أنه ذكر لك الثمن؛ لكنه جعلك على جهالة هل هو الثمن الغالي أو الثمن الرخيص؟ أو يُدخل سعراً من الثمن الغالي مع السعر الرخيص ويجعلهما معاً، ولا يحدد تمييز الغالي من الرخيص، فلو حدد الغالي والرخيص كأن يقول له: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف دولار وألف ريال، معنى ذلك: أن قيمتها جامعة بين الأمرين، كما لو قال له: أبيعك بثلاثة دراهم ودينارين، فحينئذٍ يكون الثمن معلوماً، صارت خمسة، والخمسة منقسمة ما بين الدنانير والدراهم، وهكذا لو قال له: عشرة آلاف ريال وألف دولار، أو عشرة آلاف ريال وألف جنيه.

    إذاً التشريك في الثمن إمّا أن يفضي إلى الجهالة، وإمّا ألاَّ يفضي إلى الجهالة، فإن أفضى إلى الجهالة حرُم البيع، فإن لم يُفض إلى الجهالة بأن ردده بين ثمنين على سبيل التخيير أو دمج الثمنين مع بعضهما بصورة واضحة دون أن يكون هناك فرق في السعر صح البيع، كأن يقول له: بعشرة آلاف دولار أو بمائة ألف ريال، ويكون صرف العشرة آلاف دولار هو مائة ألف ريال، فحينئذٍ ردده بين ثمنين معلومين كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة آلاف دولار أو قال له: أبيعك إياها بمائة ألف ريال.

    أو أن يدخل القيمتين أو العُمْلَتين مع بعضهما، ويميز لكل عملة حظها، فيقول: أبيعها بعشرة آلاف ريال وألف دولار، ففهمنا أن الثمن يشتمل على نوعين من النقد: الذهب وهي الدولارات، والفضة وهي الريالات، فإذا جاء يشتري يدفع حظ الذهب الذي ذكره من الدولارات، وحظ الفضة الذي ذكره من الريالات فصح البيع.

    إذاً: القاعدة كلها تدور حول شيء معلوم، أي: أن يشتري الإنسان بشيء معلوم، فإن أدخل عليه الجهالة على وجه لا يستطيع الإنسان أن يميز فيه قيمة الصفقة بطل البيع، سواءً كانت جهالة كليّة أو جهالة جزئية.

    حكم البيع بالمزاد العلني

    قال رحمه الله: [أو بما ينقطع به السعر].

    وهذا أكثر ما يقع فيما يسمى في زماننا (ببيع الحراج) وهو بيع المزادات، حيث يأتي الرجل بسيارة يريد أن يعرضها للبيع، أو -مثلاً- قطعة أرض مخططة، فيقول له: أبيعك قطعة الأرض بالمبلغ الذي يصل إليه السوم، الذي هو بما ينقطع به السعر، ففي القديم كانوا يقولون: (بما ينقطع به السعر)، وفي الحديث، يقولون: (قيمة السوم)، أي: القيمة التي وصل إليها السوم؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: بالقيمة التي يصل إليها السوم ربما كان الحاضرون في السوم أناسٌ من الأغنياء، والأغنياء دائماً يتنافسون، وموجب تنافسهم ربما يجعلهم يدفعون في الصفقة أكثر من قيمتها على سبيل التنافس، وحينئذٍ تظن أن هذه السيارة لو أنها عرضت للبيع لا يمكن أن تجاوز عشرة آلاف ريال، فيتنافس فيها تاجران ربما يوصلانها إلى ثلاثين ألفاً؛ لأنك أنت تريدها كسيارة، وهما وقع بينهما السوم على سبيل التنافس والغيرة، والعكس: ربما أن البائع ظن أن سيارته تصل بالسوم إلى عشرة آلاف ريال؛ لأنه يعلم أن هذا الحراج أو هذا المزاد الذي يقام الآن من عادته أنه يصل في السيارة التي مثل هذه السيارة إلى عشرة آلاف ريال، ففوجئ في ذلك اليوم أنه ليس فيه إلا أناس لا يعرفون قيمة السلع ولا يعرفون السوم أو أناس فقراء، فساموا سوماً ضعيفاً، ووقف السوم ولم يزد أحد، فإذا بها قد سيمت بثمانية آلاف ريال. إذاً: معنى ذلك: أنه إذا قال له: (بما ينقطع به السعر) صارت الجهالة على الاثنين: فالبائع لا يدري كم ينقطع به السعر! والمشتري لا يدري كم ينقطع به السعر! وخذها قاعدة: إذا صارت الجهالة في طرفي العقد البائع والمشتري فمعناه أن البائع يخاطر بنفسه والمشتري يخاطر بنفسه؛ لأن البائع يقول: بما ينقطع به السعر.. بما يقف به السوق.. بما يقف به الحراج.. بما يقف به المزاد، ويظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف دونه، والمشتري يقول: بما ينقطع به السعر.. بما يقف به السوم، يظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف عند أعلى منه، وهذا كله من رحمة الله عز وجل، فلا يريدك أن تدفع المال في شيء إلا وأنت تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، والبيع على هذا الوجه بثمنٍ مجهول فيه خطر على البائع وفيه خطر على المشتري، وتوجب الشحناء والبغضاء؛ فالبائع يقول: لم أكن أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الرخص، وعلى الجانب الآخر يتظلم المشتري ويقول: ما كنت أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الغلاء والسعر الزائد، ومعنى هذا أنه سيفضي البيع إلى قطع أواصر الأخوة وحدوث النزاعات، وهذا غالباً ما يقع في بيوع الجهالات، ولذلك المجتمعات التي تنتشر فيها البيوع بالأثمان المجهولة غالباً ما يكون بينها الحقد وبينها الكراهية والبغضاء؛ لأنهم يرون أن هذا البيع قد أفسد ما بينهم، كلٌ يحرص على مصلحته، وكلٌ يظن أنه هو الفائز، فإذا به الخاسر، أو العكس فيظن أنه سيخسر وإذا به يربح، فيأتيه ما يخالف ظنه، وأيًّا ما كان لابد من الضرر على المتعاقدين، إمّا البائع وإمّا المشتري، وإمّا هما معاً.

    حكم تقييد قيمة السلعة بمثيلتها مع الجهالة

    قال رحمه الله: [أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما].

    مثال ذلك: جئت إلى رجل وقلت له: بكم تبيعني سيارتك هذه؟ قال: سيارتي وسيارة فلان صفتها واحدة، وفلان باع سيارته، فالذي باع به سيارته أبيعك به سيارتي، فإذا كنت تعلم أنت القيمة وكان هو أيضاً يعلم صحَّ البيع، فمثلاً: لو كنتما معاً وذهبتما ورأيتما فلاناً باع سيارته بألف، أو كنتما معاً، وأخبركم فلان أنه باع سيارته بألف، فحينما يقول لك: أبيعك سيارتي هذه بمثل ما باع به زيد، كأنه قال: أبيعها بألف، وهذا -كما قلنا- إذا علم الاثنان القيمة، فهذه هي الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: أن يجهلا معاً، يقول له: زيدٌ باع سيارته بالأمس وهي مثل سيارتي، والقيمة التي باع بها أبيعك بها سيارتي، ولا يعلم البائع بكم بيعت، ولا يعلم المشتري أيضاً بكم باع زيد سيارته، فحينئذٍ جهل البائع وجهل المشتري، والجهالة مستحكمة، فيبطل البيع.

    الحالة الثالثة: إذا جهل أحدهما، قال له: سيارتي هذه كسيارة زيد، وأبيعك سيارتي بمثل ما باع به زيدٌ سيارته، ويكون البائع يعلم أن زيداً قد باع سيارته بعشرة آلاف، والمشتري لا يعلم فلا يصح البيع والسبب في هذا: أنك قد تظن أن زيداً يبيع برخيص فإذا به عكس ذلك، فأنت إمّا مشترٍ وإمّا بائع، فتقول: أبيع بمثل ما باع فلان، أو تقول: أشتري بما باع به فلان أي: بنفس القيمة التي باع بها، فإن كنت بائعاً لعلك تظن أن القيمة تصل إلى حد، وإذا بها دون الحد الذي ظننته، وإن كنت مشترياً العكس، وذلك بأن تظن أن زيداً سيبيع سيارته بعشرة آلاف، وإذا به قد باعها بخمسة عشر، فهذه كلها أمثلة تنصب في غاية واحدة وهي الجهالة المفضية إلى النزاع وإلى الضرر، إمّا بالبائع وإمّا بالمشتري وإمّا بهما معاً، فهذا بالنسبة لمسألة (بما باع به زيد)، فاحتاط المصنف وقال: (بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيد وجهلاه أو أحدهما).

    فجعل صورتين: انقطاع السعر، وبما باع به زيد، واشترط أن يكون ذلك مجهولاً عند الطرفين، أو عند واحد منهما، ومفهوم ذلك: أنه لو كان معلوماً عند الطرفين وعلم الطرفان أنه ينقطع السوم عند حدٍ معين، أو أن فلاناً باع سيارته بكذا وكذا، صحَّ البيع وجاز.

    قال: [لم يصحّ].

    أي: لم يصح البيع بهذه الصورة.

    1.   

    حكم بيع ما لا جهالة فيه ولا غرر

    قال رحمه الله: [وإن باع ثوباً أو صُبرة أو قطيعاً كلَ ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم: صح].

    قوله: [وإن باع ثوباً].

    البيع وقع على الثوب بكامله (كل ذراع) ففي القديم كانوا يقولون: (ذراع)، فيأخذه ويُمتره بذراعه، أو (كلَّ متر) كما هو موجود في زماننا، فيقول له: كل متر بعشرة ريالات، أو باعه قطعة من القماش كل متر بعشرة، فالبيع وقع على القطعة بكاملها، ووقع على الثوب بكامله، وحينئذٍ أجزاء الثوب محددة، فالجهالة مرتفعة، فيصحّ البيع.

    قال: [أو صُبرة].

    وهي الكوم من الطعام، كما ترى الآن البعض يجعل الطعام جيده ورديئه مع بعضه ويخلطه في بعض، ويقول لك: هذه الصُبرة أبيعكها كلها كل صاع بمائة أو بعشرة، فمذهب طائفة من العلماء: أنه لو قال له: هذه الصُبرة من الطعام أبيعكها -أي: كلها- الكيلو بمائة أو الصاع بمائة صحَّ البيع، لماذا؟ لأنه وقع على الجيد والرديء معاً، ولكن ستأتي صورة ثانية يُمنع ويُحظر فيها البيع، وهي التي يحتمل أن يأخذ فيها الجيد، ويحتمل أن يأخذ فيها الرديء.

    المقصود أنه إذا قال له: صبرة الطعام كلها، وانصب البيع على صبرة الطعام بكاملها وحدد جزءاً أو ما ينضبط به قدر الصُبرة صحَّ البيع.

    قال: [أو قطيعاً].

    قطيعاً من الغنم أو من الإبل أو من البقر، قال له: كل واحدة بكذا، وهذا القطيع معلوم، فمثلاً: قال له: أشتري منك هذا القطيع من الغنم، فبكم تبيعه؟ قال: أبيعكه كاملاً على أن تدفع لي في كل واحدة مائة أو مائتين، فاستوى الجيد والرديء في البيع، ووقع البيع على الكل، فحينئذٍ لا جهالة ولا غرر.

    قال: [كل ذراع].

    وهذا راجع إلى الثوب.

    قال: [أو قفيز].

    في الصُبرة كل قفيز، والقفيز: نوع من أنواع المكاييل مثل الصاع، وهو أقل منه، وكان مشهوراً في المشرق.

    قال: [أو شاةٍ].

    أي: كل شاةٍ من القطيع، فجعل ثلاثة أشياء: (الثوب، والصبرة، والقطيع)، ففي الثوب كل ذراع، وفي الصبرة كل قفيز، وفي القطيع كل شاة بكذا.

    قال: [بدرهم صحّ].

    أي: أن يحدد له. فأولاً: أن يقع البيع على الكل لا على البعض، فيقول له: كل صُبرة الطعام، وكل قطيع الغنم، وكل الثوب، فوقع على الجيد والرديء معاً، فلا غرر ولا جهالة.

    ثانياً: أن يحدد قيمة كل جزء من أجزائه، وحينئذٍ لا جهالة في القدر ولا في الثمن، فأصبح قد باعه شيئاً معيناً منضبطاً بقدر الذي ذكره: الذراع والقفيز والشاة، فمثلاً حدد له بدرهم، فحينما قال له: (بدرهم). صحَّ البيع؛ لأنه ليس فيه جهالة لا في الثمن ولا في المثمن.

    قال رحمه الله: [وإن باع من الصُّبرة كل قفيز بدرهم أو بمائة درهم إلا ديناراً، وعكسه، أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه، ولم يقل كل منهما: بكذا، لم يصح].

    قوله: [وإن باع من الصبرة].

    كما ذكرنا أولاً، هناك باع الصُبرة بكاملها -التي هي كوم الطعام- أمّا هنا يقول له: أبيعك القفيز أو الصاع أو الكيلو من هذه الصُبرة بمائة، ففي هذه الحالة سيكون في الصُبرة الجيد والرديء وفيها المتوسط، فلا ندري هل يقع البيع على الجيد أو يقع على الرديء أو يقع على المتوسط منه؟ وحينئذٍ يكون من باب الغرر؛ لأنه قد يظن البائع أنه سيأخذ الرديء فيأخذ الجيد فيغرر بالبائع في حقه، وقد يظن المشتري أنه يُمكَّن من الجيد فيصرفه إلى الرديء، وعلى هذا فإنه إذا قال له: أبيعك من الصُبرة، (من) للتبعيض، فمعناه: أن البيع انصب على جزء الصُبرة، وبعض الصُبرة ليس كلها، فهناك وقع البيع على الصُبرة كلها فأخذ غثها وسمينها، وجيدها ورديئها، وحسنها وقبيحها، فصحَّ البيع؛ لأنه لا غرر على البائع ولا غرر على المشتري؛ لكن حينما يقول له: أبيعك من هذه الصُبرة، فـ(من) للتبعيض، فلا ندري هل سيؤخذ الجيد أو الرديء أو الوسط؟ فبعض الأشياء التي تباع أكواماً أو أشياء متباينة، بعضها أفضل من بعض، فعندما تأتي لكي تأخذ الجيد ويدخل يختار معك، حتى لا يمكنك من اختيار الجيد، فإن قلت له: اتركني، قال: لا يمكن أن أتركك تأخذ الجيد وتترك لي الرديء، فحينئذٍ كأنه يريد أن يضر بك، وأنت أيضاً تريد أن تضر به؛ لأن كلاً منكما لا يريد أن يكون الضرر في حظه؛ والسبب في هذا (مِنْ) وهي للتبعيض؛ لأنه لما صارت أجزاء الصُبرة مختلفة وليست بمتساوية احتمل أن ينصرف إلى الجيد فضرَّ بالبائع، أو ينصرف إلى الرديء فضرَّ بالمشتري، وحينئذٍ لا يصح البيع على وهذا الوجه، هذا على ما اختاره طائفة من العلماء: وهو أن وجه الفساد التبعيض في أجزاء الصُبرة المختلفة.

    قال: [وإن باع من الصُبرة كل قفيز بدرهم أو بمائة درهم إلا ديناراً].

    هذا إذا كان من الصُبرة صارت الجهالة في نفس المبيع؛ لأنه جيد ورديء، (بمائة درهم إلا ديناراً) كما ذكرنا سابقاً: أن يدخل عُمْلَتين مع بعض، ومعلوم أن قيمة الدينار صرفها بالدراهم تختلف، فأنت إذا قلت: (بمائة درهم إلا ديناراً)، لا ندري بكم يصرف الدينار، فإذا كان الدينار يصرف بعشرة فمعناه أنك بعت بتسعين، وإذا كان يصرف بخمسة فمعناه أنك بعت بخمسة وتسعين، فإذاً: ردده بين قيم مختلفة، فيحتمل أن تظن أن الدينار هذا يبلغ قيمةً رخيصة فإذا به بقيمة غالية، والعكس. وهذه كلها -كما ذكرنا- صور للتمثيل فقط، وغاية ما في الأمر أن المصنف يريد أن يقول لك: لا تبع ولا تشترِ إلا بثمن معلوم، ولا يجوز لك أن تبيع بالمجهول، سواءً كان مجهولاً جهالة كليّة أو كان مجهولاً جهالة جزئية، فهذا مراد المصنف رحمه الله.

    قال: [وعكسه].

    أي: (بمائة دينار إلا درهماً)؛ لأن صرف الدرهم مختلف.

    حكم بيع معلوم ومجهول بعقد واحد

    قال رحمه الله: [أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه].

    كأن يعطيك شيئاً معلوماً، ويعطيك شيئاً آخر مجهولاً، ويجعلهما في صفقة واحدة، أي: في بيعة واحدة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله مثالاً لهذا في مسائل تفريق الصفقة، كما ذكر صاحب المبدع وغيره أن يقول له: أبيعك هذه الناقة وما في بطن الناقة الثانية، فإن الناقة معلومة، ولكن الذي في بطن الناقة الثانية حمل مجهول فلا ندري أحيٌّ أو ميت؟ أكامل الخلقة أو ناقص؟ ثم هل يخرج حياً أو ميتاً؟ فهو مجهول، وقد وصفه المصنف رحمه الله بقوله: (يتعذر علمه) أي: لا نستطيع أن نكشف حقيقة أمره حال العقد؛ لأن هناك من المجهولات ما يمكن معرفة حقيقة أمره بعد العقد؛ لكن هذا النوع من المجهول لا يمكننا أن نكشف جليّة أمره ولا أن نكشف حقيقة أمره أثناء العقد.

    والآن دخل المصنف في مسألة الجهالة، ونحن قد قررنا أن الثمن لابد وأن يكون معلوماً، وحينئذٍ ربما كان مجهولاً في ذات الثمن، كما ذكرنا: أن الدراهم والدنانير قد تكون مجهولة الجنس أو النوع أو القدر، وفي بعض الأحيان تكون الجهالة في المبيع ثمناً كان أو مثمناً من جهة إدخال مجهول على معلوم، وقد تقدم معنا في الشروط: أن يكون المبيع معلوماً، سواءً كان ثمناً أو مثمناً، ففي هذه الحالة إذا كان المبيع معلوماً وأدخل البائع معه مجهولاً فإن جهالة المجهول تُدخل الجهل على المعلوم، لكن لما أدخلت الجهل على المعلوم هل أدخلته في المبيع أم في الثمن؟ أدخلته في الثمن؛ لأنك إذا قلت له: أبيعك هذه السيارة وما في بطن هذه الناقة انصبّ البيع عليه وانصبّ البيع على مجهولٍ آخر، حينئذٍ قد يقول قائل: ما الذي أدخل مسألة جهالة المعلوم مع المجهول في جهالة الثمن؟ قالوا: لأنه إذا قال له: أبيعك هذه السيارة وما في بطن هذه الناقة بمائة ألف أصبح الثمن مجهولاً؛ لأن السيارة معلومة، لكن لا ندري كم قدر المجهول من الثمن؛ لأنه لما صار مجهولاً ولم يَفْصِل له قيمة معينة أصبح الثمن مجهولاً، وعلى هذا قالوا: إذا جمع له بين معلوم ومجهول، إمّا أن يجمع بقيمة واحدة فلا يجوز، وإمّا أن يفرق ويقول: المعلوم له ألف، والمجهول بمائتين، فصحَّ في الألف وبطل في المائتين، وعلى هذا: جهالة الثمن تدخل في صورة تفريق الصفقة، فإنه إذا قال له: أبيعك سيارتي وثمرة بستاني السنة القادمة، وهذا مجهول يتعذر علمه، أو ما في بطن هذه الناقة، وهو أيضاً مجهول يتعذر علمه، فإنه في هذه الحالة يكون الثمن مجهولاً، ولو بيّنه وحدد قدره وجنسه، فلو قال: بعشرة آلاف، فلا ندري كم نصيب المجهول من العشرة آلاف؟ فإن فرّق بينهما وقال: السيارة بعشرة آلاف، وما في بطن الناقة أو ثمرة بستاني بخمسة آلاف بطل البيع في الخمسة وصحّ البيع في العشرة، وهذا ما يسمى (بتفريق الصفقة).

    قال: [أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه].

    (مجهولاً يتعذر علمه) لكن لو كان مجهولاً يمكن علمه، فلو قال: أبيعك سيارتي هذه وسيارتي الثانية، ويمكن أن توصف ويمكن أن ترى، فهذا أمره يسير؛ لأنه -كما ذكرنا في بيع الغائب- يصفه له، ثم بعد ذلك يتمكن من العلم به، ويكون له خيار الرؤية.

    قال: [ولم يقل كلٌ منهما بكذا لم يصحّ].

    (ولم يقل -لاحظ هذا الشرط- كل منهما بكذا)، أمّا لو قال: المعلوم بكذا والمجهول بكذا، بطل في المجهول وصحَّ في المعلوم؛ والسبب في هذا: أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلما كان المعلوم مستوفي الشروط حكمنا بصحة البيع؛ لأن شرط الصحة موجود، ولما كان المجهول اختصت به الجهالة وكان ثمنه معلوماً أي: محدداً ومقدراً وواضحاً من المتعاقدين بطل فيه البيع؛ لأن العلة للتحريم والبطلان وهي مختصة بذلك المجهول.

    قال: [فإن لم يتعذَّر: صحّ في المعلوم بِقسطه].

    كما ذكرنا، فلو كان هناك شيء له أربعة أجزاء، ثلاثة منها معلومة والرابع لا يمكن علمه أو مما يتعذر علمه، فإننا نقول في هذه الحالة: يُجَزّأ الثمن أربعة أجزاء، ويكون لكل جزءٍ منها ربعاً، ثم نحكم بصحة الثلاثة الأرباع وإلغاء الربع الذي فيه الجهالة.

    حكم بيع المشاع

    قال رحمه الله: [ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره، كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صح في نصيبه بقسطه].

    قوله: [ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره].

    المشاع: هو الشيء المشترك، ويكون هذا أحياناً بسبب الميراث، مثل: رجل يتوفى عن ابن وبنت، يكون المال بينهما مقسوماً على ثلاثة، الابن له سهمان والبنت لها سهمٌ واحد، فلو كان الذي تركه داراً فثلثا الدار للولد الذكر والثلث للأنثى، فلو أنه باع هذه الدار نصيبه ونصيب أخته، حينئذٍ يكون بيع نصيب الأخت من بيع الفضولي فإذا لم تأذن لأخيها يكون من بيع ما لا يملك، فالمصنف تدرج معك في الأسباب: تارة يدخل لك سبب الفساد من جهة مجهول ومعلوم، وتارة يدخل لك سبب الفساد من جهة ما يملك وما لا يملك، وهذه كلها يسمونها الصفقة المجتمعة، فيبيعه صفقة مجتمعة بين حلالٍ وحرام، مملوكٍ وغير مملوك، معلوم ومجهول في صفقة واحدة، فإن تجزّأت -مثلما ذكرنا- تصحح في المعلوم وتلغى في المجهول.. تصحح في الحلال وتلغى في الحرام.. تصحح في المملوك وتلغى في غير المملوك، فمثلاً لو قال له: يا فلان! بعني بيتك الذي لك ولأختك، قال: أمّا الذي لي أبيعك -مثلاً- بألفي ريال، وأما الذي لأختي فأبيعك بألف ريال إن رضيت، حينئذٍ جزأ ولا إشكال، فيصحّ في حقه، وننظر في حق الأخت، فإن قالت: أمضيت، مضى البيع وصحّ في الجميع، وإن قالت: ما أمضيت، حينئذٍ صحّ في الألفين، وبقي في الألف لاغياً، وبقيت الأخت على ملكها لنصيبها في الدار. إذاً: المسألة مسألة حلال وحرام، فعندما تكون الصفقة واحدة، حينئذٍ إن جزَّأ الصفقة، وأعطى لكل من الحلال حظه والحرام حظه، تُصحح في الحلال بحظه، وفي الحرام تلغى بحظه وقسطه، وهذا بالنسبة لبيعه لما لا يملك، سواءً كان ذلك بسبب الإرث كرجل مع أخته، وَرِثا داراً، أو أنا وأنت اشتركنا في شراء سيارة، فأنت بعت نصيبك (النصف)، وبعت نصيبي (النصف) أيضاً دون أن تستأذنني، فحينئذٍ يكون بيعك من بيع الفضولي، وبيع لما لا تملك، والأصل يقتضي عدم صحة بيعك، فلو أنني لم أقبل البيع صحّ في نصيبك ولم يصح في نصيبي، وعلى هذا يُقسم المال الذي دفع بالنصف، فيكون لك نصفه، ثم يُلغى البيع في النصف الذي يتعلق بي، وأكون أنا وهذا الذي اشترى شريكين في هذه السيارة كما كنا سابقاً أنا وأنت شركاء.

    قال: [كعبد، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صحّ في نصيبه بقسطه].

    قوله: (صحّ في نصيبه بقسطه)، أي: البيع، وأمّا نصيب الآخر فإنه يبقى؛ لأنه باع شيئاً لا يملكه، فالقيمة التي طلبها في هذا الشيء الذي ليس ملكاً له، والصفقة التي أتمها على هذا الشيء الذي لا يملكه لا تتم؛ لأن الله عز وجل يقول: وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] فهذا ملكي ومالي، بع مالك كيف شئت، ولكن مالي ليس من حقك أن تبيعه إلا بإذن مني، فإذا كنت غير راضٍ فمعنى ذلك أنني باقٍ على ملكية نصف العبد أو ثلثه أو ربعه على حسب الشيوع الموجود بيني وبينك، فيصحّ بالأجزاء، فإذا كان المبيع له أجزاء كأن اشتركنا -مثلاً- في كتاب واشتريناه بمائة، وهذا الكتاب ستة أجزاء فثلاثة منها لك وثلاثة منها لي، فحينئذٍ إذا بعت الستة الأجزاء التي لي ولك وعقدت الصفقة عليها صح البيع في الثلاثة الأجزاء التي لك، فمثلاً: لو بعت الكتاب بستمائة، فحينئذٍ نقول للمشتري: ادفع ثلاثمائة، وخذ نصف الكتاب، أي: خذ ثلاثة أجزاء من الكتاب فهي التي كان يملكها فلان، إذاً: هذا بالنسبة لما يكون له أجزاء، فيُقسم المال الذي اشترى به المشتري على جميع الأجزاء، ونعرف قيمة كل جزء، ثم نصحح في حدود أجزائك، وضابط المسألة: أن يجمع له بين حلال وبين حرام، ويكون الشيء الذي باعه قابلاً للتقسيط، أو قابلاً للفصل، بحيث يكون نصيب هذا معلوماً ونصيب هذا معلوماً، فنصحح في نصيب هذا ونلغي في نصيب الآخر.

    1.   

    حكم بيع الحلال والحرام وبيع ما يملك وما لا يملك صفقة واحدة

    قال رحمه الله: [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً، صفقةً واحدةً: صحَّ في عبده وفي الخلِّ بقسطه].

    (وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه).

    نلاحظ هنا دقة العلماء في الترتيب، ففي الصور الأولى يكون الاشتراك في نفس الشيء، أي: نفس العبد رقبة واحدة، ونشترك فيه، نصفه لك ونصفه لي، رقبة البقرة أو الشاة أو الناقة أو السيارة -كما هو موجود في زماننا- أو الأرض نصفها لك ونصفها لي، فالمبيع واحد؛ لكن هنا في هذا المثال المبيع يشتمل على شيئين: سيارتك وسيارة غيرك.. عبدك وعبد غيرك.. ناقتك وناقة غيرك، فحينئذٍ أصبح ليس من الشيوع، أي: ليس في الرقبة الواحدة؛ وإنما جعل الثمن على رقبتين، إحداهما ملكٌ له والثانية ليست ملكاً له، وضابط المسألة -كما قلنا- حلال وحرام، فقال: باع عبده وعبد غيره، باع خلاً وخمراً، والخل يجوز شربه مع أن أصله من الخمر، والخمر إذا تخللت وصارت خلاً جاز أن يشرب الخل وأن ينتفع به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (نعم الإدام الخل) ، فالخلّ حلال لكن الخمر حرام، فالعلماء يذكرون هذا المثال (باع خلاً وخمراً)، فالخلّ يجوز بيعه والخمر لا يجوز بيعها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر) ، وقال صلى الله عليه وسلم في الخمر: (إن الذي حرم شربه حرم بيعه) ، فلو باعه خلاً وخمراً فحينئذٍ تكون الصفقة جامعة بين الحلال وبين الحرام لا على سبيل الشيوع، لكن كلّ منهما منفصل عن الآخر، فنقدّر قيمة الخل ونقدر قيمة الخمر، ونقول: صحّ في الخل وحرم في الخمر، فلو كان -مثلاً- قسط الخمر النصف، فاشترى الخمر والخل معاً بألف ريال؛ وصفقة الخلّ تساوي خمسمائة ريال، فنقول: صح في الخل بخمسمائة وألغي في الخمسمائة الباقية التي هي قيمة للخمر؛ لأن الله حرم عينها، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها.

    قال: [أو عبداً وحراً].

    كذلك العبد والحر، فلا إشكال في المثال، فالمهم أن تحفظ القاعدة: أن يجمع له بين عينين إحداهما حلال والثانية حرام، أو من جهة التصرف: إحداهما يملك التصرف فيها والثانية لا يملك التصرف فيها، فمثال الأولى التي هي حرام العين وحلال العين: (خلّ وخمر، خنزير وبرّ)، فإن الخنزير حرام والبرّ حلال، ولو باعه عسلاً ومخدراً فالمخدر حرام والعسل حلال، وقس على هذا، وأمّا بالنسبة للملكية فمثالها أن يبيع عبده وعبد غيره، وفي عصرنا الحاضر سيارته وسيارة غيره.. أرضه وأرض غيره، وقس على هذا.

    قال: [صفقة واحدةً صحَّ في عبده، وفي الخلِّ بقسطه].

    صح البيع في عبده، وصحّ في الخلّ بقسطه، وإن كان قسطه نصف القيمة صحّ بخمسمائة إذا كانت القيمة ألفاً، وكذلك أيضاً بالنسبة لبيعه لعبده وعبد غيره صحّ في عبده ولم يصحّ في عبد غيره.

    قال: [ولمشترٍ الخيار إن جهل الحال].

    (ولمشترٍ الخيار) الخيار: مأخوذ من قولهم خَيَّرَهُ، إذا جعل له النظر بخيري الأمرين، والمراد من هذا: أنه إذا باعه على هذا الوجه حراماً وحلالاً، ولم يعلم أنه محرم كأن يقول له: أبيعك هذا العبد وهذا العبد، وكان لا يملك العبد الثاني، والمشتري يظن أنه يملك العبدين، نقول له: أنت بالخيار، إن شئت أمضيت البيع وأمضيت الصفقة، وإن شئت ألغيت الصفقة فيهما، فالخيار له في ذلك، لماذا؟ لأنه ربما اشترى عبده لمكان العبد الثاني. توضيح ذلك: الآن لو أن رجلاً جاء إلى رجل وقال له: أبيعك هذه السيارة -وسيارته رديئة- مع هذه السيارة بعشرة آلاف، فالمشتري قد يكون رغب في السيارة الجيدة وجعل السيارة الرديئة محمولة لوجود الجيدة، فلو جئنا نقول: صحّ في سيارته وبطل في سيارة غيره معنى ذلك أن المشتري سيتضرر، وهذا هو السبب الذي جعل المصنف يقول: (ولمشترٍ الخيار) أي: أن قولنا: يصحّ في قسطه وفي حقه، يُرد إلى خيار المشتري، ونقول لك: إن شئت أن تصحح العقد صححته في القسط الحلال فيما يملك، أمّا لو قلت: لا أريد، فإما أن آخذهما الاثنين أو أتركهما الاثنين فمن حقك وهذا يقع من المشتري، أنه يشتري الصفقتين من أجل أنه يحمل وكس هذه بكمال هذه والنقص في هذه بالجمال في هذه، فكأنه اشترى الاثنين معاً من أجل أن إحدى الصفقتين تحمل الأخرى، فإذا جئت تقول للمشتري: صحّ في قسطه فمعنى ذلك أنك تضر بالمشتري وتلزمه بشيء لا يريده، فهو يريد الصفقة كلها، فاحتياطاً للحقوق قال المصنف رحمه الله: (ولمشترٍ الخيار) أي: أننا حينما حكمنا بصحة العقد فإننا نجعل للمشتري الحق أن يمضي البيع أو يفسخه، وهذا من العدل؛ لأنه اشترى الاثنين معاً، فإن كان يريدهما معاً ولا يريد أحدهما دون الآخر كان من حقه ذلك، وليس من حقنا أن نلزمه بجزء مبيع أراده كله؛ لأنه اشترى الكل، ولم يشتر البعض، فهذا هو وجه إعطاء الخيار له، فنقول: إن شئت أمضيت الصفقة في حظ من باعك، وإن شئت اعتذرت عن البيع، فهذا من حقك، ولا تُلزم بذلك.

    1.   

    الأسئلة

    بيع المرابحة صورته وحكمه

    السؤال: ما حكم البيع إذا قال البائع للمشتري: أنا اشتريت السلعة بكذا فأربحني على ذلك ما شئت، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإذا قال البائع للمشتري: اشتريت السلعة بمائة ألف فأربحني فيها لأبيعها لك، هذا يسمى عند العلماء (ببيع المرابحة)، وبيع المرابحة له صورتان:

    الصورة الأولى: قديمة عمل بها العلماء والفقهاء.

    الصورة الثانية: حديثة ألحقت بالقديمة وزُعم أنها منها، وهي من صور الربا ويقال لها: (المرابحة الإسلامية)، وهي ربوية، ولا يجيزها تسميتها بأنها إسلامية، فإنه لا يحكم للشيء بكونه شرعياً إلا إذا دل الدليل على كونه مشروعاً.

    نبين الصورة المشروعة: وهي إلى الآن لا زالت موجودة، حتى إن كبار السن يتبايعون بها، وإذا جئت إلى رجل كبير السن تقول له: بكم هذه الشاة؟ يقول: رأس مالي ألف، أي: كم تربحني، فهذا معنى قوله: رأس مالي، فتقول له: أربحك العُشْر معناها أنك ستشتريها بكم؟ بألف ومائة؛ لأن عُشر الألف مائة، فهذا يسمى بيع المرابحة. لكن لماذا العلماء جعلوا لهذا النوع اسماً خاصاً وهو بيع المرابحة؟

    السبب في هذا: أنه ربما قال لك: رأس مالي مائة ألف، وتبين أنه اشتراها بثمانين ألفاً، أو بخمسين ألفاً، فحينئذٍ أنت مظلوم، فاحتاج العلماء أن يجعلوا لهذا النوع من البيوع مبحثاً مستقلاً وهو كيف يفصل في حال ما إذا تبين كذب البائع -وهذه حالة-، أو خطأ البائع؟ ففي بعض الأحيان يخطئ البائع ولا يقصد الكذب، فيقول لك: رأس مالي مائة ألف وقد اشترى أرضين: أرضاً بمائة ألف وأرضاً بخمسين، فظن أن هذه الأرض التي باعك إياها أنها هي التي بمائة ألف وتبين أنها هي التي اشتراها بخمسين، فحينئذٍ يكون له نصف القيمة الأصلية، وإن شاء الله سنتكلم على هذا النوع في الفصل الذي بعد هذا، في بيع المرابحة والمواضعة والتولية، وهذه ثلاثة أنواع من البيوع، فالبيع الأول المرابحة: كم تربحني؟ والمواضعة: أن يضع من البيع بقدر أي: اشتراها بمائة فيقول لك: أنا رضيت أن أخسر فيها العُشر، فيضع من السعر، فيتفقان على الضعة من رأس المال، والتولية: أن يولي لك، فيقول لك: بكم تعطيني أنا قبلت، فيجعل لك التولية، أي: أن تتولى تقييم سلعته.

    أما المرابحة التي يسمونها اليوم مرابحة إسلامية: وهي أن تأتي إلى المؤسسة أو تأتي إلى الشركة تريد أن تشتري سيارةً أو أرضاً أو أثاثاً للبيت، فيقول لك: اذهب إلى أي شركة وخذ منها الفواتير، وحدد ما تريد أن تشتريه، وائتنا بالفواتير ونحن ننظر فيها، ثم بعد ذلك نشتريها ولا نلزمك بالبيع، وهذه يسمونها -كما قلنا- المرابحة الإسلامية، والواقع أنها من صور الربا؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا المتاع الذي قيمته مائة ألف ريال بدل أن يعطيك المائة ألف ويقول: ردها أقساطاً مائة وعشرين أدخل السلعة حيلة في الصفقة، وهذا يحتاج إلى دقة في مسألة حقيقة العقد. وتوضيح ذلك: أنه في ظاهره حلال؛ لكن في باطنه تذرّع به إلى الربا، وانظروا إلى بيع العينة حتى تكون الصورة واضحة فيما يسمى بالمرابحة الآن، أن يقول: أبيعك هذه الدار بمائة ألف ريال إلى نهاية السنة، فإذا جئت تنظر إلى مائة ألف لقاء الدار إلى نهاية السنة القيمة صحيحة والبيع صحيح، ثم أشتريها منك بخمسين ألفاً نقداً، فلا توجد أي شبهة، هل تلاحظون أي شيء على مائة ألف لقاء سلعة إلى أجل؟ أو خمسين ألفاً نقداً لقاء سلعة تستحق الخمسين؟ أبداً ليس فيه أي إشكال؛ لكن الشريعة ألغت البيعتين الاثنتين، ونظرت إلى أن حقيقة الأمر أنه أعطاه الخمسين الألف النقد في مقابل المائة ألف إلى أجل. فالذي يقول بجواز بيع المرابحة، لا شك أنهم علماء ومنهم بعض الأجلاء، وهذا اجتهادهم، لكن الذي نحن نمنع منه قضية تسميته مرابحة إسلامية، وإدخال مصطلح له ضوابط معروفة عند العلماء على شيء لا يمتّ إليه بصلة، فالمرابحة مفاعلة من الربح وليس لها علاقة بمسألة اذهب واختر السلعة ثم بعد ذلك نشتريها نحن ونقسطها عليك، فهذا لا يسمى مرابحة، بل كأنه في هذه الحالة بدل أن يقول له: خذ المائة ألف وردها مائة وعشرين، قال له: أدفع لك المائة ألف إلى المؤسسة وتردها لي مائة وعشرين، فهذا حقيقة الأمر.

    وقد يتعذرون بأن البنك لا يلزم المشتري بالسلعة، وهذا ليس بمؤثر؛ لأن البنك ما اشترى إلا من أجل المشتري، ولا عرف هذه السلعة إلا بتعيين المشتري، بل الأدهى والأمر أن المشتري هو الذي جاءه بالفواتير، بل وحدد له المكان الذي يشتري منه، فالأمر واضح جداً، فالبنك لا يريد أن يشتري السلعة ولا يرغب فيها، وأعجب من هذا أن البنك يتفق مع من يتعامل معه أنه إذا لم يوافق (الزبون) أو المشتري أننا سنردها عليك، ولذلك تجد بعض من يتعامل بهذه (المرابحة الإسلامية) لا يتعامل إلاَّ مع محلات معينة؛ لأنه اتفق معها أنه إذا نكص المشتري عن الشراء فله الرد، وهذا أمر موجود وذائع، ولا شك أنه من بيوع الربا، وأقلّ ما في هذا النوع من البيع أنه من المشتبهات، والمشتبه: هو الذي فيه شبهة من الحل وشبهة من الحرمة.

    وعلى هذا: فإنه لا يصح البيع على هذا الوجه، أما إن كان البنك يشتري السيارة أو يشتري السلعة ثم يعرضها عليك مقسطة فلا بأس، لكن أن تأتي أنت وتحدد له سلعة معينة أو أثاثاً معين هذا لا شك أنه عين الربا؛ بل حينما يعطي البنك المائة ألف لشخص ويقول له: خذ المائة ألف وردها مائة وعشرين، فهذا -والله- أرحم من أن يلزمه بصفقة معينة؛ لأنه على الأقل أخذ المائة ألف وذهب يشتري ما يريد وربما يشتري شيئاً يربح فيه؛ لكن من ذكاء البنك أو المؤسسة أنه حين يتعامل معك بهذه الصورة يريد أن يضمن أنك قد أخذت بها شيئاً، ولذلك يجعلك تشتري السلعة ولا يدفع لك المال إلا إذا ضمن أنك تشتري بها سلعة، وأيّاً ما كان فهذا ليس من البيوع المباحة؛ إنما هو من بيوع الذرائع الربوية التي يتوصل بها إلى الحرام، فإن قالوا: إنها مرابحة؛ لأن البنك ربح أو قصد الربح من هذا النوع من البيوع، فلا إشكال في أنه ربح من جنس الفائدة الربوية. والله تعالى أعلم.

    عدم القطع في الأجرة

    السؤال: إذا قال صاحب سيارة الأجرة للراكب: أوصلك بعشرة، وإن ركب أحد معنا فبخمسة، فهل تصح هذه الإجارة، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا قال له: أوصلك إلى دارك بعشرة، فهذه إجارة صحيحة بثمن معلوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) ، فإن قال له: إن ركب معنا أحد أوصلك بخمسة وحدد المكان الذي فيه الركوب، فإن بعض العلماء يمنع من هذا؛ لأنها صفقتين في صفقة واحدة، فلا يُدرى هل يئول الأمر إلى الخمسة أو يئول إلى العشرة، فكان من باب البيعتين في بيعة، ومسائل الإجارة مفرعة على مسائل البيع.

    وقال بعض العلماء: إنه إذا قال له: إن ركب معنا أحد فآخذ منك خمسة فإنه يجوز ذلك؛ لأنه معلّق على وجهٍ لا يقطع بت البيع الأول.

    إذاً: إذا قال له: أوصلك بعشرة وإن ركب معنا راكب فبخمسة فهذا إذا حدَّد المكان أو عين المكان فلا إشكال كما ذكرنا، لكن هناك في بعض الأحوال يكون هذا النوع من الإجارة فيه جهالة وفيه غرر؛ وذلك أنك قد تركب من أجل أن تصل إلى مكانك المعين بعشرة وتريد أن تصل بسرعة فَيُدخل عليك راكباً ثانياً قد يتسبب في تأخيرك أو تعطيلك، وقد يضرك من يركب معه بدخان أو بكلام أو نحو ذلك مما فيه أذية وضرر، ففي مثل هذه الأحوال إذا كان السائق يريد أن يدخل على الراكب ما فيه غرر بمثل هذه الصور فلا إشكال في عدم الجواز، وأنه ينبغي على المستأجر أو الراكب أن يبتّ معه فإما أن يستأجره بعشرة وينهي الإجارة على عشرة ولا يركب معه أحد، وإما أن يعتذر عن أخذه إلى غيره، ومثال ما فيه الغرر كما لو جئت نازلاً من المطار فقال لك: أنزلك من المطار إلى وسط المدينة بخمسين إذا كنت لوحدك، وإن وجدت معك راكباً فسآخذ منك خمسةً وعشرين، لكن هذا الراكب الذي سيركب معك قد يقول: أنت تريد منتصف المدينة أو وسط المدينة وأنا أريد قبل منتصف المدينة. فمعنى ذلك أنه سينحرف عن طريقك إلى طريقه، وقد يستغرق توصيله ربع ساعة أو ثلث ساعة وقد يستغرق نصف ساعة، ومن جرب ذلك يعلم، فهذا النوع من الإجارات فيه مصلحة لسائق السيارة لكن فيه ضرر على الراكب، حتى إننا نذكر من بعض المشايخ حفظهم الله الذين يخرجون للدعوة في الخارج يقولون: نقع في أشياء من أغرب ما تكون إذا جئنا ننزل من المطارات إلى الفنادق، فيقولون: يركب معك أحد ونأخذ منك كذا، فنستهين بالأجرة، فإذا بالذي يركب معنا يذهب ويدور به المدينة كلها ولا يصل بنا إلى مكاننا. ومثل هذا يضر بمصالح المرء، خاصة إذا كان يريد أن يقضي حاجة أو يريد أن يدرك مريضاً أو أن يصل إلى غرض من معاملة أو نحو ذلك، فهذا يضر بمصالح الناس، ويوجب الشحناء والبغضاء بينهم، لأنه من بيوع الغرر. والعلماء دائماً يقيسون الإجارة على البيع.

    ومما ذكر بعض المشايخ حفظه الله يقول: ذات مرة نزلنا من المطار فوجدنا اثنتي عشرة رجلاً -أي: قائد سيارة- وكنا مستعجلين جداً -كانوا في مهمة دعوة- يقول: وقد كنا منهكين لبقائنا قرابة ساعة ونحن في السفر من منطقة إلى منطقة في الطائرة، الشاهد: أنه لما نزلنا قال لنا السائق: أوصلكم بكذا، فإذا بسعره مغر، قال: فقط أريد طلباً واحداً؟ قالوا: ما هو؟ فأشار إلى رجل وقال: هذا الرجل الذي ينزل والذي تلاحظوه معه دولارات -التي يسمونها العملة الصعبة- أريد أن أصطرف معه، وما أريد أن يسبقني إلى عقد الصفقة معه أحد، فكل الذي أريده منكم أنه إذا نزل نذهب وراءه حيث ينزل وأشتري منه وأعقد الصفقة ثم أوصلكم، يقول: فأصبحنا في داخل المدينة نذهب من مكان إلى مكان، بل ربما ما ترك مكاناً في المدينة إلا ذهب إليه؛ لأن هذا يريد أن يفرّ من هذا، وهذا وراءه، فجلسنا قرابة ساعة ونصف ونحن وراءه، حتى إنه من شدة حرصه كان يسرع حتى خفنا على أنفسنا، فصممنا وقلنا: أنزلنا واتبع صاحبك، قال: لا يمكن أن تضيع الأجرة التي بيني وبينكم، فقلنا: خذ الأجرة، قال: إذا أوقفتكم ذهب عني، أي: لم يقبل على الرغم من عرضنا عليه الأجرة كاملة على أن ينزلنا. فهو يقول: إذا أوقفتكم ذهبت الدولارات، وإذا ركبتم معي فإن هذا يضر بكم، لكن ما لكم إلا الصبر، فأيَّاً ما كان فهذا النوع من العقود كونه يقول أوصلك ويعلق شيئاً آخر على الإيصال فهذا الذي نريد أن نصل إليه أنه يوجب الشحناء ويوجب البغضاء، ويعرّض مصالح الإنسان وحوائج الإنسان إلى الضرر، فالأفضل والأكمل أن تكون الإجارة على البتّ خالية من الغرر. والله تعالى أعلم.

    حكم بيع الشيء ومعه جائزة

    السؤال: لو قيل: اشتر سيارة -مثلاً- واحصل على سيارة ثانية من نفس النوع مجاناً، فهل يجوز هذا، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا قيل: اشتر سيارة من نوع كذا أو اشتر طعاماً أو شيئاً معيناً وتحصل على جائزة مجهولة، فهذا لا يجوز، وهو كما ذكرنا بيع معلوم ومجهول؛ لأنه اشترى السيارة ومعها شيء مجهول، واشترى وهو يريد الربح فإذا به لا يربح شيئاً، فإذا قال له: اشتر سيارة وتربح، حتى ولو سميت الجوائز: الأول له كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، فهذا كله يعتبر من بيع الغرر؛ لأنه أدخل المجهول على المعلوم، وفي هذه الحالة كأنه باعه السيارة وشيئاً ما لا يُدْرى أهو الجائزة الأولى إذا فاز بها أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو لا شيء، فإذا كان لم يخرج له شيء فحينئذٍ كأنه غَرّر به، مثل (اليانصيب) ادفع مالاً وتربح، وعلى هذا فإنه لا يصح بيع الجوائز إذا كانت مجهولة أو كانت معلومة مقرونة بالمبيع. وتوجد حالة يصح فيها بيع الجائزة مقرونة بالمبيع، مثل: أن يعطيك (النيدو) -مثلاً- وعليه كأس، فالجائزة هنا معلومة ومعروفة، ويصبح كأنه باعك هذا الحليب مع الكأس، فهذا بيع معلوم وليس فيه أي إشكال؛ لكن إذا قال لك: تربح جائزة مجهولة، ووضع الجائزة داخل الحليب، فقد تكون ريالات، وقد تكون ذهباً، وقد تكون لعبة، أو لا يكون بداخلها إلا الحليب، فإذاً: معنى ذلك أنك تشتري على غرر، وهذا من بيع المجهول الذي لا يصح. والله تعالى أعلم.

    مدة الإجارة وحكم إتمام عقدها

    السؤال: وقع عقد إيجار بيني وبين المستأجر لخمس سنوات واستلمت إيجار السنة الأولى، وبعد خمسة أشهر أبدى عدم رغبته في مواصلة الإيجار، فما الحكم في ذلك، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا أجر الشخص داره أكثر من سنة فلا تخلو الإجارة من حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون إلى زمانٍ لا غرر فيه كالسنة والسنتين، وتكون الدار متحملة، بحيث يغلب على الظن بقاؤها إلى سنة وسنتين ومنافعها باقية، فتصح الإجارة ولا بأس.

    الحالة الثانية: أن تكون إلى مدة لا نضمن معها بقاء العين، وذكر العلماء من ذلك أمثلة، أن يقول له: أجرتك داري ثلاثين سنة، أو أجرتك أرضي للزراعة ثلاثين سنة أو خمسين سنة، فهذه العقود الطويلة لا يُدْرى فيها كيف يكون حال الأعيان فيكون من إجارة الغرر، فلا يصح في هذه الحالة.

    إذاً: لو قلت له: أجرتك الشقة أو العمارة أو الأرض لخمس سنوات وكانت الشقة أو العمارة تتحمل خمس سنوات فالعقد صحيح والإجارة صحيحة، فإن جاءك بعد العقد وبعد أن افترقتما ولو بلحظة يقول لك: رد عليَّ أو لا أريد، فليس من حقه، وأنت بالخيار -صاحب العمارة- إن شئت ألزمته وتأخذ الأجرة كاملة، وإن شئت عفوت عنه وقلت له: خذ المدة التي تريد على قدر ما دفعت واترك لي داري يعوضني الله خيراً منك، وإن فعلت هذا فهو أفضل وأكمل؛ لأنه من الإقالة، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم من طلب الأجر؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا رفقت بأخيك المسلم وأقلته وهو نادم أقال الله عثرتك، وكان سبباً لتفريج الكربة عنك؛ لأنك كما فرجت عن أخيك يفرّج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، فإذا جاءك أخوك وقال لك: لا أستطيع، أو جاءتني ظروف، أو أصبح حالي عسيراً، فإنه في هذه الحالة يكون الأفضل والأكمل أن تعفو عنه، فإن أصررت وقلت: لا أريد، وطالبت بحقك، فمن حقك وتلزمه بدفع الأجرة في السنوات القادمة، ويلزمه أن يتم العقد؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] .

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756236407