إسلام ويب

تفسير سورة فصلت (4)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإعراض عن دعوة الحق، والاستمرار في التمرد والعصيان عاقبته وخيمة، وقد قص الله في كتابه حال العصاة، وما أصابهم من العاقبة، فعاد لما استكبروا في الأرض بغير الحق، واغتروا بقوتهم وشدة حيلتهم، كان جزاؤهم أن أرسل الله عليهم الريح العقيم، فأذاقهم الله عذاب الخزي الأليم، وأما ثمود فأرادوا العمى، وفضلوه على الهدى، فعاقبهم الله بالصاعقة، وأهانهم جزاء تمردهم وعصيانهم، ومن يهن الله فما له من مكرم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت:13-18].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، يقول الله تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: فإن أعرض هؤلاء المشركون من قريش في مكة وخارجها عن هذه الدعوة ولم يستجيبوا، وأصروا على الشرك والكفر والعناد، وتكذيبك وتكذيب ما جئت به، وأعرضوا فقل لهم: أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، أي: أخوفكم بصاعقة سوف تنزل عليكم كصاعقة عاد وثمود؛ لتهلككم كما أهلكتهم.

    فهو لما بين لهم الطريق في الآيات السابقة ووضح لهم السبيل قال له: بعد هذا إن أعرضوا فقل لهم: أَنذَرْتُكُمْ [فصلت:13]، أي: خوفتكم صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]. فتهلككم وتبيدكم.

    والصاعقة: نار مع البرق، إذا أتت على شيء أحرقته، والجمع صواعق.

    فهو تعالى يقول: يا رسولنا! والمبلغ عنا فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ [فصلت:13] لهم: أَنذَرْتُكُمْ [فصلت:13]، أي: خوفتكم صَاعِقَةً [فصلت:13] أن تنزل بكم، كما أهلك الله بها عاداً وثمود. وهذا لعلهم يستجيبون. فقال له: فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]. وعاد هي قبائل شديدة كبيرة قوية، وكانت في الجنوب من حضرموت إلى عمان، وثمود كانوا في شمال الحجاز، ما بين الحجاز وتبوك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله)

    قال تعالى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [فصلت:14]. والمراد من الرسل هود في عاد، وصالح في ثمود، ومن معهم من المؤمنين المبلغين عن الله. فعاد أرسل الله إليهم هوداً صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، وثمود أرسل إليهم صالحاً عليه الصلاة والسلام.

    فقال تعالى هنا: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [فصلت:14]، فقالوا لهم: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [فصلت:14]. فعاد وثمود أرسل الله إليهم رسله، وهم هود وصالح ومن معهم من المؤمنين، فقد نصحوهم وبينوا لهم الطريق، وقالوا: لا تعبدوا إلا الله؛ إذ هو خالقكم، وهو مالك أمركم، وهو الذي أحياكم، وهو الذي يميتكم، وهو الذي بيده كل شيء، فلا تعبدوا غيره، ولا تعبدوا إلا الله.

    فقالوا رداً على قول النبيين هود وصالح: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:14]. فلو شاء أن نعبده كما تقول أنت يا هود! أو يا صالح! أو يا محمد! لأنزل ملائكة في هذا، ولم يبعثكم أنتم، فالملائكة أولى بهذا. وهذا هو التمرد والعصيان، وهذا هو العناد والمكابرة. ولو بعث فيهم ملائكة لما أمكنهم أن يتفاهموا معهم، فالملك ليس كالإنسان في شكله وزيه وكلامه، ولن يكون هذا. ولو بعث ملكاً لقالوا: يا ربنا! لا يمكننا أن نعبدك، ونحن ما فهمنا من هذا، فابعث رسولاً منا، لغته لغتنا، وحياته حياتنا، فنحن لا يمكننا أن نؤمن مع الملائكة، ووالله لقالوا هكذا؛ لأنهم مصرون على شركهم وكفرهم وعنادهم. وهم هنا قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا [فصلت:14]. وكذبوا على الله. لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت:14]. فلا نسمع ولا نقول ما تقولون، ولا نمشي وراءكم أبداً.

    وهذا الذي قالته عاد وثمود قاله كفار مكة وقريش بالحرف الواحد. والآن لو تواجه جماعة مسلمة وتقول لهم: استقيموا، وافعلوا كذا، فإنهم يواجهونك كما يواجهون هذا. وقد سمعتم البارحة من يقول: أنا أضع يدي أصلي، ولكني لا أستجيب لسنتكم. وهذه طبيعة البشر، إلا من شاء الله هداه واصطفاه، وطهره ونقاه، فهذا هو الذي يستجيب لله ولدعوة الله، وأما غيره فلا يستجيب.

    والآن لو تواجه بريطانيا أسبانيا أو إيطاليا وجهاً لوجه بهذه الآيات فإنهم يقولون كما قالت قريش وعاد وثمود، بل يقولون أكثر، فأولئك على الأقل اعترفوا بالملائكة، وقالوا: لَأَنزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:14]. وأما هؤلاء فإنهم يقولون: لا ملائكة ولا غير ذلك. وما هي إلا الطبيعة العمياء.

    وقولهم: فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت:14]، أي: جاحدون منكرون، وكل الذي بعثكم الرب به ما نقبله، فافعلوا ما شئتم. وهو والله لكما سمعتم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ...)

    قال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ [فصلت:15]. فإذا قلت: وماذا فعل الله بعاد بعد هذا الكفر وهذا العناد وهذا الرد القاسي؟ فقال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [فصلت:15]. والاستكبار هو الكبر، وقد استكبروا بدون حق، وهم ليسوا شيئاً حتى يستكبروا على عبادة الله، ويترفعوا على الإيمان برسوله ودعوته، وليس لهم حق في ذلك أبداً، بل هذا باطل. وهم ما يخلقون ولا يرزقون، ولا يميتون ولا يحيون، ومع ذلك يتكبرون بغير الحق. وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]؟ وحقيقة فهم أشد قوة من الناس، سواء في الشمال .. في الجنوب .. في الشرق .. في الغرب، فقد كانوا أشد الناس قوة، وقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]. فقد كانت أجسامهم طويلة في السماء، ومبانيهم كذلك، ولذلك قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]؟

    قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15]؟ فهم تحدوا الرسول وقالوا: ليس هناك من هو أشد منا قوة. ونسوا أن خالقهم الذي وهبهم القوة وأعطاهم القدرة وأعانهم على ذلك هو الذي هو أحق بهذا، وأنهم مخلوقون ومربوبون، وأنهم كانوا أمواتاً فأحياهم، وأنهم كانوا أطفالاً صغاراً فقواهم وكبرهم، ثم لما وصلوا إلى هذا قالوا: ليس هناك من هو أشد منا. والله أشد منكم قوة، فاعقلوا هذا وتفهموه. ولكن العناد والمكابرة والغطرسة جعلهم يقولون: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ [فصلت:15] وقد كانوا عدماً هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15].

    ثم قال تعالى: وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]. فالآيات التي كان يريهم الله إياها على يد رسوله من المعجزات ويشاهدونها والتي نزلت على رسوله ويدعوهم بها ويبين لهم الطريق كانوا يجحدونها، وكذلك كانوا يجحدون الآيات التي في الكون، والتي كلها تدل على وجود الله، وعلى أنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وأن طاعته ضرورية، وأن عبادته لازمة، فقد كانوا يجحدون كل هذا وما يعترفون به، كما قال تعالى: وَكَانُوا بِآيَاتِنَا [فصلت:15] التي يرونها ويشاهدونها، أو قرئت عليهم من الرسل يَجْحَدُونَ [فصلت:15]، وينكرون ويكذبون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات ...)

    قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا [فصلت:16] ذات صوت عجيب فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16]. وفي قراءة سبعية: ( نحْسات)، من النحس الشؤم والعذاب، والعياذ بالله تعالى. لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ [فصلت:16] والهون فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:16]. وكان ذلك لما جاءتهم الريح سبع ليالٍ وثمانية أيام، فقد دمرتهم، وأذلهم الله وأخزاهم، وذهب ذلك العلو والتكبر والطغيان، وهبطوا إلى الأرض وهلكوا. فقال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:16] قبل الآخرة، ولولا أن الله عز وجل إكراماً لرسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم لكان ينزل بهذه البشرية البلاء والعذاب الذي أنزله على من قبلهم، ولكنه أرسل رسوله رحمة للعالمين، فلا ينزل العذاب العام أبداً بأمة من هذه الأمم، وأمة محمد كل البشرية. فهم يكفرون يفسقون يفجرون، وهو يصيبهم بالجوع والمرض، والحرب والبلاء، ولكن الفناء الأبدي النهائي لا وجود له، وهم مستحقون لذلك، ولكن هذا رحمة الله، وقد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] أجمعين.

    وقال تعالى هنا: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى [فصلت:16]، أي: أكبر خزياً وعاراً، وذلاً وهوناً من عذاب الدنيا، وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16]. ولا أحد ينصرهم على الله، ولا أحد يحارب الله فينتصر عليه، بل من حاربه لا ناصر له.

    فاسمعوا يا أهل مكة! واسمعوا يا رجالات قريش! ما حل بجيرانكم؛ لتتوبوا إلى ربكم، وتعودوا إلى دعوة الحق وتسلموا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ...)

    قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ [فصلت:17]. وثمود موجودة الآن، وهي معروفة بمدائن صالح، وقصورهم في الجبال موجودة إلى الآن.

    وقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ [فصلت:17]، يعني: وأما قوم ثمود، والذي أرسل إليهم صالح. فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] وبينا لهم الطريق، وقد قالوا: يا صالح! إن كان ما تقوله حق فادع ربك يخرج لنا ناقة من هذا الجبل، فقام يصلي، رافعاً يديه إلى ربه، وما زال يدعو حتى انفلق الجبل فلقتين، وخرجت ناقة منه عشراء، وما آمنوا. وليس هناك أية هداية أعظم من هذه الهداية، فقد بين لهم الطريق إلى الله، والطريق إلى سعادة الدنيا والآخرة، وآمنوا ولا اتبعوا صالحاً، ولا مشوا وراءه؛ ليقودهم إلى السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإنما أعرضوا، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]. فقد استحبوا الضلال والكفر والشرك على الإيمان والتوحيد، واستحبوا الفساد والشر والخبث على العدل والرحمة، واستحبوا العمى على الهدى. فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ [فصلت:17]. وقد قال لهم أولاً: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، وهي أيام الأربعاء والخميس والجمعة، فبركوا على ركبهم جاثمين بلا حركة، واسودت وجوههم واحمرت واصفرت، ثم في صباح السبت مع طلوع الشمس أخذتهم الصيحة، فخرجت قلوبهم إلى أفواههم، وهلكوا عن آخرهم.

    وقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17]، أي: بينا لهم الطريق بواسطة رسولنا صالح والمؤمنين، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، أي: استحبوا العمى على الطريق الموصلة، ولذلك قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت:17]. والباء سببية. وهذه القاعدة معروفة، وهي: أنه ما من مصيبة تصيبنا إلا بذنب ارتكبناه نحن المؤمنين فضلاً عن الكافرين، فما من مصيبة إلا بذنب، كما قال تعالى: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت:17]، أي: يكسبون من الشر والخبث، والفساد والشرك، والكفر والعناد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون)

    قال تعالى: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت:18]. تقول الروايات: كان الذين نجاهم الله من مدائن صالح من تلك الأمة صالح ومعه أربعة آلاف مؤمن ومؤمنة، فخرجوا واتجهوا نحن الشام، ودمر الله تلك البلاد كلها. فنجاه والذين آمنوا به وبدعوته، وبربه وبما جاء به عن ربه. وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت:18]، وليس مجرد إيمان فقط.

    ما تتحقق به ولاية الله عز وجل

    هذا هو الذي تقرر عندنا، وهو أن ولاية الله لن تتحقق لعبد إلا بشرطين: الإيمان والتقوى، فآمن ثم اتق. ولا تقول: آمنت بالله وأنت ما تصلي، فلا ينفعك ذلك، ولا آمنت بالله وأن الخمر حرام ثم تشربها، فإذا فعلت هذا فما أنت بمؤمن. فلا بد من إيمان وتقوى. وكل مؤمن تقي هو لله ولي، سواء كان ذكراً أو أنثى، وقد بين تعالى ذلك في سورة يونس، فقال تعالى: (( أَلا ))[يونس:62]. وأنتم لا تعرفون ألا، فقد نسيتموها، وأصبح بدلها ألو، والآن حتى الأطفال الصغار يقولون: ألو. والقرآن يقول: (( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ))[يونس:55]. ويقول: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62]، لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة والله العظيم، فهم لا يخافون ولا يحزنون. وقد قلت لكم: إن عمي دفن طفله وهو يضحك، والناس يبكون، وأما فليس فيه حزن، ووالله إنه وضع طفله في القبر وهو يبتسم، والآخرون يبكون. فأولياء الله ما يخافون يحزنون أبداً؛ لأن آمالهم أهدافهم كلها في السماء، وليست في الأرض، ولو فقدوا مالاً .. فقدوا طفلاً .. فقدوا كذا فكل هذا لا قيمة له، ولذلك لا يحزنون ولا يكربون أبداً؛ لأن قلوبهم في الملكوت الأعلى. فهم قد علموا أن هذه الدنيا زائلة وفانية، وأنها لا قيمة لها، ولذلك فلا خوف ولا حزن عندهم، لا في الحياة الدنيا ولا في البرزخ في القبر ولا يوم القيامة، كما قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62]. لا في الحياة الدنيا ولا في البرزخ بين الحياتين في القبر، ولا يوم القيامة. فلا يخاف ولا يحزن ولي الله. وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أخبر تعالى عنهم بقوله: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:63]، أي: الذين آمنوا حق الإيمان، وصدقوا بما أخبر به رسول الله، وبما جاء عن الله عن كل الكائنات والمخلوقات، وآمنوا بالله وبلقائه، وبكتبه وبرسله، وباليوم الآخر وبالقدر، وبكل ما أمر الله أن يؤمنوا ويصدقوا، (( وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[فصلت:18] طول حياتهم، أي: يتقون عذاب الله الذي سببه معصية الله ورسوله، ويتقون العذاب بطاعة الله ورسوله.

    أهمية العلم لولاية الله عز وجل

    علينا أن نتق عذاب الله -يرحمكم الله- بطاعة الله وطاعة رسوله، وذلك فيما يأمران به وينهيان عنه، فالمأمور نفعله، والمنهي نتركه، وعلينا أن نعرف أوامر الله أمراً بعد أمر، ونواهيه نهياً بعد نهي.

    ولا يمكننا أن نتق الله ونحن ما نعرف ما أمر به ولا ما نهى عنه، ومن المستحيل أن تكون ولياً وأنت ما تعرف ما حرم الله ولا ما أحل، ولهذا طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. ولن تتحقق لك ولاية حتى تعرف أوامر الله وتنهض بها، وتؤديها بإيمان وخشوع وخضوع لله، وتعرف ما حرم الله وما نهى عنه، وتتركه إيماناً واحتساباً، ولا تقبل عليه ولا تأتيه ولا تفعله، وبذلك تتحقق ولايتك لله.

    ولما هبطت هذه الأمة من علياء سمائها أصبح أولياء الله منهم البهاليل والدراويش، وهم لا يعرفون صلاة ولا صياماً ولا شيء، ومع ذلك فهم أولياء الله ويعبدونهم. وقد عرفتم الآن أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، ولا يمكن أن يتقي العبد، وهو لا يعرف ما يتقي. فلذلك لا بد أن يعرف أن الخمر حرام، فلا يشربها، وأن الكذب حرام، فلا يكذب، وأن الخيانة حرام، فلا يخون، وأن ترك الصلاة كفر، فلا يتركها. وهكذا يعرف ما أحل الله وما حرم، وإلا فلن يكون ولياً. وحسبنا قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ). وهذا لأنكم تريدون أن تكونوا أولياء الله؛ لتسعدوا وتكملوا. ولذلك فاعرفوا ما أمر الله به وما نهى عنه، واسألوا أهل العلم عن ذلك. وهذا كتاب الله أنزله إلينا، ومكث رسوله بيننا يتكلم ثلاثة وعشرين سنة، وهو يبين لنا الطريق.

    والله تعالى أسأل أن يحقق ولايتنا لله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] هذه هداية الآيات فتأملوها.

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: التحذير من الإعراض عن إجابة دعوة الحق، والاستمرار في التمرد والعصيان ] والعياذ بالله، فقد حذر الله تعالى من هذا في هذه الآيات، فقد قال: أَنذَرْتُكُمْ [فصلت:13]، أي: خوفتكم. وهذا لما استمروا على باطلهم، فأنزل الله العذاب بهم.

    [ ثانياً: تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله ] والتوحيد هو: أن نعبد الله وحده، ولا نعبد معه غيره أبداً بأية عبادة، حتى ولو كانت وقفة. فإذا تعبدنا الله بكلمة .. بحركة فيجب أن نخص الله بها ولا نعطيها لغيره أبداً. هذا هو التوحيد، وهو أن نوحد العبادة، فلا نشرك مع الله فيها أحداً، سواء كانت العبادة صلاة أو صياماً، أو حجاً أو اعتماراً، أو ذكراً أو دعاء أو استغاثة، فما تعبدنا الله به لا نعطيه لغيره، لا لنبي ولا لملك ولا لولي صالح. وهذا هو معنى لا إله إلا الله.

    [ ثالثاً: دعوة الرسل واحدة، وهي الأمر بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات ] فدعوة الرسل من نوح إلى إبراهيم .. إلى هود .. إلى صالح .. إلى خاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوتهم واحده، وهي: يا أيها الناس آمنوا بربكم ورسوله، وأطيعوا الله ورسوله. هذه هي الدعوة.

    [ رابعاً: التنديد بالاستكبار، وأنه سبب الكفر والعصيان ] ونحن نبرأ إلى الله من هذا الخلق. اللهم لا تجعلنا من أهله. فصاحب هذا المرض يتكبر حتى عن العبادة وما يفعلها، وحتى عن القول ما يقوله، وذلك بسبب الكبرياء. فنبرأ إلى الله من الكبر وأهله.

    [ خامساً: لا مصيبة إلا بذنب ] لقوله: [ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت:17]، أي: من الذنوب ] وهذه الحقيقة ما ننساها، وهي: أنه ما من مصيبة إلا بذنب، فلا تصيبك يا عبد الله! مصيبة في نفسك .. في مالك .. في عرضك .. في كذا إلا بسبب ذنب أذنبته، فانتبه. فلهذا إذا أذنب أحدنا فعلى الفور يمسح ذلك، ويرجع إلى الله بالتوبة والاستغفار، والندم والبكاء، وأما الإصرار على الذنب فوالله إنه ليوجب العقوبة طال الزمان أو قصر.

    [ سادساً ] وأخيراً: [ الإيمان والتقوى هما سبيل النجاة من العذاب في الدنيا والآخرة، وهما ركنا الولاية -ولاية الله تعالى-؛ لقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] ] اللهم اجعلنا منهم.

    فلا تغفل ولا تنسى أنك لن تتحقق لك ولاية إلا إذا عرفت أوامر الله ونواهيه، فتعمل للأوامر، وتتجنب النواهي. والإيمان وحده ما يكفي، وإنما الإيمان فقط قوة تجعلك تقوى على فعل المأمور وترك المنهي، ولذلك التقوى الحقيقة لا بد منها، وهي أن تتقي عذاب الله، وذلك بطاعته وطاعة رسوله، فإذا قال: كل فكل، وإذا قال: لا تأكل فلا تأكل، وإذا قال: اشرب فاشرب، وإذا قال: لا تشرب فلا تشرب، وإذا قال: البس فالبس، وإذا قال: لا تلبس فلا تلبس. ولا نلبس خاتماً من ذهب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم ذلك. وهكذا.

    ولا بد من طلب هذا العلم في المساجد وفي المدارس، والسؤال عنه يكفي، فنسأل أهل العلم عن محاب الله في كذا وكذا، وعن مكاره الله في كذا وكذا؛ لنحب ما يحب الله ونفعله، ونكره ما يكرهه الله ونتركه، وبذلك والله نكون أولياء الله، ولا خوف علينا ولا حزن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756173326