إسلام ويب

هل لحياتنا معنى؟للشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله خلقنا لهدف، ونحن لا نعرفه لأننا لم نخلق أنفسنا، والذي يخبرنا بالحكمة من خلقنا هو خالقنا سبحانه، وقد ذكر الله هذه الحكمة في كتابه الكريم؛ فقال جل وعلا: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ). وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن الغاية من الخلق، والهدف من الحياة، متحدثاً عن أجزاء الإنسان: الجسد، النفس، العقل، القلب، وذاكراً بعض الأمراض التي تصيب النفس البشرية: كالشبهة، والشهوة، والغفلة؛ مع بيان خطرها على القلب...

    1.   

    فضل المساجد وفضل بنائها

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    أيها الإخوة في الله: قبل البدء في المحاضرة أود أن أشير في هذه المناسبة الطيبة التي نصلي فيها في هذا المسجد لأول مرة بذكر لمحةٍ عن فضل بناء المساجد؛ لأنها بيوت الله، ومشاعل النور، ومنطلق الدعوات، ومهابط السكينة، وأماكن الذكر والعبادة، والبقاع الطاهرة التي يحبها الله عز وجل، فهذه البيوت يكفيها شرفاً أن الله أضافها إلى نفسه، فهي بيوت الله عز وجل، أذن أن ترفع، وأن تبجل وتعظم وتقدس وتطهر، وأخبر أنها محطات لتزويد الناس بالإيمان، وذكر في سورة النور بعد أن ذكر أنه نور السماوات والأرض أن هذه الأنور توجد في هذه المساجد، فقال عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] أي: في قلب عبده المؤمن: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ [النور:35] أي: هذا المصباح: مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] نور المشكاة، على نور المصباح، على نور الزجاجة، على نور الزيت الصافي، نور على نور، هذا مثل نور الله في قلب عبده المؤمن، نور الله، مع نور القرآن، مع نور الرسالة، مع نور العبادة، مع أنوار الملائكة: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

    وكأن سائلاً يسأل ويقول: يا ربِّ أين هذا النور؟ قال بعدها: فِي بُيُوتٍ [النور:36] هذه الأنوار في محطات الإيمان والنور: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].

    فهذا الزيت يوقد من شجرة، أي من زيت شجرة مباركة، وهي شجر الزيتون: زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يعني الشمس تضربها في الشروق والغروب، وهذا يؤثر على صفاء زيتها، فيأتي زيتها أصفى من الشمس يكاد يضيء: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35].

    فهذه المساجد -أيها الإخوة!- يبشر الرسول صلى الله عليه وسلم من وفقه الله لبنائها بالجنة.

    ويقول العلماء: إن من بنى مسجداً لله فإنه من المبشرين بالجنة، لحديثٍ في الصحيحين يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له به بيتاً في الجنة) قال العلماء: لا يمكن أن يبني الله لك بيتاً في الجنة ويدخلك النار، فمعنى أن يبنى لك بيتاً في الجنة أن يدخلك الجنة، وإلا فما قيمة بيت وأنت لا تسكنه؟! وما معنى بيت لا تدخل فيه؟!

    وقال العلماء: إن هذا من المبشرات بالجنة، لكن بشرط: (يبتغي به وجه الله)، قال العلماء: هذا قيد يخرج به من يبني مسجداً للرياء أو للضرار، أو للمباهاة، لأن هذا لم يُبن لله؛ ولكن من بنى مسجداً خالصاً لوجه الله يبتغي به ما عند الله، بنى الله له به بيتاً في الجنة، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجزي من بنى هذا المسجد خيراً، وأن يجعل له بيتاً في الجنة، هو ومن أعانه، ومن ساهم معه، ومن أشار عليه، ومن جعله باسمه، ومن صلى فيه، ومن عمل فيه صالحاً إلى يوم القيامة فإن فضل الله واسع.

    1.   

    الغاية من خلق الإنسان

    أيها الإخوة في الله! ما معنى أن يعيش الإنسان؟

    وما قيمة حياة الإنسان إذا لم يكن لهذه الحياة غاية وهدف؟

    وما غاية الإنسان وهدفه من هذه الحياة؟

    لنضع المسألة على طاولة البحث، ونقول: هل هذه غاية أن تأكل، وتشرب، وتتمتع، وتنام، وتنكح، وتصبح، وتمسي، وتتوظف، وتعيش؟

    هل خلقك الله لكي تأكل، وتشرب، وتتوظف، وتبني، وتتزوج، وتذهب للعمل، وترجع، وتتمشى، وتسهر، وتنام... كما هو برنامج أكثر الناس الآن؟!

    في الوقت الحاضر أصبحت برامج أكثر الناس لا تتجاوز هذه الأمور، يبدأ برنامجه من الساعة الثامنة -ولا يصلي الفجر- يغسل وجهه، ويركب سيارته، ويذهب إلى العمل، ويفطر أثناء العمل، ويتغدى في البيت، وينام إلى الساعة الخامسة، ويقوم يتمشى إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء في السوق، ومن العشاء إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل يلعب أو يشاهد أفلاماً، أو يطالع قنوات، ثم ينام إلى الساعة السابعة. هذا برنامج أكثر الناس.

    فهل خلقك الله لهذا؟

    إننا إذا قلنا: إن الله خلق الإنسان لهذا، فكأننا نقول: إن الإنسان نوع من القطيع الحيواني؛ لأن الحيوانات لا تمارس إلا هذه الأعمال، ويبقى هناك فروق نوعية، يعني: كون الحمار يعيش في (زريبة)، أو البقرة تعيش في حظيرة، وأنت تعيش في عمارة أو شقة، أما الهدف فواحد، أنت تنام وهي تنام .. أنت تأكل وتشرب وهي تأكل وتشرب، ولا فرق في الأهداف والأفكار والاهتمامات.

    لكن ليس هدفك من الحياة أن تعيش لتأكل، ولهذا عاب الله عز وجل على الكفار هذا الهدف، وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [محمد:12] هؤلاء يأكلون ويتمتعون كالبقر، ثم قال: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

    يا ليت أنهم كالأنعام، فالبقر تذبحه أو تحلبه أو تحرث عليه، والحمار تركب عليه، والجمل تشد على ظهره، لكن العاصي ماذا تعمل به؟ ليس حماراً تركبه، ولا بقرةً تحلبها، ولا جملاً تشد عليه، ليس فيه خير إلا فساد في فساد، قال عز وجل: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] فليست الغاية من خلقك أن تعيش وتأكل وتشرب، وإنما هذه غاية البهائم.

    إذاً: ما الغاية؟

    بعد النظر والتأمل وجد أن الغاية هو أن يموت الإنسان؛ لأن كل واحد يعيش ولا بد أن يموت، فهل خلقك الله لكي تموت؟ فأنت كنت ميتاً أصلاً، ولو أن الله أوجدك لكي تموت لما خلقك، ولجعلك ميتاً، ولما جعلك تمر عبر هذه الأطوار تسعة أشهر حملاً في بطن أمك، ومعاناة وتعب، ثم وضع في كره وتعب، ثم في تربية ورضاع، ومعاناة، ومكابدة للحياة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] لكي تموت في النهاية وتنتهي المسألة؟! لا. هذا عبث، والله منزه عن العبث يقول الله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] أي: أتظنون أن الله خلقكم عبثاً، وأنكم لا ترجعون إلى الله؟! ثم قال عز وجل: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:116] تعالى الله، وتنزه، وتقدس عن العبث: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116].

    ويقول في آية أخرى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27] أي: عبثاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] لاعبين: أي عابثين. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18]. نعم. ليس لحياتنا معنى -أيها الإخوة!- إذا كنا نظن أننا خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب، أو خلقنا من أجل أن نموت.

    1.   

    هدفنا في الحياة

    من أجل أن يكون لحياتنا معنى، ويكون لوجودنا قيمة، وتكون لحياتنا أهدافاً لا بد من معرفة أمرين رئيسيين:

    الأمر الأول: أن تعرف -أيها الإنسان!- من أنت.

    والأمر الثاني: أن تعرف -أيها الإنسان!- لماذا خلقك الله، وما الغرض من خلقك.

    أولاً: تعرف من أنت أصلاً، والمصيبة أيها الإخوة! أن البشرية اليوم رغم التطور العلمي، وثورة المعلومات، وزمن الاتصالات، وتفجير الذرة، والسباحة في الفضاء، والغوص في الماء، وتطويع المادة، إلا أن البشرية لا تعرف من الإنسان إلا جزءاً بسيطاً من أجزائه، تعرف الجسد فقط، وهل الإنسان هو الجسد؟! الإنسان أشياء، والجسد هو أقل أجزاء الإنسان شأناً وقيمةً، ولا قيمة له إذا تجرد عن الأشياء الأخرى الرئيسية فيه، لكن البشرية لا تعرف إلا هذا الجزء البسيط، ولهذا إذا مرض الجسد عالجوه، وإذا عطش سقوه، وإذا جاع أطعموه، وإذا أصابه الحر بردوه، وإذا برد أدفئوه، فالحياة لديهم جسد في جسد، وعنايتهم به فقط.

    يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته      أتطلب الربح مما فيه خسرانُ

    أقبل على الروح واستكمل فضائلها      فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

    فأنت لن تكتسب إنسانيتك ولا كرامتك من جسدك، ففي البهائم من هو أقوى منك، الأسد أشد عضلات، والجمل أكبر جسماً، والفيل أضخم حجماً من الإنسان.

    إذاً أنت لست إنساناً بهذا الجسد، أنت إنسان بأشياء أخرى، ما هي هذه الأشياء؟ لقد جهل الإنسان نفسه، حتى قال الشاعر:

    دواؤك فيك وما تبصر      وداؤك منك وما تشعر

    وتحسب أنك جرم صغير      وفيك انطوى العالم الأكبر

    أنت خلق مميز، يقول الله فيك: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأنزل عليك كتبه، وبعث إليك رسله، وأعد لك جنته إن أطعته، وتوعدك بناره إن عصيته، هذه كلها سبل تكريم لك أيها الإنسان! ثم تظن أن الله خلقك لكي تأكل وتشرب، مثل البقرة أو الحمار!! لا. أنت مخلوقٌ مميز، لكن المصيبة أن الإنسان لا يعرف نفسه.

    1.   

    وظائف ومهمات أجزاء الإنسان الرئيسية

    أجل. من هو الإنسان أيها الإخوة؟! وحتى نعرف الإنسان.. الإنسان مكون من خمسة أجزاء رئيسية:

    الجسد

    الجزء الأول -وهو المعروف عند الناس الجسد-: وهو: عبارة عن هيكل عظمي مربط بعضلات وغضاريف وأعصاب، ومغطى بجلد، ومركب عليه أجهزة: جهاز بصري لرؤية الأجزاء والأجسام، وجهاز سمعي لمعرفة الأصوات، وجهاز تنفسي لاستنشاق الهواء، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي وغيرها.

    هذا الذي يسمى الجسد جزء واحد فقط من الأجزاء وهو غير مهم كأهمية بقية الأجزاء؛ لأنه لم يتعلق به ذم ولا مدح في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأت في القرآن مدح أهل الأجساد بناءً على أجسادهم، لا. بل جاء الذم، قال الله في سورة المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] أي: لعنهم الله؛ لأن الذي يهب الأجساد هو الله سبحانه وتعالى، الذي أعطاك الجسد القوي أو الضعيف، الجسد الأبيض أو الأسود، الجسد المتين أو النحيف، الجسد الطويل أو القصير؛ هو الله، فكيف نلومك أو نمدحك أو نذمك أو نثني عليك بشيء ليس منك أصلاً، فالجسد هو من خلق الله، ولم يتعلق به مدح ولا ذم؛ بل يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديثه يقول: (إن الله لا ينظر صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ولم يأتِ في القرآن ولا في السنة مدح للجسد إلا في حالة واحدة جاءت تبعاً للعلم والإيمان والدين في سورة البقرة، يقول عز وجل في طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فهذا خير أن يعطيك الله علماً وإيماناً مع جسم قوي، لكن الجسم بلا دين ولا إيمان يذم ولا يمدح، فهذه أجسام المنافقين والكفار، وأنتم ترون بعض الكفار فيهم قوة وعضلات، لكن قوة إلى النار، وعضلات إلى جهنم والعياذ بالله، فهذا هو الجسد الجزء الأول من الإنسان، ولسنا أيها الإخوة! بحاجة إلى التطويل فيه فإن الناس يعرفونه ويهتمون به، وبالتالي لا يحتاجون إلى مزيد توصية، لكن التوصية والتأكيد على الأجزاء الأربعة الباقية.

    الروح

    الجزء الثاني من أجزاء الجسد الرئيسية: الروح. والروح بمنزلة الطاقة المشغلة للجسد، مثل الميكرفون، الميكرفون مكون من أجهزة: لاقط، وعصا، وجهاز (إمبرفاير) و(هورن)، هذا الجهاز يكبر الصوت، لكن الذي يشغله الطاقة الكهربائية، إذا فصلنا الطاقة الكهربائية، هل يشتغل ويكبر الصوت؟ لا. لأن المشغل له الكهرباء، والجسد المشغل له الروح، إذا فصلنا الروح فهل يشتغل الجسد؟ وإذا مات الإنسان والجهاز السمعي موجود لكنه لا يسمع، والجهاز البصري -عينيه ستة على ستة- موجود لكنه لا يرى، والقلب موجود لكنه لا ينبض، والكلية موجودة لكنها لا تصفي الدم، والرئة موجودة لكن عملية الشهيق والزفير لا تعمل، لماذا كل الأجهزة توقفت؟ لأن الروح معزولة.

    إذاً: ما هي الروح؟ قف! إنها شيء استأثر الله بعلمه، وحجبه عن البشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئاً، بل لما سأله اليهود عن الروح قال الله له: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته عن شيءٍ من أسرار الروح إلا بخبر واحد وهو أن الميت إذا مات تبعها البصر، ولهذا أي ميت تأتي وتراه بعد الموت ترى عينيه شاخصتين إلى الأعلى، لماذا؟ لأن الروح خرجت وصعدت إلى الله فيتبعه البصر، ولهذا يشرع لمن حضر الميت أن يغمض عينيه؛ لأن عينيه شاخصتان إلى السماء، ولن تغمض إلا إذا أغمضتها أنت؛ لأن المشغل للتغميض خرج.

    تساءل من الذي يجعل عينك تغمض كل لحظة؟ ولماذا تغمض عينك كل لحظة؟ لأن عدسة العين عليها غطاء وفيها مادة ملحية، وتتعرض العدسة لعوامل الجو فتنشفها، فلا بد من عملية تمسيح لها، وفي نفس الوقت إعطاءها مسحة من الدمع لكي تظل دائماً مصقولة، فلو أن الله جعل عينك مفتوحة، وجعل عملك أنك تمسح عينك، فلن يكون لديك عمل إلا تمسيحها، كل لحظة تقفل وتمسح، لكن الله ركب لك على عينيك جفنين يعملان تلقائياً (أوتوماتيك)، بل بعضهم يدخل (مباراة) فيمن يفتح عينه لا يغمضها، ويقول: عينك في عيني، لا تغمض، فمن يغمض فعليه كذا! ولن يطبق؛ لأن عينه احتاجت أن يغمض غصباً عنه لكي يمسح العدسة، لكن عندما تموت أنت، وتفتح عينك، وتخرج الروح، فلا توجد روح تطبق جفنيك، بل تحتاج إلى شخص من الموجودين لكي يغمض عينك، ويغلق فمك، لكي لا تبقى فاغر الفم، شاخص العين.

    فالروح لا يعرفها أحد، بل استأثر الله بعلمها، وما دمنا لا نعرفها فلا يجوز لنا الخوض فيها، ولو أن الروح شيءٌ مادي يمكن معرفته لكان الناس قد وصلوا إليها، خاصة في هذا العصر -عصر العلم- فعندهم أجهزة دقيقة تكبر الأشياء، وأنا رأيت (مجهراً إلكترونياً) يكبر ثلاثة ملايين مرة، يعني المليمتر الواحد -الذي هو واحد على عشرة من السنتيمتر- يجعله ثلاثة (كيلو). فلو أن الروح شيء مادي لرأيناها تحت المجهر، لكن اسأل في الشرق، واسأل في الغرب، واسأل في الجامعات عن الروح، الجميع لا يدري.

    وقد قرأت قبل فترة بحثاً لعالم أمريكي أجرى أبحاثاً على الروح، ورصد حالة مريض يحتضر وركَّب عليه أجهزة ترصد أي حركة تدخل فيه أو تخرج منه، في صندوق زجاجي، وفجأة يموت الإنسان ولا تسجل جميع الأجهزة شيئاً، بمعنى: أن الروح شيء لا يعرفه البشر، ولا يعلمه إلا الله: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].

    فعلاقة الروح بالجسد علاقة تشغيل، وتنفصل من الجسد في حالتين:

    الحالة الأولى: حالة النوم.

    الحالة الثانية: حالة الموت.

    ففي حالة النوم تنفصل، ولكنه انفصال قريب، وتترك الجسد بدليل أنك لو أتيت إلى النائم ووضعت عند أنفه عطراً هل يشم وهو نائم؟ لا. وإذا فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً أو يديك وهو نائم هل يراك؟ لا يراك، تتكلمون في المجلس وهو نائم لا يسمعكم، رغم أن الأذن التي تسمع موجودة، والعين التي ترى موجودة، والأنف الذي يشم موجود، لكن الروح التي تجعلك تشم، وترى، وتسمع غير موجودة، أين هي؟! خارج الجسد، قريبة أم بعيدة؟ قريبة، فإذا أردتها أن تعود، توقظه وتقول: يا فلان يا فلان! فيقول: نعم، نعم. أين كانت؟ لا تدري، أعطه العطر، يشم، ولماذا شم الآن، ولم يشم حال النوم؟ لأن الذي يشم كان غير موجود... أين تذهب الروح عندما تنام أنت؟ لا تدري، قال العلماء: تبقى قريباً من الجسد بحيث إذا دعيتها تعود، ولهذا قال الله وهو يسمي النوم وفاة: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] يتوفى الأنفس: أي يميتها، حين موتها: أي: عند الموت.

    وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الاستيقاظ من النوم: (إذا قمت تقول: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).

    لكن لماذا النوم لا يمكن أن يكون إلا بخروج الروح؟ قالوا: لأن الروح راكب، والبدن مركوب، ولا يمكن أن يرتاح المركوب والراكب عليه، فهل يمكن أن ينام حصانك وأنت راكب عليه، طبعاً لا؛ بل لا بد أن تنزل عنه، ولهذا إذا دخلت بيتك الآن وأنت آتٍ من سفر، أو آتٍ من العمل متعب، مثقل، محطم، وقلت لزوجتك: دعوني أنَمْ، لا أريد أكلاً، لا أريد أن أرى أحداً، أريد أن أنام، أريد أن أرتاح فقط، فقالت لك زوجتك: تفضل، ادخل على السرير والمكيف والغرفة هادئة لكن استرح ولا تنم.. تمدد لكن لا تنم، وكلما غمضت عينك دقت الباب لئلا تنام، ما رأيك هل ترتاح؟ ولو تقعد أربعين ساعة لن ترتاح، لكن نَمْ أربع ساعات -وأنت نائم ينزل الروح الذي هو الراكب- ثم توقظك زوجتك، ستجد أنه قد ارتاح جسدك، تقوم وأنت تقول: ما شاء الله لا إله إلا الله، الحمد لله، أصبح جسمك قوياً، لماذا؟ لأن الراكب نزل، فالله عز وجل يُبعد الروح عن الجسد في النوم لكي يرتاح هذا الجسد.

    يا إخوان! النوم آية من آيات الله، يقول الله: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] فلو أن النوم غير موجود ما كان الناس ليعيشوا، وتصوروا حالة الطلاب أيام الامتحانات كيف بهم إذا سهروا، وكذلك السائقين أيام المواسم، كيف تتحطم قوتهم؛ لأنه سهران ليلتين أو ثلاث، وبعضهم يتناول هذه الحبوب لكي يسهر ويدمر نفسه لكن الله جعل النوم سباتاً، (سباتاً) أي: قاطعاً لنا من دنيانا لكي ننام حتى نستطيع أن نعيش وأن نواصل السعي في حياتنا ونحن بأجسام طيبة، هذه -أيها الإخوة- هي الروح.

    النفس

    الجزء الثالث من أجزاء الإنسان: النفس.

    والنفس يقول العلماء: إنها مستشار أول للقلب، فإذا أراد القلب أن يعمل شيئاً استشارها، فإذا كانت النفس أمارة بالسوء أشارت عليه بالسوء، والنفس في طبيعتها وأصلها أمارة بالسوء، كما قال الله: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] ولهذا مقاييس هذه النفس هي: الشهوات، الملذات، المتع، الراحة، النوم، الفسحة، الرحلة، السهرة، اللعب، هذه كلها تحبها النفس، وهناك أشياء أخرى لا تحبها النفس: القيود، التكاليف، الصلاة، الزكاة، الصيام، قراءة القرآن... لا تحبها النفس، مع أن الجهد المبذول في هذه الطاعات بسيط قياساً على الجهد المبذول في تلك الغفلات، لكن النفس هذه طبيعتها، لا تحب هذا، وانظروا الطالب أيام الامتحان يكره الكتاب، ويحب الجرائد بالرغم من أنه ليس عنده امتحان في الجريدة، بل عنده امتحان في الكتاب؛ لكن الكتاب كأنه حيات وعقارب لا يريد أن يراه، وإذا به إذا رأى مجلة أو جريدة قرأها وانبسط معها، لماذا؟ لأن النفس لا تحب القيود، تحب الدعة والانفلات.

    فهذه النفس أيها الإخوة! يقول العلماء: إنها هي المجال الأول للإصلاح الإنساني، فالله يقول في كتابه الكريم: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] أي: كل نفسٍ لديها القدرة على أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يأتي دورك أنت في تربية نفسك، قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] قالوا: تزكيتها بطاعتها الله وببعدها عن معصيته، وتدسيتها بوقوعها في معصية الله وحرمانها من طاعة الله عز وجل.

    دورك أيها الإنسان! هو إصلاح هذه النفس، كيف الإصلاح؟ بالمجاهدة، قال عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] جاهد النفس وعاندها، إن كانت تريد النوم عن صلاة الفجر فلا تدعها، أو كانت تريد الغفلة عن الذكر فلا تدعها، أو تريد الجريدة وتترك القرآن؛ لا. بل لا تترك القرآن، وإذا كانت تريد أن تنظر إلى الحرام؛ لا. وقل لها: والله لا تنظرين، أو كانت تريد أن تسمع الأغاني؛ فقل لها: لا لن تسمعي!

    الله أكبر! أنت ضد نفسك، جهاد في جهاد، فإذا رأت هذه النفس أنها مع إنسان قوي فستستسلم، وترتقي من درجة الأمارة بالسوء حتى تصبح -كما قال العلماء- نفساً لوامةً.

    فما معنى اللوامة؟ هي المعبر عنها في علم النفس الحديث بـ(الضمير)، يقولون: رجل عنده ضمير حي، وآخر ضميره ميت، الذي ضميره ميت؛ هذا هو الذي نفسه أمارة بالسوء، يزني ويسكر ويعمل كل جريمة؛ لأن قلبه ميت لا يحس، أما الذي ضميره حي هذا فيه خير، وإذا عمل جريمة تلومه نفسه تقول: لماذا عملت؟ هذه اسمها لوامة، تأمره بالشر ثم تلومه عليه. فيردها الإنسان ويؤدبها ويهذبها مرة أخرى، ويعاندها مرة أخرى إلى أن ترتقي إلى المرتبة النهائية؛ وهي: النفس المطمئنة.

    والنفس المطمئنة: وهي التي سكنت إلى أمر الله، واطمأنت إلى طاعة الله، فلا تحب إلا الله، ولا تحب إلا رسول الله، ولا تحب إلا شريعة الله، ولا تحب إلا بيوت الله، إذا دعيت إلى طاعة الله فرحت، وإذا عرضت عليها معصية الله نفرت، هذه نفس مطمئنة، لماذا؟ رضيت عن الله، ورضي الله عنها، يقول الله لها يوم القيامة: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] راضية في ذاتها، مرضيٌ عنها من قبل خالقها وبارئها: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:29-30] هذه النفس هي الجزء الثالث وهذه مهمتها، يقول العلماء: إن النفس مثل الدابة، إما أن تركب عليها، وإلا ركبت عليك، فإن ركبت عليها وقصرتها على أمر الله سرت بها إلى الله، وإن ضعفت أمامها ركبت عليك نفسك، وأوردتك إلى النار والعياذ بالله.

    العقل

    الجزء الرابع من الأجزاء: العقل.

    والعقل يقول العلماء: إنه مستشار ثانٍ للقلب، لكن مقاييس العقل غير مقاييس النفس، استشارة النفس منطلقها الشهوات والمتع والملذات، أما العقل فلا، استشاراته تنطلق من المصالح.. المفاسد.. النتائج.. الآثار.. فالعقل يفكر! فإذا قالت النفس فكرة للقلب، فإن كانت قوية أثرت في القلب، والقلب مريض لا يستطيع أن يحمل هذه الفكرة ويردها فيأتي العقل ليقول: لا هذا خطأً، فتقول له النفس: هذا ليس خطأً، فيطيع الإنسان نفسه.

    وأضرب لكم على هذا أمثلة:

    شرب الدخان، فالذي يدخن أليس في قرارة نفسه قناعة أن الدخان مضر، وهل يوجد شخص في الدنيا يدخن وهو لا يعرف أنه ضار؟ لا. الجميع يعرف أنه ضار، ويقرأ على علبة الدخان (التدخين يضر بصحتك) جميع الشركات المصنعة في العالم تصنع مصنوعاتها وتكتب عليها دعاية لها إلا الدخان، فإن شركاته تصنعه وتكتب عليه دعاية ضده، وأيضاً فإن جميع المأكولات والمشروبات في الدنيا إذا صنعت كتب عليها تاريخ صلاحية بداية ونهاية، إلا الدخان من يوم صنعوه كتبوا عليه أنه يضرك من ذاك اليوم.

    إذاً لماذا الإنسان يدخن؟ يفكر في عقله يقول: الدخان والله ضار، الدخان يسبب لك مرضاً، الدخان يتلف مالك، فيأتي القلب يريد أن يطيع العقل، فتقول النفس: دعك من هذا الكلام، الناس كلهم يدخنون، لو أنه حرام لم تسمح الدولة بدخوله، فيقول القلب: صدقتِ، لماذا يلغي عقله؟ لأن نفسه أمارة بالسوء. متى يكون للعقل هيمنة؟ قالوا: لا يكون للعقل هيمنة إلا في ظل سلامة القلب وضعف النفس -أي: صلاح النفس- فيأتي العقل ليقول: هذا حلال نواصل فيه، وهذا حرام نبعده، لكن إذا قال: هذا حرام قالت النفس: لا. ليس حراماً، الله غفور رحيم.

    أيضاً من الأمثلة: الزنا جريمة موبقة، وكل إنسان يعرف أنها حرام، فيأتي القلب ليستشير النفس في الزنا، فتقول: فرصة لا تفوتك، ويشاور العقل فيقول: احذر! هذه جريمة، إذا ضُبطت تفصل من وظيفتك، ويسقط اعتبارك، وتصبح من أهل السوابق، تسجن ويجلد ظهرك بالسوط، احذر! وأتى إلى النفس، قال: يقول العقل كذا وكذا وكذا، قالت: هذا إذا ضبطوك لكن من يضبطك كن رجلاً حذراً، لا أحد يراك، قال القلب للعقل: النفس تقول كذا، قال العقل: وإذا لم تضبط في الدنيا، سيضبطك الله في الآخرة، فالله عز وجل يراك، قال عند النفس: يقول العقل: كذا، قالت: الله غفور رحيم، تب بعدها، الناس كلهم يتوبون: (ولو لم تذنبوا فتستغفروا...) وتأتيك بالأدلة، فيقع الإنسان في الجريمة بسبب قوة النفس وضعف القلب، والضعيف لا يصنع شيئاً، صحيح أن القلب ملك الجوارح، لكن إذا كان ملك الجوارح مريضاً، كما لو كنت رب أسرة وأنت مريض، هل تستطيع أن تسيطر على أولادك؟ فالولد الذي يأتي الساعة الثانية عشر وأنت مريض لا تقدر أن تتحرك من فوق السرير ماذا تفعل به؟ تتوعده إلى أن تتعاف من المرض، وإذا لم تتعاف فلن تستطيع أن تعمل شيئاً، والمرأة تخرج بغير إذنك، فتقول: أنا مريض الآن ما عليكِ، انتظري حتى أتعافى والله لأكسرنَّ ظهركِ، لكن هل تستطيع أن تكسر ظهرها وأنت مريض؟ لا. فلو قمت تضربها ضربتك، والولد إذا كنت مريضاً وتقوم لتمسكه أزاحك عن الباب وتركك.

    فالقلب إذا كان مريضاً فإن الأعضاء تتمرد، فالعين تنظر ولا تبالي بالقلب، والأذن تسمع ولا تبالي بالقلب، والنفس تأمر بالسوء ولا تبالي بالقلب، وكل الجوارح تتمرد، لماذا؟ لأن هذا القلب مريض.

    القلب

    القلب: هو العضو الخامس والأخير، ويسمى ملك الجوارح، وسيد الأعضاء، وكما جاء الحديث في الصحيحين : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) إذا صلح القلب صلحت العين، والأذن، وصلح اللسان والفرج، وصلحت اليد والرجل، وصلحت الحياة كلها؛ الآن الشباب الملتزمون -نسأل الله أن يبارك فيهم- ما الذي تغير في حياتهم؟ تغير القلب، حصل عند أحدهم قناعة في قلبه أن الطريق الذي كان فيه غير صحيح، وأن الطريق الصحيح هو الدين والإيمان فالتزم، ولما أن التزم، أصبحت عينه لا تنظر إلى النساء، لم يركباً عين جديدة؛ بل هي عينه الأولى لكن!- من حين يرى امرأة يغض بصره! لماذا تغض الآن ومن قبل ما كنت تغض؟ لأن القلب صلح، وأذنه التي كانت تتابع الأغاني في الإذاعات من يوم يسمع نغمة يغلقها، هل غير أذنه في السوق واشترى أذناً جديدة؟ لا. هي نفسها، لكن الذي تغير هو قلبه، أما يده التي كانت تبطش بالحرام، وبطنه التي كانت تأكل الحرام، وفرجه الذي كان يقع في الحرام، ورجله التي كانت تمشي في الحرام هي نفسها، فما الذي تغير؟ تغير القلب: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) هكذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    فهذا القلب لا يسيطر على النفس، ولا يقبل تأشيرات العقل إلا إذا كان سليماً معافىً.

    فإذا سلم القلب قبل نصائح العقل، ورفض أوامر النفس، وصلحت حياة الإنسان كلها. معنى هذا أن القلب يمرض، نعم، القلب يمرض، وتعتريه العلل، وتصيبه الآفات كما تصيب أي جارحة من الإنسان، وعلامة مرضه عدم قيامه بواجبه، فمثلاً هذه اليد دورها في الجسم العمل، فإذا تعطلت، تقول يدي مريضة، والعين دورها النظر، فإذا عميت تقول: عيني مريضة، والأذن دورها السماع، وإذا لم تسمع تقول: أذني مريضة، والقلب ما هو دوره؟ معرفة الله، معرفة دين الله، معرفة رسول الله، محبة الله، وإذا لم يعرف الله ولا عرف الدين فهو مريض لا يقوم بدوره، فمتى يقوم بدوره؟ إذا كان سليماً، وهل ينتفع الإنسان بقلبه إذا كان مريضاً؟ لا. قال الله عز وجل في كتابه الكريم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] ويثني الله على إبراهيم فيقول: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] سليم من ماذا؟ ما هي الأمراض التي تصيب القلب حتى نتجنبها؟ قال العلماء: أولاً القلب يصاب بالعمى -نعوذ بالله وإياكم من عمى القلب- قال الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] قلبك الذي في صدرك هو عبارة عن مضخة، تضخ الدماء، وهذه وظيفة مادية ليس لنا علاقة بها، لكن القلب الذي نعني به: اللطيفة الروحية التي أودعها الله في هذه المضغة، والتي بها نعرف الحياة كلها.

    فالقلب يضخ الدماء كوظيفة مادية، لكن له وظيفة أخرى، وهي: حب الله ومعرفته، ولذا تنظر إذا فرحت ما الذي يتأثر فيك؟ قلبك، يكاد قلبك يطير من جوفك من الفرح، وإذا حزنت يكاد يموت قلبك تقول: والله كأنه والله طعنني في قلبي، وإذا سمعت خبراً سيئاً كموت حبيب أو قريب، أو حادث، تقول: امسك قلبي، قلبك مضخة الدم لم يصبه أذى، لكن قلبك المعنوي اللطيف الذي أودعه الله في صدرك، فالقلب يسلم ويمرض، ويبصر ويعمى.

    إذاً: ما علامة عماه؟ قالوا: ألا يرى طريق الله، يقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26] أفئدة: قلوب، ويقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] وقال الله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] كيف لا يسمعون؟ هم يسمعون لكن لا يسمعون ما يحب الله، هم يرون لكن لا يرون طريق الله، هم يفقهون لكن لا يفقهون دين الله، كأن هذه الأجهزة ليست موجودة عندهم؛ لأن الله يقول: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26] لماذا؟ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26] فجحودهم عطل هذه الجوارح، ما فقهوا بأعينهم إلا ما تفقهه البهائم، ولا سمعوا بآذانهم إلا ما تسمعه البهائم، ولا فكروا بقلوبهم إلا في شهواتهم كما تفكر البهائم، لكن ما تفكروا فيما هو مطلوب منهم، وما هو المطلوب منك أيها الإنسان؟ مطلوب منك أن تعرف الله، وتعرف دينه، ونبيه، وأن تسير على منهجه، وأن تعبده حق عبادته، فإذا تعطل القلب عن هذا فهو مريض.

    1.   

    أمراض القلوب

    إن أمراض القلوب عديدة؛ لكن أخطرها ثلاثة، إذا أصيب بواحد منها انتهى -مثل السرطان ليس له دواء- والعياذ بالله.

    المرض الأول: مرض شبهة.

    المرض الثاني: مرض شهوة.

    المرض الثالث: مرض غفلة.

    مرض الشبهة

    مرض الشبهة من أخطر أمراض القلوب على الإطلاق، لكن ما هي الشبهة؟

    قال ابن القيم : رب شبهة أورثت شكاً في دين الله. شك في الله ووجوده، شك في الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، شك في الجنة والنار والبعث بعد الموت وعذاب القبر، والدين هل هو صحيح أو غير صحيح؟ هذه شبهة. من يزرع هذه الشبهة؟ الشيطان. لماذا؟ ليزعزع الإيمان. فكيف يكون العلاج؟ كيف أعالج قلبي، بل كيف أحصن قلبي ضد مرض الشبهات؟

    قالوا: علاجها اليقين بأخبار الله، فإن الله قد أخبرنا عن نفسه، وناره، والبعث، والملائكة، والجن.

    هل أحد أصدق من الله؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، لا مبدل لكلمات الله، الله أخبرنا؛ أَلاَ نَثِقُ في خبر الله! أيها الإخوة؟! إذا جاءنا خبر من وكالة أو من جريدة مباشرةً نصدق، والله يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] فعلينا أن نتلقى الأخبار الإلهية باليقين، واليقين هو منتهى درجات التصديق، أي أن يستيقن القلب ويثبت ويطمئن على هذا الكلام أنه حق، فالله يقول في القرآن الكريم: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] (الحق) البعث.

    ويقول في آية أخرى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53] إنه حق: أي البعث. ويقول: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] إن كان مستحيلاً بالنسبة لكم فهو يسير عند الله، فعالج يا أخي الكريم مرض الشبهات باليقين، وطمئن نفسك أن كل خبر يأتيك من الله ورسول لله تقبله، ولو عارضته الدنيا بأسرها.

    وهناك حديث في الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليرفعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء) رواه البخاري ومسلم ، وهذا الخبر وقف أمامه شراح الحديث في الماضي موقف المتعجب، أنهم لا يدرون ولا يعرفون كيف يكون في جناح الذباب داء، وفي الثاني دواء، ولا يوجد في ذلك الوقت جامعات، ولا أجهزة رصد علمي، ولا بحوث، ولا كشف، فكان غاية ما يقول الشراح في هذا الحديث: الله أعلم بمراده. لا ندري ما في هذا الحديث لكن نصدق به، جاء العلم والكشف والبحث العلمي، وجاءوا بالحديث وهذه صورة من صور الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، وجاءوا بالذباب، وعملت التجربة في جامعة الملك عبد العزيز، في مركز الإعجاز العلمي للكتاب والسنة، جاءوا بالذباب في جهاز ووضعوا في الجهاز ماء وهذا الماء معقم بدرجة كبيرة بحيث لا يوجد فيه جرثومة واحدة، وأدخلوا ذباباً بملقط من خرق في صندوق، تحرك حتى تعب ثم وقع في الماء، فلما وقع في الماء التقطوه، وأخذوا عينة من الماء وحللوها فوجدوا أن فيه ملايين الجراثيم بمجرد أن غمس الذباب جناحه الذي هو ملئ بالداء، وبعد قليل أرجعوا الذباب وغمسوه كاملاً، ثم رفعوه، وأخذوا عينة أخرى من الماء نفسه، وحللوها فجدوا أن جميع المكروبات التي كانت فيه قد ماتت كلها. من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؟ هل لديه بحث علمي في الصحراء أو في مكة ؟! هو لا يعرف كتابة اسمه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو أُمّي لو وضعت أمامه (أ، ب) لا يعرف ما هي! لكنه عالم البشرية كلها، والمعلم الأمثل للإنسانية لا يعرف أن يكتب حرفاً، لكن علمه الله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].

    هذا المعلم للإنسانية كلها لا يعرف أن يكتب أو يقرأ المكتوب، فكيف يستطيع أن يعرف مثل هذا لولا أن الله أعلمه به؟

    فنحن إذا أخبرنا الله بخبر أو أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نسلم ونصدق، ولا نبحث ولا ندخل في قلوبنا الشكوك؛ لأن الشك هذا هو القنبلة التي تنسف الإيمان من القلب، وإذا أصيب القلب بداء الشك ذهب الإيمان وتزعزع اليقين، وخسر الإنسان في الدنيا والآخرة. هذا مرض القلب الأول: الشبهة.

    مرض الشهوة

    المرض الثاني: مرض الشهوة، وهذا وإن كان خطيراً إلا أنه أخف من الأول، قال ابن القيم : وهو مرضٌ يورث تقديم الهوى على أمر الله، فإن الإنسان يحصل في قلبه صراع بين شهواته وبين أوامر الله.

    ومن أمثلة ذلك: شهوة النوم عن صلاة الفجر، أحسن النوم عند الإنسان نوم الفجر، لكن في هذا الوقت أمر الله بالصلاة في المسجد، فيحصل صراع بين أمرٍ لله، وشهوة للنفس بالنوم، فماذا يحصل عندك؟ إن كان قلبك مريضاً نِمتَ، وإن كان قلبك سليماً قمت للصلاة، ولهذا يفترق الناس في صلاة الفجر بين سليمٍ ومريض، المريض هو المنافق، يقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر) وإذا أردت أن تسأل وتعرف هل أنت مسلم أو منافق فاسأل نفسك عن صلاة الفجر، إن كنت من أهلها بالتزام؛ فاعلم أنك مؤمن، وإن كان (البعيد) لا يعرف صلاة الفجر فليعلم أنه منافق، وليس بينه وبين عذاب الله إلا أن يموت، لماذا؟ لهذا الحديث: فإنه فرق بيننا وبين المنافقين بصلاة الفجر، ولذا نرى أقل نسبة في صلاة المسلمين في صلاة الفجر، لماذا تصلي المغرب والعشاء ولا تصلي الفجر؟ لأن القلب مريض، ولو أن القلب سليم لصلى صاحبه مباشرة، ولو أُعلن أن من صلى الفجر في المسجد جماعة فله مائة ريال، هل يصلي في البيت أحد؟!! والله لا ينامون إلا في المساجد، خاصة (الشيبان)، سوف ينامون في الصف الأول، وإنه سيأتي هو وأولاده يأمرهم بالصلاة، لماذا؟ من أجل مائة ريال!! لكن الآن يصلي وأولاده لماذا لا يصلون؟ قال: يهديهم الله، لكن إذا أتت المدرسة من يهديهم: الله أو العصا؟ العصا تهديهم، فتوقظه للمدرسة، لماذا؟ لأن حب المدرسة وحب الدنيا في قلبه، يقول: قوموا ادرسوا لكي تكونوا رجالاً، لتتخرجوا من المدارس وتحصلوا على وظائف، ولا تصبحوا ضائعين؛ لكن لا تقوموا تصلوا، (دعْهُ ينام مسكين!) مسكين عن الصلاة! لا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا؟ لأن القلب مريض والعياذ بالله.

    الشهوة هنا هي التي تتصارع مع الأمر الرباني، فإذا غلب أمر الله شهوتك فقلبك سليم، وإذا غلبت شهوتك أمر الله فقلبك مريض.

    - شهوة الأغاني تتعارض مع أمر الله في حفظ السمع، فإن كنت حفظت سمعك وتركت هذه الأغنية فقلبك سليم، وإن كنت ممن يسمعون فقلبك مريض، وكل الشهوات قِسها على هذا؟

    إذاً: كيف تعالج؟! قلنا: إن علاج مرض الشبهة في اليقين، وعلاج مرض الشهوة بالصبر على صلاة الفجر، فالذي يصلي الفجر يتعب لكن عليه أن يصبر والله يعينه، نعم. لا يوجد إنسان يقوم يصلي الفجر إلا ويحس بتعب؛ لأنه يقوم في وقت يحتاج فيه إلى النوم والراحة والدفء، ولكن يغالب نفسه ويقوم يصلي، لكن هل يبقى معه شيء من التعب؟ فالذين صلوا الفجر من قديم هل بقي معهم شيء من التعب؟ ذهب التعب كله وبقي الثواب، والذين ناموا عن صلاة الفجر ارتاحوا لكن هل بقي شيء من الراحة؟ ذهبت الراحة وبقي العذاب.

    وهكذا الدنيا ستنتهي ملذاتها كلها، وتنتهي الصعوبات كلها، وتجد نفسك في يوم من الأيام أمام جدار اسمه الموت. تصطدم فيه اصطداماً غير متوقع، ثم تنزل في محطة اسمها القبر، ثم يُقال لك: خذ كشف الحساب ويوم القيامة يقال لك: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] وقال تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] يقول المؤمن: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ... [الحاقة:19] وذاك يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة:25] يا ليتني ما رأيت الفضائح التي فيه، كل فضيحة عملتها موجودة في هذا الكتاب: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:26-27].

    وحتى تتغلب على مرض الشهوة عليك أن تتسلح بسلاح الصبر، اصبر على أوامر الله، واصبر عن المحرمات، والشجاعة كما يقولون: صبر ساعة، اصبر قليلاً، وأنت لو لم تصبر على المذاكرة لا يمكن أن تنجح، ولو لم تصبر على تعب العمارة هل يمكن أن تبني؟ ولو لم تصبر على جمع المال حتى تشتري سيارة، هل يمكن أن تشتري سيارة؟

    إذاً: لماذا لا تصبر على الدين؟ تصبر على كل شيء إلا على الدين! فلا بد من الصبر أيها الإخوة! ولهذا فإن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، ولا دين لمن لا صبر له، كما أنه لا حياة لمن لا رأس له.

    وقد ذكر الله في القرآن الصبر في أكثر من تسعين موضعاً، وأمر الله به، وأمر به الرسول، يقول الله للرسول: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:96].. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] إذاً لا بد أيها الإخوة! -حتى نعالج ونواجه الشهوات- من الصبر؛ لأن هذه الشهوة مركبة فينا، والله يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] حتى الملتزم في نفسه دافع للشهوات، لكن لما غلب نفسه بالصبر فكانت نفسه تذل، ولو أعطى لنفسه فرصة وتخلى عن الصبر لوقعت في الشهوات فيختلف الناس من رجل لآخر بحسب ما عنده من الصبر، وهنا يثبت في الميدان أهل الإيمان، فيصبرون على طاعة الله، ويصبرون عن معصية الله، ويصبرون على أقدار الله المؤلمة.

    وابن القيم رحمه الله يتحدث في هذا الموضوع بكلام عجيب، ويقول: الصبر ينقسم من حيث هو إلى ثلاثة أقسام: صبرٌ على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبرٌ على الأقدار المؤلمة.

    ثم ينقسم مباشرة من حيث العبد إلى ثلاثة أقسام: صبرٌ وتصبرٌ واصطبار، صبرٌ في البداية، تصبر في تعب، اصطبار هو التلذذ بالبلوى باعتبارها اختيار المولى. يعني تتلذذ وأنت تمارس شيئاً من أوامر الله، أو تترك شيئاً من معصية الله، هذه منزلة لا تبلغها إلا بعد تعب.

    ثم قال: وهو ثلاثة أقسام من حيث تعلقه بالآخرين: صبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله، وصبرٌ لله، يقول: وأسوءها الصبر عن الله. صبر بالله أي تصبر مستعيناً بالله، وصبر لله أي من أجل الله، وصبرٌ عن الله وهو أسوأ أنواع الصبر أن تشغل نفسك بما يصرفك عن الله، مثل من يشتغل الآن بالأغاني، وبالأفلام والمسلسلات، من أجل أن يصبر عن الله، لا يريد ذكر الله، ولا يريد أخذ نفسه لحظة إلى الله، فهو يتصبر بهذه الشهوات وبهذه الملهيات، وبهذه الفتن، لماذا تتصبر؟ قال: دعنا نعيش، يتصبر عن من؟ عن الله، الله خلقك له فتتصبر عنه، لا حول ولا قوة إلا بالله. فهذا المرض الثاني مرض الشهوة.

    مرض الغفلة

    المرض الثالث: مرض الغفلة وهذا خطير؛ لأنه سجن للقلب، يصرف الإنسان عن الهداية، فلا يمكن أن يهتدي الغافل، يقول الله عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146] (عن آياتي) أي عن دلالاتي وهدايتي. لماذا؟ قال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146].

    ما هي الغفلة؟ قال العلماء: هي نسيان الله وأمره ووعده ووعيده. فتنسى الله وتنسى وعده ووعيده وجنته وناره ولقاءه والموت والكتاب والسنة والبعث، وتعيش ملفوفاً في دولاب الحياة، تصبح وتمسي وتتمشى وتأكل وتشرب غافلاً إلى أن تموت، فإذا مِت استيقظت، قال الله: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] يرى لكن لا ينفع، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، إذاً انتبه عند الموت: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لماذا ترجع؟ قال: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] لماذا لا تعمل الآن، تعمل السيئات إلى أن تموت، ثم تقول: ارجعون، قال الله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

    - هذه أيها الإخوة! هي الخمسة الأجزاء الرئيسية، جسدٌ لا يتعلق به مدحٌ ولا ذم، أنت طويل أو أبيض أو أسود، أو سمين أو نحيف، إن هذا ما يزيد عند الله ولا يعطيك شيء عند ربك.

    وروح لا تعرف عنها شيئاً.

    ونفس ينبغي مجاهدتها وتربيتها على أمر الله.

    وعقل ينبغي تنويره بالقرآن والسنة.

    وقلب عليك الحرص على سلامته من مرض الشبهات، ومرض الشهوات، ومرض الغفلات، يقول ابن تيمية رحمه الله عند قول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين. الصبر عن الشهوات، واليقين ضد الشبهات. هذا أيها الإخوة! هو الأمر الأول.

    1.   

    الحكمة من خلقنا

    أما الأمر الثاني: فهو لماذا خلقك الله؟

    هناك احتمالان: إما أن الله خلقك عبثاً، أو خلقك لغرض، فهل خلقك الله عبثاً؟ لا. وقد أبطل الله هذا الزعم كما سيأتي.

    إذاً: الله خلقك لهدف، فما هو هذا الهدف؟ هل تعرفه أنت؟ لا. لماذا؟ لأنك لست أنت الذي خلقت نفسك حتى تعرف لماذا جئت، ولكن يعرفك الذي أتى بك، الذي خلقك يعرف لماذا خلقك، تسأل الذي خلقك وقد أجاب الله من غير سؤال وقال لنا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهذا هو الهدف.

    إذاً ما هي العبادة؟ هل هي الصلاة والزكاة والصوم؟ لا. ليست هذه هي العبادة فقط، فما هي العبادة التي وردت في الشرع؟ هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

    فوظيفتك في الحياة هي العبادة، إذا قمت بهذه الوظيفة تسمى رجلاً صالحاً، مثلاً جهاز الميكرفون، إذا كبر الصوت نقول: جهاز صالح، أما إذا شغلناه بالكهرباء ولم يكبر الصوت، نقول: جهاز فاسد، أنت صالح إذا سرت في وظيفتك، وما هي وظيفتك؟ العبادة، فأنت رجل صالح، وإذا ضيعت وظيفتك -العبادة- تصير رجلاً فاسداً.

    مثلاً المكيف وظيفته تبريد الهواء، وإذا لم يبرد الهواء، نقول: مكيف خربان، أما إذا برد الهواء، فنقول: مكيف صالح.

    السيارة وظيفتها حمل الناس، إذا لم تمش نقول: سيارة خربانة.

    وأنت إذا ما عبدت الله نقول: إنسان فاسد، لكن أصلح نفسك، إذا لم تصلح نفسك ومت وقدمت على الله وأنت خربان ماذا يحصل؟ يحصل لك تصليح، لكن أين؟ في ورشة اسمها جهنم، يقول الله تبارك وتعالى: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:18] يقول الشيطان: سوف أضلهم، قال: اذهب أنت وإياهم، كلكم في جهنم، هذه ورشة النار، من الذي يدخلها؟ الفاسد، أما الصالح، لا. الذي يأتي: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    ويقول الله عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35] نسأل الله وإياكم من فضله.

    وظيفتك أيها الأخ الكريم! العبادة بمفهومها الشامل، وعليك أن تجري نوعاً من الرصد والمحاسبة لنفسك لتعرف أين أنت من العبادة؟ هل أنت عابد أم فاسد؟ وابدأ بالجوارح واحدة واحدة، خذ عينك وقل: يا عين أنتِ عابدة، أمرك الله بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وأمرك بالنظر في القرآن الكريم، ونهاك عن النظر في الحرام، هل أنت عابدة يا عين، أم فاسدة؟ الجواب لديك تعرفه أنت. إن كانت عينك تنظر الأفلام والمسلسلات والنساء في الشوارع والطرقات فعينك فاسدة لا تشتغل في الهدف الذي خلقها الله من أجلها، وإن كانت عينك تغض عن المحارم وتنظر في كتاب الله، وتنظر في السماوات والأرض فتعتبر عينك صالحة.

    تأتي إلى أذنك وتقول: يا أذن ما وظيفتكِ؟ سماع الحق: القرآن، العلم، الدين، هل تسمعين هذا، أم تسمعين السماع الثاني: سماع الغناء، والخنا، والغيبة، والنميمة، والساقط من القول، فإن كانت الأولى فهي أذن سليمة، وإن كانت الثانية فهي أذن مريضة.

    فاسدة، تأتي إلى البطن ماذا يأكل، تأتي إلى اليد أين تمتد، تأتي إلى الفرج أين يقع، تأتي إلى الرجل أين تمشي، تأتي إلى اللسان ماذا يتكلم به، تأتي إلى الجسد كله أين يشتغل، هذه المعاصي...

    تأتي إلى الطاعات، فأنت مأمور بالصلاة هل صليت؟ مأمور بالزكاة هل زكيت؟ مأمور بالصيام هل صمت؟ مأمور بالحج هل حججت؟ مأمور بالدعوة هل دعوت؟ مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل أمرت ونهيت؟ مأمور بالحب في الله هل أحببت في الله؟ هذه أوامر الله، إذا سرت في هذا أنت صالح عابد لله، وإذا لم تسر في هذا فأنت البعيد الفاسد، وقد ضيع الحكمة والغرض الذي من أجله خلقه الله.

    أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم قلوباً سليمة، وألسنة صادقة، وأن يوفقنا وإياكم للعبادة والعمل الصالح، وأن يتوب علينا جميعاً مما نمارسه أو نقع فيه من الأخطاء والمعاصي، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    .

    حكم تكرار الفاتحة للإمام والمأموم

    السؤال: ما حكم تكرار قراءة الفاتحة في الصلاة للإمام إذا سها؟ وما حكم تكرار المأموم لها؟

    الجواب: إن سجود السهو يشرع للزيادة أو للنقص أو للشك، أنا قد زدت الفاتحة، ولكن زيادتي ناتجة عن شكٍ، فقد حصل في قلبي أنني لم أقرأ الفاتحة كاملة في القراءة الأولى، وتيقن عندي أنني لم أقرأ فأعدت قراءتها، ولا حرج في هذا ثم سجدت للسهو، والسجود للسهو للعلماء فيه كلام، أنه يكون مرةً قبل السلام، ومرةً بعده، والتفصيل فيه أنه إذا كان السجود من أجل نقص في الصلاة فيكون السجود قبل السلام، وإن كان السجود للسهو من أجل الزيادة -مثلما حصل عندنا- فيكون بعد السلام، وإذا خشي الإمام أن يؤدي سجوده للسهو بعد السلام إلى لبسٍ عند المصلين يدفعهم بحكم عدم فهمهم لقواعد المسألة أن يقولوا: سبحان الله! فليسجد قبل السلام؛ لأن قضية قبل أو بعد الأمر فيها واسع.

    السؤال: ما حكمي أنا كمأموم قرأت الفاتحة في المرة الأولى، فهل أقرأ مرة أخرى أو لا أقرأ؟

    الجواب: ليس هناك مانع، إن قرأت مرة أخرى فخير على خير، وإن لم تقرأ تكفيك قراءتك الأولى؛ لأن قراءة المأموم للفاتحة مطلوبة؛ لأنها ركن لا بد من الإتيان به، لحديث عبادة بن الصامت : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)وهو في الصحيحين .

    نصيحة بمناسبة الامتحانات

    السؤال: ما الذي تنصح به الطلاب مع قرب موسم الامتحانات؟ وبم تنصح الآباء والأمهات؟

    الجواب: أولاً: أنصح الآباء والأمهات والأبناء والبنات أن يتذكروا بالامتحانات الامتحان الرهيب الذي سوف نقف فيه بين يدي الله يوم القيامة.

    تذكروا أيها الإخوة! أن المُمتحِن هو الله، وأن الكتاب الذي نمتحن فيه كتاب: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] وأن زمن الامتحانات الذي هو ساعة، أو ساعة ونصف، أو ساعتان، أو ثلاث ساعات سيكون ذلك اليوم يوماً مقداره خمسون ألف سنة، وأن صالة الامتحانات ليست مكيفة، وإنما في عرصات القيامة، تغلي فيها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، فلنتذكر هذا الامتحان الرهيب ولنعد له من الآن، ثم إنه ليس هناك دور ثانٍ، إما نجاح وفوز وفلاح إلى أبد الآبدين، وإما رسوب إلى أبد الآبدين، لا يوجد تعويض بخسارة الآخرة، والله يقول: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

    أما ما ننصح به الشباب بخصوص الامتحانات:

    فأولاً: الاستعانة بالله، وإخلاص النية من أجل طلب العلم، فلا يكون طلبك للعلم من أجل الشهادة، أو من أجل الوظيفة؛ لأنه في الحديث: (من تعلم العلم ليماري به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليبتغي به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) وليكن غرضك من هذا العلم أن تتزود به لمعرفة دينك، ولنصرة الحق أو الموقع الذي أنت فيه، وتستعين براتب الوظيفة على طاعة الله تبارك وتعالى.

    ثانياً: أن تجتهد في ألا تغش؛ لأن الغش محرم والحديث في الصحيح : (من غشنا فليس منا) والغش كلمة عامة في كل شيء، والله أمرنا بالصدق، ونهانا عن الخيانة، والغش في الامتحان خيانة، والغش في البيع والشراء خيانة، والغش في العمل المهني خيانة، والغش في الورشة خيانة، فلا تكن غاشاً، والله أمرنا حيث قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] وما من خائنٍ إلا يوم القيامة تمثل له خيانته وغدرته لواء يعقد على استه ثم يُرمى بخيانته في النار والعياذ بالله، فأنت اتقِ الله لا تغش ولو حرفاً واحد.

    ثالثا: نظم وقت المذاكرة بحيث تذاكر في أوقات مناسبة، وحذار من السهر ليلة الامتحان، هذا شيء مجرب وأنا صاحب تجربة ورجل تربية، عشت عشرين سنة مدرساً ومدير مدرسة وأعرف هذا، وعشت طالباً، إلى الآن لا زلت أعتقد وأنا في الدكتوراه أن ليلة الامتحان تحتاج للنوم المبكر، ذاكر من قبل لكن إذا جاءت ليلة الامتحان نم مبكراً لتستيقظ وذهنك متفتح ومرتاح، تذهب إلى الامتحانات فتأتي المعلومات كلها؛ لكن تسهر إلى الفجر ثم تذهب الامتحان فتطير المعلومات كلها، ولا تبقى معلومة، تحاول أن تتذكر وتبحث فلا تجد حرفاً واحداً، فإذا خرجت ورقدت وقمت وإذا بك تتذكر المعلومات، من الذي أبعد المعلومات؟ الإعياء والتعب والسهر، فلا بد أن تنام.

    أما الآباء والأمهات فعليهم تهيئة الأجواء المناسبة للأبناء والبنات في المذاكرة وعدم إشغالهم بأي شيء، وأيضاً الرفق في قضية المذاكرة، بعض الآباء يُعقد ولده من المذاكرة، يأخذ العصا ويضربه ويقول له: ذاكر، والعصا عنده، وكلما رفع رأسه قال: ذاكر .. لماذا لا تذاكر؟ ثم يضربه، فهذه ليست مذاكرة، هذه مضاربة، حتى إن بعض الأولاد يوهم أباه أنه يذاكر، ولكنه لا يقرأ شيئاً بل يتمتم فقط، ولكن من أجل أبيه أو من أجل الضرب، فالمذاكرة ليست هكذا.

    اختر أوقاتاً معينة للمذاكرة، ثم خلل هذه الأوقات بجزء من الفسحة واللعب، فإذا ذاكر نصف ساعة أو ساعة، فقل: ما شاء الله! خذ لك عشر دقائق تستريح خلالها.. انزل عند الباب.. تمشَ في الغرفة.. انظر من النافذة، المهم أن تعطيه شيئاً لكي يجدد نشاطه، وأنا والله أعرف أحد الأقارب سجن ولده في غرفة وأتى بالعصا، وتركه في الزاوية، قال: والله لا تقوم حتى تحفظ الدروس كلها، وكلما قام من مكانه ضربه، وعندما أتى آخر الامتحان أتى بالشهادة وإذا فيها ثلاث عشرة مادة راسب فيها. قلت: جزاك الله خيراً والله ما قصرت في هذه المذاكرة مع ولدك، لو أنك تركته لرسب في واحدة أو اثنتين، لكن بالعصا رسب في ثلاث عشرة، يا ليتها واحدة أو اثنتين، لماذا؟ لأن المذاكرة لم تكن سليمة.

    فلا نريد أن نعقد الأبناء من العلم بهذا الأسلوب الجاف والغليظ، وإنما بالتي هي أحسن، ثم بالمناقشة وخاصة إذا كنت تقرأ ناقشه، فليست المسألة مسألة حفظ فقط، إنما هي مسألة فهم، إذا فهم الدرس والمادة رسخت في ذهنه يأتي بها إن شاء الله، في الامتحان.

    الحياة الحقة في الاستجابة لله ورسوله

    السؤال: لقد كنت في طاعة الله مرتاح القلب، مطمئن النفس، ولكن جالت بي النفس عن طاعة الله ووقعت بمحارم الله، فحال الله بيني وبين قلبي فلا أدري ماذا أفعل.

    الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] الله أكبر! كيف يحول بينك وبين قلبك؟ إذا لم تستجب لله؛ لأن الله يقول: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] بمعنى أن حياتنا إنما هي من مقدار استجابتنا لله ورسوله، المستجيب لله والرسول مائة في المائة حي مائة في المائة، المستجيب خمسين في المائة.. خمسين في المائة حياة وخمسين موت، الذي لم يستجب لله فهو ميتٌ، والعياذ بالله، والأخ هذا ذاق حياة الإيمان، واعترف بنفسه أنه كان مرتاح القلب والنفس، ثم جالت به النفس فوقع في المحارم، والحل أن يستجيب لله مرة ثانية، وأن يعود كما كان سائراً على منهج الله، وأن يثبت، وأن يطلب من الله تبارك وتعالى الثبات، وأن يصبر على ذلك.

    الفرق بين: الروح والنفس والقلب

    السؤال: ما هو الفرق بين الروح والنفس والقلب؟

    الجواب: الروح والنفس والقلب ثلاثة أعضاء، لكن هناك تداخل في الواجبات، مثل أن تقول: ما الفرق بين عريف وجندي ووكيل رديء؟ كلهم عسكر، لكن هذا أكبر رتبة، وهذا له تخصص، هذا يمسك نوبة وهذا على الجسم كله، وذاك يمسك أكثر منه، وهكذا.

    فالقلب سيد الجوارح، هو الأول والأخير في الجسم إذا صلح صلحت الجوارح الأخرى، العقل كذلك له دور، النفس لها دور، لكن العقل مستشار -كما ذكرت لكم- يشير بالمصالح والمفاسد، والنفس تشير بالشهوات، والقلب يميز الإشارات بحسب صلاحه وقوته، إذا كان قوياً يأخذ رأي العقل، وإذا كان مريضاً يأخذ رأي النفس وهكذا.

    حكم القول بأن الإنسان مسير أو مخير

    السؤال: كيف تقولون لمن يقول: إن الإنسان مسير، وليس مخيراً؟

    الجواب: قضية (مسير، ومخير) هذه واضحة جداً، وأنا أبين لكم بمثال: الإنسان هل هو مسير أم مخير؟

    أقول لكم: الإنسان مسير ومخير، ففيما لا يستطيع عليه وليس من اختصاصه هو مسير، مثل الخلق، لما خلق الإنسان مسير هو أم مخير؟ لا شك أنه مسير، هل اختار هو خلق نفسه؟ لا.

    في اختيار اللون والنوع والبلد والشكل والطول والعرض وذكر وأنثى وأبيض هل هو مسير أم مخير؟ مسير، ثم إذا بلغ سن التكليف يبدأ عنده هنا التخيير وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] إلى أن يموت، فإذا مات يصبح مسيراً، يموت رغماً عنه، وضربت مرة على هذا مثال:

    إذا ركبت الطائرة من جدة إلى الرياض ، أنت في الرحلة في الخط نفسه من جدة إلى الرياض مسير ولست مخيراً، لا تقدر عندما تصل القصيم تقول: (وقف يا ولد، على جنب) وإذا رأيت مزرعة أو وادياً أو جبلاً وقلت: والله نريد نقيل فيها، هل يمكن؟ لا. الرحلة مسيرة متجهة من جدة إلى الرياض ، والركاب كلهم مسيرون، لكنك مخير وأنت في الكرسي من حقك أن تنام، أو تستيقظ، أو تقرأ جريدة، أو تقرأ في المصحف، أو تفتح النافذة التي بجانبك وتنظر، أو تسترخي قليلاً، أنت في هذا مخير.

    فهكذا الحياة من البداية في الخلق إلى الموت أنت فيها مسير، لكن أثناء الرحلة وفي حدود دائرتك أنت مخير، تستطيع تصلي وتستطيع ألا تصلي، تستطيع تغني أو تقرأ القرآن، أو أن تتزوج أو تزني، أو تشرب الخمر أو تشرب الحليب، أو تعمل الطيبات أو تعمل السيئات، هذه بين يديك، ولهذا لست مسيراً في هذا؛ لأنك إذا كنت مسيراً في هذا كيف الله يؤاخذك وأنت مسير؟ لا يؤاخذك الله إلا في الأمر الذي خيرك فيه تبارك وتعالى.

    كلمة للنساء

    السؤال: هل من كلمة للنساء؟

    الجواب: بل كلمات للنساء.

    أولاً: كل ما نقوله للرجال فهو موجهٌ بالتبعية للنساء؛ لأن دين الله موجه للمرأة والرجل، ونخص النساء بمزيد وصية، ونقول لهن: إن المرأة نقطة قوة الأمة أو نقطة ضعف، قوة إذا آمنت، وضعف إذا خربت، إذا فسدت المرأة أفسدت الحياة كلها، ولهذا يغزو أعداء الله الأمة عن طريق المرأة، إذا فسدت أفسدت زوجها، وأفسدت أولادها، وأفسدت مجتمعها، وتصوروا كيف تقوم المرأة بدور الإجرام في المجتمع إذا فسدت، فنقول لها: اتقي الله في أمتكِ وفي دينكِ وفي بلادكِ وفي نفسكِ، وعليكِ أن تتمسكي بدين الله، بدءاً بالعبادة والمعاملات، ثم بالحجاب والقرار في البيوت وعدم الخروج وزرع الفتن بين الناس؛ لأن المرأة مكانها الصحيح والطبيعي البيت، ولا تخرجي إلا مضطرة وبآدابٍ شرعية، أما أن يكون محلها دائماً السوق والحديقة وغيرها والبيت مهجور لا تأتيه إلا للنوم أو للأكل، هذا انتكاس في الفطرة، والله يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].

    حكم بناء المساجد بأموال محرمة

    السؤال: هل يجوز بناء المساجد من الأموال الربوية؟

    الجواب: (إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً)، فإذا بنى الإنسان مسجداً من مال حرام فإنه لا يثاب عليه، لكن الناس لو صلوا في هذا المسجد فإن صلاتهم صحيحة، ولا يتعلق بهذا حرمة، لماذا؟ لأنه عمل صالح، وهم استفادوا منه في أداء عبادتهم، أما كونه صالحاً بالنسبة له فلا؛ لأن الأصل غير مشروع كما يروى عن أبي حنيفة أن رجلاً كان يسرق التفاحة ويتصدق بها، فرآه أبو حنيفة وقال: ماذا بك تسرقها وتتصدق بها؟ قال: أسرق فتكتب سيئة، وأتصدق فتكتب عشر حسنات، واحدة من العشر مقابل السيئة يبقى لي تسع -انظروا العقلية التجارية- قال: قبحك الله ما أجهلك، تسرق فتكتب سيئة، وتتصدق فلا يقبل الله صدقتك، فتبقى في ظهرك سيئة، يريد أن يربح ولكن السيئة في رقبته، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، والناظم يقول:

    أمطعمة الأيتام من كسب فرجها      لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

    وقت صلاة الوتر

    السؤال: أشهد الله أنني أحبك في الله.. ومشكلتي أنني أعاني من فوات صلاة الوتر فإنني تعودت أن أصليها قبل صلاة الفجر للأفضلية، لكني أنام ولا أقوم إلا مع الأذان وهذا الأمر يتكرر فما نصيحتك؟

    الجواب: كما ذكرت أن صلاة الوتر أفضلها أن تكون آخر الليل، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً) ولكن إذا خشي الإنسان -ويعرف نفسه- أنه لا يقوم، أو يثقل عليه النوم حتى طلوع الفجر فإن الأفضل له أن يصليها في أول الليل.

    ولهذا يا أخي الكريم! النصيحة لك ولي ولكل مسلم، بما أننا نعرف أننا لا نستيقظ لصلاة الفجر إلا مع الأذان أن نصلي الوتر قبل أن ننام، وهذا الهدي كان يصنعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

    كيفية ملء الفراغ

    السؤال: كيف يربي الإنسان نفسه ووقته مملوءٌ بالفراغ؟

    الجواب: أصل شعور الإنسان بالفراغ لعدم معرفته بالواجبات المطلوبة منه، وإلا لو عرف ما هو المطلوب منه لما صار عنده وقت؛ لأن الواجبات أكثر بكثير من الأوقات، لكن هو يقول: أنا فارغ، فارغ وهو لا يقرأ من القرآن حرفاً، ولا يعرف من السنة حديثاً، ولا يعرف من العلم باباً، ولا يجالس العلماء، ولا يدري عن حلقات العلم، ولا مجالس العلم، ولا دروس العلم، ولا يقوم بأي دور في أسرته، وتربية أولاده ولا في مصالحه، ويقول: إني فارغ، ولهذا يقضي وقته كله في النوم وفي التسكع وفي ضياع الأوقات.

    فلا بد -يا أخي- أن تبحث عن عمل تصرف فيه الوقت، يعود عليك هذا العمل بالنفع في الدنيا والآخرة.

    حكم صلة الأخ الصالح بأخيه العاق

    السؤال: عندي أخ لا يصلي، ويقترف جميع المنكرات مثل سماع الأغاني وغيرها، وأنا مقاطع له، وكذلك هو عاق لوالديه ومع ذلك أبي يحبه، وكذلك أمي، فهل أنصحه أم أتركه؟

    الجواب: هذه المصيبة -أيها الإخوان!- التي يعاني منها الشباب الملتزم أنه ملتزم وطائع وطيب ومن أحسن الناس في البيت، ومع هذا الأب لا يهتم به ولا يحبه، ويرى ذلك العاصي يقدره، وهذا ابتلاء، وامتحان، وتجد الأب دائماً يمارس الضغط على هذا، ويعرف أنه نقطة الضعف فيه أنه يكون عاقاً، ولهذا تراه يهدد الملتزم يقول: سأغضب عليك، يعرف أنه الولد الطيب لا يريد أباه أن يغضب عليه، لكن ذاك قدره أنه غضب أو رضي، فهو يحاول أن يرضي الولد العاصي، فهذا امتحان وهو أيضاً ظلم من قبل الوالدين.

    أما موقفك يا أخي! من هذا الأخ النصيحة والاستمرار معه، والدعاء له، حتى يهديه الله أو يحدد موقفه، ما دام أنه يستجيب منك ادعه والهداية بيد الله، ولا تحدد لها وقتاً، ولكن إذا رفض هو النصيحة ولم يستجب منك هناك تتركه وتبغضه في الله عز وجل.

    نكتفي -أيها الإخوة!- بهذا، ونعتذر من الإخوة الذين لم نجب عن أسئلتهم لضيق الوقت أو لعدم المناسبة. والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756636464