إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة طه [5]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما آمن سحرة فرعون بالله تعالى توعدهم فرعون بالقتل والصلب والعذاب الشديد، ولكنه لما وقر الإيمان في قلوبهم لم يبالوا بفرعون وتهديداته، فثبتوا حتى نالوا الشهادة في سبيل الله تعالى، وبعد هذا الحدث أمر الله تعالى موسى أن يخرج بقومه من بني إسرائيل ليلاً، فأتبعهم فرعون وجنوده، فأغرقهم الله تعالى في البحر ونجى موسى وقومه تفضلاً وتكرماً ومنة منه سبحانه عليهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم...)

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم ما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعل سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد أخبر الله جل وعلا عن سحرة فرعون أنهم آمنوا، قال تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ، وقد حدث هذا التلعثم في القول الآن لأن قضية الإيمان وردت بعدة صيغ، فقد قال بعضهم: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]، وقال بعضهم: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122].

    وينبغي أن يعلم أن السحرة كثيرون، فطبيعي جداً أن يختلف بعضهم مع بعض في قضية ماذا يقولون، فهم جميعاً آمنوا بإله واحد هو رب العزة والجلال، لكن التعبير عن هذا الإيمان اختلف لتعددهم، فبعضهم قال: آمنا برب موسى وهارون، وبعضهم قال: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] فقدم هارون باعتباره الأكبر، ومنهم من قال: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122] ، لكن الذي يجمع هؤلاء السحرة أنهم جميعاً آمنوا بالرب تبارك وتعالى.

    هذا الأمر وقع على ملأ من الناس، وقد ذكرنا سابقاً أن موسى عليه الصلاة والسلام لا يخفي شيئاً عن الناس في دعوته، وقلنا: إن سمات الأنبياء وأتباعهم أنهم يدعون جهاراً ولا يخشون أحداً، بمعنى: أنه ليس هناك شيء يبيتونه لأنفسهم حتى يضعون دينهم في الخفايا، ولهذا قال لهم موسى: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59]، فكانت دعوته جهاراً، ولما حصل الموقف وألقى السحرة ألقى موسى عصاه كما أخبر الله: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117]، ثم قال الله جل وعلا: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ، فلما آمنوا انقلبوا من كونهم في أول النهار كفرة أشراراً إلى كونهم أتقياء أبراراً، وهذا يدل على أن الهداية بيد الله.

    ثم قال الله جل وعلا على لسان فرعون: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71] ، هذا القول وردة الفعل الفرعونية إلى اليوم والناس في حياتهم الاجتماعية إذا رأوا رجلاً متغطرساً يقولون: هذا فرعوني، وهذا مأخوذ من دأب فرعون وقوله وسياسته في الناس، فما اكتفى أن يدعي أنه إله حين قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقد جاء في الأثر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون يوم سمعته يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]).

    ومن المعلوم أنه من كذب على الله هين عليه أن يكذب على الخلق، ولهذا قال فرعون: آمَنْتُمْ لَه [طه:71] الهمزة من أصل الفعل وهي همزة استفهامية، قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71] حتى الإيمان بالله في ظنه يحتاج أن يستأذنوه، ومعلوم أنه حتى لو استأذنوه لن يأذن لهم، وهم غير ملزمين شرعاً بأن يستأذنوه، لكن حتى لو استأذنوه فإنه لن يأذن لهم، وقوله هذا يدل على علوه وتكبره.

    ثم قال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71] انظر كيف قلب الأمر وجعل موسى معلماً لهم، وهو يعلم أن موسى ما كان ساحراً طرفة عين، وأنه هو الذي بعث في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم، لكنه -كما قلنا- من تجرأ في الكذب على الله بدهياً أن يكذب على غيره.

    ولهذا قال هرقل لـأبي سفيان في قصة محاورتهم في أرض هرقل، قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا، فقال هرقل -بعقله لا بنقله-: ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله. فجعل ذلك أمارة على صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.

    إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71]، هذا وصف من فرعون له، ثم جرى مجرى التهديد الفعلي بعد أن ذكر القولي فقال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [طه:71] ، وجاءت (أيدي) بالنصب لأنها مفعول به فظهرت العلامة على الياء، وهذا نوع من التهديد، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ [طه:71] ، والصلب: هو الرفع والحمل، ويكون غالباً على ألواح وخشب، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] ، ومعلوم قطعاً أن الصلب هنا إنما كان على جذوع النخل. قال بعض العلماء كـأبي حيان في البحر المحيط: إن فرعون نقر لهم في النخل وأدخلهم فيها. وهذا القول منه ليفر من قول الله جل وعلا: على جذوع النخل)، لكن هذا القول أكثر أهل العلم على خلافه.

    وإنما كان ينبغي أن يعلم أن حروف الجر في اللغة ينوب بعضها عن بعض. هذا أمر، الأمر الثاني: قال بعض من يعنى باللغة في القرآن: أنه قال: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] ليبين يسر الأمر عليه، يعني: أراد فرعون أن يقول: إن كوني قادر على أن أصلبكم في جذوع النخل هذا أمر هين علي؛ لأن كلمة (على) تعني الفوقية والاستعلاء، فكأنه يحتاج إلى من يعينه ليرتفع، فحاد عنها فرعون -أي: أنه حاد عن مثيلتها لأنها ليست في لغته، لكنه حاد مثيلتها في لغته- وإنما عبر بحرف الجر (في) ليبين سهولة الأمر عليه.

    ثم قال: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا [طه:71] ، يعني: أنا أو أنتم أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [ طه:71]، وهذه زفرات يطلقها ذلك الذي لعنه الله كردة فعل يائسة لما رأى إيمان السحرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات... والله خير وأبقى)

    لقد مر معنا في تفسير سورة القلم أن السجود من أعظم ما ينال به العبد عظيم اليقين، وهذه الأحداث شاهدة على ذلك، قال الله جل وعلا على لسان السحرة لما هددهم فرعون -وهذا كله في أرض الموقف أرض المجادلة- قالوا له بعد أن قال: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:71-72] ، فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين ووجدوا حلاوته، رغم أنه ليس لهم أياماً ولا شهوراً ولا أعواماً في الطاعة والإيمان والعمل الصالح، لكن تلك الحظوة الألهية نالوها ببركة سجودهم، حتى يعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد، ثم ردوا عليه بطريقته كما كان يطلق الأفعال على صيغة الأمر، قالوا له: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] ، أي: فافعل ما شئت، ثم بينوا له ضعفه فقالوا: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] ، قد يكون الله أعطاك سلطاناً على الدنيا، لكن ليس لك سلطان على حياتنا في الآخرة والدنيا، وسواء قضيت علينا أو لم تقض علينا فمردنا أصلاً إلى الموت فلا نخوف بشيء، لكن العبرة بالحياة الأخروية فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] ، وجاءت (الحياة) بالنصب لأنها بدل من اسم الإشارة (هذه).

    وهذا قاعدة نوحية تأتي دائماً: كل اسم معرف بـ(ال) بعد اسم الإشارة فيعرب بدلاً عنه، فما يقال في إعراب اسم الإشارة الذي قبله يقال في إعراب الاسم الذي بعده، وهذا نظيره: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ مفعول به، الْحَيَاةَ بدل من (هذه).

    ثم قالوا له: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73]، وعبارة الإكراه هنا مأخوذة من أن فرعون سول لهم هذا الأمر بأن مناهم ووعدهم وقال: وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:42] ، فاعتبر هذا شرعاً نوع من الإكراه، قال الله جل وعلا: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [طه:73] ، ثم قارنوا بين ربهم وبين فرعون فقالوا: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73] ، ولا ريب أن الله خير وأبقى.

    وهذا منهاج للمؤمن في كل ما يأتيه، فلا يكن في شيء يتعلق بالله وفي شيء يتعلق بمخلوقاته، فثق أن ما عند الله جل وعلا خير لك وأبقى، وهذه من الطرائق التي ربى الله جل وعلا بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وهذبهم بها، وثبت قلوبهم جل وعلا بها، أنه أعلمهم أن الآخرة هي الباقية، وهي التي يعمل الخلق لها، قال صلى الله عليه وسلم لما رأى الأنصار والمهاجرين يبنون المسجد: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).

    وهذا أمر يستحضره المؤمن، وتعلمون قصة العلامة الألباني رحمه الله لما بشر بفوزه بجائزة الملك فيصل العالمية أراد بعض الصحفيين أن ينال حظوة عنده بأن يجري له مقابلة صحفية، ومعلوم أن جائزة الملك فيصل جائزة عالمية يرقبها كل عالم سواء في خدمة الإسلام أو في غيره، فلما بشر بها قال الشيخ وهو يبكي هاتفياً: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73] ، وقال: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4] .

    فمهما أعطي الإنسان من الدنيا ينبغي عليه أن يستحضر هذا الأمر العظيم، وأن ما عند الله خير وأبقى، حتى لا يفتن بما أعطاه الله جل وعلا إياه في الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً... وذلك جزاء من تزكى)

    قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا [طه:74] ، هذه يمكن أن تكون من كلام السحرة المؤمنين، ويمكن أن تكون تذييلاً من كلام الله جل وعلا، فهي تحتمل الأمرين، قوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا [طه:74] ، أي: كافراً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74] ، وهذا أحد أنواع عذاب جهنم أن الإنسان فيها لا ينتهي، وفي نفس الوقت لا يبقى حياً حياة منعمة.

    والأمر الثاني: ذكره الله في سورة أخرى أنهم قالوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] ، متى ينفع الصبر؟ إذا كان يعينك على تجاوز الأذى، لكن إذا كان الصبر لا ينفع فإنه يصبح في ذاته عذاباً، وهذا -والعياذ بالله- حال أهل النار.

    قال الله جل وعلا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74] ، وكما في سياق القرآن في أكثر من موضع إذا ذكر الله أهل النار يذكر أهل الجنة، وإذا ذكر أهل الجنة غالباً يذكر أهل النار.

    وقوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]، هذه نحوياً جملة شرطية بدأت بـ(من) وهي اسم شرط، ولذلك (يأت) حذفت ياؤها؛ لأنها فعل شرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وقوله سبحانه: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ [طه:74]، الفاء واقعة في جواب الشرط، وسوغ أن يبتدئ جواب الشرط بالفاء أن جواب الشرط جملة اسمية.

    قال تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75] ، قوله: (ومن يأته مؤمناً) أي: حال كونه مؤمناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75]، الجنة والنار كلاهما يقال في حق أهلها: درجات، لكن تنفرد النار بأن يقال في حقها: دركات، فيقال: لأهل النار درجات؛ نص عليه القرآن في سورة الأنعام، لكن لا يقال لأهل الجنة: دركات، بل هذا الاسم وقف على أهل النار.

    قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:76] ، وقد مر معنا معنى التزكية بالتفصيل في قول الله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي... وأضل فرعون قومه وما هدى)

    قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77] ، ذكر الله جل وعلا هنا خروج موسى عليه السلام من أرض مصر، وقد جاء ذكر الخروج في سورة طه موجزاً وفصل في سورة الأعراف ويونس وغيرهما.

    والقرآن سماه الله جل وعلا مثاني بمعنى: أن الأخبار والقصص فيه غالباً تتكرر، فما يوجزه الله في سورة يبسطه في سورة أخرى، وأحياناً يكتفي الله جل وعلا بالبسط في سورة واحدة ولا يثنيه، كما في قصة نبينا يوسف؛ فإنها لم تتكرر في القرآن، بخلاف قصة موسى فإنها ذكرت في أكثر من موضع وفي كل موضع تساق حسب السياق العام للسورة.

    وقوله: (أن أسر) دل على أنهم خرجوا ليلاً؛ لأن السرى لا يكون إلا في الليل، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [طه:77] ، والضرب هنا حقيقي، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام ضرب البحر بعصاه، والبحر بالاتفاق هو بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر، لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77]، أي: لا تخاف أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقاً من البحر، فلا فرعون يقدر له أن يدركك هو وجنده، ولا البحر قادر على أن تكون غريقاً فيه، وإنما سينجيك ربك من إدراك فرعون ومن موج البحر وما يكون فيه من الغرق والهلاك.

    وقد جاء هذا الأمر مفصلاً، ولعله يأتي، لكن بالجملة نقول: موسى أخذ قومه، ولما وصل إلى شط البحر قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فأمره الله أن يضرب البحر فضربه قائلاً: انفلق يا أبا خالد! وهي كنية تقولها العرب للبحر، وورد -والعلم عند الله- أنه قال: باسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان.

    فانقلب البحر يبساً كما أخبر الله، وانشق اثنتي عشرة طريقاً على قدر أسباط بني إسرائيل، فعبر موسى والمؤمنون الذين معه حتى انتهوا إلى الضفة الأخرى، وجاء فرعون فتردد في العبور، وبقي ينتظر خوفاً من أن يعود البحر بحراً، فلما وصل موسى والمؤمنون الذي معه إلى الضفة الأخرى واطمئن موسى أنه قد سلم، وأن فرعون يحاول أن يدركه، أراد أن يضرب البحر كرة أخرى ليعود بحراً فيقطع الطريق على فرعون، فأوحى إليه رب العزة: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [الدخان:24] ، أي: ساكناً، فبقي البحر ساكناً، وامتنع موسى عن ضربه بأمر الله، وتشجع فرعون ليهلكه الله جل وعلا وظن أن البحر سيبقى أبدياً على هذه الحال، فعبر هو وجنوده، فلما اكتمل دخولهم في البحر أمر الله البحر أن يعود بحراً، فأغرق فرعون فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] ولم يقل: آمنت بالله، وإن كان إيمانه صحيحاً، والله جل وعلا كما قال أهل العلم: أثبت الإيمان لفرعون لكنه لم يقبله منه، قال الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، فذكر أنه قبل لم يكن على هذه الحال.

    وقد جاء في الأثر أن جبريل عليه السلام كان يضع الطين في فم فرعون مخافة أن يقول فرعون كلمة يستجلب بها رحمة الله، وقد مر معنا كثيراً أن رحمة الله جل وعلا لا تستجلب بشيء بعد الإيمان والعمل الصالح بأكثر من الدعاء، والإكثار من المدح والثناء على الله يستدر به العبد ما عند الله جل وعلا، فإن الرب تبارك وتعالى لا أحد أحب إليه المدح من نفسه، ولذلك مدح ذاته العلية.

    وهذا أمر مشاهد في الكتابة والسنة، فإنه كم من عبد صالح ذكر الله جل وعلا دعوته، كدعوة ذي النون، وكقوله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول في دعائه: اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال: (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً) .

    والمقصود من هذا: أن الله جل وعلا تستدر رحمته ويستجلب ما عنده من الفضل والإحسان بكثرة الثناء عليه، وانكسار العبد بين يديه، وهذا الأمر كان مظنة أن يأتي فرعون، وإلا لو تقرر عند جبريل أن الله لن يرحم فرعون قطعاً مهما قال لما كان هناك حاجة لأن يضع جبريل الطين في فم فرعون، وهذا يدل على أن رحمة الله جل وعلا واسعة، وأنه لا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك، وأن العاجز حقاً من لم يجد ألفاظاً ولا كلمات يعبر بها عن مسكنته وانكساره بين يدي الرب تبارك وتعالى.

    وتعظيمك لله جل وعلا لا بد أن يلازمه عدم مبالغتك في مدح الخلق وتعظيمهم، ولهذا تخرج منا أحياناً من غير شعور كلمات نقولها لمن نحب في التعظيم دون أن نشعر، فيسمع البعض إذا ألقى كلمة في محفل أو أمام أمير أو ذي سلطان يقول: إن الكلمات تقصر، وإن العبارات تعجز.. وهذا أمر محرم؛ بل خطأ عظيم؛ لأن الكلمات العربية إذا وسعت كلام الله فمن باب أولى أن تسع غيره، إذا وسعت ألفاظ العربية مدح الرب جل وعلا فمن باب أولى وأحرى أن تسع مدح غيره، لكن الناس إذا وصلوا إلى من بيده العطايا أو من يخشى منه نسوا أمراً من جانب الله، لكن على الإنسان أن يكون متوازياً، فيعرف لأهل القدر قدرهم ولأهل الفضل فضلهم، لكنه يبقى معظماً التعظيم المطلق لربه تبارك وتعالى.

    يقول حافظ عن اللغة العربية:

    وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات

    فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات

    والمقصود أن الله جل وعلا جعل قرآنه بلسان عربي وفيه الثناء على ذاته العلية جل وعلا، فكيف بالثناء على المخلوقين؟! من باب أولى أن تتسع له اللغة، ويوجد فيها من العبارات والألفاظ ما نمدح به من نحب أو نجل أو نعظم أو نخشى.

    المقصود من هذا كله: أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عبر بقومه البحر، وبعد أن عبر بهم البحر أصبحوا في أرض سيناء، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [طه:77-78]، (غشي) بمعنى: غطى.. أي: غطى فرعون وجنوده.

    وإذا جاء الفعل وجاءت بعده (ما) مرتبطة بالفعل الذي بعدها -التي تسمى ما المصدرية أو ما الموصولة أحياناً على خلاف بين النحاه- فاعلم أن المقصود التعظيم، ومنه قول الله جل وعلا: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16] ، هذا أسلوب تعظيم وتفخيم وتهويل، والله يقول هنا: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:78-79].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم.... ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)

    منَّ الله على بني إسرائيل بعد ذلك بقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:80-81]، إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهذه ملاطفة من العلي الكبير في خطاب أولئك القوم، فنسبهم إلى جدهم الأكبر الذي ينسبون إليه، وهو نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.

    والرب تبارك وتعالى عندما ينادي عبادة، إما أن ينسبهم إلى أب عام كآدم، أو أب خاص كيا بني إسرائيل، أو يناديهم نداء كرامة، وهذا في أكثر الآيات المدنية، كقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] ، فهذا يسمى نداء كرامة، أو يناديهم نداء عاماً لا ينسبون فيه إلى أب ولا يذكرون فيه بكرامة، ومنه قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، فقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الحج:1] نداء عام يدخل فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ولا يمكن أن نصطلح على أنه نداء كرامة؛ بل هو نداء عام.

    فقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ [طه:80] ، يمن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من نجاتهم من فرعون، قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ [طه:80] الذي هو فرعون، وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] ، أي: جبل الطور، وهو جبل واحد، و(الأيمن) جاءت منصوبة و(الطور) جاءت مجرورة لأنها مضاف إليه، و(الأيمن) ليست صفة للطور، بل هي صفة للجانب؛ لأنها لو كانت صفة للطور لكان المعنى: أن هناك طوراً أيمن وطوراً أيسر، وطوراً في الوسط.. ولا يوجد إلا جبل طور واحد، لكن هذا الجبل -جبل الطور المبارك- له عدة جوانب.

    وأصلاً كلمة أيمن ليست جهة ثابتة؛ لأن الثبات في اليمين واليسار غير وارد، فمثلاً أنا أجلس الآن على هذا الكرسي وهذه الجهة عن يميني، لكن لو حولت الكرسي فستصبح هذه الجهة عن يساري، فالأيمن غير وارد، لكن الله جل وعلا يخبر عن الجهة التي جاء منها موسى عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: الأيمن صفة لجانب، وجانب نكرة، والأيمن معرفة، لكن الذي جعل جانب معرفة هو الإضافة، فلما أضيفت كلمة جانب إلى كلمة الطور اكتسبت التعريف، فلما أضحت معرفة حق لها أن توصف بكلمة الأيمن.

    وهنا مسألة نبه عليها بعض العلماء وذكرها الدكتور صالح العايد في كتاب نظرات لغوية نقلاً عن صاحب البرهان في علوم القرآن، وهي قضية دقيقة جداً استنبطها العلماء في قضية جانب الطور الأيمن، فالله جل وعلا ذكر هنا أنه واعد موسى جانب الطور الأيمن، لكن لما تكلم عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ [القصص:44] ، فلماذا لم يذكر الله تعالى الأيمن هنا؟ قالوا: لأنه يوجد هنا نفي، وكملة (الأيمن) فيها تشريف، لكن كلمة (الغربي) لا تعني شرفاً بذاته، نقول: جهة اليمين جهة شرف، لكن الغربي والشرقي والشمال والجنوب ليس فيها في ذاتها شرف، فلما أراد الله النفي عن نبيه ملاطفاً لنبيه لم يصفها بالأيمن؛ لأنه لو وصفها بالأيمن فيكون قد نفى اليمن عن نبيه، والله لا يريد هذا، فقال جل وعلا: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص:44] ، إجلالاً وإكراماً وملاطفة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقبل أن أكمل هذا أقول: علم التفسير مواهب يعطيها الله جل وعلا من يشاء، والناس قدرات، ويظهر أثر كل ذي قدرة في تفسيره، فمن كان ذا قدرة في الاستنباطات اللغوية سيظهر هذا جلياً في كلامه، ومن كان قوياً في الفقه مثلاً سيظهر هذا في كلامه.. وهكذا، فقبل أن تبحث عن تفسير الآية ابحث عما تريده من الآية، فإذا بحثت عما تريده من الآية سيسهل عليك أن تبحث في كتب التفسير، لكن هذا لا بد أن يسبقه أن تكون ملماً بكتب التفسير، وبعضها يظهر من عنوانها، فالكتاب الذي ذكرناه اسمه: نظائر لغوية، فواضح أنه يبحث في اللغة، وأحكام القرآن لـابن العربي واضح أنه يتكلم في الفقهيات، فأحياناً من العنوان يظهر، وأحياناً من كثرة المطالعة والدربة تستطيع أن تعرف مناحي المفسرين فيسهل عليك بعد ذلك أن تصل إلى مرادك.

    نقول: قال الله جل وعلا: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] ، يكاد أهل العلم رحمهم الله يجمعون على أن المقصود بالمنَّ شيء أنزله الله من السماء عليهم كالطل يجدونه على رءوس الأشجار أشبه بالعسل الأبيض، يتجمع كالصمغ ثم يأخذونه، وهو نوع من الحلوى رزقه الله جل وعلا بني إسرائيل، وقالوا في السلوى: إنها طير السمان المعروف.

    هذا ما ذكروه، لكن جاء في الحديث أن الكمأة من المن، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن ما قاله الأفاضل الأكابر في هذا قوي جداً لتظاهرهم عليه، ومن الصعب أن يخطئ الإنسان جمعاً، لكن فيما يبدو أن المنَّ هو الكمأة التي تظهر الآن من غير ما زرع، تكون مقرونة بوقت المطر فهذه منه؛ لأنه ليس فيها جهد لأحد؛ فلأجل ذلك غالب الظن أنها مقصودة إن لم تكن هي كلها، فتكون في الحديث بيانية أو على الأقل نوعاً مما أخرجه الله جل وعلا لبني إسرائيل.

    والمقصود: أن بني إسرائيل عندما خرجوا مكثوا في الصحراء فاحتفى العلي الكبير بهم إكراماً لأنبيائهم، ولما أراده الله جل وعلا من ابتلائهم أنزل عليهم المن والسلوى، قال الله جل وعلا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80]، وهذا أمر للإباحة كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ [طه:81] بتجاوز الحد فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه:81] ، ثم قال الله تذييلاً لهذا الأمر: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81] ، والهوى هنا المقصود به: السقوط المرُيع، والمقصود به الهلاك الفظيع لكل من حل عليه غضب الله تبارك وتعالى.

    وهنا أتوقف قليلاً لأقول: إن كلمة (هوى) في القرآن وردت بمعنى السقوط، قال الله جل وعلا: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] ، وهنا نستبعد تفسير بعض العلماء لقول الله جل وعلا: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] ، بأن المقصود به نزول القرآن، فإن بعض أهل العلم يقول: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] المقصود أن القرآن نزل منجماً، فيجعل (هوى) بمعنى نزل، لكن استخدام لفظة (هوى) في القرآن لا يساعد على هذا، ومنه هذه الآية: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)

    ثم قال البر الرحيم يذكر غضبه ويذكر رحمته: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، هذا القول الرباني من الله جل وعلا جاء بعد قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:81-82] ، وقد يظن الناس من لم يؤت بضاعة في التفسير أن الأمر مرتب ترتيباً حرفياً، وإنما المقصود: أن الإنسان إذا وقر في قلبه الإيمان والأسف على ما كان منه من عصيان، ولزم الصراط المستقيم، هذا الذي هو أهل لأن يغفر الله جل وعلا له.

    لكن الآية لا تعني الحصر، فإن الرب جل وعلا قد يغفر من غير ما سبب من العبد، وبعض أهل العلم -كما في شرح العقيدة الطحاوية- أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثة عشر سبباً، وجعل خاتمتها وأكملها بغفران الله تبارك وتعالى من غير سبب من العبد.

    لكن هنا الله جل وعلا يذكر أعظم أسباب غفران الذنوب: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ، وعلى هذا فإن الإنسان وهو يعمل العمل الصالح لا بد أن يكون في نفسه مستصحباً أنه يريد بالعمل الصالح غفران الذنوب، كما قال الله قبل ذلك على لسان السحرة: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [طه:73] ، ونقول مراراً: إن المرء لا يحمل فوق كاهله شيئاً أشد عليه من ذنبه، ولهذا علق الله جل وعلا جوائز فضائل الأعمال بغفران الذنوب، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحج وأخبر عما يجده العبد من عناء فيه، وأنه عبادة يجتمع فيها البدن والمال والقلب، قال صلى الله عليه وسلم: (رجع كيوم ولدته أمه)، فعلقها بمغفرة الذنوب؛ لأن الصالحين لا يؤرقهم شيء أعظم من أنهم يسألون الله جل وعلا غفران ذنوبهم.

    إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما

    ولما أراد الله أن يخبر ببعض كرامته على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] ، وهو عليه الصلاة والسلام يعلم الصديق فيقول له: أن يقول في دعائه: (اللهم إنني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

    والمقصود: أن غفران الذنوب من أعظم ما يطلبه العبد من ربه تعالى.

    إلى هنا ينتهي وضع عام في حياة بني إسرائيل ذكره الله جل وعلا، ثم يذكر الله تبارك وتعالى بعده مسارعة موسى -كما سيأتي تفصيلاً- إلى لقاء ربه.

    1.   

    أحداث حدثت لبني إسرائيل قبل أن يخرج موسى من أرض مصر

    لكن نقف هنا لنقول في جملة هذه الآيات: تنحصر هذه الآيات في الحديث عما كان من إيمان السحرة، وهو أول نقلة نوعية في دعوة موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء، وهذه المرحلة التاريخية من انتصار موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء مرت بأحداث لم تذكرها الآية هنا من تلك الأحداث، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً.

    إن موسى قبل أن يرتحل من أرض مصر أمر قومه أن يجعلوا بيوتهم قبلة، واختلف العلماء في معنى وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] ، فبعضهم قال: إنه أراد الصلاة، وعندي أن هذا بعيد؛ لأن الله قال بعدها: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87] ، لكن الذي أفهمه -والعلم عند الله- أن المعنى: اجعلوا بيوتكم متقاربة مميزة في ناحية البلدة حتى تستطيعوا أن تذهبوا إلى البحر عندما يأذن الله جل وعلا برحيلكم من أرض مصر.

    والمقصود: أن موسى استقر في أرض مصر طويلاً قبل أن يرحل ويتركها إلى أرض الطور، وفي هذه الأثناء وقعت ما وقعت من الآيات، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:133] ، هذا وقع ما بين إيمان السحرة وما بين خروج موسى من أرض مصر، وقد ذكرت السنة الصحيحة أن موسى أخذ معه جسد يوسف، وهذا لم يأت في القرآن، لكن جاء نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه وصححه بعض أهل العلم.

    كذلك من الأحداث التي وقعت في هذه الحقبة التاريخية من إيمان السحرة إلى خروج موسى: قضية قارون وما كان منه، فإن قارون والخسف به وهلاكه إنما وقع في أرض مصر ولم يقع بعد ذلك، فهذه أحداث تاريخية أجملها القرآن وجاءت مفرقة، وقصة قارون قد ذكرت في سورة القصص، وذكرت وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] في سورة يونس، وبعضها ذكر في سور أخر، وبعضها ثني وكرر، وبعضها لم يذكر إلا مرة واحدة.

    والمقصود: أن تفهم أن هذا السياق يسمى إيجاز حذف، ذكر الله جل وعلا فيه منته على بني إسرائيل، وهذا الاحتفاء الإلهي ببني إسرائيل مبني على أن الله جل وعلا جرت سنته في خلقه أنه لا بد للناس من أئمة ذوي روح، بمعنى: أئمة في العلم والهداية، والله جل وعلا ينقل هذا الأمر من أمة إلى أمة، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، ولكن كلما استمسكت الأمة بهدي السماء كانت حقيقة بأن تقود العالم، والله جل وعلا قد قال عن بني إسرائيل: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32].

    ومن الخطأ أن بعض الناس ممن يغلب عليهم العمد أو السهو أحياناً غير المقصود يقولون: يا أحفاد القردة والخنازير! فهي من حيث الحقيقة الخلقية لم يجعل الله لمن نسخهم حفدة، فهو أمر منتفي.

    والأمر الثاني: أن بني إسرائيل ينسبون إلى نبي عظيم كريم، والله جل وعلا قال عنهم: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32] ، لكن ظهر فيهم قتل الأنبياء، وتبديل كلام الله، وقولهم: قلوبنا غلف، واتهامهم لمريم، ومحاربتهم لعيسى ومحاولة قتله، هذا هو الذي أضاعهم وأذهبهم، فالإنسان إذا تكلم يتكلم بهدي من القرآن لا بعاطفة تؤججه، والله تبارك وتعالى يقول: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] ، إلى غير ذلك مما يبين الله جل وعلا فيه الإنصاف عند الخطاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى... وعجلت إليك رب لترضى)

    قال الله جل وعلا بعد ذلك لموسى وهو في جبل الطور: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83] ، هذا يفهم منه أن موسى استبق قومه إلى جبل الطور ليتحقق الوعد المكاني والزماني، فقد ضرب الله له ميقاتاً زمانياً ومكانياً، الميقات الزماني أربعون يوماً، والميقات المكاني جبل الطور، فسبق موسى قومه، وجعل أخاه هارون يخلفه فيهم، فسأله ربه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83] ، و(ما) هذه استفهامية قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي [طه:84] ، قال بعض العلماء: إن هذا الجواب غير مطابق للسؤال، فقد كان ينبغي أن يقول: أعجلني كذا وكذا، ولا يقول: إن قومي قريبو عهد بي ومكان، لكن قالوا: لماذا احتار موسى في الجواب؟ قالوا: لأنه هاب معاتبة الله جل وعلا له، فلم يجد جواباً يخاطب به ربه، والمقصود أن معاتبة الله جل وعلا لموسى وسؤاله إياه أوقع في موسى الرهبة والخوف، فكان جوابه غير مطابق للسؤال، وإذا صح هذا التأويل الذي اختاره بعض أهل العلم فحري بنا أن نقول: إذا كان هذا النبي الكريم الذي لم يقترف ذنباً أصابه ما أصابه من الذهول لما عاتبه ربه، فكيف بمن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه، وتجاوز حدوده، وانتهك حرماته!! نسأل الله السلامة والعافية.

    قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي [طه:84] ، أي: غير بعيد عني وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] ، هذه تصلح جواباً، وقد قال العلماء بناءً على هذه الآية: إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مسارعة في الخيرات، وقوله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] ، فيه أن طلب رضوان الله جل وعلا من أعظم المقاصد وأجل المطالب، ولا توجد عطية أصلاً بعد رضوان الله، قال الرب تبارك وتعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر [التوبة:72] ، وكلما كانت بغية المرء أن ينال رضوان الله جل وعلا كان من أعظم الساعين في أسباب التوفيق، فوالله إنك لن تخرج من دارك تطلب أمراً أعظم من رضوان الله.

    فكلما غلب على ظنك في عمل أن فيه رضوان الله فلا تتردد في السعي إليه عاجلاً أم أجلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك... فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي)

    قال الله تعالى لموسى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85] ، السامري من مبهمات القرآن، ولم يذكر إلا في سورة طه، وشخصيته جاءت في القرآن من حيث الجملة شخصية مبهمة، سواء في أول أمرها أو في خاتمة مطافها، وقد نسب الله الفتنة هنا إليه، ونسب الضلال إلى السامري ، ويجب أن يحرر: أن الهداية والضلال بيد الله، فما السامري هنا إلا سبب جعله الله جل وعلا، كما جعل الملكين فتنة لبني إسرائيل بعد موسى: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] ، فالشيطان مثلاً جعله الله جل وعلا من أسباب الغواية، والمال جعله الله جل وعلا فتنة، والنساء جعلهن الله جل وعلا في حق بعض الرجال فتنة.

    والمقصود من هذا: أن الهداية بيد الله، أما هذا السامري فهو كان سبباً في غواية بني إسرائيل كما سيأتي التفصيل في موضعه، لكن الذي يعنينا هنا أن الله جل وعلا قال: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85] ، الخطاب هنا لموسى وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:87-88] ، أي: أنه صنع لهم عجلاً له خوار، والعجل: ولد البقر، (وله خوار) الخوار هو صوت العجل، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، (نسي): فعل ماض مبني على الفتح، ومن الذي نسي؟ الفاعل غير مذكور، فيصبح المعنى يحتمل عدة تأويلات، منها: أنهم قالوا: فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إلهكم، هذا مراد أراده السامري ، ومراد آخر: فنسي موسى أي: نسي أن هذا الإله وذهب يطلبه في مكان آخر، وهذا أقوى الاحتمالات، وقد ذكرت احتمالات أخر لكن هذه أقواها.

    فالله جل وعلا ابتلى بني إسرائيل في الفترة التي تأخروا فيها عن إدراك موسى بأن عبدوا العجل، وعبادتهم للعجل هي مرادهم بقولهم في سورة البقرة: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، فهم يقولون: إنه محكوم لنا بالجنة، وأن النار لا تمسنا إلا أياماً معدودة هي الفترة التي عبدنا فيها العجل، ولأن عبادة العجل كانت مهلكة عظيمة لهم اشترط الله عليهم في التوبة أن يقتلوا أنفسهم، كما أخبر الله جل وعلا في سورة البقرة.

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756004092