إسلام ويب

سلسلة معالم بيانية في آيات قرآنية [9]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يا أبتِ افعل ما تؤمر! قالها أبر ابن لأكرم أب، إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، استيقظ إبراهيم من المنام وقد رأى رؤيا مفادها: أنه يذبح ابنه، فاستجاب الابن لأبيه دون تأفف أو معارضة، وفداه الله بذبح عظيم، وصارت بعد ذلك قضية الأضاحي سنة متبعة إلى يوم الدين؛ إكراماً لهذين العظيمين عليهما الصلاة والسلام، وفي كلمة: افعل ما تؤمر، لطيفة بيانية، ومعجزة قرآنية، ينبغي لقارئ القرآن أن يستوعبها ويفهم مغزاها.

    1.   

    يا أبتِ افعل ما تؤمر

    الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه حلقة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية.

    والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا المقام المبارك هي: قول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح والنبي الصالح إسماعيل: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فلم لم يقل إسماعيل: افعل ما تريد، وهو يخاطب أباه خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟

    هذا ما تحاول هذه الحلقة المباركة إماطة اللثام عنه، فنقول: خليل الله جل وعلا إبراهيم هو أفضل الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد نسب الله جل وعلا الملة إليه، قال سبحانه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، وأمر الله جل وعلا نبينا عليه السلام باتباع هدي ذلك النبي الكريم: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، كبر إبراهيم في السن فتضرع إلى الله جل وعلا أن يرزقه غلاماً صالحاً، قال الله جل وعلا عنه: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:99-101].

    نشأ هذا الغلام حتى أصبح قادراً على أن يعين أباه، قال الله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102]، أي: القدرة على المعونة، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، يقدر لإبراهيم أن يرى في المنام أنه يذبح إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، وهذا من باب أن يوطن الأب ابنه على طاعة الله ، فلو امتنع إسماعيل وقدر إبراهيم على ذبحه لذبحه، لكنه أراد أن يشتركا سوياً في الأجر، قال الله جل وعلا: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، الآن هذا موضع الحلقة الحقيقي وهو: لماذا قال الله جل وعلا: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، ولم يقل: افعل ما تريد؟ إن ثمة فرقاً كبيراً جداً بين اللفظتين: فلو قال إسماعيل: يا أبت افعل ما تريد! فهو في غاية الأمر ابن يطيع أباه، أو جندي يطيع قائده، أو مأمور يطيع آمره، لكن إسماعيل عليه السلام عدل عنها إلى قوله: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]؛ ليبين أنه عبد يطيع ربه، فإسماعيل هنا قبل أن يذبحه أبوه، لا لأن أباه يرغب في ذبحه محال، لكن لأن الأب بذبحه لابنه إنما ينفذ أمر الله، فإسماعيل هنا إنما يطيع أباه إبراهيم على أن ينفذ أمر الله: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، ولم يقل: افعل ما تريد، وقطعاً فإسماعيل عليه السلام ما كان له أن يصل إلى هذه المنزلة في الأدب والتسليم والعبودية لولا فضل الله جل وعلا ورحمته عليه، وهذا الفضل من سماته: أن الله جل وعلا جعل إسماعيل يربى وينشأ في كنف خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولقد اجتمع في قلبي هذين النبيين من التوحيد والاستسلام لأمر الله جل وعلا ما جعل الأب يفزع إلى ابنه ويخبره بما أوحى الله جل وعلا به إليه، وما جعل الابن يطيع أباه ويقول له معيناً له على الطاعة: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]:

    هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديان

    هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان

    هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران

    وبه فدى الله الذبيح من البلا لما فداه بأعظم القربان

    صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    1.   

    إن هذا لهو البلاء المبين

    ثم نستطرد في الحديث -أيها الأخ المبارك- فنقول بعد أن ذكرنا خبر هذين النبيين الكريمين: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام كذلك بعملهما هذا يقدمان نموذجاً كاملاً بيناً يقيم الله به الحجة على عباده في كل أحد: أن يكون عبداً مستسلماً لأمر الله تبارك وتعالى وقضائه، وفي خبرهما إخبار بأن الله جل وعلا يبتلي، وأنه لا سبيل إلى رفع المقامات، وعلو الدرجات، إلا بعد الابتلاء والتمحيص، فلا تمكين إلا بعد اختبار وابتلاء، وكلما عظم الابتلاء وأوغل في الصدر اليقين ارتقى الإنسان إلى معالم وطرائق جديدة في معرفة الرب تبارك وتعالى ورحمته؛ ولهذا قال الله جل وعلا بعدها: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، وهنا أقف معك لأقول لك: إن إبراهيم عليه السلام أمره الله جل وعلا أن يذبح ابنه إسماعيل ومراتب الوحي ثلاثة:

    إما أن يكلم الله العبد من غير واسطة بحجاب: كما كلم الله جل وعلا موسى، وهذا أرفع مقامات الوحي، وقد بينا في حلقات: سلفت أن آدم وموسى ومحمداً عليهم السلام جميعاً أوتوا هذه المنزلة.

    الحالة الثانية: أن يبعث الله ملكاً، والغالب: أنه جبريل.

    الحالة الثالثة: أن ينفث في روع ذلك النبي ما يريد الله جل وعلا أن يأمره به.

    وكل هذه الأحوال الثلاثة انتفت في ذلك المطلب العظيم، فالمطلب غال: وهو ذبح الولد، لكن الطريق كانت ليست بتلك القوة، فلم يأمر الله جل وعلا إبراهيم بها من غير واسطة، ولم يبعث إليه ملكاً، ولم ينفث في روعه، وإنما كانت طريقة الوحي بالنسبة للطرائق الأخرى ضعيفة جداً: فقد كانت مجرد رؤيا، فكان الشيطان يأتي إلى إبراهيم ويقول له: يا إبراهيم! اتق الله، تذبح ولدك من أجل رؤيا رأيتها، فالمطلب عظيم، لكن الوسيلة أو الطريقة كانت ضعيفة، ومع ذلك قبل إبراهيم بالرؤيا؛ لأنه يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، وهذا قمة الابتلاء، فازدلف الأب إلى ابنه قائلاً: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فأجاب إسماعيل البار الصالح أباه بقوله: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

    وقد قال الله في موضع آخر: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:106-111].

    وإلى يومنا هذا يتقرب إلى الله جل وعلا بذبح الأضاحي إحياء لتلك الشعيرة العظمى التي ابتدأها النبيان الكريمان إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما.

    هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ قوله.

    والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756359617