إسلام ويب

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - ما جاء في صفة العمرةللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حرم إبراهيم خليل الرحمن مكة فجعله الله تشريعاً، وحرم نبينا عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن المدينة، فلا يعضد شوكها، ولا يختلى خلالها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. وقد وردت الأحاديث العديدة في فضل هاتين البقعتين من الأرض، فكان لزاماً على المسلم التأدب بآداب الشرع فيهما، وعدم انتهاك ما حرمه الله ورسوله فيهما.

    1.   

    حرم المدينة

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    وصلنا في الحديث السابق إلى حرم مكة، وذكرنا ما فيه من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها:

    أن الله عز وجل حرم مكة ولم يحرمها أحد من خلقه، وأنها لم يحل فيها القتال لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحل لأحد من بعده عليه الصلاة والسلام، وأنه ما حل له إلا ساعة من نهار صلوات الله وسلامه عليه، وأن التحريم من الله سبحانه حين خلق السماوات والأرض، وأظهر هذا التحريم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في دعائه لمكة.

    وكذلك الله سبحانه تبارك وتعالى حرم المدينة على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه بدعائه، فشرفها وحرم ما بين جبليها طولاً، وما بين لابتيها عرضاً، ولابتا المدينة -لابة عن اليمين ولابة عن الشمال- أرض مكسوة بحجارة سوداء، توجد واحدة في شرق المدينة والأخرى في غربها، فحرم المدينة ما بين جبلي المدينة من عير إلى ثور، وهما جبلان: جبل في شمال المدينة، وجبل في جنوبها، ومن الشرق والغرب ما بين اللابتين المذكورتين في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لابة شرقاً، ولابة غرباً.

    فقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محصلها، أنه يحرم صيد المدينة، وقطع شجرها، مثل حرم مكة، فلا يجوز الصيد فيها، ولا قطع شجر الحرم، وكذلك حرم المدينة لا يجوز الصيد فيها، ولا قطع شجرها.

    ما جاء في حرم المدينة

    من الأحاديث الواردة في ذلك:

    ما ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور) وعير: جبل في المدينة.

    قال أبو عبيد وغيره: عير، ويقال: عائر؛ جبل معروف في المدينة، قالوا: وأما ثور فلا يعرف أهل المدينة جبلاً يقال له: ثور، إنما ثور جبل بمكة، وكونهم لا يعرفون جبلاً بهذا الاسم في هذا الوقت لا يمنع أن يكون معروفاً قبل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إذاً كان هناك جبل اسمه ثور وكأن هذا الجبل تغير اسمه بعد ذلك، فصار أهل المدينة لا يعرفون جبلاً فيها بهذا الاسم، الذي هو اسم ثور، لكن ذكره من قبل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث دليل على أنه كان معروفاً قبل ذلك.

    وجاء في حديث آخر متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين لابتيها حرام)، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً، وإني أحرم ما بين مأزميها ألا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف)، إذاً وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن المدينة حرام ما بين مأزميها، وفي رواية أخرى: (ما بين لابتيها) وفي الثالثة: (ما بين عير إلى ثور)، ولذلك ذكر العلماء حدها بأربعة حدود:

    حد من المشرق وحد من المغرب، وهما اللابتان، وحد من الشمال وحد من الجنوب، وهما الجبلان اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم عيراً وثوراً.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم يظهر هذا التحريم: (ألا يهراق فيها دم)، فإذا كان هذا دم صيد فإن دم الآدمي من باب أولى.

    (ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف) إذاً شجر المدينة لا يخبط، وخبط الشجر بمعنى: أن يضرب على أغصان الشجر من أجل أن تتساقط الأوراق فتأكل منه الدواب، فالجائز هو أن يخبط لإطعام البهائم، أما أن تكسر الأشجار أو أغصانها، فمثلما هو حرام في مكة كذلك هو حرام في المدينة، ولكن في مكة جزاء الصيد، هو أن ينحر أو يهدي هدياً، وأما في المدينة فالجزاء شيء آخر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

    وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد)، فإبراهيم عليه السلام أظهر التحريم في مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فدعا ربه وأظهر هذا التحريم الذي أراده الله سبحانه في المدينة.

    قال: (لا ينفر صيدها)، إذاً صيد المدينة آمن مثل صيد مكة.

    (ولا يعضد شجرها)، إذاً لا يكسر الشجر الذي في المدينة، كما لا يكسر الذي في مكة.

    (ولا يختلى خلاها)، الخلا: هو الحشيش الذي على الأرض، وهو العشب، والكلأ، فلا يجوز لأحد أن يقطعه لغير سبب، إنما يجوز أن يرعى ويرتع فيه دواب الحرم.

    (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) إذاً اللقطة في المدينة لا تتملك مثل لقطة مكة، وإنما يلتقطها ليعرفها بأن يرفع صوته بالمناداة، أو بأي نوع من التعريف.

    جزاء من انتهك حرمة المدينة

    في مكة إذا صاد أحدهم صيداً فإنه ينظر في هذا الصيد ويذبح مثله إن كان له مثل، يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] فيذبح ما هو مثله من بهيمة الأنعام كالبقرة أو الشاة أو المعز، أو نحو ذلك مما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاء عن الصحابة أنهم أفتوا في ذلك، وحكموا به، فإذا كان غير ذلك فالقيمة كالبيض ونحوها.

    أما في المدينة فلا يوجد هدي، وإنما من فعل ذلك فيها فإنه يسلب، أي: يؤخذ ما معه من نقود وثياب، ويترك له ما يستر به عورته فقط، جزاء له؛ لأنه انتهك حرمة المدينة، ويأخذ هذا السلب ويستحقه من أنكر عليه.

    ففي حديث رواه مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق -وهو واد في ذي الحليفة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه- فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه، فسلبه، أي: أخذ ما معه من أشياء وما عليه من ثياب، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ منه؛ لأن الذي على العبد ليس له وإنما لسادته؛ ولذلك جاءوا إلى سعد وطلبوا منه: أن رد علينا الذي أخذته من عبدنا، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم.

    فبين سعد بن أبي وقاص هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال ذلك وأمر به.

    إذاً: فالمدينة حرم آمن، والنبي صلى الله عليه وسلم أظهر هذا التحريم، وأخبر أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، وما بين لابتيها، فمن أحدث فيها حدثاً استحق أن يسلب.

    1.   

    أسماء مكة والمدينة

    مكة والمدينة لهما أسماء، وكثرة الأسماء للشيء أو المكان تدل على شرف هذا المكان.

    أسماء مكة

    فمكة لها حوالي ستة عشر اسماً تطلق عليها، فمن أسمائها:

    الأول: مكة: وقيل سميت كذلك لقلة مائها، وبكة أيضاً بالباء قيل: لقلة الماء الذي فيها.

    وقيل: سميت مكة لأنها تمك الذنوب، بمعنى: تذهب الذنوب؛ لأن الذي يذهب إلى هناك في حج أو عمرة فإن الله عز وجل ينفي عنه ذنوبه، وهو مأخوذ من امتك الفصيل ضرع أمه، أي: امتص وأخذ منه.

    الثاني: بكة، قيل: لازدحام الناس فيها، أي: يبك بعضهم بعضاً، ويزحم ويدفع بعضهم بعضاً في زحمة الطواف.

    وقيل: لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي: تدق أعناق الجبابرة.

    وقيل: مكة وبكة اسمان للبلدة.

    الثالث: تسمى أم القرى، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك في التسمية، والله سبحانه تبارك وتعالى ذكرها بهذا الاسم، وكلمة (قرية) معناها: مجتمع الناس، فتطلق القرية على البلدة التي اجتمع الناس بداخلها، فأم القرى أي: أم البلدان.

    الرابع: تسمى أيضاً: البلد الأمين، وقد ذكره الله عز وجل في كتابه.

    الخامس: تسمى برحم، وكأنها من المراحمة، ففيها يتراحم الناس ويتآلفون ولا يقاتلون.

    السادس: تسمى أيضاً: صلاح، وهو مبني على الكسر كقطام ونحوها، وسميت بذلك لأنها مكان الصلاح الذي فيه الأمن.

    السابع والثامن والتاسع: تسمى: الباسة، والناسة، والنساسة.

    الباسة: لأنها تبس من ألحد فيها، بمعنى: تحطم من ألحد فيها؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فالذي يريد الحرم بأذى فالله عز وجل يعذبه في الدنيا قبل الآخرة، فالباسة بمعنى المحطمة، كما قال تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة:5] بمعنى: حطمت وفتت وذرت.

    وتسمى: الناسة والنساسة، وكأنها تطرد من جاء إليها يلحد ويعصي الله سبحانه تبارك وتعالى، وقيل: إنها سميت بذلك لقلة مائها، من نس بمعنى: يبس لقلة الماء الذي فيه.

    العاشر: تسمى: الحاطمة؛ لكونها تحطم الملحدين.

    الحادي عشر: تسمى: الرأس؛ لشرفها فإنها أم القرى ورأس البلدان.

    الثاني عشر: تسمى: كوثا، وهذه تسمية قديمة كانت تسمى بها، وهي تسمية موجودة في كتب التواريخ.

    الثالث عشر: تسمى أيضاً: العرش، وكأنها مأخوذة من العريش؛ لأن أكثر بيوتها في الماضي كانت مبنية من أخشاب منصوبة وعليها أقمشة وستائر، فكانت مكة تسمى بالعرش، وبيوتها عرش مكة.

    الرابع عشر: تسمى: القادس والمقدسة، وهذا من التقديس أي: البلدة المطهرة.

    الخامس عشر: تسمى أيضاً: البلدة، وهو علم عليها.

    أسماء المدينة

    تسمى المدينة بأسماء منها: المدينة، وطيبة، وطابة، والدار.

    قال الله عز وجل: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ [التوبة:120].

    وقال: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ [المنافقون:8]، ويقال عنها: بلد النبي صلى الله عليه وسلم، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سمى المدينة طابا)، وجاء في مسند أحمد (أنه سماها طيبة)، وطابا وطيبة أصلهما من التطييب، وهو: الطاهر، لخلوصها من الشرك وطهارتها، أي: ليس فيها شرك بالله عز وجل، أو من طيب العيش بها، أو من الطيب وهو الرائحة الحسنة.

    وسميت أيضاً: الدار، فأهل الدار والإيمان الذين نزلوا فيها هم أهلها أهل المدينة من الأنصار رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

    وكان لها اسم في الماضي، فقد كانت تسمى يثرب، وهو من التثريب: وهو التوبيخ، فكأنها كانت بلداً فيه شيء من الوباء ونحوه، فكان من ينزل بها يصاب بهذا الوباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره هذا الاسم، فلم يكن يحب أن يسميها به.

    1.   

    صفة العمرة

    ندخل الآن في صفة العمرة؛ لأن الذاهب إلى هناك إما أن يذهب للعمرة فقط، أو يذهب ليعتمر ثم يتمتع بالعمرة إلى الحج، ويأتي بالحج بعد ذلك، فالذاهب إلى هناك الغالب أنه يبدأ بالعمرة، فقدمنا الكلام عن العمرة على الكلام عن الحج.

    دخول مكة والمسجد الحرام

    عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) والثنية: هي الطريق الذي بين الجبلين، أو الطريق الذي في الجبل، والثنية العليا في مكة تسمى: كداء، وهي مكان عالٍ مرتفع عن سطح الأرض، والثنية السفلى فيها تسمى: كدى.

    وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مقصد وهدف من الدخول من الثنية العليا؛ لأن الثنية العليا مكان مرتفع، وكان أهل مكة لا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يدخل منها، ولذلك فإن حسان بن ثابت في هجائه لأهل مكة ذكر أنهم يدخلون عليهم من أعلاها، وذلك لأن الذي يفتح بلداً من البلدان ويدخل إليها من طريق وعر وصعب، فمعناه: أنه قوي مقاتل شرس؛ لأن العادة أن الغريب القادم من مكان بعيد أن يدخل من المكان السهل، ولا يدخل من المكان الصعب.

    فكداء: كانت أعلاها، فكأن حسان في هجائه للمشركين يتوعدهم أنا سنذلكم يوماً من الأيام، وسندخل عليكم ليس من المكان السهل، بل من أصعب مكان عندكم، وهذا دليل على تمكن الذل من هؤلاء.

    ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الدخول جاء في سنن البيهقي (أنه سأل أبا بكر رضي الله عنه: كيف قال حسان ؟ فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حسان قال:

    عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء

    يقول: حسان أعدم بنتي إن لم ترونا ونحن داخلون عليكم مكة من أعلى مكان فيها وأوعر مكان وأصعب مكان فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالدخول من هذا المكان).

    وجاء أيضاً عن العباس رضي الله عنه لما حبس أبا سفيان في ممر الجيش حين فتح مكة، وأمره أن يسلم، فلم يسلم أبو سفيان وقال: حتى أرى الخيل تدخل من ههنا، أي: كأنه أمر صعب جداً أن تدخل الخيل من على الجبال التي هي في أعلى مكة، فقال له العباس : لم قلت ذلك؟ قال: لا أدري، ولكن شيئاً حاك في صدري أني لن أدخل في الإسلام حتى أرى ذلك، وفعلاً دخلت خيل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكان في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يدخلها من كداء، ويخرج من كدى.

    روى البخاري ومسلم عن نافع قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي بها الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

    إذاً في الدخول إلى مكة كان ابن عمر رضي الله عنه يبيت بذي طوى، وذو طوى فيه ثلاث لغات، وهو واد بباب مكة، ثم يصلي به الصبح، ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك صلوات الله وسلامه عليه.

    فيستحب للمحرم أن يغتسل عند دخوله مكة، فإن عجز عن الغسل تيمم، وهذا إذا قلنا: إن سبب الغسل هو العبادة وليس النظافة، وأما إذا قلنا: إن سبب الغسل هو النظافة فالغسل أولى، فإن لم يجد ماء جاز له أن يتيمم، وجاز له ألا يفعل ذلك.

    ويستحب إذا وصل إلى الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع، ظاهراً وباطناً، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره.

    ويستحب له دخول مكة -كما ذكرنا- من ثنية كداء، التي في أعلى مكة، وإذا خرج خرج من ثنية كدى، وهي بأسفل مكة، قرب جبل قعيقعان، وهذا إلى صوب ذي طوى.

    وله دخول مكة ليلاً ونهاراً، فلا يشترط وقت معين للدخول، ولكن ابن عمر كان يحب أن يدخل بعد أن يصلي الصبح في ذي طوى ثم يدخل بعد ذلك إلى مكة، فكل هذا جائز، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وما تيسر للذاهب المعتمر أن يفعله فعله؛ لأنه في أغلب الأحيان لا يكون الأمر في يده وخاصة إذا كان ذاهباً مع رحلة في سفر، فيكون مقيداً بمن معه في الرحلة.

    ودخول مكة نهاراً أفضل؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة)، وكان ابن عمر يفعله.

    وينبغي على الحاج أو المعتمر أو الإنسان المحرم أن يتجنب إيذاء الناس في الزحمة عند دخوله، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها، والكعبة التي هو متوجه إليها، ويمهد عذر من زاحمهم، فكل إنسان يزعم أنه يحب الله، ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب الحرم، وقد يرى في نفسه أنه من أفضل الناس خلقاً، ولكن هذا كله يظهر هنالك، فالإنسان الحسن الخلق تظهر أخلاقه مع رفقته. مع الناس، في معاملاته، وفي حرصه على التواجد في الحرم، والإنسان الذي هو ذاهب لغير ذلك تظهر شراسة الأخلاق هنالك، فتجد أنه لا يستحي أن يرفع صوته في الحرم، ويتشاجر مع الناس، ويشتم ويسب، فكل إنسان بحسب ما في قلبه من حب لله عز وجل ومن خشوع وخوف تظهر أخلاقه في هذا المكان.

    فإذا رأى البيت استحب أن يرفع يديه ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، وهذا مروي عن عمر رضي الله عنه، ومروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إسناده ضعيف، فيقول ذلك ويدعو بما أحب من أمور الدين والدنيا والآخرة، وأهم أمر أن يسأل الله المغفرة.

    ويستحب للمحرم أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا كله بحسب ما يتيسر له، فقد يكون الإنسان قادماً من سفر فيكون متعباً ولا يعرف هذا الباب من غيره لكثرة الأبواب في الحرم، فهذا يفعل ما يتيسر له ويدخل من أي الأبواب شاء، ومن تيسر له ذلك فعل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودخل من هذا الباب، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى باب بني شيبة ولم يكن على طريقه؛ فلذلك على الشخص الذي يعرف هذا الباب ويقدر على الذهاب إليه أن يفعل ذلك فهو الأفضل.

    دعاء دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد

    ثم يقول الأذكار المشروعة في دخول المساجد، فعند التوجه إلى المسجد، سواء المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو أي مسجد من المساجد، وأنت خارج من بيتك متوجهاً إلى بيت الله سبحانه تدعو وتقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً. فإذا أراد الدخول إلى المسجد الحرام -وكذلك أي مسجد من المساجد- فيدعو بهذا الدعاء: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، ثم يدخل رجله اليمنى ويقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك.

    وإذا أراد الخروج بعد أن ينتهي من الأعمال التي فيه، يخرج من المسجد ويقول: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم.

    وقد صحت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى.

    فإذا دخل المسجد الحرام فينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل، والخضوع والمهابة والإجلال، فهذه هي عادة الصالحين في هذا المكان، فإن رؤية البيت تشوق إلى صاحبه، إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، والإنسان يذهب إلى هنالك ليظهر توحيده لله سبحانه، فيقول: لبيك اللهم لبيك! ويظهر شوقه إلى الله، ويتذكر الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فالذكريات تجول بخاطر الإنسان حين ينظر إلى البيت، ويرى الطائفين، وكم منهم يتقبلهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ويغفر لهم ذنوبهم، ويتمنى أن يكون هو كذلك.

    طواف العمرة

    وإذا دخل المسجد فلأنه ذهب ليعتمر فلن يصلي تحية المسجد، ولكن تحية البيت الطواف، وهذا الطواف للمعتمر -طواف العمرة- هو طواف الركن، فليس له طواف قدوم؛ لأن طواف القدوم سنة للذي يذهب إلى الحج، فإذا نوى الإفراد أو نوى القران بين الحج والعمرة فهذا له طواف قدوم، لكن الذاهب إلى العمرة ليس له طواف قدوم، وإنما عليه طواف الفريضة أو الركن، فيطوف بالبيت هذا الطواف.

    ففي حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت)، فإذا دخل المعتمر المسجد الحرام قصد الحجر الأسود، وبدأ الطواف من عنده، فإذا لم يكن عند الركن الذي فيه الحجر الأسود فإنه يمشي حتى يصل إلى الحجر الأسود، ويقف هنالك ويبدأ الطواف من عند الحجر الأسود.

    والابتداء بالطواف مستحب لكل داخل، فكل إنسان يدخل إلى المسجد الحرام يستحب له أن يبدأ بالطواف، سواء كان محرماً، أو غير محرم، حتى لو أن إنساناً داخل للصلاة في وقت من الأوقات فإنه يستحب له أن يبدأ بالطواف بالبيت، وهذا بحسب ما يتيسر له، فلعله مع الزحام الشديد في مواسم العمرة والحج يكون صعباً أنه كلما يدخل المسجد يبدأ بالطواف، ولعله يتعذر عليه ذلك، فبحسب ما يتيسر له، إلا إذا خاف فوات صلاة مكتوبة، أو سنة راتبة، أو مؤكدة، أو فوات الجماعة المكتوبة، أو كان عليه فائتة مكتوبة؛ فإنه يقدم كل هذا على الطواف، ثم يطوف بالبيت، وهذا لغير المعتمر، أما المعتمر فأول شيء يبدأ به الطواف الذي هو طواف العمرة، إلا إذا كان المعتمر عليه صلاة ووقت الصلاة سيضيع، كما لو ذهب إلى هناك ودخل البيت قبل غروب الشمس ولم يكن قد صلى العصر، فهنا يبدأ بصلاة الفريضة، ثم يطوف بالبيت.

    والعمرة ليس لها طواف قدوم كما ذكرنا، وإنما فيها طواف واحد، وهو طواف الفرض، أو طواف الركن.

    والمحرم بالعمرة لا يتصور في حقه طواف القدوم؛ لأن أول طواف يفعله هو طواف الركن، وليس طواف القدوم، بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه طاف طوافاً للعمرة، وبعد ذلك طاف طوافاً آخر للقدوم، لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، ولكن أول شيء أتى به هو طواف العمرة.

    ولكن إذا طاف المعتمر بنية طواف القدوم وقع عن طواف العمرة؛ لأن هذا الطواف هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه لو كان عليه حجة الإسلام فأحرم بحجة تطوع، فإنها تقع عن حجة الإسلام.

    إذاً: إذا خرج ونوى العمرة وشرع في الطواف فالمستحب في حقه أن ينوي أن هذا طواف العمرة، لكن إذا لم ينو ذلك، وطاف مع الناس كما يطوفون، فهذا يجزئ عن طواف العمرة؛ لأن نية العمرة تأتي على كل ما يفعله بعد ذلك، فإذا طاف فهذا طواف العمرة، فإذا سعى فهذا سعي العمرة، سواء نوى بداية الطواف أو اكتفى بالنية الأولى التي كان عليها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756355611