إسلام ويب

تفسير سورة الرحمن [58-78]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان ... فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))[الرحمن:58-61]. قوله: (( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)) يقول القاسمي : أي: في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه أدباً وحياء (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )). ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: هل جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وهو الجنة: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) أي: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) أي: ما لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة, كما قال الله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. قوله: (( الحسنى )) هي الجنة، (( وَزِيَادَةٌ )) وهي رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة. وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يفيد العموم، يعني: ما جزاء الإحسان في الدنيا التي هي دار العمل إلا الإحسان في الدنيا والآخرة. قال الصادق : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد, فيكون هنا تفسيران: التفسير الأول: هل جزاء من أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة, هذا هو الصواب، ويؤيده قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. والتفسير الثاني: (( هل جزاء الإحسان )) يعني: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل حينما كتبه الله سبحانه وتعالى من السعداء إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد حتى يدخل الجنة. وقال محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر, أي: مرسلة. يعني: مطلقة غير مقيدة، حتى الكافر إذا أحسن في الدنيا يحسن الله إليه في الدنيا، لكن أعماله مقيدة بمشيئة الله تعالى، كما في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18] وهذا هو سر القيد: (( لمن نريد )) إلى آخر الآية. وقول محمد بن الحنفية في تفسيرها: هي مسجلة للبر والفاجر، أي: مرسلة على الفاجر في الدنيا، وعلى البر في الآخرة، وهذا المعنى في الحقيقة ليس بدعاً من القول، فإنه يؤيده نصوص تدل على أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى لا يضيع عليه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى. يعني: أن الكافر الذي يعمل أعمالاً حسنة مما يرضي الله عز وجل كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، وحسن الجوار، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، والتنفيس عن المكروب، ونحو ذلك فهو يجازى عليه، لكن فقط في الدنيا؛ لأن الدنيا هي سجن المؤمن وجنة الكافر. يعني: المؤمن إذا خرجت روحه كالسجين الذي يحكم عليه بالإطلاق والإخراج, فيدخل إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، ويطلق من القيود التي كان مقيداً بها في الدنيا، سواء الأحكام الشرعية من الحلال والحرام أو غير ذلك من الابتلاءات, أما الكافر فهو يجازى فقط في الدنيا التي هي جنته, وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن ينتفع فيه بعمله الصالح في الدنيا، ولا يمكن أن يكون له حظ في الآخرة إذا مات على غير التوحيد؛ وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وقال الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) رواه مسلم ، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا). وهذا هو السر في أننا أحياناً نجد الكافر في رزق وصحة وأولاد ونعيم ورأس مال ومشاريع وكذا وكذا, وقد يفضل في كثير من الأحوال على المؤمن، بينما المؤمن مبتلى فقير وهكذا؛ لأن الله سبحانه يريد رفع درجات المؤمن في الآخرة، وذلك للحديث الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته) رواه مسلم . إذاًً: القاعدة العامة أن انتفاع الكافر بالعمل الحسن الذي يعمله مقيد بمشيئة الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ))، فهذه تقيد ما سبق من الكلام. أما في الآخرة فالنصوص كثيرة جداً، وهي دالة على أنه لا يمكن أن ينتفع الكافر بعمله في الآخرة إذا مات على الشرك والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ومن دونهما جنتان ... فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:62-69]. قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)) قيل: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. وقال معظم المفسرين: إن هاتين الجنتين دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن الكريم؛ لأن قوله تعالى: ((ومن دونهما)) يفيد أن هاتين الجنتين أقل من اللتين ذكرتا أولاً في الآيات السابقة، وهذا هو الظاهر من كلام عامة المفسرين، وإن كان بعضهم ذهب إلى العكس وهو تفضيل الجنتين المذكورتين آخراً على المذكورتين أولاً, ثم اجتهد في توجيه كلامه، لكن الصحيح ما ذكرناه من قبل أن الأقرب والله تعالى أعلم: أن الجنتين الأوليين أعظم وأعلى وأفضل من الجنتين اللتين ذكرتا فيما بعد, وذلك لما روي في الحديث: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين. وقال أبو موسى : جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين, وقال ابن عباس : ((ومن دونهما جنتان)) أي: من دونهما في الدرج، وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل. والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: أحدها أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء, ثم قال: ((ومن دونهما جنتان)) وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني, وقال هنا: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هنا: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: سوداوان من شدة الري من الماء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مدهامتان)): (قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء)، وقال قتادة : خضروان من الري ناعمتان, ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض. قوله: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: خضراوان من الري تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. وقيل: قوله تعالى: ((مُدْهَامَّتَانِ)) دلالة على شدة تمكن اللون الأخضر، وأنهما ممتلئتان من الخضرة. وقال هناك في الجنتين الأوليين: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) وقال هنا: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ)). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((نصاختان)) (أي: فياضتان، والجري أقوى من النضخ). وقال الضحاك : ((نضاختان)) أي: ممتلئتان لا تنقطعان. وقال هناك: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) أي: فيها من جميع أنواع الفاكهة أما هنا فقال: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم، ولهذا ليس قوله: ((ونخل ورمان)) من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره, وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما. وهذا كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فالصلوات الخمس والوسطى منها وهي صلاة العصر، لكن هذا لمزيد من الاعتناء بتخصيص صلاة العصر بالذكر، وكذلك قال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] قوله: ((وجبريل وميكال)): هما من الملائكة, لكن هذا من باب عطف الخاص على العام. يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، وإنما أفردهما بالذكر مع أنهما من الفاكهة لبيان فضلهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان )

    فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:70-71]. قوله: ((خيرات)) جمع خَيَّرة بالتشديد ثم خففت. قوله: ((فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)) يعني: فاضلات في الأخلاق، وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده؛ لأن المسند إليه بعده فيه الجهة, ((فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)). ((حسان)) يعني: حسان الوجوه. إذاً: قوله: ((خيرات)): إشارة إلى أنهن فاضلات في أخلاقهن، وأما ((حسان)) ففيه وصف الخَلْقِ. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ((فيهن خيرات حسان)): قيل: المراد ((خيرات)) كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة. وقيل: ((خيرات)) جمع خيرة أو خيِّرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه, قاله الجمهور. وفي بعض الأحاديث: أن الحور العين يغنين لأزواجهن: (نحن الخيرات الحسان. خلقنا لأزواج كرام) ولهذا قرأ بعضهم: (فِيهِنَّ خَيَّرَاتٌ حِسَانٌ) بالتشديد, (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )). لقد ناقش المفسرون: أيهما أكثر حسناً الحور العين أو الآدميات؟ فبعض العلماء قال: الحور أفضل من الآدميات لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة بصفات الجمال في الخَلق والخُلق, وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت: (وأبدله زوجاً خيراً من زوجه) فهذا يدل على أن التي يتزوجها المؤمن من الحور العين أفضل من زوجه الآدمية. وإن كان يمكن الجواب عن هذا بأنه إذا مات الرجل وبقيت زوجته بعده فالدعاء له الآن بعد انتقاله إلى الدار الآخرة أو إلى مقدمات الآخرة وهي البرزخ. القول الثاني: الآدميات أفضل من الحور العين؛ لأن الآدميات مكلفات وقد عملن أعمالاً صالحة في الدنيا وأطعن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أيضاً: مما ينبغي أن نعلمه أن الحور لسن من نساء الدنيا, بل هن مخلوقات في الجنة, لقول الله عز وجل: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ))، وأكثر نساء الدنيا مطموثات, وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أقل ساكني الجنة النساء)؛ فإذا كان أقل ساكني الجنة النساء، فالمعنى: أن أهل الجنة من الرجال لا يصيب كل واحد منهم امرأة من المؤمنين في الجنة، مع أن الله سبحانه وتعالى وعد جميع المؤمنين بأنهم سوف يتزوجون الحور العين، فثبت أن الحور العين لسن من نساء الدنيا وإنما هن مخلوقات يخلقهن الله سبحانه وتعالى في الجنة. فجاء في الحديث أنهن ينشدن: (نحن الخيرات الحسان. خلقنا لأزواج كرام).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( حور مقصورات في الخيام ... فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:72-75]. قوله: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) الحور جمع حوراء، والحوراء البيضاء النقية. ومعنى قوله: ((مقصورات)) أي: قصرن أنفسهن على منازلهن, لا يهمهن إلا زينتهن ولهوهن. ((الخيام)) يعنى بها البيوت، وقد يسمي العرب هوادج النساء خياماً. قوله تعالى: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) أي: محبوسات حبس صيانة وتكرمة وحماية. وهذا الحبس ليس كما يزعم بعض الناس أنه امتهان للمرأة أو كذا، وإنما هو حبس من أجل الصيانة والحماية والتكريم؛ لأن الشيء الذي له قيمة وهو نفيس فإنه يصان ولا يهان ولا يبذل للناظرين، فمثلاً: حبة اللؤلؤ تصان داخل الصدفة لأنها ثمينة, ومن امتلك جواهر أو أشياء من هذه الأشياء النفيسة فإنه يصونها في مكان يؤمن عليها فيه. وقوله: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) هذا في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, فهناك قال: ((فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)) أما هنا فقال: (( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ )) يعني: قُصِرتْ أطرافهن، ولا شك أن التي قَصَرَتْ طرفها بنفسها أفضل ممن قُصِرتْ، وإن كان الجميع مخدرات، ومخدرات يعني: استترن وراء الخدر، وهو غطاء أو ستارة في كنف البيت تحبس فيه العذراء لشدة حيائها, ولذلك ورد في الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها)، وهناك كتاب في الفقه الحنبلي اسمه (فقه المخدرات شرح أخصر المختصرات) المخدرات: يعني الأفكار المنقولة المستورة. والبنت في الصعيد إذا كبرت يقولون عنها: هذه (اتخدرت) يعني: كبرت وهي مخدرة ومستترة داخل البيت. إذاً: ((حور)) جمع حوراء، والحوراء الشديدة بياض العين الشديدة سوادها. وقوله: ((مقصورات)) أي: محبوسات حبس صيانة وتكرمة، فالمقصود هنا عدم خروجهن أو نظرهن وتطلعهن إلى غير أزواجهن، ومنه قول كثير مخاطباً عزة : وأنت التي حببت كل قصيرة إلـي وما تدري بـذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شـر النساء البحاتر يعني: أنت التي حببت إلى كل امرأة قارة في بيتها، أعني النساء اللائي يقصرن أنفسهن داخل الخيام أو داخل البيوت أو داخل الخدر ولا يخالطن الرجال. (شر النساء البحاتر) يعني: القصيرة المجتمعة الخلق. ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) أي: لسن بالطوافات في الطرق. أما الخيام فقيل: هي خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب. (( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ )) يعني بهن: حور الجنتين اللتين هما دون الأوليين، أو أنه تكرار لما سبق للتنويه لهذا الوضع، وكونه في مقدمة المشتهيات وطليعة الملذات فقال عز وجل: (( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ))، إلا أن الله سبحانه وتعالى زاد في وصف الحور الأوائل فقال: ((كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ))، أما هنا فلم يصف هؤلاء الحور بذلك، وإنما قال: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما ... )

    مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:76-77]. قوله: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)) أي: سرر أو مساند أو وسائد خضر ((وعبقري)) أي عتاق الزرابي، ((حسان)) أي: جيادها. وأصل صفة العبقري هذه لا تقال إلا على الجيد، فهنا كشف عن الصفة بقوله: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ))، فقد يظن ظان أن هناك شيئاً يوصف بأنه عبقري ولا يكون حسناً، فمن ثم قال: الصفة كاشفة؛ لأن كل عبقري لابد أن يكون حسناً. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)) عن ابن عباس : (الرفرف المحابس)، والمحابس بفتح الميم محبس، والمحبس ثوب يطرح على ظهر الفراش الموضوع على السرير الذي ينام الإنسان عليه. وقال العلاء بن زيد : الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي. وقال عاصم الجحدري : ((متكئين على رفرف خضر)) يعني: الوسائد. وعن سعيد بن جبير قال: الرفرف: رياض الجنة، والعبقري هي: عتاق الزرابي، يعني: جيادها. وقال مجاهد : العبقري: الديباج. وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: ((وعبقري حسان)) فقال: هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها، وعنه: أنها المرافق. وقال زيد بن أسلم : العبقري أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد. وقال أبو العالية : العبقري: الطنافس المخملة إلى الرقة ما هي. وقال القيسي : كل ثوب موشى عند العرب عبقري. وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. وقال الخليل بن أحمد : كل شيء نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقرياً, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر : (فلم أر عبقرياً يفري فرية). والعبقري هنا المقصود به: رئيس القوم وجليلهم.

    وجه تسمية الشيء النفيس عبقرياً

    نلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى خاطب العرب بما يعرفونه, ومما تعارفه العرب أن العبقري هي من أنفس الأشياء, مثل: الزرابي أو البسط أو السجاجيد أو كذا، فالعرب لهم كلام في أصل وصف الشيء بأنه عبقري. وتزعم العرب أن عبقر بلد يسكنها الجن فينسبون إليه كل شيء فائق جليل. وقال الخليل : كل شيء نفيس من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. إذاً: كلمة عبقري لوحدها تدل على أنها كل جيد ونفيس وفاخر وجليل إلى آخره، يعني: لا يفهم من قوله: ((وعبقري حسان)) أنه يمكن أن يكون هناك عبقري ليس حسناً، وإنما كل عبقري لا بد أن يكون حسناً، فلذلك قال: (( َعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ )). إذاً: العرب ينسبون إلى عبقر كل شيء يعجبون به من صنعه وجودته وقوته، وأيضاً: يوصف به كل جليل ونفيس وفاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم، فالعرب تسميه عبقرياً، وفي الحديث لـعمر : (فلم أر عبقرياً يفري فريه). أيضاً: للعقاد سلسلة مؤلفات تسمى العبقريات، منها: (عبقرية محمد) و(عبقرية عمر ) و(عبقرية الصديق ) وهكذا.

    حكم إطلاق وصف العبقري على النبي صلى الله عليه وسلم

    لقد حصل نوع من الجدل حول إطلاق وصف العبقري على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أو وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه أعظم الأبطال أو أنه أشجع الشجعان أو أنه أفضل مائة شخصية عرفها العالم, هذا كله يعتبر نوعاً من الرضا بالدون؛ لأنه من الرضا بالدون حينما نقنع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عبقري, ولا يقاس بأنه أكمل البشر في كل صفاته عليه الصلاة والسلام, ومعلوم أن الناس ينقسمون إلى مؤمنين وكفار، وأهل جنة وأهل نار، ليس لأنهم كانوا يؤمنون أن محمداً عبقري أو غير عبقري عليه الصلاة والسلام، أو أنه بطل أو غير بطل. فالنبي بكل المقاييس البشرية هو أفضل البشر عليه الصلاة والسلام، والحد الفاصل بين الإيمان والكفر فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم أنك تشهد أن محمداً رسول الله، أما من يبدي إعجابه به فهو على رغم أنفه لابد أن يعجب بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرته، وكذا وكذا من شئونه، ولذلك رأينا كثيراً من الكفار يمدحونه عليه الصلاة والسلام مدحاً كبيراً جداً ومدحاً عظيماً، كـموسى الشاعر الألماني المعروف والذي له كلام في هذا، وأحد الأدباء الروس أيضاً له كلام في غاية الروعة والاحترام لرسول الله عليه الصلاة والسلام, وهذا ابن الرئيس المدعو غاندي الهندي عابد البقر دخل في الإسلام, فهؤلاء الناس لم يدخلوا في الإسلام بمجرد أن مدحوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فالرسول عليه الصلاة والسلام بعث كي يؤمن الناس بأن لا إله إلا الله وأنه رسول الله, أما الوقوف عند كلمة عبقري وأن نفخر حينما نجد هؤلاء الناس يمدحونه بكذا وكذا لأنه رسول, الاعتراف بأنه رسول الله لا يهز فينا شعرة. إذاً: عليه الصلاة والسلام لا يختلف عاقل أنه أكمل البشر, أما الوقوف عند هذا الحد، أو مقارنته بـنابليون أو فلان أو علان فهذا كلام عجيب، ولكن الحد الفاصل بين الإسلام والكفر هو أن تؤمن أن محمداً نبي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    الفرق بين فرش الجنتين الأوليين وفرش الجنتين الأخريين

    يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ))، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظاهرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى. وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام )

    قال تبارك وتعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78] أي: ذي العظمة والكبرياء والتفضل بالآلاء. قوله: ((ذي الجلال والإكرام)) أي: هو سبحانه وتعالى أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) رواه أبو داود. وعن أنس مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) قوله: (ألظوا) يعني: الزموا هذا الاسم فاثبتوا عليه وأكثروا من الدعاء به. وعن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد -يعني: بعد الصلاة- إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام). قوله هنا: ((تبارك اسم ربك)) الاسم هنا كناية عن الذات العالية، وإلا يكفي أن يقول: تبارك ربك ذو الجلال والإكرام. كذلك قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] فأنت لا تقول: سبحان اسم ربنا الأعلى بل تقول: سبحان ربنا الأعلى, فالمقصود به الذات العالية؛ لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معه، كقول الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان:61]، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] وهذا يقوي القراءة بالرفع, أي: (( تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام )) على أنه صفة للاسم، وسر إيثار الاسم أن الأغلب أن المقصود هو الذات العالية, وللتنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى لاستحالة معرفة الذات المقدسة، فما عرف الله إلا الله. فهو اقتصر عز وجل على ذكر الاسم تنبيهاً على أننا لا نعرف من الله سبحانه وتعالى إلا أسماءه الحسنى, وحتى الأسماء الحسنى لا نعرفها كلها وإنما نعرف ما كشف لنا منها, وذلك لما ورد في الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فأسماء الله لا تنحصر في التسعة والتسعين وإنما هي أكثر من ذلك ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

    وجه إدخال لفظة (اسم) في قوله: (تبارك اسم ربك)

    قيل: إن لفظة: (اسم) مقحمة, كقول الشاعر لبيد بن ربيعة في قصيدة يخاطب فيها بنتيه: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ثم قام يوصيهن بماء يفعلان بعد أن يموت: فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر فقولا هو المرء الذي لا خليله أضاع ولا خان الصديق ولا غدر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر لأن الحداد في الجاهلية كان يستمر سنة كاملة. قوله: (إلى الحول) يعني: ابكيا ومجداني واذكرا محاسني مدة سنة كاملة. قوله: (ثم اسم السلام عليكما) هذا شاهد لإقحام لفظة (اسم). وقول الله تبارك وتعالى هنا في آخر هذه السورة الكريمة: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) يعني: كأنه من باب رد العجز على الصدر؛ لأن السورة افتتحت بالاسم الكريم: (( الرَّحْمَنُ )) واختتمت بقوله: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) فكأن المراد بقوله: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) كأنه يريد الاسم الذي افتتحت به هذه السورة وهو اسم (الرحمن)، فافتتح السورة بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجن وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه عز وجل كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيه، ثم وصف يوم القيامة وأهواله وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان، ثم قال في آخر السورة: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أي: تبارك هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه سبحانه وتعالى يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي, فمن رحمتي خلقتكم, ومن رحمتي خلقت لكم السماء والأرض, ومن رحمتي خلقت الخلق والخليقة والجنة والنار, فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه ثم قال: (( ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )) يعني: أنه جليل في ذاته كريم في أفعاله سبحانه وتعالى.

    وجوب تعظيم اسم الله تعالى والحذر من امتهانه

    إن من مقتضى هذه الآية الكريمة أن يعظم اسم الله سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78]، فمن تعظيم الله عز وجل أن يصان عن أي شيء يتنافى مع إكرامه. يقول عبد الله بن عون رحمه الله تعالى: كان محمد بن سيرين يكره أن يشتري بهذه الدنانير المحدثة والدراهم التي عليها اسم الله. مع أن هناك بوناً شاسعاً بين امتهان اسم الله عز وجل بأن يكتب على الدنانير الذهبية، وبين ما يحصل الآن من كتابتها على أوراق الجرائد وكذا وكذا ثم يمتهن الاسم الكريم، فهذا يتصادم مع مقتضى قوله تعالى: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))، وبعض الناس يتساهلون في هذا الجانب، فتجد من يكتب شعار: الله أكبر, أو ما شاء الله إلى آخره على الجدران أو السيارات، وهذا لا ينبغي، فاسم الجلالة لا يستعمل هذا الاستعمال. فما ينبغي التهاون في مثل هذا الأمر، وأعداء الإسلام والكفرة الآن إذا أرادوا أن يغيظوا المسلمين فإنهم يقومون بإهانة اسم الله سبحانه وتعالى، فما يليق بالمسلم أبداً أن يمتهن اسم الله عز وجل، وإذا تعمد ذلك فإنه يكفر. وقد نص العلماء على أن من آداب قضاء الحاجة أنه لا يجوز أبداً أن يتم الاستنجاء بما هو محترم، ومع ذلك نجد تهاون الناس تهاوناً شديداً جداً في التعامل مع أوراق الجرائد, فتجد من يصلي عليها ويطأ على اسم الله المكتوب على الجرائد، وهذه الجرائد المكتوبة بالعربية لا يمكن أن تخلو من اسم الله، صحيح قد لا يوجد فيها ذكر الله على سبيل الكلام الديني إلا ما ندر، ولكن لن تخلو من اسم وزير أو مسئول أو مدير أو شخص اسمه عبد الله أو عبد الرحمن أو نحو ذلك من أسماء الله، فإذا وطئت عليه كأنك أهنت اسم الله سبحانه وتعالى، كذلك لا ينبغي أن تلف البضائع في الجرائد، وينبغي الاجتهاد في التنزه من هذا الفعل.

    1.   

    أقوال العلماء في سر تكرار قوله تعالى: ( فبأي آلاء ربكما تكذبان )

    يختم القاسمي رحمه الله تعالى تفسيره لسورة الرحمن بهذه الفائدة يقول فيما قاله الأئمة في سر تكرير: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )): قال السيوطي في الإتقان في بحث التكرير: قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد معنى. يعني: التكرار أو التكرير يستعمل للتوكيد: يا علقمه يا علقمه يـا علقمه خير تميم كلها وأكرمه فحينما تكرر شيئاً فأنت تريد التوكيد، لكن أحياناً يراد به شيء غير التأكيد، وإنما وقع فيه الفصل بين المكررين, فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده. ثم قال: وجعل منه قوله تعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) فإنها وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة؛ لأن التأكيد لا يزيد عليها, قاله ابن عبد السلام وغيره. وفي عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله, يعني قوله: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) مثلاً بعد قوله: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: آلاء ربكم المذكورة في هذه الآية بذاتها قبل, فليس ذلك بأسماء بل هي ألفاظ فكل واحد أريد به غير ما أريد به الآخر, الألفاظ هي: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) لكن المقصود بالآلاء هنا غير المقصود بها هناك، وهذا يدعم كلامنا من قبل أن هذا تأكيد بمعنى الجديد. فإن قلت: يلزم التأكيد, قلت: والأمر كذلك ولا يبدو عليه؛ لأن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة، أما إذا ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع، وقال العز بن عبد السلام في كتابه (الإشارة إلى الإيجاز): وأما قوله: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى، وبالرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى آخر السورة فإن قيل كيف يكون قوله: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ)) وقوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ))، وقوله: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ))[الرحمن:43-44] وقوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ))، كيف يكون ذلك نعمة؟ قلنا: هذه كلها نعم جسام, كأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل في الدنيا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الآيات في وصف النار وعذاب النار وهذه الأهوال إنما هي لإصلاح الناس، ولحثهم على الطاعة والاستقامة، فالترهيب نعمة من حيث إنه زاجر عن المحرمات ودافع إلى الاستقامة على شرع الله تبارك وتعالى. إذاً: هذه كلها نعم جسام؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان, فإن من حذر من طريق الردى وبين ما فيها من الأذى وحث على طريق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة كان منعماً غاية الإنعام ومحسناً غاية الإحسان، ومثل ذلك قوله: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ [يس:52] يعني: هذا فيه مناسبة الربط لذكر صفة الرحمة في ذلك المقام، يعني: نفس المناسبة في ذكر ما يقع من العذاب والأهوال، فلا يستغرب أنه وعد بالعذاب وبيان عذاب المشركين وفي نفس الوقت يوصل إلى الرحمن. أما قوله: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) فأين النعمة في هذا الخبر؟ نقول: هذا تذكير بالموت والفناء، وفيه ترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء. وقال البغوي : كررت هذه الآية في واحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها, فيقول له: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعزرتك؟ أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب. وقال في الدرر والغرر: التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكرير كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحصل فيه التكرير, وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليباً : على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلاً من كليب إذا رجف العظاة من الدبور على أن ليس عدلاً من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلاً من كليب إذا حيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلاً من كليب غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما خار جأش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط وهي من نصائح العرب. وقال شيخ الإسلام في متشابه القرآن: ذكرت هذه الآية (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) إحدى وثلاثين مرة, ثمانية منها ذكرت عشر آيات فيها تعداد عجائب الخلق لله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعاده, ثم تبعت منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم. يعني: الآيات التي فيها ذكر النار ذكرت فيها آية: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) سبع مرات بعدد أبواب جهنم. وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأجيل العقاب. يعني: رغم أنها آية عذاب لكن يحسن أن يأتي بعدها ذكر الآلاء والامتنان بالآلاء؛ لأن من جملة الآلاء أن هذا البلاء الآن غير واقع بكم، والعقاب لا ينزل بكم حالاً وإنما هو مؤجل إلى أجل يعلمه الله سبحانه وتعالى, ففيه أيضاً نفس هذا المعنى الذي أشرنا إليه من قبل. وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما. يعني: في الجنتين الأوليين ذكرت (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) ثمان مرات في وصف الجنتين ونعيمهما، وثمانية هو عدد أبواب الجنة, وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, أخذاً من قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ))، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756303789