إسلام ويب

تفسير سورة يوسف [51-82]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ...)

    يقول الله تبارك وتعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:50-51]. (( قال ما خطبكن إذا راودتن يوسف عن نفسه )) استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد قول يوسف عليه السلام للملك أو لرسول الملك (( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم))؟ فجاء الجواب قال الملك: (( ما خطبكن )) أي: ما شأنكن (( إذا راودتن يوسف )) يوم الضيافة، يعني: هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ (( قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء )) أي: من قبيح، لقد بالغن في نفي السوء عنه، وهو أبلغ ما يكون في تنزيه يوسف عليه السلام عن أي قبيح؛ لأن كلمة (سوء) نكرة في سياق النفي فهي تعم، ويكون العموم قطعياً إذا أضيفت إليه كلمة (( ما علمنا عليه من سوء )) أيضاً من المبالغة في تنزيهه عن ذلك. قالت امرأة العزيز: (( الآن حصحص الحق )) أي: ثبت واستقر وظهر بعد خفائه (( أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين )) أي: إنه لمن الصادقين في قوله: هي راودتني عن نفسي. قال الزمخشري : ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به؛ لأنهن خصومه وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال. وكما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ...)

    ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52]. تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي؛ ليعلم أني لم أخنه بالغيب؛ لأن يوسف في هذه اللحظة لم يكن حاضراً، وإنما تم استدعاء النسوة ثم قال لهن الملك: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]؟ هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ [يوسف:51]. فإذا كان هذا الحوار في غياب يوسف عليه السلام لم يكن الملك قد أحضره بعد، فتقول امرأة العزيز : الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51] ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي العزيز أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر الذي هو الفاحشة، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة. (( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) أي: لا يرضاه ولا يسدده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ...)

    وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]. أي: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته، أو ما أبرئ نفسي من الخيانة فإني قد خنت يوسف لما رميته بالذنب، وذلك لما قالت لزوجها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] وأودعته السجن ظلماً وعدواناً، فهي تريد أن تعتذر مما كان منها، أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وهناك قول آخر: أن القائل: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) هو يوسف؛ لكن القول الأرجح والأليق بالسياق هو نسبة ذلك إلى امرأة العزيز. ثم يقول: وقد حكاه -أي هذا القول- الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فأفرده بتصنيف على حدة. ويشير القاسمي هنا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أفرد هذه الآية بالتصنيف؛ للانتصار للقول بأن قائل ذلك هو امرأة العزيز. ثم يقول: وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف يقول: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب )) وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه، وهو القول بأن هذا من كلام يوسف عليه السلام، والمعنى: أنه حينما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف أن يخرج حتى تظهر براءته، فكان ما حصل منه من التثبت والتريث والتأني سببه لتعلم براءته، حيث يقول: ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه؛ لأن المعصية خيانة، ثم أكد أمانته بقوله: (( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وسدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه؛ لقوله تعالى: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف:35] فتآمر العزيز وامرأته على أن يسجنا يوسف عليه السلام رغم ظهور الآيات الدالة على براءته. ثم أراد يوسف عليه السلام أن يتواضع لله ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس قائماً من نفسه، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: (( وما أبرئ نفسي )) أي: لا أنزهها من الزلل ولا أشهد لها بالبراءة بالكلية ولا أزكيها؛ فإن النفس البشرية تأمر بالسوء وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ. هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف، وأشهر من قال بذلك كما ذكرنا من المفسرين ابن أبي حاتم ، وابن جرير الطبري . قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك، والله تعالى أعلم. قوله عز وجل: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب )) ما إعراب بالغيب؟ هي جار ومجرور حال من الفاعل أو من المفعول، أي: حال كوني غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني. أو (بالغيب) ظرف أي: بمكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب. (( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بطريق الأولى، وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم كقوله تعالى: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:30] أي: في قولهم، وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده. قال في الإكليل: إذا كان يوسف عليه السلام هو القائل: (( وما أبرئ نفسي )) فلا شك أن هذه الآية دليل أصلي على التواضع، وكسر النفس وهضمها، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي) فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن رسول الله عليه السلام أولى بكل فضيلة من كل من عداه من الأنبياء والمرسلين. قال الزمخشري : لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها ثم قال-: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله. وفعلاً مما يؤذي جداً أننا إذا راجعنا كتب التفسير في مثل هذا الموضع، نجد الملفقة والمتكلفين والمتنطعين والقصاصين قد زادوا وأعادوا في تلفيق القصص التي لا مستند لها في هذه المواقف كما ذكروا هنا: أن يوسف عليه السلام لما قال: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) فقال له جبريل: أين ذهب همك بها؟ فرد وقال: (( وما أبرئ نفسي )). وكل هذا من التلفيق ومن العدوان على مقام أنبياء الله ورسله المعصومين، حتى الآن كل من له تعلق بهذه القصة يقطع بنزاهة يوسف عليه السلام، حتى إبليس نفسه نزه يوسف عليه السلام حينما قال إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40] فاستثنى المخلصين، والله عز وجل وصف يوسف بأنه من المخلصين بقوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] أي: من الذين لن يجد الشيطان إليهم سبيلاً، وامرأة العزيز نزهته والنسوة نزهنه، والشاهد الذي شهد نزهه، ومع ذلك لم ينزهه هؤلاء القصاصون الملفقون؛ فينبغي أن يحذر من مثل هذه الروايات الملفقة المصنوعة. قال الناصر ولقد صدق في التوقيع على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك دأب المبطلة من كل طائفة، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.

    قوة عفة يوسف عليه السلام وحفظ الله له

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت لـابن القيم في الجواب الكافي في صبر يوسف وعفته مع الدواعي من وجوه. وهذا بلا شك من أعظم نماذج العفة وحبس النفس عما حرم الله سبحانه وتعالى، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه: أحدها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً بل يحمد كما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن). الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشباب وحدته أقوى. الثالث: أنه كان عزباً ليس له زوجة ولا سرية تكسر ثورة الشهوة. الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه. الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها. السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر: وزادني كلفاً في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فطباع الناس مختلفة في ذلك. السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه. الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة. التاسع: أنه لا يخشى أن تنم هي عليه ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء. العاشر: أنه كان مملوكاً لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأُنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا. الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]. الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار. الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: (( أعرض عن هذا )) وللمرأة: (( استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع. وهذا لم يظهر منه غيرة. ومع هذه الدواعي آثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه. وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى:. (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ...)

    أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته فقال عز وجل: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]. هذه الحادثة مع الملك لا مع العزيز، وكان العزيز وزير الملك، والملك كان أعلى من العزيز. (( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي )) أي: أخصها به دون العزيز، جرياً على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز، قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، فعلم كرم نفسه وسعة علمه فقال: (( ائتوني به أستخلصه لنفسي )) أي: أجعله من خاصتي دون العزيز. (( فلما كلمه )) أي: فلما أتوا به وخاطبه الملك وعرفه وشاهد فضله وحكمته وبراءته. وجوز أن يكون الفاعل في قوله: (( فلما كلمه )) يوسف عليه السلام. (( قال إنك اليوم لدينا مكين )) أي: ذو مكانة عالية ومنزلة، (( أمين )) أي: مؤتمن على كل شيء. روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال الملك لهم: هل نجد مثله رجلاً مهبطاً للإمداد الرباني؟ فقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر، ونزع خاتمه من يده ووضعه في أصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقاً في عنقه، وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له: لا يمضي أمر ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه: مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه، وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة، والله تعالى أعلم. قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام علم يقيناً أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى خلفان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه، ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار، فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيداً، ولا للتجارب تهديداً، ولم يخف للسجن ظلماً وشراً، ولا للتنكيل به ألماً وضراً، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب، نال بطهارته وتقواه تاج الفخر، ولسان الصدق طول أيام الدهر. يعني: يكفي أن قصة يوسف عليه السلام تتلى إلى أن تقوم الساعة، فهي عبرة لكل معتبر، ومثل أعلى للبشرية في هذا الموقف بالذات، فلا شك من هذا كله أنه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] وأن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالاً نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذاً نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدىً نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار، فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ...)

    قال عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]. أي: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن الأرض، أي: خزائن أرضك، أي: جميع الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: (( إني حفيظ عليم )) أي: أمين أحفظ ما تستحفظني، عالم بوجوه التصرف فيه. ومن أروع ما يستدل به هنا على معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فنلاحظ يوسف عليه السلام ما أثنى على نفسه بحسن الصورة مع أن الله أعطاه شطر الحسن كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، والنسوة قلن: (( إن هذا إلا ملك كريم )) ومع ذلك ما قال: إني أوتيت شطر الحسن، ولم يتفاخر بانتسابه إلى الآباء والأجداد مع أنه هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظر إلى ما وصف به نفسه فقال: (( إني حفيظ عليم )). قال الزمخشري : وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه. وكذلك موسى عليه السلام وصفته ابنة الرجل الصالح بقولها: (( إن خير من استأجرت القوي الأمين )) ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة) أي: أشكو إلى الله من ثقة وأمين وعنده خوف من الله وورع وتقوى، لكنه قاصر ليس عنده الكفاءة في العمل، بينما نجد شخصاً فاجراً عنده القوة على هذا العمل، لكنه ليس أميناً، وأفضل الأحوال أن تجتمع الصفتان معاً كما قال تعالى: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] جمع بين الأمانة وبين القوة. ثم يقول الزمخشري : وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء حكم الله تعالى، وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. لا شك أن الأنبياء منزهون عن السعي وراء الدنيا، فلا يمكن أن يكون يوسف عليه السلام طلب الملك من باب حب الدنيا حاشاه عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد يوسف عليه السلام أن ينفع هؤلاء الناس، وأن يصل ويتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، وقد رأى أنه لا يقوم غيره مقامه. ثم يقول: فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر، ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم. وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه. كان الوضع شبيهاً بوضع ملكة انكلترا تملك ولا تحكم -كما قال له هنا: لا أتميز عليك إلا بالعرش الملك- لكن الحكم الفعلي لرئيس الوزراء، فيبدو أن هذه الصورة التي كانت بين يوسف عليه السلام وبين هذا الملك. وهذه الآية كما هي أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم، فهي أصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحة، وفي أن المتولي أمراً شرطه أن يكون عالماً به خبيراً ذا فطنة. قال أبو السعود : وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرض بعدما قال له الملك: (( إنك اليوم لدينا مكين أمين )) (( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )) ثم جاءت الآية مباشرة وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ [يوسف:21] إلى آخره ولم تحك الآيات الكريمة ما رد عليه الملك ولم يقل: وثقت أو قبلت ذلك إلا إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له، وهو غني عن التصريح، لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله: (( إنك اليوم لدينا مكين أمين ))، وللتنبيه على أن كل ذلك من فعل الله عز وجل، وإنما الملك آلة وسبب في ذلك. قال ابن كثير : خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات .... يقول القاسمي : ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره، والأهرام بفتح الهمزة جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة عن القاهرة أميال معدودة، من غرائب الدنيا. ثم يقول: دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم، ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية، آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور. يعني: كما تعلمون كان المصريون القدماء يعبدون الملوك، والملوك كانوا يسخرون الشعب تسخيراً قبيحاً جداً كما هو محفوظ. وهذا الكلام الذي يذكره القاسمي أو ينقله عن كتاب (الأثر الجليل) هو لم يذكر بالضبط تاريخ طباعة الكتاب، لكن إذا كان من أيام ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين فقد طبع من مدة بعيدة، ولا نجزم هل كان هذا الكلام قبل اكتشاف حجر رشيد، أم بعد اكتشاف حجر رشيد؟ لأن حجر رشيد هو الذي فتح باب الشر علينا، حينما أعان على ترجمة اللغة الهيروغليفية، وبالتالي لم ينفتح علينا مجرد اكتشاف آثار قدماء المصريين ومعرفة لغتهم، وإنما انفتح باب التكلم عليهم بإعجاب وبفخر وباعتزاز، مع كونهم من الوثنيين، فهذه خطة استعمارية خبيثة، كما تعرفون لو راجعتم التاريخ بداية الاكتشاف أعتقد كان هناك شخص يهودي اسمه روتشل تقريباً أراد أن يمول عملية اكتشاف الآثار المصرية مقابل الترويج للتاريخ الفرعوني القديم، بحيث يزاحم العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في أيامها، القصة معروفة تجدونها في كتاب (الإنتاجات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور محمد حسين رحمه الله. والآن كل بلد يكتشف فيها آثار قديمة يتوقع شراً بسبب الاكتشافات لتلك الأيام الماضية. في البحرين أيضاً حصلت اكتشافات كلها تدور حول الشركيات والوثنيات وكل هذه الأشياء من أجل أن ينفخوا في هذه الروح؛ لإيجاد البديل عن العقيدة الإسلامية، فيفخر الناس بالانتماء إليه ويعتزون بهذا الذي يسمى بتراث الآباء والأجداد، فالله المستعان. أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك خوفو ، والثاني للملك خفرع والثالث للملك منقرع وجميعهم من العائلة المنفيسية، ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب أو مدرسة للمعارف الكهنوتية أو غير ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ... وكانوا يتقون )

    قوله تعالى وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:56]. الأرض هي أرض مصر. ((يَتَبَوَّأُ مِنْهَا)) أي: ينزل من بلادها ((حَيْثُ يَشَاءُ)) وذلك أنه عليه السلام لما ولاه الملك النظر على خزائن مصر تجول في قطرها، وطاف في قراها والأمر أمره والإشارة إشارته، عناية منه تعالى ورحمة، كما قال: ((نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) أي: الذين أحسنوا عملاً. كل هذا برحمة الله جزاء على الإحسان الذي رعاه يوسف عليه السلام؛ لأن يوسف عليه السلام عبد الله كأنه يراه، وكما ذكرنا من قبل أن الإحسان هو الغاية من خلق البشر، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] قال: أحسن ولم يقل أكثر، فإذا أردنا معنى الإحسان نرجع إلى حديث جبريل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو الذي فعله يوسف عليه السلام: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]. فهذه قاعدة: لا يمكن أن يحسن الإنسان العمل ويملك نفسه ابتغاء وجه الله عز وجل، ثم بعد ذلك يضيعه الله عز وجل أو يهدر عمله ويضيع ثوابه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا ...)

    وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:57]. أي: ثواب الآخرة خير للمؤمنين المتقين من ثواب الدنيا، وفي هذا إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك. إذاً: انظر كيف حظي يوسف عليه السلام بشرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الدنيا وعز الآخرة؛ وذلك مقابل أن ضبط نفسه وخاف ربه في هذه اللحظات العصيبة التي مرت به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه ...)

    وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]. هذه إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف عليه السلام، وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل الرمل كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع المخصبة، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس من سائر البلاد في المسير إلى مصر ليمتاروا منها لأنفسهم وعيالهم، لما علموا وجود القوت فيها، وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف عليه السلام عن أمر أبيهم يعقوب عليه السلام لتناول القحط بلادهم فلسطين، فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف؛ خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف، فلما هبطوا مصر دخلوا على يوسف عليه السلام ولم يعرفوه؛ لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، ثم إنه يبعد جداً أن يتخيلوا أن أخاهم الذي ألقوه في الجب يمكن أن يكون هو الملك الفعلي والحاكم في أرض مصر، فلذلك قال تعالى: (( وهم له منكرون )) وقد تخلصوا منه بأن باعوه رقيقاً يلتقطه بعض السيارة، فكيف يقفز إلى أذهانهم أن يكون قد وصل إلى هذا العز الذي وصل إليه والجاه؟! وفي نفس الوقت كان شكله قد تغير عما كان عليه زمن الصبا والحداثة. أما هو فعرفهم، روي: (أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض تحية له، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان -يعني: فلسطين- لنبتاع طعاماً، فقال لهم: لعلكم جواسيس، قالوا: معاذ الله! ما جئنا إلا للميرة؛ لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة بنو أب واحد، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر هلك منا واحد، قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن ابنه الصغير الذي هلك، قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وائتوا بأخيكم الصغير إلي ليتحقق صدقكم، ثم أخذ شمعون واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق)، وهذا ما أشير إليه بقوله تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]. ((وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) بفتح الجيم وقرئ وبكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة، فيها كناية عن وفرة ما أعطاهم إياه من الطعام والميرة أي التمويل. ((أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ)) أي: أتمه، ((وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: خير المضيفين، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به لا امتنان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون )

    فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:60-61]. (( فلا كيل لكم عندي )) أي: لو جئتم مرة ثانية لا كيل لكم عندي. (( ولا تقربون )) أي: ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية، وحذفت الياء تخفيفاً. والنون في قوله: (ولا تقربون) هي نون الوقاية. ((قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ)) أي: سنحتال في انتزاعه من يد أبيه ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله. ((وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)) أي: ذلك من المراودة أو الإتيان به، فيكون ترقياً إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ...)

    وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62]. (( وقال لفتيانه )) أي: لخدامه الكيالين (( اجعلوا بضاعتهم في رحالهم )) يعني ببضاعتهم ما شروا به الطعام إما الذهب أو الفضة وروي أنها كانت فضة، أي: اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون. (( لعلهم يعرفونها )) أي: لكي يعرفوها. (( إذا انقلبوا إلى أهلهم )) أي: وفتحوا أوعيتهم. (( لعلهم يرجعون )) أي: حسبما أمرتهم به، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع، كل هذا تحريض لهم على أن يرجعوا، وهذا من الإحسان والإكرام، حيث أعطاهم هذه الميرة وأعطاهم أيضاً الثمن الذي بذلوه وهو الفضة. وفي تفسير آخر لقوله: (( لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون )) أي: أن يتحرجوا إذا وجدوا المال فيحرصون على أن يعيدوه إلى صاحبه، ولكن قد يدفع هذا التأويل قولهم فيما بعد: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا [يوسف:65] فهموا من ذلك أنها ردت إليهم تفضلاً، وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف:65].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل ...)

    فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:63]. ((فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)) أي: أنذرنا بمنعه بعد هذا إن لم نأت بأخينا فيما يستقبل. ((فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ)) أي: نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وقرئ: (( فأرسل معنا أخانا يكتل )) أي: يكتل أخونا لنفسه مع اكتيالنا. (( وإنا له لحافظون )) أي: من أن يناله مكروه. (( وإنا له لحافظون )) هذه نفس العبارة التي قالوها في حق يوسف عليه السلام، فلذلك أثاروا شجون يعقوب عليه السلام وذكروه بما مضى من قولهم في حق يوسف: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12] فقال: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64]. (( قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل )) أي: هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق أكثر مما أخذت عليكم في يوسف، فقد قلتم: (( وإنا له لحافظون )) ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك؟ فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض الأمر إلى الله (( فالله خير حافظاً )) أي: خير منكم ومن كل أحد هناك قراءة أخرى: (( فالله خير حِفظاً )) وهذا فيه إيماء إلى أنه مستعد أن يرسله؛ لأنه قال: (( فالله خير حافظاً )) أو (( فالله خير حفظاً )). (( وهو أرحم الراحمين )) أي: أرحم من والديه وإخوته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ...)

    وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ [يوسف:65]. أي: وجدوا ثمن طعامهم في متاعهم، روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفاً لدابته فرأى فضته في فم متاعه فقال لإخوته: قد ردت دراهمي وهاهي في متاعي، ثم لما وصلوا أرض كنعان وأخذوا يفرغون أوعيتهم وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه، فاستطارت قلوبهم ودهشوا، وحمدوا عناية الله بهم. ((قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)) أي: ماذا نبتغي وراء ذلك؟ فلا مزيد على ما فعل، فقد أكرمنا وأحسن مثوانا بإنزالنا عنده ورد الثمن علينا، والمقصود من هذه العبارة استنزال أبيهم عن رأيه كي يأذن لهم في استصحاب أخيهم. أو من البغي بمعنى: لا نبغي في القول ولا نكذب في هذه القصة التي حكيناها لك من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره في إحضار أخينا، أو: ما نبغي ولا ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا. وقرئ على الخطاب: (( يا أبانا ما تبغي )) أي: أي شيء تطلب غير هذا الدليل على صدقنا. ((هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا)) جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا وهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلاً من حيث لا ندري؟! (( وَنَمِيرُ أَهْلَنَا )) هذا معطوف على مقدر مفهوم أي: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك، أي: نأتيهم بطعام، ومنه: ما عنده خير ولا مير. ((وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ)) أي: باستصحابه ((ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)) أي: سهل على هذا الملك المحسن لسخائه، فلا يضايقنا فيه، أو المعنى: (( ذلك كيل يسير )) أي: قصير المدة، فليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير، أو المعنى: ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله، وقال ابن كثير : هذا من تمام الكلام وتحسينه أي: أن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله...)

    قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يوسف:66]. قال لهم أبوهم: (( لن أرسله معكم )) أي: لن أكتفي بقولكم هذا الذي تقولونه، ولا بد أن أستوثق بأن تؤتون عهداً ويميناً من الله (( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ )) أي: لتردنه عليّ (( إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ )) أي: أن تغلبوا كلكم فلا تقدروا على تخليصه، وأصله من أحاط به العدو وسد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه. ((فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)) أي: شهيد رقيب، والقصد حثهم على ميثاقهم لتخويفهم من نقضه بمجازاته تبارك وتعالى. قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها. هنا لطيفة: قال الناصر : ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر: البلاء موكل بالمنطق، فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:13] فابتلي من ناحية هذا القول. وقال هاهنا ثانياً: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [يوسف:66] أي: تغلبوا عليه، فابتلي أيضاً بذلك وأحيط بهم وغلبوا عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد ...)

    وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67]. (( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة )) أي: لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند فيريب بهم؛ لأن دخول قوم على شكل واحد وزي متحد على بلد هم غرباء عنه مما يلفت نظر كل راصد، هذا من التلطف المشار إليه في قوله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19] التلطف والحذر ينبغي أن يكون سمة للمؤمن، وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، وكانت جميع المدن تقريباً تحصن بالأسوار، مثلاً: الإسكندرية كانت مسورة بالسور الذي لا تزال آثاره موجودة في الشلالات، هذا السور الذي بناه عمرو بن العاص رضي الله عنه. فكل مدينة كانت مسورة بسور يحميها ولا ينفذ إليها إلا من باب المدينة، وعلى كل باب حرس، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه وإتباع البصر. وقيل: نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة. قوله: ((وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) أي: لا أدفع عنكم شيئاً مما قضي عليكم؛ فإن الحذر لا يمنع القدر. ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف وقد قال عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] وقال: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة، وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير، وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى وهروب منه إليه. ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)) أي: لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء. ((عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ...)

    وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68]. ((وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ)) أي: من الأبواب المتفرقة: ((مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ)) أي: ما كان ذلك الدخول يغني عنهم ((مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا)) أي: أبداها. ((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ)) أي: علم جليل لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير، يعني: الإنسان له أن يأخذ بالأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب وإنما يتعلق بمسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، ولقد مدحه الله سبحانه وتعالى بهذا المسلك رغم أنه قال لهم: (( يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة )) -أي: خذوا بالأسباب-؛ إلا أنه استدرك فقال: (( وما أغني عنكم من الله من شيء )). (( وإنه لذو علم لما علمناه )) هنا توكيد بإن وباللام، ونكر أيضاً العلم، وعلل بالتعليم بقوله: (( لما علمناه )) والتعليم مسند إلى ذات الله عز وجل، ففي ذلك من الدلالة على علو شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى، أفاده أبو السعود . ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أي: فيظنون الأسباب مؤثرات.

    المسلمون أولى بالأنبياء

    نحن نتكلم عن يعقوب عليه السلام وعن يوسف وعن جميع أنبياء الله بمنتهى الفخر والاعتزاز؛ لأنهم على ملتنا وعلى ديننا الإسلام، ففي الحقيقة نحن أولى بيعقوب وبيوسف من اليهود، فاليهود قد يحلو لهم الاستدلال أحياناً بآيات من القرآن على إثبات أن فلسطين كانت لهم، ويذكرون قصة سليمان وداود وموسى ويعقوب ويوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بل حتى الأهرامات هذه فهي بلا شك آية؛ لما ظهر فيها من القوة العلمية والعملية بالنسبة للناحية المدنية؛ لأن في هندسة الأهرام من الأسرار العلمية العميقة ما يجدون لها تعليلاً، ويكفي التحنيط فهم حتى الآن لم يعرفوا كيف تم تحنيط قدماء المصريين، فقدماء المصريين بلا شك كانوا على درجة عالية جداً فيما يسمى بالحضارة والتقدم العلمي في زمنهم، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الناس قالوا: إنه لا يمكن أن يكونوا قد قدروا على ذلك إلا بالاستعانة بالجن، فاليهود الآن يشيعون أن الذي نفذ هذه الأهرامات وصممها هو مهندس يهودي؛ كي يثبتوا لهم حقاً في كل مكان، كما تعرفون أسلوب اليهود لعنهم الله. وكذلك بالنسبة للنصارى فهم يدعون محبة عيسى ويؤلهونه، وعيسى سيلعنهم يوم القيامة، وحينما ينزل عيسى في آخر الزمان سوف يقتلهم ولن يقبل منهم إلا الإسلام، ولا تقبل حينئذ الجزية لا منهم ولا من غيرهم، فهم بين خيارين: إما أن يسلموا، وإما أن يقتلوا، ولذلك قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] وعيسى ما مات، إنما سيموت بعدما ينزل في آخر الزمان، فنحن أولى بعيسى منهم.

    الحرب بين المسلمين واليهود

    نحن الآن في حرب مع اليهود لعنهم الله، فلو بعث موسى أو عيسى أو سليمان أو يوسف أو أي نبي من أنبياء الله عز وجل فإنه سيكون مع المسلمين إذا رفعوا راية لا إله إلا الله، فالرسول لا يمكن أن يقاتل تحت راية جاهلية أو وطنية أو قومية أو غير ذلك، لكن هذه الحرب قطعاً ستكون حرباً إسلامية، كما يدل على ذلك قوله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5] حتى إن الحجر نفسه والشجر يقول: يا مسلم! يا عبد الله! ولم يصفه بأي صفة أخرى، فلم يقل له: يا مصري، يا سوري، يا شامي، يا سعودي! بل يقول: يا مسلم! يا عبد الله! فهؤلاء فقط هم الذين يستطيعون أن يذلوا اليهود ويردوهم إلى حجمهم الحقيقي، أما النماذج التي يراها اليهود الآن فلا شك أن من حق اليهود أن يفتخروا ويتكبروا ويتجبروا؛ لأنهم يجدون كائنات مثل الصراصير تتعامل معهم، لا عزة ولا كرامة ولا أنفة ولا إخلاص لبلادهم ولا شيء من هذا، فهل يلام اليهود على ما يفعلون بالمسلمين؟ ما الذي يمنعهم من التمرد والتنمر؟! لا يردعهم إلا الإسلام، ولذلك يخافون جداً من أن تصطبغ الحرب مع اليهود بصبغة دينية. فهذا كاسترو لما نصح السفير اليهودي في كوبا قال له: أحذركم أن تصطبغ الحركات الفدائية بصبغة إسلامية أو صبغة دينية. لماذا؟ لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يضر اليهود، وهم يعرفون هذه الدروس جيداً ويحفظونها، ولذلك كل همهم إطفاء نور الإسلام خوفاً وهلعاً من عودة الروح الإسلامية في القتال مع اليهود لعنهم الله، فالحديث بلا شك ذو شجون، لكن أهم ما في الأمر أنهم الآن يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى لإعادة بناء الهيكل الذي بناه سليمان كما يزعمون. من الإله الذي كان يعبده سليمان؟ هو الله سبحانه وتعالى، ما الدين الذي كان عليه سليمان ؟ هو الإسلام وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل:42] فسليمان كان على الإسلام، وموسى كان داعياً إلى الإسلام، ويوسف كان داعياً إلى الإسلام وهكذا، فإذاً لو بعث أنبياء الله عز وجل وقامت حرب إسلامية بين المسلمين وبين أعداء الله اليهود فسينضم هؤلاء الأنبياء إلى المسلمين، وهذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب، ولذلك إذا انتزع العنصر العقائدي من قضية فلسطين سوف يسهل جداً على اليهود أن يقنعوا من يسمونهم بالعرب بعدالة قضيتهم. إذاً العنصر العقائدي هو روح القضية، إنه وطن إسلامي دخل فيه حكم الإسلام فلا يجوز أن يمنح هبة لأحفاد القردة والخنازير، إذا انتزعت هذه القضية ما أسهل أن يقنعنا اليهود ويسكتوننا، كما كانوا يفعلون قديماً فيما يسمى بمجلس الأمن، كان السفير اليهودي في مجلس الأمن يأتي بالقرآن الكريم ويخرج لهم الآيات التي تثبت أن لهم حقاً في فلسطين، صحيح من الناحية التاريخية المحضة إذا انتزعنا العنصر العقائدي سنقول: نعم ها هم إخوة يوسف جاءوا من أرض كنعان: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] لكن كتبها لهم على أنهم مسلمون، وكذلك جاء الدين الإسلامي الذي نسخ كل ما سبقه من الشرائع، فلذلك لو بعث موسى كما قال الرسول عليه الصلاة السلام: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني، ثم تلا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا ))[آل عمران:81]) أي: أن كل نبي من الأنبياء حينما يبعثه الله لابد أن يأخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه، فيقر بذلك.

    حياة الخضر

    وقوله عليه الصلاة السلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) من الأدلة على أن الخضر ليس بحي وأنه قد مات عليه السلام، إذ لو كان حياً لما وسعه إلا أن يأتي وينصر الرسول عليه السلام ويبايعه على الإسلام. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، فدل على أن الخضر لم يكن موجوداً، إذ لو كان موجوداً لكان متعيناً عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    اليهود يشتمون الأنبياء

    اليهود يشتمون الأنبياء، كسليمان وداود وغيرهما عليهما السلام، فهم يصفونهم بالكلام القبيح الماجن، وينسبون إليهم شرب الخمر وفعل الفواحش، وأن سليمان أشرك بالله قبل أن يموت إلى آخر هذا الكلام الكفري. فهم الذين يؤذون الأنبياء، إذاً من أولى بالأنبياء؟ نحن أولى بالأنبياء، سليمان معنا، ويوسف معنا، وداود معنا، وموسى نفسه عليه الصلاة والسلام معنا تماماً، كما نقول للنصارى في حق عيسى، وكما نقول للشيعة في حق أهل البيت وفي حق علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    الحرب بين المسلمين ويهود إسرائيل

    إذاً القضية الفلسطينية قضية عقائدية، حين نجد هؤلاء الممسوخين من أمثال عرفات وغيره ممن يذلون أنفسهم يوماً بعد يوم ولا يرجعون بطائل، واليهود يمعنون في إذلالهم فزادوهم رهقاً؛ لأن عنصر العقيدة ألغي من القضية. لن تعود فلسطين إلا بالإسلام، هذا لا شك فيه على الإطلاق، كما قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10] وكما قلنا من قبل مراراً: الأمة المسلمة قد آتاها الله أشرف كتاب، وبعث منها أشرف رسول، بأشرف لغة، في أشرف بقاع الأرض وهي مكة، في أشرف شهور السنة وهو رمضان، وفي أشرف ليلة منه وهي ليلة القدر؛ لقد اجتمع لها الشرف من كل وجه، فالعزة في التمسك بالقرآن، فإذا فقدنا مصدر العزة فسنعود إلى الوضع الأصلي الذي كنا عليه، وهو وضع تأثير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) كما قال عمر رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الإسلام، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله). (مهما) جملة شرطية، المعنى: أن الذي يؤتيه الله النعمة ويكفر بها لا يكون كمن لم يؤتها حتى وإن كفر، ولذلك قال الله للحواريون لما طالبوا بالمائدة: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115] فلذلك هذه الأمة إذا قطعت صلتها بالإسلام ستعود إلى التخلف والذل والهوان؛ لأن هذا هو وضعها الأصلي، وما رفع عنها الذل والهوان إلا بالإسلام، فإذا تخلت عن الإسلام تعود في ذيل الأمم. فـهتلر كان يعتبر اليهود أخس أجناس البشرية، بسبب الغدر والخسة والنذالة وقتلهم الأنبياء، ومع ذلك فأقدام اليهود الآن على رءوس من ينتسبون زوراً وكذباً للإسلام، فسيكون التفاضل بيننا وبينهم في العقيدة، فإذا نحن تخلينا عن العقيدة فلا شك أنهم سيتفوقون علينا في الدنيا. الحوادث التي حصلت في الأيام الأخيرة، مثل فضيحة نتنياهو تنظر الناس لها على أن الموضوع كان تلقائياً، لا. فاليهود يحاولون أن يلقنوا العالم كله درساً، بحيث يظهرون أنفسهم بأنهم الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فبالتالي تستحق عطف الغرب بدل هؤلاء العرب الهمج، فاليهود يلفتون أنظار العالم كله وذلك بإبراز العدل عندهم، في حين يظهرون الغش والتزوير الموجود عند العرب بواسطة خبراء في هذا الجانب، فهي عملية تلميع لصورة اليهود لعنهم الله، ثم يأتي بعض ممن ينتسبون إلينا من الصحفيين العرب ويشيدون بالديمقراطية في إسرائيل، وكان من ضمن هذه العبارات: ليس عيباً أن نأخذ الدرس من إسرائيل ولكن العيب ألا نفهمه. فالشاهد أن كل هذا محاولة تلميع صورتهم، وبالتالي تقبيح صورة من ينتسبون إلى الإسلام، وفي الحقيقة الإسلام مظلوم من الفريقين، لأننا لم نمثل الإسلام التمثيل الصحيح بل تخلينا عنه، وبسبب تخلينا عنه وصلنا إلى هذا الذل وهذا الهوان، وإلا لو كان عند الملك حسين ذرة من كرامة لما قبل المدعو بيجن ، وهو يقول: نحن دائماً نتعاون مع بعض، فإذا تعاونت العبقرية اليهودية مع المال العربي أنتجت جنة في الأرض. معنى ذلك: أن العرب ليس لهم قيمة إلا بالمال وبالبترول، وليس عندهم عقلية ولا عبقرية ولا إبداع. واليهود من قبل شبهوا العرب بأنهم عبارة عن حيوان من ذوات الأربع يقف على أرض من ذهب، هذه صورة العرب عندهم، أي: أن كل قيمتهم في الأرض التي يقفون عليها، ولذلك الأمريكان أيام حرب الخليج قالوا -والعياذ بالله ونستغفر الله من حكاية هذا الكلام!-: نحن توجهنا لنصحح خطأ الرب -أستغفر الله- إنه أعطى هذه الأمة ما لا تستحقه من الثروات، ومن البترول بالذات. فالشاهد من هذا أننا في كفة غير متعادلة، فاليهود دولة عقيدية اسمها إسرائيل، نسبة إلى نبي الله إسرائيل عليه السلام وهو يعقوب، ليس في إسرائيل دستور، وإنما دستور إسرائيل هو التوراة المحرفة، المناهج التعليمية كلها مصطبغة بصبغة دينية، أنا لا أدري ما سر أن الجماعات الدينية اليهودية في فلسطين المغتصبة لا يسمون المتطرفين؟! لماذا نحن نختص بلفظ التطرف؟ فكل يهودي متطرف سواء كان شيوعياً أو يسارياً أو يمينياً؛ لأن التطرف هو الانحراف عن الإسلام بفهم أهل السنة والجماعة، سواء داخل دائرة الإسلام أم خارجها. فنعود إلى موضوعنا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الملل: كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة إشفاقاً عليهم، إما من إصابة العين، وإما من تعرض عدو أو مستريب بإجماعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم، وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم، ولكن لما كان طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم:11] حمله ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب، وإن كان ذلك لا يغني شيئاً، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن. قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أن العين حق كما ثبت ذلك في الحديث، وأن الحذر لا يرد القدر، ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب. وقال بعض اليمانيين: لهذه الجملة ثمرات: وهي استحباب البعد عن مضار العباد والحذر منها، فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه، ثم ناقش القاسمي رحمه الله تعالى بالتفصيل قضية الحسد وتأثير العين وأنه حق في بحث واف شاف كاف ورد على المنكرين لذلك. فنحن نتجاوزه مع أهميته وروعته اختصاراً، فمن يحتاجه يراجعه في تفسير هذه الآية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه... لسارقون)

    قال تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يوسف:69]. يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه ضم إليه أخاه بنيامين إما على الطعام أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه وقال له: (( لا تبتئس )) قيل في بعض الروايات: إنهم لما دخلوا كان عددهم عشرة، وجلسوا اثنين اثنين على الطعام أو عند المنام، وبقي هو وحده وجلس يبكي استيحاشاً، فانضم إليه يوسف، والله تعالى أعلم. فالله أعلم على أي الأحوال ضم إليه أخاه بنيامين إما على الطعام أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه وقال له: (( لا تبتئس )) أي: لا تحزن (( بما كانوا يعملون )) بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير. وقد روي أنهم لما قدموا عليه ووقفوا بين يديه رأى أخاه بنيامين معهم، فأمر بإنزالهم في بيته وحلولهم في كرامته وضيافته، وحضورهم معه في غدائه، ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له، وسألهم عن سلامة أبيهم، ورفع طرفه إلى أخيه فأدناه وآواه إليه وآنسه بحديثه كما ذكر في الآية، ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده، فتواطأ مع فتيانه إذا جهزوا إخوته أن يضعوا سقايته في رحل أخيه، كما بينه تعالى بقوله: (( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ )) أي: من الطعام، (( جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ )) وهي جام فضة يشرب به يوسف وضعه في ميرة أخيه. وقد روي: أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلاً عن المدينة، ثم أمر أن يسعى في أثرهم ويؤذنوا بما فقد، كما أشار إليه تعالى بقوله: ((ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)) أي: بعدما انفصلوا عن المدينة، (( أذن مؤذن )) أي: نادى مؤذن، ويقال: آذن أي: أعلم. وأذّن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه فهو يكثر الإعلام بدخول وقت الصلاة، والمؤذن عموماً هو المنادي. (( ثم أذن مؤذن أيتها العير )) العير: هي الإبل التي عليها الأحمال؛ لأنها تذهب وتجيء، وهو اسم جمع للإبل لا واحد له، والمقصود يا أصحاب العير، وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة: عير.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ... وأنابه زعيم)

    قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:71-72] الصواع هو السقاية، وهو إناء من فضة. لو كان الإناء من فضة فيكون مباحاً في شرعه عليه السلام، فيكون شرع من قبلنا مخالفاً لشرعنا، فليس لأحد أن يحتج به على جواز الشرب في آنية الفضة، بل على المسلم أن يخاف الله ويتقيه وأن يتخلص من أواني الفضة كالشوك والملاعق وغيرها من الأواني التي تستخدم في أثاث البيت، لأنها حرام، ولا فرق بين الرجال والنساء في استعمال الفضة والذهب كأوانٍ، فهو محرم على الرجال والنساء جميعاً ما عدا الحلية منهما للنساء فجائز. أما سجودهم لأخيهم فهو سجود انحناء وتحية، وهذا كان في شرعهم جائزاً. قال في الإكليل: في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح واستخراج الحقوق. قال ابن العربي : وفي إطلاقه السرقة عليهم وليسوا بسارقين جواز دفع الضرر بضرر أقل منه. (( ولمن جاء به حمل بعير )) هذا أصل في الجعالة. (( وأنا به زعيم )) هذا أصل في الضمان والكفالة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ...)

    لما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ [يوسف:73] أي: ما جئنا للسرقة، أو لمطلق الفساد، وإنما جئنا للميرة. (( وما كنا سارقين )) أي: ليس من شأننا أن نوصف بالسرقة. وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم لما تيقنوه من حالهم في كرتي مجيئهم، بمعنى: أنكم ما جربتم علينا سرقة، وأنتم تعرفوننا جيداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين)

    قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ [يوسف:74]. (( قالوا فما جزاؤه )) أي: ما جزاء السارق؟ كيف تعاقبونه في شريعتكم؟ ولأنهم متأكدون وواثقون من أنهم برآء وأن ليس فيهم سارق (( قالوا جزاؤه )) أي: في شريعتنا (( من وجد في رحله فهو جزاؤه )) أي: أن جزاء سرقته أخذ من وجد المتاع في رحله رقيقاً لمن سرق منهم. (( كذلك نجزي الظالمين )) أي: في شريعة يعقوب عليه السلام. (( فهو جزاؤه )) تقرير لذلك الحكم وإلزامه به لا غير، بحيث لا يوجد جزاء آخر نعاقبه غير الرق، ويجوز أن تكون (( جزاؤه )) مبتدءاً والجملة الشرطية خبره، على إقامة الظاهر مقام المضمر، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [يوسف:75] أي: بالسرقة، تأكيد إثر تأكيد وبيان لقبح السرقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ...)

    فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]. ((فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ)) أي: أن فتى يوسف عليه السلام بدأ بأوعية إخوة يوسف لأبيه ومن معهم (( قبل وعاء أخيه )) بنيامين؛ نفياً للتهمة، وسبق التنبيه على نظائر ذلك. ((ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ)) أي: السقاية. ((كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)) أي: دبرنا بتحصيل غرضه. ((مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)) أي: في شرع الملك وقانونه، والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيل وصنعه، أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه رحمة منه وفضلاً، وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبد بما شاء، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته، ويستدل به على جواز تسمية القوانين الكفر ديناً، والآيات في ذلك كثيرة، مثل قوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] هنا أطلق على الكفر ديناً. ((إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) أي: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره، وكان إلهاماً من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر وفق المراد. ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)) أي: بالعلم كما رفعنا يوسف، وفي إيراد صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة غير مختصة بهذه المادة. ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ)) أي: من أولئك المرفوعين. (( عليم )) أي: فوقه أرفع درجة منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ...)

    قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77]. عادوا من جديد لظلم يوسف وأخيه، قالوا: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون بذلك يوسف نفسه عليه السلام، سبحان الله! انظر إلى المشاعر السوداء، فإلى هذه اللحظة ما زال الحقد على يوسف والظلم والجور بالنسبة لأخيه بنيامين موجوداً، قالوا: إن يفعل فهذا شأنه هو وأخوه، وهذه أخلاقهما. ((فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)) أي: شر منزلة حيث سرقتم أخاكم يوسف من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء، فيوسف هو المسروق وليس هو السارق، وأنتم بأنفسكم الذين سرقتموه. والعبارة التي أسرها يوسف في نفسه أنه: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77] أي: من أمر يوسف، هذا على أحد التفسيرين. أو قول آخر: أنه أسر ما قالوه في نفسه ثم استأنف فقال: (( أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً ...)

    قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78]. لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يظهرون عطفهم عليه، وذلك بأن له أباً شيخاً كبيراً يحبه حباً شديداً يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقاً عندك. قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقاً أن يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب؛ مراعاة لشأن الكبير وسن الكبير واحترام الكبير، فتوسلوا هم بهذا الحق كما في قوله عز وجل: (( إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه )) وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ؛ لأنهم قد شابوا في الإسلام وفي التوحيد وفي الطاعة. وما عزم عليه إخوة يوسف من إنقاذ أخيهم من العبودية المقضي عليه بها كان بلا شك عملاً صالحاً منهم، وهو مما يدل على أنهم هذه المرة أحسن طوية ووفاء مع أخيهم بنيامين، حتى إن أحدهم كان مستعداً أن يكون رقيقاً من أجل إنقاذ أخيه، ومما يدل على أنهم كانوا صادقين حينما أعطوا العهود لأبيهم على أن يحفظوه، فما عزموا عليه يعرب أيضاً عن أمانة وصدق وبر، وشدة تمسك بموثق أبيهم، وذلك محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه. (( إنا نراك من المحسنين )) أي: إنا نراك من المحسنين إلينا، فأتمم إحسانك بأن تأخذ أحدنا مكانه، أو (( من المحسنين )) أي: من المتعاونين بالإحسان فليكن هذا منه، وكما تلاحظون أن سلوك يوسف وخلقه ينبئ عن تمكن صفة الإحسان منه، فهؤلاء رفقاؤه في السجن قالوا عنه: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36] وهذا شأن المسلم تظهر عليه سيما الصلاح والإحسان وتقوى الله عز وجل حيث كان، فهنا نفس العبارة قالها إخوة يوسف ليوسف: (( إنا نراك من المحسنين )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ...)

    قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79]. أي: لا يؤاخذ أحد بجرم غيره. قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل -أي: الدية- فهذه قضية أخرى، وهي ترجع إلى قاعدة: أن الغرم بالغنم. مثال قضية العقل: لو أن إنساناً قَتَلَ بحيث استوجب ولي القتيل الدية، ففي هذه الحالة لا يدفع الدية القاتل وحده، وإنما تدفعها العاقلة، وهم أقاربه العصبة من الذكور، كما أنه إذا مات فهذه العاقلة ترثه وهذا غنم في مقابل العزم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً ...)

    فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]. الذي عنده تذوق بلاغي وإحساس باللغة العربية وروعتها عند تلاوة القرآن الكريم يقف كثيراً عند هذا التركيب الفذ في هذه الآية وغيرها، حتى إن أعرابياً عندما سمع هذه الآية قال: أشهد أن هذا لا يقوله بشر، أي: يستحيل أن تصدر هذه العبارة من بشر، لقوة البلاغة فيها. لو شرحت هذه الكلمات المعدودة لشرحت في صفحات كثيرة؛ لما فيها من التعبير النفيس البليغ. (( فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً )) أي: يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد اليأس كما دل عليه السين والتاء فإنهما يدلان على شدة المبالغة في اليأس، وبيان أنهم لم يبق عندهم أي أمل في أن يستجيب لهم يوسف عليه السلام. قال أبو السعود : وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس لما شاهدوه من عوذه بالله حيث قال لهم: (( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون )) فقابلهم بهذا الرد الحاسم الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله عز وجل، وحيث سماه ظلماً بقوله: (( إنا إذاً لظالمون )). (( خلصوا )) أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم. (( نجياً )) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ لأن النجي فعيل بمعنى مفاعل، كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] أي: مناجياً، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والزميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة. أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى. ولذا قال الزمخشري : ( نجياً ) ذي نجوى، أو فوجاً نجياً، أي: مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً، وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكأن تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟! كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب فاحتاجوا إلى التشاور. والقاضي عياض له كتاب الشفا، وهو من الكتب المهمة جداً جداً، فعلى الإنسان في بداية التزامه أن يمر بكتاب الشفا؛ لأن الشفا شفاء حقيقة كما وصفه مؤلفه القاضي عياض ، وهو أيضاً من الكتب المباركة جداً والتي لها أعظم التأثير في قلب المؤمن، وبالذات فيما يتعلق بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وحيوية هذه الحياة في قلبه، فكتاب القاضي عياض اسمه ( الشفا في التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ) فهو من الكتب التي ينبغي أن تعطى اهتماماً خاصاً لأي أخ ملتزم، مثل: رياض الصالحين، ومثل: الأذكار للنووي ، وقد ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا في بحث إعجاز القرآن: أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: (( فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً )) فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام! وقال الثعالبي في كتاب ( الإيجاز والإعجاز ) في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام، ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره في إخوة يوسف: (( فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً )) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة. ((قَالَ كَبِيرُهُمْ)) في السن وهو روبيل : أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ [يوسف:80] أي: عهداً وثيقاً في رد أخيكم، وإنما جعله منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم. ((وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ)) أي: قبل هذا تعلمون أنكم قصرتم في شأن يوسف عليه السلام، و(ما) مزيدة، و(من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، أو: (ما) مصدرية في موضع رفع بالابتداء و(( من قبل ما فرطتم في يوسف ))، أو في موضع نصب عطفاً على مفعول (( ألم تعلموا ))، وإما موصولة ومحله الرفع أو النصب على الوجهين، بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي: قدمتموه في حق يوسف من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعدما قلتم: (( وإنا له لناصحون )) (( وإنا له لحافظون )). ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) أي: لن أفارق أرض مصر. (( حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي )) أي: بالرجوع والانصراف إليه. (( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي )) أي: بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب. ((وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ))، لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ...)

    ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:81-82]. لقد أمر كبيرهم أن يرجعوا ويخبروا أباهم بما جرى بقوله: ((ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)) أي: نسب إلى سرقة صواع الملك ((وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)) أي: ما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله ولا شيء أبين من هذا. ((وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ)) استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر، وكذا من سمع كلام شخص من وراء حجاب فهو كعدم العلم به، فهذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف. (( وما كنا للغيب حافظين )) أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق. ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)) هي مصر أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة. ((وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)) أي جئنا معها، وكانوا قوماً من كنعان. ((وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)) أي: فيما أخبرناك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756017966