إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [97]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من ضلال بعض الصوفية تفضيلهم وتعظيمهم للمجانين على العقلاء الصالحين، وقد رد عليهم أهل العلم هذا الاعتقاد الفاسد الخاطئ.

    1.   

    مجمل الكلام في تعظيم الصوفية لمن يسمونهم البله

    نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله على النعمة بهذا الدين، نحمد الله أن جعلنا من أتباع خير المرسلين، لا شك -أيها الإخوة- أنها منة كبيرة ونعمة عظيمة، أن هداكم الله، وأقبل بقلوبكم، ومنّ عليكم بمعرفته، وبمعرفة دينه، وبمعرفة نبيه، ووفقكم للقبول وللاتباع، فقد رأيتم وقد سمعتم الفئام والأعداد الكبيرة الكثيرة الذين أُتوا علوماً، ولم يُؤتوا فهوماً، أوتوا أذهاناً وقلوباً ولم يؤتوا زكاءً؛ أذكياء ولكنهم ليسوا أزكياء، منّ الله عليهم بالسمع والبصر والفؤاد، ولكن لم تغن عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.

    وما أكثر المنحرفين الذين رأوا الحق فحادوا عنه إما عن عمد وإما عن خطأ، وما أكثر الضالين المنكرين وهم يعلمون! فإذا وفق الله العبد ومنّ عليه وأقبل بقلبه فتلك نعمة عظيمة عليه أن يعرف قدرها، وعليه أن يشكر ربه عليها، ونحن إذا قرأنا وسمعنا ما يمر علينا في هذه الكتب وفي هذه الأخبار نرى العجب العجاب! هؤلاء من أهل العقول، ومن أهل الأفهام، ومن أهل الذكاء ومع ذلك يتركون الحق جانباً! ويتركون الحق وهم يرونه، ويرتكبون سبل الضلال!

    ونحن نسمع وتسمعون أخباراً في القريب والبعيد عن فئام من الناس قد كان آباؤهم على جهل؛ ولكن هم قد زال عنهم الجهل، كان آباؤهم على ضلال، ولكن هم أبصروا الهدى وعرفوه، ومع ذلك تشبثوا بسنن الآباء والأجداد وبعاداتهم! وصدق الله القائل: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70].

    مر بنا في الدرس الماضي أن في الزمان القديم بل وفي هذه الأزمنة من يعظمون البله، ورووا فيهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله!)، وهذا الحديث لم يثبت؛ فهو حديث ضعيف، ولو نشروه، ولو اشتهر في مؤلفاتهم، فإنه لا حقيقة له، والأبله هو: ضعيف العقل، وأقل أحواله أن يكون مجنوناً ساقطة عنه التكاليف، فأما كونهم يُرفعون فوق الأبرار وفوق المقربين ويكونون أكثر أهل الجنة فإن هذا من الكذب.

    ونحن نعرف أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر من يدخل الجنة هم الضعفاء والفقراء والمساكين الذين ليس لهم أموال تشغلهم، ولا تجارات يحاسبون عليها فيتأخرون، ولكن أهل الأموال يتأخرون في الحساب؛ ولذلك جاء في الحديث: (وأهل الجد محبوسون) يعني: أهل الحقوق محبوسون- يعني: للحساب- فأما أن يكون البله الذين هم ضعفاء العقول أكثر أهل الجنة فليس بصحيح، ثم لما فشا هذا الأمر عند كثير من الجهلة تشبثوا وتعلقوا بهؤلاء ضعفاء العقول، وصاروا يرفعون من شأنهم، ويعتقدون أن قولهم تنزيل من الله، وأن أفعالهم وحي من السماء، وأنهم معصومون، وأن أقوالهم متبعة، وأنهم صفوة الله من خلقه، فصاروا يتبعونهم، ويطيعون إشاراتهم وحكاياتهم، ولو كانت مخالفة للشرع، ولو كانت مخالفة للعقول السليمة!

    وهذا بلا شك من الانحراف العقدي، ومن المخالفة للكتاب وللسنة؛ وذلك لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بسنته وسيرته، ونقتفي كتاب ربنا وسيرة نبينا، ونتمسك بذلك، ونلقي ما عدا ذلك خلف الظهور مهما كان القائل، ومهما كان المخالف، فكل ما خالف شرع الله تعالى فلا يلتفت إليه، وقد مر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

    فطرق المتصوفة، وكذلك الملاحدة، والاتحاديون، وكذلك الطرقية ونحوهم من الصوفية الذين من جملة بدعهم تصفيقهم ورقصهم ونشيدهم ولهوهم ولعبهم وغير ذلك من البدع التي اتخذوها ديناً وما أنزل الله بها من سلطان.

    كذلك أيضاً من المعلوم أنهم قد يلابسهم الشيطان، وقد يجري على أيديهم شعوذةً وأشياء تكون غريبة يموهون بها على العوام، ويوهمون من رآهم بأنهم على حق، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا أشياء تخالف عادات الناس، فلا جرم أنه لا يجوز أن يغتر بهم، وقد مر بنا الأثر المنقول عن الليث رحمه الله أنه كان يقول: لو رأيت صاحب هوىً يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة.

    فـالشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث ! بل لو رأيت صاحب هوىً يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة.

    فهؤلاء المشعوذون ونحوهم لو طاروا في الهواء، ولو مشوا على الماء، ولو أخرجوا الذهب من الخشب، ولو قلبوا الحجر ذهباً فنقول: لا نغتر بهم -بل نعتقد أن ذلك شعوذة وعمل شيطاني- حتى نعرض أمرهم على كتاب ربنا وسنة نبينا، فهما الميزان الذي يرجع إليه، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فالرد إلى الله: الرد إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنته بعد موته، فما وافقهما فهو الصواب، وإلا فهو مردود على من جاء به، وأما هؤلاء الذين يسير خلفهم هؤلاء الضعفاء، ويعتقدون أنهم قد ارتقت قلوبهم، وقد تقربت إلى ربها، وقد سقطت عنهم التكاليف، وقد وصلوا إلى حظيرة القرب، وقد أطلعهم الله على اللوح المحفوظ، وقد صار لهم تمكن كما يزعمون أن يأخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة ما توحيه إلى الرسل ونحو ذلك من الخرافات، فمثل هذه لا يلتفت إليها؛ بل مرجعنا هو شرع الله ودينه، وقد ذكرنا أن هذه الأمور فاشية منذُ أزمنة، وأن لهم حكايات ينقلونها، ومع ذلك يستشهدون بها.

    ولا شك أن هناك من يسمون بالمجانين وليسوا مجانين، ولكن لما رآهم عوام الناس قد زهدوا في الدنيا واشتغلوا بالأعمال الصالحة سموهم مجانين!

    ولكنهم في الحقيقة حكماء، وأما بعض المتأخرين الذين نقلت عنهم أقوال شنيعة فإنهم ولو كانوا عقلاء فهم أقل حالة من المجانين، وهم من البله والسفهاء وضعفاء العقول، فالمرجع في ذلك إلى ما يقوله علماء الشريعة، وعلماء الملة الذين هم أعرف بالله وبما جاء عن الله تعالى.

    1.   

    أحوال الطائفة الملامية والرد عليهم

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين! ردوا باطلهم بباطل آخر! والصراط المستقيم بين ذلك.

    وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وكما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم.

    ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن تكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، ومن كان قبل جنونه كافراً أو فاسقاً لم يكن حدوث جنونه مزيلاً لما ثبت من كفره أو فسقه، وكذلك من جن من المؤمنين المتقين، يكون محشوراً مع المؤمنين المتقين.

    وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولهاً أو متولهاً، لا يوجب مزيد حال، بل حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده أو ينقصه، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله.

    وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه فذلك شيطان يتكلم على لسانه، كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله -كما يظنه كثير من أهل الضلال-؟! حتى قال قائلهم:

    هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل

    مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل

    وهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه؛ لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشفه أو خرق عادة كان ولياً لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222]، فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور].

    نعمة العقل

    لا شك أن العقول نعمة من الله على الإنسان، وأنه سبحانه منّ على هذا النوع الإنساني بأن ميزه بهذا الفهم، وهذا الإدراك، وهذا العقل الذي كلّفه لأجله، فالله تعالى ما كلف البهائم والدواب والوحوش والحشرات وبهيمة الأنعام؛ لأنها ليس لها عقول.

    فالنوع الإنساني ميزه الله بهذا العقل؛ بحيث إنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، ويعرف ما يقال له، ويتفكر فيمن خلقه، وفيما بين يديه وما خلفه، وجعل الله هذا العقل ينمو شيئاً فشيئاً، وجعله أكبر مِنّة، وجعل الذين يتفكرون ويتدبرون هم أهل العقول، وكثيراً ما يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4] يعني: لا ينتفع بها إلا العقلاء، ويقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3] أي: يتفكرون بعقولهم، وكثيراً ما يأمر الله بالتفكر في المخلوقات كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يوسف:109]، وقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [ق:6] يعني: نظر عبرة، وقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، والتفكر لا يكون إلا بالعقول، فإذا عرف ذلك فإن العقل هو ميزة الإنسان، وإذا فقد العقل فقد خصيصته، وفقد ميزته وفضيلته، والتحق بالبهائم؛ بل قد يكون أشر حالة من البهائم؛ فإن البهائم معها عقول معيشية، بمعنى: أنها تتبع مصالحها، وتطلب أسباب نجاتها، وتعرف ما يلائمها وما يناسبها من المآكل ومن المشارب ونحوها.

    وأما من سلب عقله، فإنه لا يميز بين التمر والجمر، ولا يميز بين التراب والماء، ولا يميز بين الطعام الذي فيه سم والذي فيه دسم! وذلك لأنه فقد ميزته التي تميز بها، فأصبح بذلك أقل حالة من البهائم، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن الذين فقدوا عقولهم في الدنيا يعني: عاقبهم الله بأن أذهب عقولهم، أو ولدوا وهم مجانين، أو حصل لهم مرض ذهبت فيه عقولهم، ما هي حالتهم؟ هل يكونون أفضل من العقلاء عند الله؟

    الجواب: ليسوا أفضل، وإنما أقل حالاتهم: أنهم معذورون يرفع عنهم التكليف، فلا يعاقبون، ولا يُقتل أحدهم إذا قتل؛ لأنه لا عمد له؛ وكذلك لا يُجلد لو زنى، ولا يُقطع لو سرق؛ وذلك لفقد العقل؛ لأن العقل يعقل صاحبه، يعني: يقيده عن أن يتقدم إلى ما فيه مضرة، وهؤلاء ليس عندهم ما يعقلهم ولا ما يقيدهم.

    كتابة الحسنات للمجانين

    هل تكتب للمجانين حسنات؟

    الجواب: لا تكتب لهم حسنات، ولا تكتب عليهم سيئات، ولكن تسقط عنهم التكاليف، وثوابهم في الآخرة على ما يشاء ربنا، فيمكن أن يلحقوا بأهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، أو الذين لم يدركوا رسلاً قبلهم، ولم يأتهم رسل في زمان الفترة، فإنهم يقولون: يا رب! ما جاءنا بشير ولا نذير، وما بلغتنا دعوة الرسل، فكيف تعذبنا؟! فيقول الله تعالى: أرأيتم إذا أمرتكم أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك؟ فتمثل لهم نار تشتعل، فيقول: ادخلوا هذه النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وصار من أهل الجنة، ومن امتنع أن يدخلها قال الله له: هذا وأنا الذي أمرتك، فعصيت أمري، فكيف لو جاءتك رسلي؟! فعلم الله في هؤلاء أنهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب، فالمجانين الذين ولدوا مجانين، أو أصابهم الجنون بعد الولادة وقبل التكليف، وبقوا على ذلك، فهؤلاء يلحقون بأهل الفترات، ويمتحنون في الآخرة.

    أما أن يقال: إنهم مقربون، أو إن لهم مكانة عند الله، أو إنهم من أهل الزلفى، أو إنهم ممن وصلوا إلى حظيرة القدس! فإن هذا كذب؛ بل هم أقل حالة بكثير من العقلاء، ولا شك أنهم عادةً إذا أصاب أحدهم الجنون في أثناء حياته، فإن كان قبل إصابة الجنون من أهل الفسوق، ومن أهل المعاصي، ومن أهل الذنوب، ومن أهل الجرائم الذين يسكرون، ويقتلون، ويسرقون، ويهجرون، فإنه إذا جُنّ يصير هذيانه فيما كان يفعله من قبل، فتراه يتكلم بأفعاله الشنيعة من فعل الفواحش والمنكرات ونحوها، وإذا ارتاح في وقت من الأوقات ورجع إليه عقله في حين من الأحيان فإنه يعود إلى غيه، كما قال الشاعر:

    والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه

    إذا ارعوى عاد إلى قوله كدبٍّ عاد إلى نكسه

    أما إذا كان قبل الجنون من أهل الإيمان والأعمال الصالحة، وأهل التقوى؛ فإنه -والحال هذه- إذا أصيب بالجنون ثم بقي على جنونه أصبح معذوراً، ولا تزيد حسناته في حالة جنونه؛ بل يرفع عنه التكليف، وعادة أنه يهذو بما كان يعمله، فيتكلم في الحسنات، ويتكلم في القربات، وما أشبه ذلك، وهذا في المجنون الذي فقد العقل فقداً كلياً، وإذا عرفنا أن هذا الجنون نقص حقيقيٌّ فإننا نقول: لا يجوز للإنسان أن يتعاطى الأسباب التي تذهب عقله، فنقول: لماذا حُرم شرب المسكرات؟ الجواب: لأن المسكر يزيل هذا العقل، ولو إزالة مؤقتة.

    فالشيء الذي يزيل عقل الإنسان ويلحقه بالبهائم ينبغي مباعدته ومحاربته، فهؤلاء الذين يتعاطون أشياء تزيل عقولهم عمداً سواءً كان ذلك الشيء من المحرمات كالإسكار وما أشبهه، أو من غيرها نقول: إنهم هم السفهاء، ولا يرضى عاقل فعل السفهاء، ولا يرضى أن يتعاطى شيئاً يذهب عليه عقله.

    الرد على أصحاب الفناء

    بعض المتصوفة كانوا يجتمعون في أماكنهم ثم يغلب عليهم شيء يسمونه الفناء؛ وذلك إما بسماع يسمعونه من وعاظهم ونحوه، وإما برقص يرقصونه إلى أن يصلوا إلى الفناء، وإما بتفكير يفكرونه في أشياء إلى أن يغلب عليهم هذا الوصف الذي يسمونه الفناء؛ بحيث لا يشعرون بمن حولهم!!

    فهذا الفناء هل حصل للصحابة؟!

    الجواب: لم يحصل، ولم يحصل للتابعين لهم بإحسان، ولم يحصل لأئمة الدين، وإنما وجد في هؤلاء المتصوفة الغلاة الذين يزعمون أن سببه هو هذا التواجد، ويقولون: إن أحدهم يتصل قلبه بربه، وأنه يفنى عن نفسه، ولا يشعر بحالته، ويقولون: يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، يفنى بموجوده عن وجوده، موجوده يعني: نفسه، أي: أنه يفنى بنفسه في ربه، ويفنى من لم يكن هو الإنسان، ويبقى من لم يزل، ويتصل روحه بالملأ الأعلى، هذا معنى الفناء، وهو بدعة من بدع المتصوفة، ومع ذلك فإنهم يعدونه رقياً، ويتمدحون به، ويزعمون أنه درجة رفيعة، وأنه درجة متمكنة لا يصل إليها إلا الخواص!

    كذلك أيضاً من أحوال المتصوفة، أن أحدهم إذا تليت عليه آيات أو مواعظ أو كلمات أو نحوها يصعق، ويزعم أن ذلك مما لا يطيق الصبر عليه، وهذا الصعق لم يُؤثر عن الصحابة، ولا عن أئمة الدين، بل كانوا كما ذكر الله تعالى عنهم أنهم يزيدهم القرآن خشوعاً، ويخضعون له ويسجدون، قال عز وجل: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وقال: إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107]، وقال: تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] أي: تخشع قلوبهم، وتزيدهم الآيات إيماناً، هذه هي أوصاف أولياء الله، وهذا هو النص الحقيقي للمؤمنين، فأما أن يصل إلى أنه يصعق أحدهم أو يغمى عليه، فهذا أقل أحواله أن يكون معذوراً، وأن يكون الذي غلبه هو شدة الخوف، أو على ما يقول الصوفية: شدة التواجد، فلا شك أن هذا ليس أشرف حالاً من حال الصحابة والأئمة المهتدى والمقتدى بهم. وأما ما ذكر عن أحوال هؤلاء الذين ذكرهم هذا الشاعر، وأن العقول تسجد على أبوابهم .. إلى آخره، فإن ذلك بلا شك كفرٌ وضلال، فنقول: لا تسجدوا إلا لله، وهذا التواجد الذي يحصل لهم كله خطأ لا أصل له.

    فالمسلم يتقيد بأوامر الشرع، ويبتعد عن الأشياء التي لا أصل لها، وأما من يسمون بالملامية الذين ذكرهم، وأنهم الذين يفعلون الأشياء التي يلامون عليها، ويتعمدون ذلك؛ فهؤلاء من المنحرفين؛ واللوم في الأصل هو: أن يفعل الإنسان شيئاً لا يحسن بحيث يلام عليه، وقد ذم الله تعالى ذلك، ففي قوله تعالى في قصة فرعون: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:38-40] أي: آثم بما يلام عليه، يعني: مستحق للوم الذي سبب أنه عذب به.

    ثم هؤلاء يقولون: إنهم يفعلون هذه الأشياء، حتى إنهم يتعمدون أن يلاموا عليها، وليس في ذلك أصل من دين الله، فلا يغتر بمثل هذه الطرق التي لا أصل لها في شريعة الله.

    1.   

    كل تعبد خالف الشرع مردود على صاحبه

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر طبع الله على قلبه).

    وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضال؛ ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

    وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق: فهو ملحد زنديق، فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته؛ ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.

    ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كـالخضر مع موسى، أو جوّز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق؛ فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة، فحرك ترَ، وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا!! فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها، وهو يود منها نظرة؟!

    وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52] إلى آخر السورة].

    هذه صفة لا شك أنها بشعة وشنيعة، وهؤلاء هم من المتصوفة، وكان مجموعة منهم يعتزلون إما في زاوية، وإما في مكان نازح، ثم يعكف في نظره بقلبه على ربه، ويجمع جمعيته، ويجيل فكره في الملأ الأعلى في نظره، ويبقى لا يخرج إلى المساجد، ولا يصلي جمعة ولا جماعة، ويزعم أنه إذا خرج تفرق عليه قلبه! ورأى ما يشتت عليه فكره! وأنه إذا بقي اجتمع عليه ذكره، وأعمل هذا العقل إلى أن يتجاوز السبع الطباق! إلى أن ينظر في الملأ الأعلى، وفي ملكوت السماوات والأرض، كما يقول! حتى يحصل له ما يُعبر عنه بالتواجد، ويحصل ما يحصل عليه مما يسمى بالاستلامات والحركات التي تخالف الحركات الطبيعية، وهؤلاء فرق كثيرة قديمة الوجود، وموجودة الآن في البلاد التي يكثر فيها التصوف.

    ولا شك أنهم إذا تركوا الجمع والجماعات أنهم تركوا الشريعة والسنة المحمدية، وأنهم ابتدعوا ديناً من عند أنفسهم فضّلوه على شرع الله، وعلى دين الله، وليس لهم سنة وطريقة يستدلون بها، ولا دليل يحذون حذوه إلا مجرد التجربة في زعمهم أن هذا جُرب، وأنه لما جمع جمعيته رأى ما لم يره غيره.

    فالحاصل: أنه تارة يكون الواحد منهم منفرداً في زاوية في بيته أو في صومعة أو في مكان خاص، وقد يخرج خارج البلد ثم يجيع ويظمئ نفسه ويتعبها، ويعمل فكره، ويبقى مفكراً يومه وليلته ويومه الثاني وليلته الثانية إلى أن يحصل له مطلبه، وهو الفناء الذي يعبر عنه بالتواجد .. وما أشبه ذلك.

    ثم إنه يفضل نفسه على رسل الله؛ إذ لم يكن الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم يفعلون هذه الأشياء، فعرف بذلك ضلال هؤلاء، وبطلان طريقتهم، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى ما وصل إليه رسل الله الذين فضلهم، والذين ميزهم بما ميزهم به من العلم، وهكذا ما شرعه في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خاتمة الشرائع.

    فهذه من البدع المنكرة عليهم، وبلا شك أن البدع لا تتمكن إلا إذا رأى أهلها فيها شيئاً يجتذبون به الناس، وقد انخدع بهم خلق كثير عندما رأوا أنهم يحصل منهم هذه الكلمات، وهذه التوهمات، وهذه الأمور التي قد يظنون أن فيها شيئاً من الأمور الغيبية، وأنهم يطلعون على أمور سماوية، وأنهم .. وأنهم، فرآهم جمهرة وجمع كثير من الناس فتزينوا بزيهم، وساروا على نهجهم -والعياذ بالله- ووقعوا في هذا الأمر الذي هو ترك الشريعة واتباع هذه الطرق المبتدعة، وتعطيل ما هو عبادة سماوية مأمور بها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه) والعياذ بالله!

    فيجب أن نحذر من كل هذه الطرق وغيرها التي تخالف الشرع، ونتجنب أهلها، ونعرف أنهم يسيرون عليها لأجل أن يضلوا ويضللوا غيرهم، والعياذ بالله!

    1.   

    الرد على الصوفية المعظمين للمجانين

    تقدم ما ذكره الشارح رحمه الله فيما يتعلق بالذين يعظمون البله والمجاذيب والمجانين ونحوهم، ويعتقدون أنهم من المقربين، ويعتقدون أنهم يصلون إلى الله تعالى من طرق غير طرق الأنبياء والرسل، وأنهم يمكن أن يستغنوا عن الشرائع السماوية، وأنهم لذلك يستحقون أن يُقتدى بهم في أفعالهم، ويُسار على مناهجهم، وهذه الأقوال -وللأسف- انتشرت في المتصوفة، ويكثر تواجدهم في الدول الإفريقية وفي غيرها، ويقول وجودهم إذا قويت العقائد السلفية، وإذا تمكنت معرفة التوحيد عند أهله، ولكن لا يزال الكثير على هذه المناهج الفلسفية والطرق الصوفية، ولا يزالون ينقلون تلك النقول ويموهون على العوام أن هؤلاء ولو كانوا ناقصي العقول فإن قلوبهم عند ربهم، وأنهم سقطت عنهم التكاليف ولو كانوا من البشر، وأن جميع كلامهم حكم وآيات وعبارة!

    ولكن ذلك كله لا يروج إلا على الجهلة الذين هم أتباع كل ناعق، أما أهل السنة والجماعة وأئمة الدين وفقهاء الإسلام فإنهم يعرفون أن الطرق كلها مسدودة إلا الطريق الشرعية، وهي طريق الرسل الذين أرسلهم الله ليوضحوا للناس الشرائع، وليدلوهم على ما يقربهم إلى ربهم، فمن سلك تلك الطرق التي هي طرق أولئك المشعوذين وأولئك المموهين ونحوهم فإنها تؤدي به إلى الهلاك، ومن سلك الطريق الأقوم الذي هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يؤدي به إلى النجاة والفلاح.

    ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خط خطاً مستقيماً، وخط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال للخط المستقيم المستمر: هذا صراط الله، وقال للطرق المنحرفة عن يمينه وشماله: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، فمن سار على ذلك الخط المستقيم وصل إلى النجاة، ومن انحرف وأخذ بنيات الطريق ضل وهلك وتردى.

    وضرب بعضهم لذلك مثلاً بجريد النخل: فإنه يُشاهد أنه يتدلى بعضه حتى تصل أطرافه إلى الأرض، فلو أن حشرة من الحشرات ارتقت على الجريدة وسارت على وسطها ولم تنحرف فإنها تصل إلى أعلى النخلة، وتأكل من ثمرها، أما إذا انحرفت وركبت إحدى الأغصان المتدلية فإنها تسير عليها قليلاً، ثم تسقط بنهايتها، فهكذا من سار على هذا الخط المستقيم أوصله إلى كرامة الله، وأوصله إلى الدرجات، وأوصله إلى النجاة، أما من انحرف وركب هذه الطرق فلا يأمن أن يهلك ويتردى، وقد تمادى هؤلاء في مدح أولئك المجانين والمجاذيب الذين يسمون أحدهم مجذوباً، ويقولون: قلبه عند ربه! وتمادوا في تعظيمهم حتى ادعوا أنهم: إذا ماتوا رفعوا إلى السماء! هكذا يعتقدون فيهم، ويموهون أن هذا الذي هو سقيم العقل عند الناس ما ذُهب بعقله إلا أنه تعلق بربه، وأن ربه قد أسقط عنه التكاليف، وأباح له كل شيء، أباح له أن يفجر! وأن يزني! وأن يقتل! وأن يفعل الجرائم والبشائع دون أن يكون عليه إثم أو يكتب عليه سوء!

    ونحن نقول: إذا ثبت أنه مجنون بمعنى: أنه مسلوب العقل والفطرة فهذا أقل أحواله ألا تُكتب عليه لا حسنات ولا سيئات، فأما أن يتفوق على أهل الحسنات، وعلى الصالحين من عباد الله فحاشا وكلا، إذ لا يمكن أن يكون المجنون أرقى درجة من العاقل الذي عمَّر وقته بالصلوات، وعمَّر وقته بالعبادات، وأكثر من الحسنات! ثم إن المجنون قد يكون ملحقاً بأهل الفترات الذين لم تأتهم الدعوة، أو في أماكن نازحة لم تبلغهم الرسالة، ولم يسمعوا عن الإسلام، ولا عن دين الإسلام، فهؤلاء لا نحكم بضلالهم ولا بكفرهم، ولا نخلدهم في النار؛ لأنهم قد يعتذرون ويقولون: يا ربنا! بأي شيء نتعبد؟! لو أعطيتنا عقولاً لتعبدنا كما تعبد هؤلاء، أو لو بلغتنا الشرائع لتعبدنا كما تعبد أهلها؛ ولكن الله تعالى يمتحنهم، ففي الحديث أنه يقول لهم: (أرأيتم إذا أمرتكم بأمر أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك وأنت ربنا؟! فتُمثل لهم نارٌ تشتعل، فيُقال: ادخلوها، فمن علم الله أنه من أهل السعادة والخير دخلها، وكانت عليه برداً وسلاماً، ومن علم الله أنه شقي ليس من أهل الجنة فإنه يتقاعس ولا يدخلها، فيقول الله: قد أمرتك فعصيتني، فكيف لو أمرتك رسلي! أنت من أهل النار) فيتميز بذلك أهل الجنة من أهل النار.

    فالبُله والمجذوبون والمجانين وناقصو العقول ونحوهم الذين بلغوا واستمروا على ذلك إلى الممات ملحقون بأهل الفترات، وملحقون بأهل الأماكن النائية الذين لم تبلغهم الدعوة، هذه حالتهم.

    وبذلك يُعرف أن الذين فضلوهم على العقلاء، وفضلوهم على الأنبياء، وجعلوهم مستغنين عن الشرائع؛ قد أتوا قولاً إدَّاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756950629