إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [69]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يزال المنحرفون في القدر يجادلون عن انحرافهم، ولو وقفوا مع أنفسهم وأخضعوها لنصوص الكتاب والسنة لعلموا حكمه وسلموا لأمره.

    1.   

    مراتب الإيمان بالقدر

    الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: القدر قدرة الله، وهذه كلمة لها أهميتها، بمعنى: أن من آمن بقدرة الله، وأن الله على كل شيء قدير، صدق بالقدر خيره وشره.

    ويدخل في القدر تقدير الأشياء قبل وقوعها، ويدخل فيه كتابتها قبل أن تخلق وتوجد، ويدخل فيه إرادة كل ما يحدث ومشيئته العامة، ويدخل فيه خلقها وإيجادها وتكوينها، وأنها لا تكون إلا بإرادة الله وبخلقه وبتقديره وتكوينه، وهذه تسمى مراتب القدر، وهي أربع:

    الأولى: العلم.

    الثانية: الكتابة.

    الثالثة: الإرادة.

    الرابعة: الخلق.

    فيؤمن العباد بهذه المراتب الأربع، ومن كذب بشيء منها نقص إيمانه بالقدر، وقد أنكر العلم الأزلي السابق طوائف من الغلاة، وهم الذين يقول فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا.

    أي: سلوهم: أتقرون بأن الله تعالى موصوف بالعلم؟ وبأنه بكل شيء علم؟ فإذا اعترفوا بذلك خصموا، ويقال لهم: ما الفرق بين علم الماضي وعلم المستقبل؛ فكله داخل في العلم، وفي أن الله بكل شيء عليم، فإذا علم ما قد مضى فلا يخفى عليه ما هو آتٍ.

    وأما الخلق والتكوين فإنه يدخل في الإيمان بقدرة الله، فإذا كنا نؤمن بأن الله على كل شيء قدير، فلابد أن يدخل في هذه القدرة كل ما في الكون، لا يخرج عن قدرة الله شيء من الوجود ومن الحركات التي تكون في هذا الكون، بل كلها كائنة بقدرة الله، وبمشيئته وبخلقه وتكوينه، فلا يكون في الوجود ما لا يريد، ونعتقد أن ربنا سبحانه أعطى الإنسان قدرة على مزاولة أعماله، فللعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، وقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم، فإذا أراد الله شيئاً فلابد أن يكون، وهذا معنى قول شيخ الإسلام في شعر له:

    فما شئت كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

    وهذا أيضاً معنى الحديث الذي فيه: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن).

    1.   

    إثبات قدرة العباد على أفعالهم

    للعباد قدرة تناسبهم، وبهذه القدرة أصبحوا مكلفين، وبها أصبحوا مأمورين ومنهيين، ولو سلبت عنهم هذه القدرة لسقطت عنهم التكاليف؛ ولهذا تسقط التكاليف عن العاجز، وينفى عنه الحرج، فلا يكلف إلا ما يطيق، فمن فقد العقل لم يكن إلى إفهامه من سبيل، فلا يكلف، ومن فقد البصر لم يكلف بالغزو وبالقتال، وكذا العاجزون ونحوهم.

    يقول تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة:91] يعني: إذا تخلفوا عن الجهاد؛ لأنهم لا يستطيعونه، فدل على أن غيرهم عليهم حرج؛ لأن معهم استطاعة، وإن كانت تلك الاستطاعة مخلوقة لله، وداخلة تحت قدرته.

    وبكل حال، فالاستطاعة التي منحها الله الإنسان هي التي في إمكانه أن يزاول بها الأعمال، مع أنها داخلة في خلق الله تعالى، والله سبحانه لا يكلفهم إلا ما في قدرتهم واستطاعتهم، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فلهذا أسقط الحج عن غير المستطيع، بل جعل فرضه على من استطاع إليه سبيلاً، وكذلك أسقط ما يعجز عنه الإنسان أو يشق عليه، فرخص للمسافر في أن يفطر؛ لأن عليه مشقة، وكذلك المريض له أن يفطر ويقضي؛ لما في الصيام عليه من الصعوبة، وهكذا في سائر العبادات التي يعجز عنها العبد، فالقدرة والاستطاعة التي أعطاها الله الإنسان هي ما منحه الله وما أودعه فيه، وما قواه به، وإن كان ذلك كله داخلاً في عموم قدرة الله سبحانه.

    قد مر بنا أن الاستطاعة التي نفيت هي ما لا يدخل في مقدور الإنسان، كما نفي في قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، أي: لا يكلفها بغير ما أعطاها، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:233].

    الرد على من نفى القدرة على الفعل أثناء فعله

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [وأيضاً: فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله: يرجح معنى زائد عن الفعل، فذاك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح، وهذا مكابرة للعقل.

    فلما كان أصل قول القدرية: إن فاعل الطاعات وتاركها كليهما في الإعانة والإقدار سواء، امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه؛ لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك، وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى، وهم لما رءوا أن القدرة لابد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل؛ لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك؛ فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل.

    وهذا باطل قطعاً، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لابد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل، فنقيض قولهم حق: وهو أن الفعل لابد أن يكون معه قدرة، لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين، حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم: أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل.

    والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معهم هذه الطاقة، وضد هذه العجز كما تقدم].

    الشارح يناقش بعض المبتدعة الذين يقولون: إن القدرة على الفعل تسبق فعله، وتسبق مزاولته، ولا تصحبه حالة وجوده، فيقولون -مثلاً-: إن الإنسان الذي عنده مال، وتمت قوته وقدرته على الإتيان بالحج، إذا تمت أصبح مكلفاً، ولا تكون القدرة حالة مزاولته للعمل، وحالة سفره، وحالة إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه.. ونحو ذلك، يقولون: لا تشترط القدرة ولا القوة في هذه الحالات، وما ذاك إلا أنها شرطت في أول الأمر، وزالت الحاجة إليها بعد ذلك، فلا حاجة إلى وجودها وبقائها حالة مزاولة الفعل.

    ويقولون كذلك أيضاً في سائر العبادات كصلاة الجماعة -مثلاً-: إذا أمن على نفسه، وكان معه قدرة وقوة، وكان صحيح البدن ليس فيه مرض، وليس بخائف، وجب عليه أن يصلي مع الجماعة، فإذا ابتدأ في الصلاة -مثلاً- أو دخل المسجد أو أقيمت الصلاة فلو زالت القدرة لم تضر، ولا تشترط القدرة ولا وجودها حالة مزاولة الصلاة، هذا تقرير قولهم.

    ولا شك أن القدرة والقوة على الفعل لابد من وجودها قبل الفعل وفي حالة وجود الفعل، فإن الإنسان مثلاً مأمور بأن يصلي قائماً، فلو صلى ركعتين من الظهر -مثلاً- قائماً، ثم عجز، رخص له أن يجلس ويتم جالساً، فدل على أن القدرة مشترطة حالة الفعل من أوله إلى آخره، ولو أن إنساناً تجهز للحج، ولما قطع نصف الطريق -مثلاً- عجز وقلت نفقته أو حصل له خوف أو مرض.. أو نحو ذلك؛ لجاز له أن يرجع ويؤجل الحج؛ لأن القدرة لم تبقَ معه، بل حدث ما يضادها، وهكذا بقية الأعمال.

    لكن قد يستثنى منها بعض الأعمال، فإذا تم الحول على المال ووجبت فيه الزكاة؛ تعلقت بذمة المالك، فلو تلف المال بقيت الزكاة في الذمة؛ وذلك لأنه فرط حيث أخر إخراجها، وهناك من يقول: إنها تسقط عنه، بمعنى أنه لو حصد زرعه وجمعه، وقبل أن يخرج زكاته احترق كله، أو حملته الرياح وفرقته، فالصحيح أنه لا يلزمه زكاة؛ وذلك لأنها وجبت مواساة، ومن أين يواسي ما دام أن المال الذي وجبت فيه قد تلف؟!

    وهكذا مثلاً: لو تم حول نصاب الماشية السائمة، ولما تم الحول ماتت كلها -مثلاً- أو لم يبقَ منها إلا أقل من النصاب، سقطت الزكاة عنها، لأنه أصبح من غير أهل الزكاة.

    وكذلك الإنسان إذا صام نصف النهار، حيث أصبح وهو قادر وعنده القوة وعنده الاستطاعة على إتمام صيام ذلك اليوم، ولكن في أثناء النهار أصابه مانع شديد منعه من الإتمام، جاز له أن يفطر، ويقضي ذلك اليوم؛ لأنه أصبح من غير أهل الاستطاعة.

    فتبين بهذا أن الاستطاعة التي أمرنا الله بها في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] أن المراد بها الاستطاعة التي قبل الفعل والتي مع الفعل، فقبل الفعل يكون نشيطاً قوياً قادراً على أن يكمل الفعل، ومع الفعل يحصل منه أنه قادر على إتمامه من أوله إلى آخره، فإذا لم يكمله فهو معذور، فهذا توضيح قول أهل السنة، ولا يلتفت إلى قول هؤلاء الذين يقولون: إن القدرة تشترط قبل الفعل ولا حاجة إلى اشتراطها ولا إلى لزومها حالة مزاولة الفعل، وما ذاك إلا أنهم متناقضون.

    لا يكلف الله العباد إلا ما في وسعهم

    قال رحمه الله: [وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها، وإن لم يعجز عنه، فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع؛ لأجل حصول الضرر عليه, وإن كان قد يسمى مستطيعاً، فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكناً مع المفسدة الراجحة، لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته.. ونحو ذلك، فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟

    ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لابد من إحداث إعانة أخرى تقارن مثل جعل الفاعل مريداً فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة يدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة.

    فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة، لزم وجود الفعل، وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق.

    وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، وهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة].

    هذه تعتبر أمثلة لما تقدم من أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما في وسعهم وما في إرادتهم وما تصل إليه قدرتهم، وما لا مشقة عليهم فيه، وإن كانوا قد يستطيعون فعل بعض الأشياء التي أسقطت عنهم، لكن مع مشقة تلحقهم، فالمشقة تجلب التيسير، وقد نفى الله الحرج في هذه الشريعة، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولما ذكر أنه يجوز لهم استعمال التراب عند فقد الماء أو عند الخوف من استعماله لمرض ونحوه، قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6]، ولما أباح لهم الفطر في رمضان للسفر وللمرض، قال بعد ذلك: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فإن المسافر الذي يشق عليه الصيام، ولكنه يستطيعه، وإذا صام انقطع عن العمل، وانقطع عن خدمة نفسه، واحتاج إلى أن يخدمه رفقته، واحتاج إلى أن يظلل عليه، ويرش بالماء لشدة جهده، فهذا قد يقول: إني أطيق، فنقول: ما فاتك أشد وأعظم، حيث إنك أعوزت غيرك إلى أن يخدموك، وإلى أن يقوموا عليك، وأبطلت مصالح نفسك، واحتجت إلى من يخدمك، ولو كنت تستطيع أن تكمل يومك.

    وكذلك المريض، لو قال: أنا أستطيع أن أصوم مع المرض، ولكن المرض يزداد مع هذا الصيام ويشتد، وتكلف صاحبه الصيام، نقول: إنه قد كلف نفسه، وله رخصة وإن كان يستطيع الصيام، ولو قال الفقير: أنا أستدين وأحج وأصبر على الديون التي أتحملها في ذمتي، نقول: إنك قد كلفت نفسك ما فيه مشقة؛ لأنك لست على يقين بأنك تقدر على وفاء هذه الديون التي تتحملها، أو أنك -مثلاً- في سفرك قد تضيع أهلك، وقد تعوزهم إلى أن يتكففوا الناس؛ لأنك أنت الذي تتكسب لهم، وتنفق عليهم من كسبك، فإذا سافرت عنهم أدى ذلك إلى أنهم يحتاجون، ويسألون الناس، (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فيسقط عنك الحج في هذه الحالة إذا لم تجد ما ينفقه أهلك على أنفسهم حتى ترجع.

    وهكذا أيضاً: المصلي الذي أبيح له أن يصلي جالساً، لو قال: باستطاعتي أن أصلي قائماً، وكان القيام يزيد في المرض، ويؤخر البرء والشفاء، فنقول: لست بمكلف، وأنت غير مستطيع، والذي يعجزه القيام يجزئه الجلوس، ويكون أجره كأجر القائم سواء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو كانت الاستطاعة قد تحصل، ولكن مع نوع من المشقة، وبكل حال فالمشقة التي نفاها الله تعالى هي التي فيها صعوبة على العباد، وهي من جملة ما لم يكلفوا به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فإذا كان على العباد شيء من الضيق ومن الحرج ومن الشدة، فإن ذلك يجلب لهم الرخصة في أمورهم عامة، وفي هذا الأمر خاصة.

    1.   

    أفعال العباد مخلوقة لله تعالى

    قال المؤلف رحمه الله:

    [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد):

    اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية:

    فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله.

    وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا.

    وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه.

    فالجبرية غلوا في إثبات القدر فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات، فشبهوا، والقدرية -نفاة القدر- جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى؛ ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس، من حيث إن المجوس أثبتت خالقَينِ وهم أثبتوا خالقِينَ، وهدى الله المؤمنين أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

    فكل دليل صحيح يقيمه الجبري فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار.

    وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.

    فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى؛ فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن، وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم، وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخرين، ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل].

    تكلم الشارح هنا على أفعال العباد، ذكر الطحاوي أن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد، لكن الجبرية لم يثبتوا للعباد فعلاً، وإنما أثبتوا لهم كسباً، يعني: أنهم هم الذين زاولوها، وهم الذين عملوها، وإليهم تنسب، فالعبد يوصف بأنه الذي صلى وأنه الذي صام، ولا يقال: خلق الله فيك الصوم ولا خلق الله فيك الصلاة، ولا خلق الله فيك القتل، أو الشرك أو الزنا أو أكل الحرام، بل يقال: أنت المصلي والصائم وأنت الصادق أو الكاذب، وأنت المؤمن أو الكافر، وأنت البر أو الفاجر، وأنت العامل للصالحات أو العامل للسيئات، أنت المحسن أو أنت المسيء، أنت الذي صبرت أو جزعت، أنت الذي تشجعت أو جبنت، يوصف العبد بهذه الأفعال، ولو كانت خلق الله، فالله تعالى خالق كل شيء، وهو الذي أرادها، وهو الذي أوجدها، ولو شاء لما آمن أحد، ولو شاء لما كفر أحد، ولكنه تعالى أعطى العبد قدرة يزاول بها هذه الأعمال فيصبح من أهل الأعمال وتنسب إليه، هذا هو الذي تكلم عليه الطحاوي ، والأشاعرة لا يثبتون للعبد فعلاً، وقولهم قريب من قول الجبرية إلا أنهم يثبتون للعبد كسباً، ثم يضعفون ذلك الكسب، ولا يجعلون له تأثيراً، فأصبح الكسب الذي أثبتوه ليس له حقيقة، وفي هذا يقول بعضهم:

    مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنو من الأفهام

    الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام

    يعني: أن هذه الثلاثة لا حقيقة لها أصلاً، الكسب عند الأشعري لا حقيقة له، وقد يثبت الكسب ومع ذلك ينفي قدرة العبد، والحال عند البهشمي معناه: أنه لا يثبت للحال حقيقة، وطفرة النظام الذي هو أحد المعتزلة، فإنه اعتقدها وذهب إليها ولا حقيقة لها.

    مذاهب الناس في الأفعال

    الشارح رحمه الله ذكر أن للناس في الأفعال ثلاثة مذاهب:

    مذهب باطل وهو مذهب الجبرية، ويقابله مذهب باطل أيضاً، وهو مذهب نفاة قدرة الله.

    ومذهب حق، وهو إثبات قدرة الله وإثبات قدرة العبد التي تناسبه.

    فالأول الذي قال أهله إن العبد ليس له قدرة أصلاً، هو قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على أفعاله، وليس له أي اختيار، بل أفعاله وحركاته بمنزلة حركات المرتعش الذي ترتعش يده ولا يقدر على إمساكه، أو بمنزلة العروق النابضة التي تتحرك ولا يقدر على إمساكها، أو حركاته بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح، وهؤلاء الجبرية رئيسهم الجهم بن صفوان ؛ فهو أول من قال إن العباد ليس لهم قدرة، وليس لهم اختيار، بل هم مجبورون على الفعل.

    وهؤلاء يقولون: إن الله إذا عذب الخلق فإنه ظالم لهم؛ لأنه الذي خلق فيهم المعصية، وقالوا: كيف يخلق فيهم الذنب كالشرك والقتل والزنا والحرام وما أشبه ذلك ثم يعاقبهم على ذلك؟!

    فيعتبرون هذا ظلماً من الله تعالى، مع أن الله قد نفى الظلم بقوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

    حتى قال قائلهم -كما ذكره ابن القيم في بعض كتبه-:

    ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

    يقولون: مثل العاصي الذي يجبر على المعصية مثل إنسان ألقي في البحر وقد أوثقت يداه وقيل له: لا يبلك الماء! وهو لا يستطيع الحركة، ومع ذلك ألقي في البحر.

    ويقولا ابن القيم في ميميته:

    وعند مراد الله تفنى كميـت وعند مراد النفس تسدي وتلحم

    وعند خلاف الحق تحتج بالقدر ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم

    يقول: إن هؤلاء متناقضون، فإنه إذا كان المراد للنفس فإن أحدهم يسدي ويلحم ويأتي الأمور من طولها وعرضها، ولا يتوقف جهده على الشيء المراد، بل يبذل كل ما في وسعه، وأما إذا قيل له إن الله أمرك بكذا ونهاك عن كذا، فإنه يتقاعس ويتكاسل، وإذا وقع منه الذنب قال هذا مكتوب عليّ، وهذا ليس لي فيه اختيار، فيحتج بالقدر، ويحتج بالقضاء، ويزعم أنه مجبور على ذلك، وهذا هو فعل الجبرية الذين يزعمون أن العبد مجبور على فعله.

    وتقدم واحد منهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في مجلس وحوله تلامذته، فألقى عليه أبياتاً يقول في أولها:

    أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة

    ويقول فيها:

    دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي حجتي

    يقول: إنما مثلي كمثل إنسان دعاني، ثم سد الباب وأقفله دوني، وضربني وقال: لماذا لا تدخل؟ وكيف أدخل وقد أوصد الباب؟

    فرد عليه شيخ الإسلام بأبيات مشهورة مكتوبة مطبوعة، وقد شرحها الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، في أولها قوله:

    سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية

    وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية

    سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة

    واستمر في ذكر ما يتناقضون فيه وذكر أنهم يتناقضون؛ وذلك أن أحدهم إذا لامه لائم على فعل فإنه يحتج بالقدر، ولكن لا يحتج بالقدر إذا كانت المصلحة له، فهو إذا كانت المصلحة له في طلب معيشة وفي طلب رزق، فإنه يبذل قصارى جهده، فيقال له: لماذا لا تجلس في بيتك وتترك التكسب؟

    ولماذا لا تترك الأكل؟ ولماذا لا تقول: إن كان الله أراد لي حياة فإني سأحيا وإن لم آكل؟

    ولماذا تلبس الثياب في الصيف لتتقي الحر، وفي الشتاء لتتقي البرد؟

    ولماذا تتزوج تطلب الولد؟

    ولماذا تطلب الثمر؟

    وهكذا، فأنت تفعل هذه الأفعال وطلب المعيشة فكذلك نقول:

    لماذا لا تعمل أعمالاً صالحة تؤهلك لدخول الجنة؟!

    ولماذا لا تترك الأعمال التي تؤهل لدخول النار؟

    إذاً: فأنت معك قدرة ومعك استطاعة على مزاولة الأعمال.

    ذكروا أن سارقاً أُتي به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: هذا شيء قدره الله، فقال عمر رضي الله عنه: (سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله).

    ولما توجه عمر إلى الشام ذكر له أن الشام قد وقع فيها الطاعون، فعزم على أن يرجع بمن معه إلى المدينة، فقال له أبو عبيدة : (أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) أي: الله تعالى قدر لنا أن نرجع، فهو كتب علينا هذا، ولم يكتب علينا أننا نقدم على هذا الوباء.

    واستدل أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد).

    وبكل حال هذه أقوال هؤلاء الطائفة، ولهم حجج طويلة اختصرها الشارح.

    أما الطائفة الثانية الذين هم المعتزلة فبلا شك أن قولهم أشد بطلاناً، ولعله يأتي ما يبينه عندما يتكلم المؤلف على أدلتهم، والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950822