إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [27]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الموت قضاء الله تعالى الذي قضاه على كل نفس منفوسة، إلا أن الله تعالى جعل في شرعه لبني آدم تكرمة لهم وتمييزاً أحكاماً خاصة يلزم المسلمين تطبيقها، وذلك كغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه، مما فيه الكرامة للميت والأجر للمشتغل به.

    1.   

    أحكام الميت

    تغسيل الميت وتجهيزه وممن يكون

    قال الله المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [باب في صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة.

    عن أم عطية الأنصارية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته زينب ، فقال: اغسلنها بثلاث أو خمس أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه -تعني إزاره، وفي رواية: أو تبعاً- وقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها، وأن أم عطية قالت: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون) .

    وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته -أو قال: فأوقصته-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وفي رواية: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) .

    وقال المصنف رحمه الله: الوقص: كسر العنق].

    هذه الأحاديث فيها صفة تغسيل الميت وتكفينه، وقد ذكر لنا أن تغسيله وتكفينه من فروض الكفايات، وفروض الكفايات هي التي إذا قام بها بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقي، وإذا تركوها كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، فيدل على أنهم مكلفون.

    فإذا مات إنسان بين أهل بلد ففرض عليهم أن يقوموا بتغسيله، ثم بتكفينه، ثم بحمله والصلاة عليه، ثم بدفنه، فريضة عليهم، فإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، فإذا تركوه كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، أي: لحقهم الإثم.

    وذلك لأن من كرامة ابن آدم أنه بعد موته لا تبقى جثته على الأرض تأكلها السباع والطيور ونحوها لحرمة ابن آدم، بل شرعت مواراته، وشرع دفنه ومواراة جثته، يقول الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] أي: شرع أن يقبر. ويقول: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55] فهذا دليل على أن دفن المسلم بعد موته من فروض الكفايات، وأما الكفار فلا يعترفون بذلك، بل يحرقون أمواتهم، أو يشرحونهم -كما يقولون-، أو ما أشبه ذلك.

    ففرض -أولاً- تغسيله رجلاً كان أو امرأة، ففي حديث ابن عباس الذي ذكره المصنف تغسيل الرجل، وفي حديث أم عطية تغسيل المرأة، فدل على أن الرجل أو المرأة بعد الموت كل منهما يغسل، فالمرأة يغسلها النساء والرجل يغسله الرجال.

    الحكمة من تغسيل الميت

    في حديث أم عطية أن زينب إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكبر بناته، وقد ماتت سنة تسع، أي: قبله صلى الله عليه وسلم بسنة. ولما ماتت تولى النساء تجهيزها، ومنهن أم عطية ، واسمها نسيبة الأنصارية ، وهي من الصحابيات اللاتي حملن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فذكرت أنه لما أمرهن بالتغسيل أمرهن أن يغسلنها عدداً يحصل به النظافة، فالقصد من التغسيل تنظيف جسد الميت إذا كان فيه وسخ أو نحوه، فإن كان نظيفاً فتغسيله تعبد، كأن ذلك تطهير له، واعتبر بعضهم أن الموت كالحدث يسبب وجود الغسل لا للنظافة ولكن للطهارة، فإن الإنسان إذا أحدث حدثاً أكبر -كما لو وطئ مثلاً أو احتلم- ولو كان حديث العهد بالاغتسال والنظافة فإن عليه أن يغتسل مرة ثانية، ليس للنظافة ولكن لرفع الحدث، فيقولون: إن الموت حدث، فيغسل الميت لتطهيره من ذلك الحدث الذي هو الموت، حتى إذا صلي عليه يكون قد نظف وقد طهر، فتكون الصلاة من طاهر على طاهر.

    أما إذا كان متسخ البدن بعيد العهد بالنظافة فإنه يغسل بما يزيل الدرن والوسخ الذي عليه، ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء النساء: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك -إن رأيتن ذلك- بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً) أمرهن بأن يكون غسلهن وتراً، فالثلاث وتر، فإذا لم ينق إلا برابعة غسل خامسة، فإذا احتاج إلى سادسة فما نظف إلا بست غسلات زيد سابعة، حتى يقطع على وتر؛ لأن الله وتر يحب الوتر، هذا معنى أن يغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ومن العلماء من يقول: إذا زاد عن السبع فلا يحتاج إلى الوتر؛ لأنه قال: (أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك).

    كيفية الغسل والمواد المستخدمة فيه

    والغسل يبدأ من رأسه إلى قدميه، ويدلك بماء وسدر، فيمر يده عليه ويغسله بالماء والسدر إلى أن يصل إلى قدميه، ثم يعود مرة ثانية ويغسل رأسه إلى قدميه، ثم ثالثة من رأسه إلى قدميه يدلكه، ويبدأ بجنبه الأيمن ثم الأيسر، وبفخذيه الأيمن ثم الأيسر، وبساقيه الأيمن ثم الأيسر، وهكذا.

    فإذا نقي بالثلاث لم يحتج إلى زيادة.

    والسدر ورق السدر المعروف، فإذا قطع ورق السدر ويبس وسحق فإنه ينظف به، وكانوا يستعملونه كما نستعمل الصابون في تنظيف الأواني وفي تنظيف الثياب، ويكون له رغوة إذا خلط بالماء، أو رغوة تكون فوقه، فيأخذ تلك الرغوة ويغسل بها شعر رأسه، ويغسل بها شعر لحيته حتى لا يدخل شيء من حبات السدر بين الشعر، فيغسل الرأس والشعر بالرغوة، وأما حثالة السدر فيغسل بها بقية جسده؛ لأنها تزول إذا صب عليها الماء.

    وحيث إن القصد من الغسل بالسدر التنظيف فقد ذهب بعضهم إلى أن السدر تعبدي، وأنه يستعمل في الغسيل ولابد منه، وذهب آخرون إلى أنه للتنظيف، فيقوم مقامه الصابون أو الأشنان، والأشنان معروف، وهو ثمر شجر يشبه الرمث المعروف، ينبت في شجر من البلاد، تؤخذ زهرته وتسحق بعد أن تيبس، ويقوم مقام الصابون في تنظيف الأواني وتنظيف الثياب ونحوها.

    فيجوز أن يجعل بدل السدر أشنان أو صابون أو غير ذلك من المنظفات؛ لأن القصد إزالة الوسخ وتنظيف البدن وإزالة ما علق به من درن أو نحوه، وذلك حاصل بالصابون ونحوه.

    فالحاصل أنه أمر بغسلها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً بماء سدر.

    يقول بعضهم: إن السدر يجعل في إناء، والماء يجعل في إناء، فيؤخذ غرفة من السدر ويدلك بها الجسد، ثم يصب عليها ماءً حتى يزول أثرها -الذي هو حبات السدر- وتنظف، وكذلك إذا جعل الصابون في قدح ثم أخذ منه غرفة وغسل بها، ثم بعد ذلك أتبع هذا الماء حتى يزيل أثرها ولزوجتها.

    ثم في هذا الحديث أنه أمر بأن يبدأ بالميامن وبمواضع الوضوء، والمعنى أنه يبدأ بأعضاء الوضوء؛ لأن ذلك يعتبر حدثاً، والمحدث الذي هو عليه حدث أكبر إذا اغتسل بدأ بأعضاء الوضوء ويتوضأ، كما نقل ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك الميت يغسل، يبدأ بمواضع الوضوء منه، ومواضع الوضوء الوجه واليدان والرجلان، أي: أعضاء الوضوء، فيبدأ بالمضمضة، ولكن لا يدخل الماء في فمه لئلا يحرك النجاسة في باطنه، بل ينظف فمه بإصبعه أو نحو ذلك دون أن يدخل الماء في فمه، وكذلك ينظف المغسل منخريه ولا يدخلهما الماء لهذا السبب؛ لأنه قد يحرك النجاسة، فيقتصر على المسح.

    ووجهه يغسله كما يغسل بقية بدنه، وذراعاه يغسلهما كذلك، ويمسح برأسه ويغسله، ويغسل بعد ذلك قدميه، وإذا انتهى من أعضاء الوضوء بدأ في التغسيل، فيغسل رأسه، ويبدأ بجانبه الأيمن قبل الأيسر، وذكرنا أنه يغسل برغوة السدر أو بالصابون بعدما يذوب، ثم بعد ذلك يغسل عضده ومنكبه الأيمن ثم الأيسر، وكذلك جنبه الأيمن إلى نصف الصدر ونصف الظهر، ثم يقلبه ويغسل جنبه الأيمن قبل الأيسر، كذلك بعدما يغسل جنبيه إلى حقويه يبدأ فيغسل رجليه، الرجل اليمنى من الفخذ إلى العقب، ثم الرجل اليسرى من الفخذ إلى العقب أو إلى الإبهام، فيغسل الرجل كلها، وهكذا، فهذه تعتبر غسلة، وبعد ذلك يعود مرة ثانية وثالثة إلى أن ينتهي وإلى أن ينظف، فإن لم ينقضِ الوسخ زيد حتى ينقى.

    أما الغسلة الأخيرة فيجعل فيها كافوراً كما في الحديث، والكافور هو الذي يباع في أماكن العطورات ونحوها، فهذه القطع البيضاء ونحوها تسحق، ثم تخلط بالماء، ثم تجعل في الغسلة الأخيرة، والحكمة فيه أنه يصلب الأعضاء، فقد يكون الماء الذي غسل به حاراً فتستأكل مفاصله وأعضاؤه، فهذا الكافور يكون صلابة في مفاصله وفي أعصابه، فهذه الحكمة في غسله في الأخيرة بالكافور أو بما يقوم مقامه.

    وبعدما يغسل وينظف ينشف بثوب أو نحوه، ثم بعد ذلك يكفن، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، وذكرنا أنه وضع فوقها بعدما بسط بعضها فوق بعض، ثم يرد الطرف الأعلى طرفاه بعضهما إلى بعض، ثم الأوسط طرفاه بعضهما على بعض، ثم الأسفل طرفاه بعضهما، ثم بعد ذلك يعقد بالعقد التي تمسكه.

    غسل الميت المُحرِم

    والحديث الثاني حديث ابن عباس ، وفيه أن رجلاً كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في عرفة، وفي أثناء وقوفهم في آخر النهار سقط عن دابته وهو محرم، ولما سقط سقط على رأسه فاندقت رقبته فمات وهو محرم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهزوه، فأمرهم بالتغسيل، مما يدل على أنه يجب أن يغسل كل ميت حتى ولو كان نظيفاً؛ لأن العادة أن المحرم يكون نظيفاً، فأمر بأن يغسل.

    وأمر بأن يغسل بماء وسدر (اغسلوه بماء وسدر) ، وهذا دليل على أن السدر كان مستعملاً عندهم لكل ميت؛ لأنه يحصل به التنظيف.

    وفي رواية أخرى أنه (نهى أن يحنط) ، والتحنيط: هو تطييب الميت بعد أن يغسل، فالحنوط: طيب يجمع من أنواع من العطورات، كالورد والمسك وما أشبههما، فتجمع وتسحق، ثم بعدما ينتهون من تغسيله يجعلون من ذلك الطيب بين إليتيه وفي إبطيه، وفي بطون ركبتيه، وكذلك في سرته وتحت حلقه، وفي أذنيه، وفي المواضع الرقيقة منه، وقد يجوز أن يطيب كله، فهذا يسمى الحنوط.

    وكل ميت يحنط إلا المحرم، وذلك لأن المحرم باق على إحرامه بعد موته، فلا يحنط -أعني: لا يطيب-، كما أن المحرم في حياته لا يقرب الطيب؛ لأن الطيب من المرفهات، فكذلك بعد موته، أما غير المحرم فيحنط، فيجعل فيه من أنواع هذه الأطياب، والسبب في ذلك ألا تتغير رائحته بسرعة، وأن يبقى معه رائحة طيبة بعد دفنه.

    وعلى كل حال فقد وردت أدلة تدل على أنه يحنط الميت ويطيب بعدما يغسل.

    أما المحرم فيكفن في ثوبيه، ومعلوم أن المحرم يكون عليه ثوبان إزار ورداء، والإزار هو الذي يجعل على عورته، والرداء على ظهره، فيكفن فيهما، ولكن لا يغطى وجهه ولا رأسه، بل يكشف؛ لأن المحرم مأمور بكشف رأسه في حالة الإحرام إذا كان رجلاً، فيبقى مكشوف الرأس؛ لأنه يبعث يوم القيامة محرماً ملبياً، وهذا من خصائصه، فيدفن مكشوف الرأس، ويجعل الكفن ساتراً للرقبة وللمنكبين ولبقية البدن، حتى القدمين يسترهما، فالإزار والرداء اللذان هما لباس المحرم يلف فيهما ويعقد ويدفن فيهما فقط، هكذا وردت السنة بدفنه فيهما وعدم تحنيطه وعدم تغطية رأسه.

    وهذه صفة تكفينه، وصفة تغسيله أنه يغسل بماء وسدر حتى ينقى.

    كيفية تكفين الرجل والمرأة وعدد لفائفهما

    أما تكفين المرأة فذكر في حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولهن حقوه وقال: (أشعرنها إياه)، والحقو هو الإزار، كان عليه إزار يلبسه، وغالباً يكون أبيض كإزار المحرم؛ لأنه خفيف، فأمرهن أن يشعرنها إياه، والشعار: هو اللباس الذي يلي الجسد. والدثار: هو اللباس الظاهر الذي فوق الشعار. ولهذا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (الأنصار شعار والناس دثار) يعني: الناس لحاف أعلى وهم لباس داخلي، يعني أنهم مقربون لديه.

    وقوله: (أشعرنها إياه) يعني: اجعلنه شعاراً لها. أي: لباساً يلي جسدها.

    وذكرت أم عطية في رواية أخرى أنه ألقى إليهن خمسة أثواب، مما يدل على أن المرأة تكفن في خمسه، فذلك الشعار الذي هو إزار تشد به العورة كالإزار، ثم خرقة أخرى يلف بها الرأس تسمى الخمار، يلف بها الرأس والوجه والعنق والرقبة، ثم بعد ذلك قميص، وهو ثوب طويل ليس بمخيط، يشق في وسطه خرق للرأس، ويجعل نصفه لحافاً ونصفه فراشاً، فيعتبر كالثوب، إلا أنه ليس بمخيط الطرفين، وهذا لباس ثالث.

    وبعد ذلك يلف فوقه لفافتين كلفافتي الرجل تلف إحداهما فوق الأخرى، فهذا تكفين المرأة في خمسة أثواب، أولاً الإزار الذي على العورة، ثم الخمار الذي على الرأس، ثم القميص الذي له شبه الجيب فتحة في وسطه، ثم بعد ذلك اللفافتان، أما الرجل فإنه يجعل في ثلاث لفائف كما تقدم؛ لما في الحديث الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف -أي: من قطن- ليس فيها قميص ولا عمامة.

    فهذه صفة التكفين وصفة الغسل، وبعدهما صفة الصلاة تأتينا إن شاء الله.

    1.   

    أحكام الجنازة

    حكم اتباع الجنازة للرجال والنساء

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه في باب صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة:

    [عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه البخاري .

    باب في موقف الإمام من الميت.

    عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام في وسطها) .

    باب في تحريم التسخط بالفعل والقول.

    عن أبي موسى عبد الله بن قيس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) قال المصنف: الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة].

    هذه الأحاديث تتعلق بأحكام الجنائز، فمن أحكامها اتباع النساء الجنائز، حيث ورد النهي عن زيارتهن المقابر ولعنهن على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) ، وفي رواية: (لعن الله زوارات القبور) ، ولا شك أن اللعن دليل على التحريم، فهذا يدل على أنه لا تشرع لهن زيارة القبور، كذلك النهي عن اتباع المرأة للجنائز، ومعلوم أن اتباع الجنائز فيه فضل وأجر ثبت فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: يا رسول الله! وما القيراط؟ قال: مثل الجبل العظيم -أو القيراطان مثل الجبلين العظيمين-) يعني: من الأجر. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من حقوق المسلمين بعضهم على بعض اتباع الجنائز في قوله: (للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويحب له ما يحب لنفسه) ، ومعنى (يتبع جنازته) أنه إذا مات شيعه وتبعه إلى أن يدفن، فإن ذلك من حقه، ودليل على بقاء المودة له، ومن مواساة ذويه وأهله.

    ولكن بالنسبة للنساء لا يحق لهن ذلك، وما هو السبب؟ هو ضعف نفوسهن، وقلة تحملهن، وكثرة الجزع والفزع فيهن أكثر من الرجال، وكذلك الفتنة بهن، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى نسوة تبعن ميتاً فقال لهن: (هل تُدلين فيمن يُدلي؟ قلن: لا. قال: هل تَدْفِنَّ فيمن يَدْفِن؟ قلن: لا. فقال: ارجعن مأزورات غير مأجورات؛ فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت) علل بهذا، فأمرهن بالرجوع ولم يمكنهن من الذهاب، أي: تؤذين الأموات بالصراخ وبالنياحة وغير ذلك، وتفتن الأحياء، فالنظر إلى المرأة حتى ولو كانت متحجبة قد يكون فتنة، فلأجل ذلك أمرهن بالرجوع ونهاهن عن الاتباع، وأخبر بأنهن ليس لهن حظ في التشييع، وأن الجنائز يشيعها الرجال، وهم الذين يتولون مواراتها.

    وثبت -أيضاً- في سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة جاءت من قبل البقيع، فقال: من أين أتيتِ؟ فقالت: من أهل ذلك الميت عزيتهم في ميتهم. قال: لعلك بلغت معهم الكدأ - والكدأ هو المكان الصلب الذي يعد للمقابر- فقالت: معاذ الله وقد سمعتك تنهى عن ذلك! فقال: لو بلغت معهم الكدأ ما دخلتِ الجنة -أو ما رأيتِ الجنة- حتى يراها جد أبيك) يعني الذي مات كافراً، فهذا فيه وعيد شديد، مع أنها فاطمة الزهراء، وهي ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل الذي هو زيارة للقبر فيه هذا الوعيد الشديد لا شك أنه دليل على التحريم، وهو من أحاديث الوعيد التي يرد فيها الزجر عن بعض الأعمال، فيستدل به العلماء على أنه حرام.

    فعلى هذا نقول: زيارة النساء للقبور حرام ما دام الوعيد قائماً عليها؛ لأنهن يرجعن مأزورات غير مأجورات، فإذا كانت فاطمة الزهراء لن ترى الجنة حتى يحصل كذا وكذا فلا شك أن هذا دليل على أنه محرم، ولا يغتر بمن كتب يؤيد أو يدعو النساء إلى الزيارة ويفتح لهن الأبواب ويرخي لهن الحجاب، ولا شك أن الذين كتبوا في ذلك واشتهروا بهذا الكتاب قوم رأوا المرأة في تلك البلاد شاركت الرجال، وأصبحت كأنها مع الرجال إلى جنب الرجل، فقالوا: نعطيها -أيضاً- حريتها وحقها في أن تزور القبور كما يزورها الرجل، وأن تشيع الجنائز، وأن تفعل كما يفعل الرجال. واستدلوا بأدلة ليس فيها معنى، قالوا: إن عائشة زارت قبر أخيها. وصحيح أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن ، ولكن لم يكن في مقبرة، إنما كان مدفوناً في مكان، مرت عليه في الطريق وعدلت قريباً، حتى إنها اعتذرت عن ذلك وقالت: (لو شهدتك -أي: عند موتك- ما زرتك) أرادت أن تأتي إلى قبره وتسلم عليه وتدعو لأخيها عبد الرحمن حين مات في الطريق بين مكة والمدينة، فلا دلالة في هذا على زيارة القبور.

    واستدلوا -أيضاً- بأن عائشة قالت: (يا رسول الله! ما أقول إذا زرت القبور؟ فقال: قولي: السلام عليكم)، ونقول: هذا فيما إذا كانت عابرة طريق فمرت، فإذا مرت المرأة وهي تسير -مثلاً- في سيارة أو راكبة أو ماشية والقبور إلى جنبها قريباً منها وهي عابرة التفتت وقالت: السلام عليكم.

    أما كونها تدخل داخل الأسوار وتقف عند القبور. وتقول: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان -كما هو مشاهد- فهذا ما فعله الصحابيات، ولا فعله المؤمنون.

    وعلى كل حال المسلم يتمسك بذلك، فليس في ذلك تنقص للمرأة، فالمرأة ما دام أنها عارفة بالأحكام فلا يضرها كونها ممنوعة من الخروج أو ممنوعة من زيارة القبور أو نحو ذلك، ولا ينقصها ذلك، بل يزيد ذلك في كرامتها وفي حشمتها وفي رفعة منزلتها متى عملت بالشريعة كما ينبغي.

    وأما قول أم عطية في هذا الحديث: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فالنهي لابد أن يكون بقول: أنهاكم أنهاكن أو بقول: لا تزوروا المقابر لا تأتوا المقابر لا تتبعوا الجنائز، وإذا كان ذلك فالأصل في النهي للتحريم، ولكن فهمت من ذلك أنه لم يكرر، فإنه لما لم يكرر النهي ظنت أنه للكراهة لا للتحريم، فلذلك قالت: لم يعزم علينا. ولكن الأصل أنه للتحريم، فهذا فيما يتعلق باتباع النساء للجنائز.

    كيفية مشي الرجال بالجنازة

    أما اتباع الرجال فورد فيه حديث أبي هريرة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) . يقول بعضهم: الإسراع هو سرعة السير، فقوله: (أسرعوا بها) يعني: أسرعوا السير، فإذا حملتموها على رقابكم فسيروا سيراً حثيثاً وسيراً سريعاً.

    وروي أن بعض الصحابة أو بعض المسلمين حملوا جنازة وصاروا يخبون بها خباً، أي: يسرعون بها السير، فهذا محتمل أن يكون المراد به السرعة بها، ثم قال: (إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه) أي: تعجلونها إلى الخير الذي أعد لها في القبر، وإن تك سوى ذلك -غير صالحة- فشر تضعونه عن رقابكم، قد حملتموه على أكتافكم فتضعون عن رقابكم هذا الشر.

    والاحتمال الثاني -ولعله أوجه- أن المراد بالسرعة هنا سرعة التجهيز، أي: أسرعوا بتجهيز الجنائز فإذا مات الإنسان فأسرعوا بتجهيزه ولا تؤخروه، ولا تتباطئوا في تجهيزه وتحبسوه مدة طويلة، بل بادروا بعد موته وواروه ولا تؤخروه، فإنه إذا كان صالحاً قدمتموه إلى جزائه الذي ينتظره في المعاد، وإذا كان غير صالح ارتحتم من الحمل الذي تحملتموه، وهو الاهتمام بتجهيزه.

    ومعلوم أن قوله: (فشر تضعونه عن رقابكم) هو أنه إنما يحمله بعضهم، فقد يشيعه -مثلاً- مائة ولا يحمله إلا أربعة -مثلاً- أو عشرة، فعرف أن قوله: (تضعونه عن رقابكم) يعني: تضعون همه، وتضعون شغله، وتضعون العمل الذي تعملونه، يعني: كأنكم حملتم على أكتافكم شيئاً من الهم ومن الأعمال، فإذا جهزتموه وواريتموه فقد وضعتم ذلك الذي حملتموه وقد انتهيتم منه، فهذا هو الأقرب، أن المراد السرعة في تجهيزه.

    وقد ورد في الإسراع حديث آخر، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) أي: بعد موته يصبح جيفة ليس فيه حركة وليس فيه روح، فلا ينبغي أن تحبس هذه الجثة بين أهله، بل يسارع في مواراته، فيسرع أهله في تجهيزه تغسيلاً وتكفيناً وصلاة عليه ودفناً، حتى لا يحبس عمَّا هو معد له.

    فهذا هو الأرجح، ومع ذلك نقول: لا بأس بالسرعة إذا لم يكن فيها مشقة إذا حملوه، وكان الأصل أن الميت يحمل على الرقاب، فيحملونه على رقابهم إلى أن يضعوه عند شفير قبره، لكن في هذه الأزمنة لبعد المسافة استثقلوا ذلك وصاروا يحملونه على السيارات، ولا بأس بذلك، والسيارة معلوم أن سيرها محدود، لا يتمكن من الإسراع بها إسراعاً زائداً عن القدر المحدد، ومع ذلك إذا كان الطريق -مثلاً- خالياً فلا يتباطأ بالسير تباطؤاً تطول مدته، بل يسير السير المعتاد.

    وهذا عند الحاجة، أعني الحمل على السيارة عند الحاجة لبعد المكان ونحوه، فأما إذا لم يكن هناك بعد ولم يكن هناك مشقة فالحمل على الأكتاف هو الأصل.

    موضع حمل الجنازة، وما يستحب لحاملها

    وأخذوا من قوله: (تضعونه عن رقابكم) أنه يحمل على الرقاب؛ لأن قوائم النعش تحمل على المنكب، وتوضع على الجانب الأيمن أو الأيسر، وقد ورد عن بعض الصحابة أنهم يتربعون في حمله، يحمله أحدهم حتى يستقل به، ويحمله أربعة، فإذا ابتدأ فحمل مقدمه الذي هو عند رأسه من اليمين، وحمله -مثلاً- مسيرة عشرين متراً أو مائة متر انتقل وحمل في الطرف الثاني في المقدمة، وهو يسار مقدمته، ثم بعد مدة انتقل وحمل في المؤخرة، ثم انتقل وحمل في المؤخرة الثانية حتى -كما يقولون- يستقل به، وهكذا غيره، فكلما حمله واحد وسار به هذه المدة حمله الثاني، حتى يشاركوا في حمله كله، وهذا استحباب، أعني التربيع في حمله، وإن حمله في موضع إلى أن انتهى فلا مانع.

    موقف الإمام في الصلاة على الجنازة

    أما الحديث بعده فيتعلق بموقف الإمام، فإذا صلى الإمام على الجنازة فأين يقف؟

    في هذا الحديث أنه يقف من المرأة عند وسطها، وورد في حديث آخر أنه يقف من الرجل عند صدره، وفي حديث آخر عند رأسه، فهذه هي السنة، فالمرأة يقف عند وسطها، والرجل إما عند صدره أو عند رأسه أو بينهما؛ فإن الصدر والرأس متقاربان، فإن وقف قرب الصدر وقرب الرأس فإنه يكفي ذلك، وعلى كل حال هذا هو المستحب، وإن غير ذلك فلا مانع، فلو وقف عند وسط الرجل أجزأ ذلك، وإذا اجتمعت جنائز رجال ونساء فإنه يجعل وسط المرأة محاذياً لصدر الرجل، فيكون رأس المرأة مقدماً على رأس الرجل، حتى يكون وسطها وصدره متحاذيين فيقف عندهما.

    وتكون المرأة مما يلي القبلة، والرجل مما يلي المصلي، هكذا ترتيبهم، يقرب الرجل إليه ويجعل المرأة بعده إذا كان في الجنازة رجال ونساء، وإن كان هناك أطفال جعلهم في الوسط بين الرجال والنساء، فهذا ترتيبهم.

    1.   

    حكم النياحة على الميت ونحوها

    أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن النياحة، والنياحة: رفع الصوت عند الميت بالندب وبالصراخ والصياح ونحو ذلك.

    ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، وفسره الصحابي بأن الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها أو تنتفه، والشاقة التي تشق ثوبها أو جيبها أو شيئاً من ثيابها من حر المصيبة.

    وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)، وهذا يعم الرجال والنساء، يعني أن النياحة ليست خاصة بالمرأة، بل إذا ناح الرجل وصاح وشق ثوبه ونتف شعره من حر المصيبة -في زعمه- دخل في الوعيد الشديد: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)، وكان في الجاهلية يدعون عند الميت بالويل والثبور، إذا مات لهم ميت يقولون: وا ثبوراه! واويلاه! أو دعوى الجاهلية أن يندب ذلك الميت، فيندبه إما باسمه كأن يقول: وا سعداه! وا محمداه! وإما بقرابته كأن يقول: وا ولداه! وا أخيَّاه!، وإما بصفته كأن يقول: وا مطعماه! وا كاسياه! فهذه من دعوى الجاهلية، وهي داخلة في الصياح الذي برأ منه النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة التي ترفع صوتها، والشاقة التي تشق ثوبها، والحالقة أو الناتفة التي تنتف شعرها، ويعم ذلك الرجال والنساء.

    فإذا عرفنا أن ذلك منهي عنه نعرف الحكمة فيه، ذلك لأن المصيبة مقدرة، فالله تعالى قدر على الإنسان هذه المصيبة وقضاها، ولا راد لقضائه، فإذا علم العبد أنه لا منجى له من هذه المصيبة فليرض بذلك، الرجل تصيبه مصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وهذا تعليل.

    وتعليل ثان: نقول لهذا النادب وهذا الصائح: ماذا ينفعك هذا الصياح؟ وماذا يزيدك؟ وماذا يؤثر فيك؟ هل يرد فائتاً؟ هل يحيى ميتك؟ هل يرد عليك ما فقدته منه؟ لا يفيدك، بل يضرك ويفوتك أجر الصبر الذي هو الاحتساب وطلب الأجر، فأنت إذا لم تصبر على هذه المصيبة كان ذلك مفوتاً لك حارماً لك من أجر المصيبة، والله تعالى قد وعد على الصبر بأجر عظيم في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157]، فالذي يجزع هذا الجزع يفوته هذا الأجر.

    1.   

    مخالفة تناقض التوحيد

    الشرك المتعلق بالقبور

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير ما فيها، فرفع رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره صلى الله عليه وسلم، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) .

    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) ، ولـمسلم : (أصغرهما مثل أحد)].

    الحديثان الأولان يتعلقان بالعمل عند القبور، وفتنة القبور، وما كان لها من الآثار بسبب الجهل، وأم سلمة هند بنت أبي أمية إحدى أمهات المؤمنين، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ، إحدى أمهات المؤمنين، وكلتاهما هاجرتا مع زوجيهما إلى الحبشة، فـأبو سلمة رجع بـأم سلمة وتوفي بالمدينة، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وأم حبيبة توفي زوجها بالحبشة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بالحبشة، وأرسل عمرو بن أمية الضمري فجاء بها.

    ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته تلك الكنيسة، والكنيسة: هي معبد النصارى، فالمعابد التي يتعبدون فيها يسمونها كنائس، ولا تزال تسمى كنائس إلى اليوم، ولا يزالون يتعبدون في كنائسهم.

    تلك الكنيسة فيها تصاوير وفيها قبور، فأخبرتا بما فيها من حسن، وبما فيها من تصاوير، ولكن ذمهما النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر.

    أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته بأن هذه الكنيسة أقيمت على صور وقبور، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح من نبي أو رجل صالح من أهل الصلاح ودفنوه صوروا صورته ونصبوها في تلك الكنيسة، وبنوا على قبره مسجداً، أو جاءوا به إلى تلك الكنيسة المبنية ودفنوه فيها.

    فبنوا على قبور الصالحين أبنية ومعابد، وصوروا فيها صورهم، هذا قبر الولي فلان وهذه صورته، وهذا قبر الولي فلان والنبي فلان وهذه صورته، فيتعبدون في تلك الكنائس التي قد ملئت بتلك القبور وبتلك الصور، يقول ابن القيم -أو ينقل عن بعض السلف-: هؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة الصور، وفتنة القبور.

    ولا شك أن القبور إذا بني عليها وإذا تعبد حولها اتخذت أوثاناً، ولا شك أن الصور إذا نصبت وعظمت اتخذت أوثاناً، كما حصل من قوم نوح لما صوروا تصاوير أولئك الصالحين فطال عليهم الأمر فعبدوهم، قال تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وهذه أسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها صوراً أو تماثيل، وسموها بأسمائهم ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، جاءهم الشيطان وقال: ما صوروها إلا لعبادتها، فصاروا يعبدونها ويتمسحون بها ويخضعون لها، فإذا دخلوا ركعوا أو فعلوا شبه ركوع، وكانوا يدعون أصحابها ويهتفون بهم، وكذلك -أيضاً- كانوا يذبحون لها وينذرون لها، ونحو ذلك، فمثل هذا خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ففي مرض موته خشي أن يفعل أصحابه به كما فعل أولئك من نَصبِ صورته -مثلاً- منحوتة أو منقوشة، ومن البناء على قبره ونحو ذلك، فذكرت عائشة في الحديث الثاني أنه لما مرض المرض الذي ماته فيه ولم يقم منه، قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر مما صنعوا، تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، وفي بعض الروايات أنه لما نزل به الأجل وصار في سياق الموت طفق يطرح خميصة له على وجهه -والخميصة: كساء له أعلام- فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

    ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك، ثم قال: والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبنَ مسجد، وهو معنى قولها: (خشي أن يتخذ مسجداً) يعني: مصلى. فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا على قبره لو كان بارزاً مسجداً، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) يعني: موضعاً للصلاة.

    والحاصل أن في هذا دليلاً على أنه لا يجوز البناء على القبور، خصوصاً قبور الصالحين؛ وذلك لأن البناء عليها ورفعها سبب لتعظيمها، وإذا عظمت صرف لها شيء من حق الله، مع أن أصحابها أموات قد انقطع أملهم، فليس لهم ملكية تصرف.

    ولما تمادى الجهل واستمر في الأمة من يعظم القبور عبدت القبور، ولا يزال إلى الآن في كثير من البلاد التي تُسمى بأنها بلاد إسلامية يبني الناس عليها بيوتاً، أو يأتون بالصالحين ويدفنونهم في المساجد التي يصلى فيها، وكلما صلوا جاءوا إلى القبر وتمسحوا به، أو أخذوا من ترابه، أو قصدوا الصلاة عنده وزعموا أن الصلاة عنده تقبل أو يضاعف فيها الأجر أو نحو ذلك، فكانوا بذلك متسببين في أن عظموا مخلوقاً غير الله، ولا شك أن هذا التعظيم يؤول بهم إلى الشرك والكفر؛ لأنه عبادة لغير الله، وصرف العبادة لغير الله شرك.

    فهذا هو السبب في أنه عليه الصلاة والسلام لعنهم على هذا، وأخبر في الحديث الأول بأنهم شرار الخلق، ولا شك أن هذا ذم لهم، ولم يذكر لهم ذنب إلا أنهم يبنون على القبور ويصورون صور الصالحين، فهذا ذنبهم الذي صاروا به شرار الخلق.

    اتخاذ القبور مساجد

    وذكر في الحديث الثاني اللعن، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى)، ولم يذكر ذنبهم إلا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وعرفنا أن المساجد المراد بها: المصلى، سواء أكانت مبنية كهيئة المساجد ذوات المحاريب، أم كهيئة الكنائس والصوامع والأديرة التي يتعبدون فيها، أم كانت مقصودة للصلاة عندها وإن لم يكن هناك مسجد، بل يقصدونها لأداء الصلاة عندها، فهؤلاء كلهم قد تشبهوا باليهود الذين يقصدون القبور ويسمونها مشاهد ويعمرونها بالصلاة عندها، قد تشبهوا باليهود، وقد استحقوا ما استحقه اليهود من اللعن (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قال ذلك في آخر حياته، فلما علم أن أجله قد قرب خشي أن يتخذ قبره مسجداً.

    وأما إدخال القبر في المسجد -كما هو عليه الآن- فهذا حصل بعد ذهاب الصحابة، وبعد موت الصحابة بالمدينة كلهم، وفي عهد أحد خلفاء بني أمية لما أراد توسعة المسجد واضطر إلى توسعته من الجهات كلها أدخل في ذلك حجر أمهات المؤمنين، ورأى أن ذلك من الضرورة لتوسعته، ولكن جعلوا القبر في زاوية من زواياه، وجعلوا عليه ثلاثة جدران على هيئة المثلث، حتى لا يتمكن أحد من استقباله، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد دعا الله بقوله: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ، فأجاب رب العالمين دعاءه فأحيط بثلاثة جدران.

    وعلى كل حال فلا يزال -بحمد الله- محفوظاً، لا أحد يعبده ولا يطوف به ولا يتمسح به ولا يهتف باسمه ولا غير ذلك، ولو كان في جانب المسجد، والمسجد معروف انفصاله ومعروف أصله، وعلى كل حال فلا يقال إنه وقع ما حذر منه، بل هو دفن في حجرته التي مات فيها، والتي هي حجرة عائشة ، ودفن معه أبوها أبو بكر ، ثم دفن معهما عمر ، فالثلاثة دفنوا في حجرة عائشة ، وكانت منفصلة عن المسجد، ولولا أنه خاف أنه إذا أبرز يأتي إليه الجهلة ويتمسحون به ويطوفون به ويذبحون عنده ويتخذونه وثناً أو يصورون صورته وينصبونها وينحتونها أو نحو ذلك، لولا ذلك لأبرز قبره، فلما سمعوا تحذيره من فعل اليهود والنصارى لم يبرزوه خوفاً عليه، بل تركوه بمكانه حتى يكون محفوظاً مراقباً من جهة أهل المسجد، ومن جهة سكان الحجرات ونحو ذلك.

    فهذا يدل على أنه لا يجوز البناء على القبور، وقد وردت أدلة كثيرة في النهي عن البناء على القبور، والنهي عن اتخاذ السرج عليها، والنهي عن تجصيص القبر وتشييده، وكل ذلك مخافة أن يغتر به الجهلة، فالجهلة إذا رأوا هذا القبر مشيداً مرفوعاً مجصصاً قالوا: هذا دليل على أنه قبر شريف وقبر فيه صالح. فينخدعون بذلك ويتمسحون به، ويصرفون له شيئاً من حق الله تعالى.

    أفعال الجاهلية عند المصائب

    أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن الأفعال الجاهلية التي يفعلونها عند المصيبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).

    هذا من أحاديث الوعيد التي يشدد فيها صلى الله عليه وسلم على بعض المعاصي؛ حتى يكون أبلغ في الزجر، وذلك لأن هذه الأفعال كانت منتشرة في الجاهلية، والجاهلية: ما قبل الإسلام، سميت بذلك لكثرة جهلهم، وعبادتهم صادرة عن جهالة، فمنها أنهم كانوا إذا مات الميت فمن حزنهم عليه ومن شدة وجدهم يضرب أحدهم خده، أو يضرب صدره على وجه الحزن، وعلى وجه التوجع، وضرب الخدود تسخط من قضاء الله، فالذي يفعل ذلك كأنه سخط قضاء الله وقدره، ولم يرض بما قدره ولا بما أصابه، وذلك ينافي الصبر، والله تعالى أمر بالصبر عند المصيبة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] إلى قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]، فكونه -مثلاً- يضرب خده بيديه أو صدره أو فخذه أو جنبه، يظهر بذلك التسخط ينافي الرضا، وينافي الإيمان بالقدر والقضاء، وينافي الصبر.

    كذلك قوله: (من شق الجيوب)، والجيب هو مدخل الرأس، والفتحة التي يدخل منها الرأس معروفة، كما في قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، فالعادة أنه إذا سمع بالمصيبة أو سمعت المرأة بالمصيبة أنه مات فلان، أو مات أخوه أو أخوها، فأقرب شيء جيبه يمسكه ويشقه، حتى يشق الثوب كله، وربما بقي عرياناً إذا لم يكن عليه سراويل أو إزار، وقد يشق غير الجيب، فيشق الأكمام -مثلاً- أو يشق الثوب من أسفله أو من أحد جانبيه، وكل ذلك تسخط لقضاء الله، وكذلك لو شق -مثلاً- عباءته أو شق عمامته أو نحو ذلك، فكل ذلك من التسخط، ولا شك أن هذا ينافي الصبر، وكذلك دعوى الجاهلية كالتشكي باللسان، وذلك لأنه ينافي الصبر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه دمعت عيناه، فكأن الصحابة استنكروا منه، فقال: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه-) يعني أن العذاب على التسخط باللسان، وعلى الصياح والنياحة ونحو ذلك، فالصياح والكلام الرفيع يسمى نياحة، والنائح: هو الذي يدعو بدعوى الجاهلية، فهو الذي ينوح ويندب ويصيح بأعلى صوته لحر المصيبة -في زعمه- في قلبه.

    ودعوى الجاهلية سميت بذلك لأنهم هم الذين يفعلونها، وسميت (دعوى)، وتسمى -أيضاً- (ندباً)، وتسمى (نياحة)، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، والسربال: هو الثوب الذي يلبسه المقاتل، وكذلك الدرع من حديد يلبس في القتال.

    يقول: إنه يلتصق بجلدها هذا السربال الذي يستر البدن كله، والدرع الذي يستر البدن إلى نصفه إلى الحقوين أو نحو ذلك، والقطران معروف، وهو الذي تطلى به الإبل، وهو مادة سوداء شديدة الحرارة، إذا التصقت بالجلد تمزق الجلد، يطلى بها البعير إذا أصابه الجرب فينسلخ شعره في حينه، وهو معروف باسمه القطران، والجرب معروف، وهو الذي يتشقق به الجلد، حكة تكون في الدواب يتشقق منها الجلد.

    وعلى كل حال فهذا من العذاب الذي يعذب به النائح، والنياحة -كما فسرت- هي: ندب الميت إما باسمه، كأن يقول: وا محمداه! وا إبراهيماه! وا سعداه! ونحو ذلك يناديه باسمه، وإما بقرابته منه، كأن يقول: وا أبواه! وا أخياه! وا ولداه! وا صديقاه! وما أشبه ذلك، وإما بصفة يصفه بها، كأن يقول: وا مطعماه! وا كاسياه! وا كافلاه! وا ناصراه! يصفه بأنه كذلك، وورد في بعض الأحاديث أن الميت يتألم من هذا الندب، فكلما قالوا له: وا مطعماه! يضرب أو يوبخ فيقال: هل أنت المطعم؟ هل أنت الكاسي؟ هل أنت الكافل؟ هل أنت الناصر؟ فيؤلمه ذلك ويؤلمه كلام أهله.

    فهذا ونحوه دليل على الزجر عن أفعال الجاهلية من النياحة ومن الصياح ونحو ذلك.

    1.   

    أجر الصلاة على الميت وتشييعه

    أما الحديث بعده فيتعلق بالصلاة على الميت وبتشييع الميت، ففيه أن من صلى على جنازة المسلم كان له قيراط من الأجر لا يعلم قدره إلا الله، ومثل بأنه مثل جبل أحد، وإذا تبعها حتى تدفن كان له قيراط آخر، وهذا أجر كبير، ولا شك أن الصلاة عليه فيها شفاعة له ودعاء له بالرحمة، ولأجل ذلك يستحب تكثير المصلين؛ لأن كلاً منهم يدعو للمسلم بالرحمة، وكذلك التشييع، حيث يدعون له في حالة مسيرهم خلفه، وكذلك عند جلوسهم عند قبره، في كل ذلك -أيضاً- يدعون له، وبعد دفنه يدعون له، فهو يصله بذلك أجر، وهم -أيضاً- لهم أجر، كما ذكر في هذا الحديث أن أحدهم يحصل على هذا الأجر، وهو قيراط.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755962112