إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأعزاء! وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في الدنيا على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تب إلى الله أيها العاصي! هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية:
أولاً: المعصية سبب لكل شقاء وبلاء.
ثانياً: انتبه فإن الموت يأتي بغتة.
ثالثاً: باب التوبة مفتوح.
رابعاً: قصة تائب.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم التوبة النصوح، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
[الزمر:18].
أولاً: المعصية سبب لكل شقاء وبلاء:
إي ورب الكعبة! فما الذي أخرج الأبوين الكريمين من الجنة، من دار اللذة والسرور والنعيم إلى دار الأحزان والمصائب والآلام؟!
وما الذي أخرج إبليس وطرده من رحمة الله عز وجل؟!
وما الذي أغرق فرعون وجنوده؟!
وما الذي دمر قوم عاد؟!
وما الذي دمر قوم ثمود؟!
وما الذي دمر قوم لوط؟!
وما الذي دمر قوم صالح؟
!
وما الذي دمر قوم شعيب؟!
وما الذي دمر وخسف بـ
الأرض؟!
وما الذي شتت بني إسرائيل في الأرض والتيه والضلال أربعين سنة، وجعل منهم القردة والخنازير؟!
وما الذي أذل العالم كله اليوم، فحرم من الأمن والأمان، على الرغم من كثرة وسائله الأمنية، بل وعلى الرغم من كثرة الاختراعات التي شاء الله جل وعلا أن تحول هي ذاتها إلى وسائل للرعب وللموت واستعباد الجنس البشري؟!
وما الذي حول العالم كله اليوم إلى غابة وحوش؟!
فإننا نرى الإنسان اليوم يفعل بأخيه الإنسان ما تخجل الوحوش أن تفعله في عالم الغابات، وإننا نرى العالم كله اليوم قد حرم من الأمن والاستقرار وهدوء البال وراحة الضمير والاستقرار النفسي، ورأينا الكثير والكثير من أبناء العالم ينتحر بشكل جماعي!
إن العالم قد حرم من الأمن والأمان، نرى الواحد منهم قد أحاط نفسه بقوات تلو قوات، وبالرغم من ذلك نراه قد حرم من نعمة الأمن والأمان!
إن العالم اليوم أيها الأحبة! محروم من نعمة الأمن، محروم من نعمة الرخاء الاقتصادي، بل محروم من نعمة الاستقرار النفسي وهدوء البال وانشراح الصدر وراحة الضمير.
وما الذي أذل أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأذل أمم الأرض وأخس وأحقر أمم الأرض؟!
والجواب على كل هذه الأسئلة في آية واحدة محكمة من كتاب الله عز وجل، أقرأ معي -أيها الكريم- قول الله سبحانه:
[طه:123-127].
ولكن للأسف ربما يغتر كثير من الناس بما يراه من نعم الله جل وعلا على بعض خلقه وبعض عباده، بل وبعض دول الغرب، إذا نظر الإنسان إلى هؤلاء الذين تسري عليهم النعم بالليل والنهار ربما اغتر بهذه النعمة، ونسي هذا المغرور قول العزيز الغفور جل وعلا:
[الأنعام:44-45].
اسمع أيها الحبيب! هذه الأجوبة البديعة من أحد علماء السلف لأحد العصاة المذنبين، أذكر بها نفسي وإياكم، فما من أحد على ظهر الأرض إلا وقد عصى الله، ما من أحد على ظهر الأرض إلا وقد ذاق مرارة المعصية وذاق حلاوة الطاعة، أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب! فلقد جاء رجل أسرف على نفسه إلى
إبراهيم بن أدهم ، و
إبراهيم بن أدهم هو الثقة بإطلاق، وليس كما يظن بعض طلاب العلم، بل هو ثقة بإطلاق كما قال علماء الجرح والتعديل، راجع ترجمته في تهذيب التهذيب لـ
ابن حجر ، وناهيك بقولة إمام الجرح والتعديل الإمام العلم
يحيى بن معين إذ يقول في حق
إبراهيم رحم الله الجميع: عدل ثقة، وأهل الحديث يعلمون معنى كلمة ثقة، لاسيما إذا كانت هذه الكلمة من إمامهم الإمام العلم
يحيى بن معين.
فقد ذهب إليه رجل وقال: يا
إبراهيم ! لقد أسرفت على نفسي بالمعاصي والذنوب، فماذا أصنع؟ أريد أن أتوب إلى الله عز وجل، فماذا أصنع؟ وكلنا والله نريد التوبة، كلنا والله نريد الإنابة؛ لأنه والله ما من عبد قد ارتكب معصية -وكان يحمل قلباً سليماً حياً- إلا وأحس أن الأرض بما رحبت قد ضاقت عليه، وأن أنفاسه تختنق، وأن صدره يضيق فيكون كخرم إبرة، إنها الفطرة السوية السليمة، وإن كنت على غير ذلك ففتش عن قلب؛ لأنه ربما تكون لا تحمل قلباً ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأنا لا أقصد القلب الذي يتكون من الأذين والبطين، وإنما أقصد القلب الذي قال عنه الحبيب المصطفى كما في الصحيحين من حديث
النعمان : (
ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
ماذا قال
إبراهيم بن أدهم لهذا السائل؟
قال له: يا هذا! عليك بخمس خصال لتكون من أهل التوبة، ولتترك المعاصي.
قال: هاتها يرحمك الله.
قال
إبراهيم : أما الأولى: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله!
أيها العاصي! أذكر بهذا نفسي والله، فأنا أولكم، إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله!
قال الرجل: سبحان الله! وهل الأرزاق كلها إلا من الله يا
إبراهيم ؟!
فقال له: فهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟!
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب
إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! قال: كيف ذلك والأرزاق كلها لله؟
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]،
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، لا تأكل رزق الله إذا أردت أن تعصي الله، قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟!
قال: وهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟!
قال: لا، هات الثانية.
قال
إبراهيم : أما الثانية: إن أردت أن تعصي الله فابحث عن أرض ليست لله فاعصه هناك؟! ابحث عن مكان ليس ملكاً لله، فكيف تجرؤ على أن تعصي الله في ملكه؟! كيف تجرؤ على أن تدخل بيت ملك من ملوك الأرض أو بيت حاكم من حكام الدنيا وأنت ستعصيه في هذا البيت؟!
والله لن تجرؤ على معصيته، وأتحداك أن تجرؤ، بل أتحداك أن تفعل ذلك في بيت رئيس مجلس الإدارة، أو في بيت مدير عام، أو في بيت مدير إدارة، أو في بيت رئيس قسم، أو في مكتب مسئول صغير، أتحداك أن تعصيه في مكتبه!
فإن أردت أن تعصي الله عز وجل ففتش عن أرض ليست ملكاً لله فاعص الله هنالك!
فقال الرجل : يا
إبراهيم! الأرض كلها لله،
إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ [الأعراف:128]، فكيف تقول لي هذا؟!
فقال
إبراهيم : فهل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله؟!
فكر -يا أخي- هل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله جل وعلا؟!
قال الرجل: هات الثالثة يرحمك الله.
قال: أما الثالثة: إذا أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان أمين لا يراك الله فيه!
أمسك أعرابي أعرابية في الصحراء، وأراد أن يفعل بها المعصية، فقالت له هذه المعلمة المربية التي أرادت أن تربيه على مراقبة الله: اذهب وانظر هل يرانا أحد؟ هل نام الناس؟ هل اطمأن الجميع وهجع الجميع في خيامه؟
فانطلق الرجل وعاد إليها فرحاً مسروراً بلذة سيجني ثمارها المرة بعد حين! قال: أبشري لا يرانا أحد، نام الجميع ولا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مكوكبها؟! أين الله؟!
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، معهم أينما كانوا بسمعه، معهم أينما كانوا ببصره، معهم أينما كانوا بعلمه، فإذا أردت أن تعصي الله ففتش عن مكان أمين لا يراك فيه الله عز وجل!
أراد أستاذ فطن ذكي أن يربي تلاميذه على المراقبة لله، فدفع لكل تلميذ طائراً وقال: لينطلق كل تلميذ ليذبح طائره في مكان لا يراه فيه أحد، فجاء كل تلميذ بطائره بعدما ذبحه، ودخل على الأستاذ تلميذ نجيب بطائره ولم يذبحه، قال: ما الذي جعلك تأتي بطائرك من غير ذبح؟
قال: يا أستاذي! لقد أمرتنا أن نفتش عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان أذهب إليه إلا والله يراني فيه، فعدت به هكذا.
إنها المراقبة لله، إن أردت أن تعصي الله ففتش عن مكان أمين لا يراك الله فيه، فقال الرجل: كيف يا
إبراهيم والله عز وجل يقول:
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]؟!
فقال
إبراهيم : فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك؟!
قال: يرحمك الله هات الرابعة.
قال: أما الرابعة: إذا أردت أن تعصي الله، وجاءك ملك الموت فقل له: أخر قبض روحي حتى أتوب إلى الله!
قال: كيف ذلك والله جل وعلا يقول:
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]؟!
قال: أنت تعلم ذلك، وكيف تريد النجاة؟! تعلم أن الموت يأتي بغتة، وتعلم أن ملك الموت لا ينتظر أحداً، ولا يترك شاباً ولا شيبة، ولا رجالاً ولا نساءً ولا صغاراً ولا كباراً.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون و
هامان
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان
إذا جاءك ملك الموت -أيها العاصي، أيها المسرف على نفسك بالذنوب- فلا تستجب! قل: لا. لن أستجيب لك يا ملك الموت! أو قل: انظرني إلى أجل معدود، لماذا؟
لأعود إلى الله، ولأتوب إلى الله، ولأرجع إلى الله، كلا
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون:99-100]، إنها كلمة حقيرة لا وزن لها عند الله، لا يستجيبها الله، لقد أمهلك الله، لقد أنزل الله إليك الكتب، وأرسل الله إليك الرسل، وبعث الله إليك العلماء والدعاة فسخرت منهم، واستهزأت بهم، وصددت عن سبيل الله، ووقفت حجر عثرة في دعوة الله، وفي طريق الدعاة إلى الله.
واليوم لما عاينت الحقائق ورأيت الحق الذي لا خفاء فيه تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي) هو لا يدري إن كان سيعمل أو لا يعمل، وإنما يقول: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) فعلم الله كذبه، وعلم الله نفاقه، فقال جل وعلا:
كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
قال: هات الخامسة يا
إبراهيم!
قال: أما الخامسة: إذا أردت أن تعصي الله، فإذا جاءتك زبانية جهنم ليسوقوك إلى العذاب فلا تذهب معهم!
فبكى الرجل وانطلق وهو يصرخ ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم اغفر لنا وراحمنا يا أرحم الراحمين.