أما بعد:
فقد تكلمنا في خطبة ماضية عن شيء من أحكام النذر، وفي خطبتنا هذه سنتكلم عن شيء من أحكام اليمين بالله عز وجل.
إن ديننا دين عظيم، أتى بكل ما يحتاجه المسلم من أحكام في جميع شؤون حياته الخاصة والعامة، في منزله وعمله، في مسجده وتجارته، في قوله وفعله، قال الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
ومن المسائل التي يحتاجها المسلم، ويخطئ فيها كثير من المسلمين والمسلمات ما يتعلق باليمين بالله عز وجل، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: الأيمان بفتح الهمز جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة: اليد والقوة والبركة، وأطلقت على الحلف؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد بيمين صاحبه، وقيل: لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسمي الحلف بذلك لحفظ المحلوف عليه، وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه بها.
وقد بوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه: كتاب التوحيد، باب ما جاء في كثرة الحلف بالله عز وجل، وذلك أن الإكثار من اليمين بالله عز وجل نقص في تعظيمه سبحانه، وهذا نقص في التوحيد، فناسب أن يذكر هذا الباب في كتاب التوحيد، فلكي يكمل المسلم توحيده عليه أن لا يكثر من اليمين بالله عز وجل.
وقد وصف الله الكفار والمنافقين بكثرة اليمين، فقال سبحانه: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10]، وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16].
أما النوع الثاني من الأيمان؛ وهي اليمين التي تكون على المستقبل، فهذه هي اليمين المنعقدة التي فيها الكفارة، إن لم يوف بما حلف به، فمثلاً لو قال: والله لأسافرن اليوم إلى مكة، ثم بعد ذلك لم يفعل فقد وجبت عليه كفارة اليمين لحلفه.
والحنث هو: أن يفعل ما حلف على تركه، أو أن يترك ما حلف على فعله.
ويشترط في اليمين التي يؤاخذ بها صاحبها وتجب فيها الكفارة أن يكون قاصداً لها، قال الله عز وجل: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89].
وأما اليمين التي لا يقصدها وإنما تجري على لسانه، فهي يمين اللغو، كقول الرجل في أثناء كلامه: لا والله، وبلا والله، كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها، خرجه البخاري.
فالالتزام الواجب باليمين: هو الحلف على فعل واجب أو ترك معصية، فمن حلف على واجب أن يفعله، أو على معصية أن يتركها فيجب عليه أن يلتزم بيمينه، ويحرم عليه أن يحنث فيها.
وأما الالتزام المستحب: فهو أن يحلف على فعل مستحب، فيستحب له أن يلتزم يمينه، كما لو قال: والله لأزورن اليوم فلاناً، فيستحب له أن يفعل.
والالتزام المكروه: هو أن يحلف على فعل مكروه أو ترك مستحب، كما لو قال: والله لا أتصدق على فلان، وهو فقير، فهنا نقول: يكره لك أن تلتزم باليمين، ويستحب لك أن تحنث فيها.
وأما الالتزام المحرم: فهو أن يحلف على ترك واجب، أو على فعل معصية، فيجب عليه أن يحنث، وأن يكفر عن يمينه.
والكفارة عباد الله تشتمل على أمرين:
الأمر الأول: تكفير بالمال، والأمر الثاني: تكفير بالبدن.
ويجب عليه أن يقدم التكفير بالمال، وهو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فهو مخير بين هذه الأمور الثلاثة، إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، وإن شاء كفر، فإن لم يستطع تلكم الأصناف الثلاثة فإنه ينتقل إلى التكفير بالبدن، وهو صيام ثلاثة أيام، وهذه المسألة مما يغلط فيها كثير من الناس، فيظنون أن كفارة اليمين، ابتداءً صيام ثلاثة أيام، وهذا غير صحيح، فصيام الثلاثة الأيام لا يجزئ إلا إذا كان فقيراً، لا يستطيع أن يطعم أو أن يكسو أو أن يحرر رقبة، وصيام الثلاثة الأيام لابد أن تكون متتابعة، قال الله عز وجل: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89].
عباد الله! والإطعام له صفتان؛ أما الصفة الأولى: فأن يصنع المسلم طعاماً ويدعو إليه عشرة مساكين، والصفة الثانية: أن يطعم عشرة مساكين تمليكاً لكل مسكين مداً من البر، أو مداً من الرز، وهو ما يساوي تقريباً كيلو من البر أو كيلو من الرز، وإذا كان يؤدم أهله -أي: يطعمهم بإدام- فعليه أن يؤدم المساكين.
عباد الله! ولا تجب الكفارة إلا إذا حنث المسلم وهو عالمٌ ذاكرٌ مختار، فلو أنه حنث، أي: فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله وهو ناسٍ أو جاهل أو مكره فإنه لا كفارة عليه.
عباد الله! ولا يجزئ إخراج القيمة في الكفارة؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرضها طعاماً، بل يجوز للمسلم أن يعطي القيمة لمن يشتري له طعاماً ويطعم المساكين، إذا كان لا يتمكن من ذلك، كما يوجد اليوم في الجمعيات الخيرية، والمستودعات الخيرية، فما عليك إلا أن تعطيهم القيمة وتبين لهم أنها كفارة يمين، وهم يتولون إخراج الطعام للفقراء.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! يحرم على المسلم أن يحلف بغير الله عز وجل، كالحلف بالأمانة، كأن يقول: والأمانة أو وأمانتي، أو أن يحلف بحياته، كقوله: وحياتي وحياة أبيك، فهذا كله من الشرك، كما في قوله سبحانه وتعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة:22]، وقد فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقول الرجل: وحياتي وحياتك، وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فقال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً، رواه البخاري.
ومن حلف بغير الله عز وجل فليقل: لا إله إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: واللات فليقل: لا إله إلا الله).
ومن الأيمان الفاجرة، وهي نوع من الأيمان الغموس، ما يحلفه بعض الناس كذباً لأكل أموال الناس بالباطل، كما يوجد عند التخاصم في القضايا في المحاكم، فإن هذا من كبائر الذنوب، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف على يمين يستحل بها مالاً وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان)، فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، فحري بالمسلم أن يتوب إلى الله عز وجل من هذه الأيمان الفاجرة.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره في تدميره، واجعل اللهم الدائرة عليه يا قوي يا عزيز، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وأن ترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.
اللهم فرج كرب المكروبين، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم الطف بهم، اللهم عجل لهم بالشفاء، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم فك أسرى المأسورين، اللهم ردهم إلى بلادهم سالمين غانمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر