اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد .
قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34] ، وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، وفي رواية لـمسلم : (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) ].
إذا عاهد المسلم إنساناً على شيء نفذ الذي عاهد عليه. وإنجاز الوعد أي: ينجز ويعجل ويفي بما وعد ولا يماطل، ولا يؤجل، والتنجيز عكس التأجيل، يقول: أنجز عمله سريعاً، فإذا وعد وعداً فقدر على أن ينجزه فلينفذ ما وعد به.
يقول الله سبحانه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34]، على المسلم أن يستحضر هذه المعاني العظيمة: الوفاء بالعهد، الوفاء بالبيعة، الوفاء بالعقود، ومعنى يفي: يعطي الشيء وافياً، فإذا وعد وعاهد أو عاقد على شيء، فليوف بهذا الشيء على النحو الذي عاهد عليه؛ لأن الله سيسأله سبحانه، قال سبحانه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34] أي: مسئولاً عن عهده الذي عاهد عليه، والسؤال يكون عند الله عز وجل.
والغرور في هذه الدنيا يجعل الإنسان لا يوفي، فيغره المال الذي أخذه، ولا يعطي للناس الحقوق الواجب عليه أن يعطيهم إياها، فينسى أن هذا المال الذي في يده قد يكون شؤماً ووبالاً عليه؛ لأنه أخذه من صاحب حق، ولم يعط صاحب الحق حقه.
فأصبح الناس لا أحد يأتمن أحداً، فالإنسان يريد أن يتزوج فيأتي أهل العروسة فيكتبون له قائمة؛ لأنهم لا يأتمنونك.
وكذلك في عقود بيع الشقق، تجد الشقة بيعت لأكثر من واحد! وكل إنسان تزين له نفسه الخيانة والتفريط والتضييع ويظن مع ذلك أنه محق.
أوفوا بالعهود وأوفوا بالعقود ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تخونوا فإنكم مبعوثون يوم القيامة والله سائلكم عن ذلك.
فإذا تعاهدت مع إنسان وقطعت يمين الله فيلزمك أن تفي بذلك، فالله سائلك عن ذلك.
قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وهذه أول آية في سورة المائدة، وسورة الإسراء وسورة النحل مكيتان، وسورة المائدة سورة مدنية، وكأن الله يؤكد عليك في القرآن المكي والقرآن المدني أن تحافظ على وعدك، وألا تضيع على أحد شيئاً قد أخذ عليك العهد به.
يقول الله عز وجل في سورة الصف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] ، لم تقول شيئاً لست تفعله؟ وتعطي الوعد بذلك وأنت تنوي ألا تفعل، أليس هذا من النفاق؟! ألست تستحق العقوبة في الدنيا وفي الآخرة، وأنت تخلف وعدك مع من أخذ عليك الوعد بذلك؟
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3] أي: كبر ذنباً يغضب الله سبحانه، وكبيرة يمقتها الله سبحانه، والمقت هو أشد الكراهة، فالله يمقت أن الإنسان يقول شيئاً ولا ينفذ هذا الشيء الذي أعطى العهود عليه .
ولو علم الإنسان أن كلامه من عمله وأن الله سائله عن كلامه وعن أعماله لخاف واستحيى من الله حق الحياء، فلا يخلف في العهد.
ومنهم من يقول: أعطني مالك أشغله لك، فيأخذ المال يشغله ولا تراه بعد ذلك فذهب المال على الرجل، وبعد أن كان عزيزاً والمال في يده صار ذليلاً يجري شمالاً ويميناً يبحث عن ماله.
فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى في كلامنا، وفي أموالنا، وأن نحرص على أن تكون من حلال من أجل أن تستجاب دعواتنا.
والمقصود بالنفاق في هذا الحديث نفاق العمل لا نفاق الاعتقاد، فإذا كان منافقاً نفاقاً عقدياً فهذا أشنع من ذلك، ولكن هذه الأعمال من نفاق العمل.
قوله: (وإذا اؤتمن خان) فيصرفها ويضيعها وصاحبها لا يلاقيها بعد ذلك، وكأن يؤتمن على الأسرار، فيفضح صاحب السر عند كل الناس، ويؤتمن على الفروج ويؤتمن على الأبضاع وعلى الأموال وعلى البيوت فلا أمانة عنده.
وفي رواية مسلم : (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)، فلو كان يستحل ذلك، وظن أنه حلال له أن يصنع ذلك فقد كفر ونافق نفاقاً أكبر يخرج صاحبه من الملة، وإذا كان يعتقد أن هذا حرام ولكنه يفعله كنوع من الشهوة والهوى، فهذا آثم واقع في مصيبة من المصائب، نسأل الله العفو والعافية، حتى وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
قال: (إذا اؤتمن خان) كأن يؤتمن على الأعراض والأموال وعلى الدماء ويؤتمن على الأسرار فيخون ذلك كله.
و(إذا حدث كذب)، صارت له طبيعة فأصبح لا يحلي كلامه إلا بالكذب، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الكذاب: (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، فلا تقع الخصومات في أي معاملة إلا وتجد الكاذب حاضراً، وكان أشد ما يعاقب عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهله إذا رأى منهم الكذب.
قال عليه الصلاة والسلام: (وإذا عاهد غدر) ، فإذا عاهد وأعطى العهد والميثاق غدر بمن أعطاهم ميثاقه.
(وإذا خاصم فجر)، الفجور في الخصومة.
وقد جاء في الحديث (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) فالإنسان يكذب في شيء، ومن ثم في شيء ثان، ومن ثم في شيء ثالث، ومن ثم يفجر، فيظهر الفجور عند الخصومة، فتجد الإنسان الأمين في كل أوقاته على السواء، في وقت الخصومة مع الناس يطلب الحق، لا يريد أكثر من الحق، ولا يغلف كلامه بكلام منمق معسل.
والإنسان الفاجر يبدأ بالاحتيال والمغالطة، وتجده إذا خاصم فجر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأهل الفجور وأهل الكذب هم أهل النفاق.
فاحذر من ذلك، وإذا وجدت نفسك تريد الفجور في الخصومة فتذكر أنك ستقف أمام الله، ولن ينطق عنك لسانك، ستنطق عليك يدك وفخذك، وأول ما ينطق على الإنسان فخذه يوم القيامة، والإنسان يقول: بعداً لكن فعنكن كنت أدافع.
إذا كان للناس عليك حقوق فأد الحقوق من غير جدل، لا تجادل؛ لأنك ستدفع الحق إن عاجلاً أو آجلاً، وإن لم يكن في الدنيا فيوم القيامة، ولا ترم الخصم بذنب من أجل أن تحسن منظرك أمام الناس وتقدح فيه وهو مظلوم فتظلمه بذلك ظلمين، ظلماً بأن شوهت سمعته، وظلماً بأن أكلت ماله، فعلينا أن نتقي الله سبحانه تبارك وتعالى، ونحذر من خصال النفاق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
فنفذ أبو بكر الصديق ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله.
ففيه أن أبا بكر راعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف في موعدة وعدها أحد قط صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر بذلك مقامه صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] ، لا يغير ما في الناس من نعمة حتى يتغير الناس من شكر النعمة وتنقلب أحوالهم، فإذا بهم يكفرون بالله سبحانه، ويشركون به، ولا يحمدونه على شيء، فالله يقلب عليهم الحال، تسخطوا فاستحقوا من الله أن يسخط عليهم وأن يحرمهم، وإذا كانوا من أهل الطاعة وهم مستمرون على الطاعة؛ فالرحمة تأتيهم من عند رب العالمين سبحانه، وإذا كانوا من أهل المعصية وهم يدعون الله: يا رب يا رب وهم على معصيتهم، فإن الله لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا تابوا إلى الله تاب الله عز وجل عليهم، وأعطاهم من فضله، فتغيير الحال بحسب ما يكون عليه قلب الإنسان أنه مستمر على باطله أم أنه أعرض عن الباطل ورجع إلى الحق .
وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92] يحذر الله المؤمنين أن يكونوا بهذه الصفة، والذي يوعد الوعد ومن ثم يخلف ولا ينفذ، أو يعقد العقد ومن ثم يتحلل منه ولا يعطيه شبهه الله بامرأة خرقاء حمقاء كانت في الجاهلية تغزل غزلها إلى أن تعمل منه ثوباً، ومن ثم تنقض هذا الثوب، ومن ثم ترجع تغزله مرة أخرى، ومن ثم تنقضه! أتكون مثلها كلما عقدت عقداً نقضته، وكلما عاهدت عهداً غدرت به؟!
فيقول لنا: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92] من بعد ما كنتم أقوياء بالإيمان فارقتم ذلك بالمعاصي ورجعتم القهقري! وأنكاثاً جمع نكث وهو الغزل المنقوض.
وقال الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] ، ألم يأت الوقت بعد؟ ألم تأت الساعة التي تتوبون فيها إلى الله عز وجل وتعرفون حق الله سبحانه وتعتذرون إليه تائبين إليه؟
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] ، فأهل الكتاب طال عليهم الأمد من قبل، رفع المسيح عليه الصلاة والسلام، وطال عليهم الزمن، فتركوا ما أتى وبدلوا وغيروا .
واليهود بعد أن قبض موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وطال عليهم الأمد فغيروا، بل في حياته غيروا، فعندما غاب عنهم أربعين ليلة واعده الله عز وجل فيها عبدوا إلهاً آخر! فقال: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] كلما بعد الإنسان عن الإيمان شيئاً فشيئاً يقسو قلبه، فإذا بالذي كان يعرفه معروفاً صار منكراً، وإذا بالذي كان يعرفه منكراً صار معروفاً، وما أكثر هذا في الناس! فتجد الشيء الخاطئ الذي كان يشمئز منه الإنسان أصبح من كثر ما اعتاد عليه سهلاً لا يعبأ به!
فعلى المسلم أن يعود نفسه على الخير، وعلى الصدق وإن كان الناس كذابين، ويعود نفسه على الوفاء حتى وإن كان الناس خائنين، وإن وقع الناس في الشرك والكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى لزم الحق، ورحم الله الفضيل بن عياض حين يقول: الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
الزم طريق الهدى، حتى وإن كان معك القليل من المؤمنين على هذا الطريق، واحذر طرق الضلالة والتي على رأس كل منها شيطان يأخذك إليها، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يرحمنا وأن يجعلنا نلاقي النبي صلى الله عليه وسلم بما يحبه منا .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر