قال تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28].
قوله: (فأحبط أعمالهم) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة.
فنلاحظ هنا في الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن للكافرين أعمالاً، وهذه الأعمال في الظاهر هي أعمال صالحة، وقد تكون أعمالاً صالحة عملها قبل الردة، فإنه يحبطها.
وهنا نقف وقفة مهمة جداً تتعلق بعمل الكافر.
شروط العمل الصالح المقبول
الآيات الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة ويجازى به في الدنيا
الأحاديث الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة وأنه يجازى به في الدنيا
شبهة مدح اليهود والنصارى بما عندهم من صفات حميدة
وهنا شبهة قد يذكرها بعض الناس، فيقول مثلاً: على المؤمنين من المسلمين والنصارى واليهود أن يجتمعوا ويتكتلوا؛ لمواجهة الملحدين مثلاً، وهذا يشيع للأسف الشديد على ألسنة عمائم كبيرة جداً ضخمة، فيقولون مثل هذا الكلام، وخاصة في مؤتمرات التقارب بين الأديان، فيستعملون مثل هذه العبارة الفظيعة، فيدخلون هؤلاء في وصف الإيمان، وبعضهم مثلاً يصف الكافر الفلاني بأنه مؤمن، ويعني: بأنه يؤمن بأن هناك إلهاً -الإيمان بتوحيد الربوبية-، فبعض الناس الجهلة يسمى هذا إيماناً، على هذا فـ
أبو جهل كان مؤمناً، و
أبو لهب كان مؤمناً، وكفار قريش كانوا مؤمنين، لأنهم كانوا مؤمنين بتوحيد الربوبية بنص القرآن قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فهؤلاء يجعلون أن الكافر هو الذي ينكر وجود الله، وهذا ليس بصحيح، بل عامة الكفرة حتى فرعون كانوا يؤمنون بأن هناك إلهاً، والدليل على هذا صريح في القرآن كما ذكرنا مراراً، بل لم يحك في القرآن عن طائفة أنها أنكرت وجود الله، بل حتى الدهرية لم ينكروا وجود الله، وإنما أنكروا البعث والنشور.
فوصف اليهود أو النصارى بأنهم مؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالله يعتبر هدماً للإسلام من أساسه؛ لأن هذا يضيع الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، فالدلالة واضحة من الآيات في القرآن الكريم والسنة على ذلك، قال تعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]،
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]، وكذلك تكفير القرآن الكريم لليهود وأمثالهم.
وقد يشتبه هذا الأمر على بعض الناس خاصة إذا فتنوا بما عليه الكفار من بعض السلوكيات التي ضيعها بعض المسلمين للأسف، وهذا يحصل لكثير من الناس الذين يخالطونهم ويعاشرونهم، فيطلق بعضهم لسانه في ذم المسلمين، ويطلق لسانه أيضاً في مدح الكفار قائلاً: وهؤلاء عندهم عدل! هؤلاء عندهم إنصاف!! حتى أن بعض الملوثين الذين ذهبوا إلى عصابة اليهود في فلسطين المغتصبة يرجع ويتكلم بهذا الكلام كما نشر في بعض الجرائد، ويقول: إن اليهود لم يمسوا حقي، ولم يتعرضوا لي.. إلى آخر هذا الكلام.
وبغض النظر عن السر وراء هذه السلوكيات الموجودة عند الكفار خاصة في أوروبا أو أمريكا أو البلاد الغربية، وأنها سلوكيات تجارية في الحقيقة ليست مبنية على مراقبة الله, وفي نفس الوقت يريدون أن يتعاونوا ويريح كل واحد الآخر؛ حتى يستطيع أن يتمتع بالحياة بصورة مستوفاة جيدة، لكن انظر إلى أخلاقهم حينما يأتون إلى بلادنا فكم عذبوا، وكم أحرقوا، وكم قتلوا، وكم نهبوا! وإلى اليوم ونحن نراهم في البوسنة والهرسك على نفس الأخلاق، وتراهم الآن في العراق وفي غيرها وحوشاً كاسرة يدمون قلوب الشعوب، ويستذلونهم استذلالاً لا مثيل له، وليست هذه الآن قضيتنا، لكن كيف نزن الأمور؟ فبعض الناس يقول لك: أنا أشتري من الكافر هذا؛ لأنه أمين، ولأنه كذا وكذا..، ويفتن بالكافر ويطلق لسانه في ذم المسلم، فهذا خلل شديد جداً في فهم مثل هذا الإنسان؛ فالمشركون قد يتلبسون ببعض شعب الإيمان، والمسلم قد يأتي ببعض شعب الكفر، أي: أنه من الممكن أن نجد مثلاً بعض الكفار أميناً، وصادقاً، يحترم مواعيده.. إلى آخره، ومن الممكن أن نجد مسلماً يفعل عكس ذلك، فقد يتلبس المسلم ببعض شعب الكفر لكنه يبقى مسلماً، وقد يتلبس الكافر ببعض شعب الإيمان لكنه يبقى كافراً، فالكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، والإيمان أصل له شعب متعددة، وأعلى شعبة من شعب الإيمان هي: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ثم بينهما شعب متفاوتة في أهميتها وخطورتها، وهناك بعض الشعب إذا زالت زال الإيمان بالكلية، فمن شعب الإيمان ما يزول بزوالها الإيمان بالكلية، كشعبة لا إله إلا الله، فمثلاً شخص عنده شعب كثيرة من شعب الإيمان، لكن شعبة: لا إله إلا الله ليست موجودة عنده، فكل الذي يعمله حابط في الآخرة ولا ينفعه؛ لأن هذه الشعب بينها علاقة الشرط بالمشروط، فتكون شرطاً في صحة باقي الشعب، ومن شعب الإيمان ما لا يزول الإيمان بزوالها، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب.
وكذلك الكفر أصل له شعب، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفراً، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً، ولا من معرفة بعض مسائل الفقه أو الطب أن يسمى فقيهاً وطبيباً، إذ لا يلزم الاسم إلا بغلبة ذلك عليه، وإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من شعب الإيمان فهذا الإيمان ينفعه في عدم الخلود في النار، لكن هل ينفعه في عدم دخول النار؟! لا، فقد يسلم، وقد يدخل النار لكن لا يخلد فيها، إذاً: فالتوحيد ينجي من الخلود في النار لا من دخول النار، وأوضح ذلك حديث الشفاعة، فالشفاعة تكون في أهل الكبائر من أمة النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من الإيمان فذلك الإيمان ينفقه، لكن لا نقول ينفعه في عدم دخول النار، ولكن في عدم الخلود في النار، إلا إذا كان الفعل المتروك شرطاً في صحة شعب الإيمان الأخرى، فإذا كان المتروك شرطاً في اعتبار الباقي لم ينفعه، ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه قد قال: لا إله إلا الله، لكن لم يشهد أن محمداً رسول الله، فلا ينفعه ذلك.
لذلك إذا قلنا: إن أعلاها لا إله إلا الله فنضيف معها: وأن محمداً رسول الله، ولا تنفع الصلاة من صلاها عمداً بغير وضوء؛ لأن هناك شعبة قبل شعبة الصلاة هي شرط في صحة الصلاة، وهي شعبة الطهارة والوضوء، فشعبة الطهارة شرط في شعبة الصلاة، فمن صلى دون أن يأتي بهذا الشرط بطل يبطل هذا المشروط.
إذاً: شعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق الشرط بمشروطه.
وكذلك كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله شرط في صحة باقي شعب الإيمان، فمن الجور والجهل والعدوان أن يفضل الكافر الذي افتقد شعبة لا إله إلا الله على المؤمن العاصي الذي معه لا إله إلا الله، فمن جهل الشخص أن يمدح النصراني؛ لأن كل همه هي الدنيا، فما دام أنه يُعطيه الفلوس ويُريحه في البيع والشراء فإنه يمدحه، ويطلق لسانه بالقصائد في مدح الكفار وذم المسلمين، فقد ترك حق الله ونظر في حق نفسه، فيقول: هؤلاء الكفار عندما أذهب إليهم يعاملوني معاملة فيها عدل، وإنما الظلم موجود عند المسلمين.. إلى آخره، فيقال له: فهم ليس عندهم أحياناً الظلم الموجود عند المسلمين؟! بل عندهم أكبر وأفظع ظلم في الوجود وهو الشرك، قال تعالى:
يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فقد نسي حق الله وبحث عن حق دنياه، فهذا مما نحتاج فيه إلى أن نستعيد الوعي بهويتنا وعقيدتنا وبما أعزنا الله به وشرفنا على العالمين قال تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فبعض الناس يتعامل مع هؤلاء الكفار على أنهم أناس فوق العالم، فيعظمهم ويبجلهم ويحترمهم أشد الاحترام.
الأشياء التي تحبط أعمال العبد
نعود إلى تفسير قوله تبارك وتعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، لنبين بعض ما يحبط أعمال المؤمن، حتى نكون على حذر من هذا الخطر العظيم.
صح عن
أبي عامر الألهاني رضي الله تعالى عنه واسمه
عبد الله بن غابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان : يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
فعلى الإنسان أن يحذر أن يأتي بهذا الفعل، وهو عدم مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر.
وقال عليه الصلاة والسلام: (
إن العبد لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب) كما في بعض الروايات.
قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهراًً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره -يعني: تكفير السيئات-، ولا مبطل يحبطه من عُجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يمنّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه من يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟!
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحفظ، وليس الشأن في العمل، وإنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فقد يعمل الإنسان العمل الصالح ثم يحبطه بعد ذلك، فليس الشأن فقط في أن تعمل العمل الصالح، لكن المهم جداً أن تحفظ هذا العمل مما أحبطه.
يقول
ابن القيم رحمه الله تعالى: فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصى، يقول الله تعالى: (
من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال الله سبحانه وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264].
وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض، وهذه ليست ردة، وإنما هي معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فالآية تنهى الإنسان إذا خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرفع صوته فوق صوت النبي؛ أن رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام يحبط العمل، فقد يغضب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فيغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحبط عمل من أغضبه.
فما الظن بمن قدّم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (
من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، ومن هذا قول
عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لـ
زيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعينة، قالت: (إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) وليس التبايع بالعينة ردة، فغايته أن يكون معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذر.
وهنا نقف وقفة هنا يسيرة مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (
من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، فهذا الحديث استدل به من يقول بتكفير المسلم بالمعصية كالخوارج الوعيدية، وقالوا: هو نظير قوله تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، فقال
ابن عبد البر : مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله.
إذاً: فهناك تعارض بين مفهوم الآية وبين منطوق الحديث، فمفهومها الآية: أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، أي: أن المؤمن لا يحبط عمله، في حين أن الحديث يقول: (
من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) إذاً: فالتعارض هنا بين مفهوم الآية ومنطوق الحديث، فلابد من تأويل الحديث في هذا الحالة؛ لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح، وتمسك بظاهر الحديث الحنابلة ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر، ويرد على ذلك: بأنه لو كان الأمر على ما ذهبوا عليه لما اختصت العصر بذلك، فأما الجمهور فتأولوا الحديث على عدة تأولات: فمنهم من أول الترك في قوله: (من ترك صلاة العصر)، ومنهم من أول الإحباط في قوله: (فقط حبط عمله)، ومنهم من أول العمل، فالذين أولوا ترك صلاة العصر قالوا: من تركها جاحداً، أي: من ترك صلاة العصر جاحداً فقد حبط عمله، فإذا قال رجل: أنا لا أوافق على أن صلاة العصر فريضة، فالفرائض أربع صلوات فيكون قد جحد وجوبها، فهذا لاشك أنه يخرج من الملة فيحبط عمله؛ لأنه داخل فيمن كفر بالإيمان قال تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5].
إذاً: من أول سبب الترك قال: المراد به من تركها جاحداً لوجوبها، أو معترفاً أنها واجبة لكنه مستخف مستهزئ بمن أقامها.
وقيل المراد: من تركها متكاسلاً، لكن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهذا القول رجحه
ابن حجر رحمه الله تعالى؛ لأن الترك يطلق أحياناً على الجحود، فقوله: (من ترك صلاة العصر) يعني: من جحد.
ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة يوسف:
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف:37] أي: إني جحدت.
ومن العلماء من أول معنى قوله عليه السلام: (فقد حبط عمله)، فقال: إنه من مجاز التشبيه، أي: من ترك صلاة العصر فقد أشبه من حبط عمله، وقيل: معناه كاد أن يحبط عمله، وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي: لا يحصل على أجر من صلى العصر، ولا يرتفع له عملها حينئذ.
ومنهم من أول العمل: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) أي: عمل الدنيا الذي بسببه اشتغل وترك صلاة العصر.
وقال الإمام القاضي
أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إن الحبط في الآية غير الحبط في الحديث، فالآية:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وإحباط عمل الكافر غير إحباط عمل المسلم، فيقول القاضي
أبو بكر بن العربي : إن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث.
قال في شرح
الترمذي : الحبط على قسمين: حبط إسقاط وحبط موازنة، فحبط الإسقاط: هو إحباط الكفر بالإيمان وجميع الحسنات، فهذا المقصود بالآية:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] فيحبط كل عمل ويضيع.
وأما حبط الموازنة: فهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة، فيرجع إليه جزاء حسناته، بمعنى: أن المعصية التي فعلها وهي ترك صلاة العصر تحبط انتفاعه بها لو كان فعلها في وقت هو أشد ما يكون حاجة إلى أجرها؛ وذلك عند ميزان الحسنات والسيئات، فحينئذ سيتعطل ثواب صلاة العصر التي ضيعها في وقت هو أشد حاجة إليها عند ميزان الأعمال، فهذا هو حبط الموازنة.
قال الإمام
البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
قال الإمام الحافظ
ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: قوله خوف المؤمن من أن يحبط عمله يعني: أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، وبهذا التقدير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات، فهناك فرقة ضالة تسمى الإحباطية، يقولون: إن السيئات تبطل الحسنات! فبعض الناس قالوا: إن الإمام
البخاري يؤيد هذا المذهب، فقال الإمام
الحافظ : لا، فكلامه إذا فهمناه على حقيقته لا يفيد ولا يؤيد مذهب الإحباطية؛ لأن المقصود خوفه من أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص لله سبحانه وتعالى فيه.
قال القاضي
أبو بكر بن العربي في الرد على الإحباطية: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان:
أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين فيكون إذهاباً حقيقياً.
أي: كالكافر إذا أسلم، فإن إسلامه وإيمانه يُحبط الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: (
الإسلام يجب ما قبله)، ولو كان مسلماً ثم كفر -والعياذ بالله- وارتد فإن الكفر يحبط إيمانه أيضاً، وهذا الإحباط إذهاب حقيقي في الجهتين.
النوع الثاني من الإحباط: إحباط الموازنة، فإذا جُعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة، فإما أن يُغفر له، وإما أن يعذب، فالتوقف إلى أن يحكم فيه هذا توقيف وإحباط من نوع معين؛ لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي
الأحوال التي تحبط فيها الأعمال الصالحة