إسلام ويب

أطفال صنعوا أمجاداًللشيخ : عمر بن عبد الله بن محمد المقبل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من أهم أسباب الهزيمة النفسية ومن أهم العوائق التي تعيق عن تربية الأبناء: اليأس الذي يؤدي إلى ترك الحبل للأبناء على الغارب. فتجد البعض يقول: نحن في زمن الفضائيات والدشوش، والآخر يقول: نحن في عصر الإنترنت .. إلخ، والحقيقة أن المربي قادر بعون الله على تربية الأولاد وذلك بأمور، منها: تنمية قدراتهم العقلية .. إعطاؤهم القدوة الصالحة الحسنة ليقتدوا بها .. وغيرها. ثم تعليمهم كيفية صنع القرار وتصحيح الأخطاء ومنح الثقة لهم. وبالتالي سنجد نماذج فذة يسطرها التاريخ كما سطر نماذج الأفذاذ من قبل.

    1.   

    اليأس وخطره على تربية الأبناء

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على معلم الناس الخير، ومخرجهم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فيا أيها الأحبة الكرام: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المجلس المبارك مجلس خير وبركة.

    أيها الإخوة الكرام: لا يكاد يخلو مجلس من مجالس الآباء -الذين يأكل الهم قلوبهم على مستقبل أولادهم- من الحديث عن هم تربيتهم، وما السبل إلى هدايتهم؟ وما الطرق التي يتعامل بها الأب مع أولاده؟ خاصة في ظل الظروف الحالية العالمية التي ألقت بظلها على المجتمعات في أمور كثيرة منها هذا الموضوع، ألا وهو: موضوع تربية الأولاد.

    وهذا والله جميل، ويسر النفس، ويبهج القلب؛ ولكن من اللافت للنظر أن كثيراً من الآباء بل أكثرهم يتحدث بنبرة اليأس، ودعني أيها الأخ المبارك أنقل لك صورة من هذه المجالس التي قُدِّر لي حضورُها.

    ففي ليلة من الليالي جمعني مجلس حوى لفيفاً من الآباء من مختلف الأعمار، فمنهم من هو في طبقة الأجداد، ومنهم من لم يزل بعدُ أباً لطفل أو طفلين، ومنهم من هو بين ذلك، ولقد كان هم تربية الأولاد عموماً والأطفال خصوصاً الموضوع الذي استغرق أكثر وقت المجلس، والعجيب أن حاضري ذلك المجلس يكادون يجمعون على الحديث بنبرة اليأس من الصلاح أو الإصلاح؛ إلا أن تأتي هبة ربانية من السماء تأذن بهداية من لم يهتد منهم! أما أن تجدي فيهم أساليب التربية النافعة فهذا عند كثير من حاضري ذلك المجلس بعيد، وما السبب يا ترى؟

    إنه -في نظرهم- بسبب وجود هذا الزخم الكبير من الصوارف والملهيات.

    فقلت في نفسي: سبحان الله! إن الأب الذي يعيش بهذه النفسية، وذلك الشعور يحتاج هو أولاً إلى إصلاح نظرته إلى موضوع خطير كهذا؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكان يدور في خلدي أثناء ذلك الحديث نماذج عظيمة سطرها التاريخ لأطفال صنعوا أمجاداً.

    نعم صنعوا أمجاداً لأمتهم مع صغر سنهم، وتذكرت بعض ما مر بي في سير بعض الأعلام من أئمتنا رحمة الله عليهم جميعاً، وأن بعضهم حفظ القرآن قبل البلوغ، وبعضهم قبل العاشرة، وبعضهم كان يستميت في الدخول في المعارك وهو قريب من الاحتلام أو لَمَّا يناهزه بعد، فكنت أتساءل: هل ستخرج الأرحام من أمثالهم، أو أنهم تاريخ قرئ ولن يرى بعد ذلك؟

    فجاء الجواب رأي العين، فشاهدت -كغيري- نماذج لأطفال تقر بهم العين، وتسر بهم النفس، كما سأذكر أخبار بعضهم بعد قليل إن شاء الله تعالى.

    ولكن كيف نساهم -أيها الإخوة، وهذا هو السؤال المهم- في إخراج جيل من هؤلاء الأطفال الذين صنعوا أمجاداً وهم صغار؟!

    هذا ما سأحاول أن أجيب عنه من خلال الكلمات الآتية، مع اعترافي بالعجز عن الإحاطة بموضوع كهذا؛ لكنها مفاتيح، والله الموفق والهادي إلى كل خير.

    واسمحوا لي -أيها الإخوة- قبل ذلك أن أقول: إن نبرة اليأس عند المربي يجب أن تختفي من لسانه ومن قلبه أيضاً، نعم! ويحق لكل ولي أمر أن ينتابه شعور بالخوف على أولاده في هذا الزمان؛ ولكن لا يصح أبداً أن يكون هذا الشعور سبباً في اليأس، ومن ثم التقاعس عن تربيتهم، أو التقصير في رعايتهم، وعليه أن يعمل ثم يرجو، صحيحٌ أن الهداية بيد الله؛ ولكن مع إيماننا بهذا فإننا أيضاً مأمورون بفعل الأسباب، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

    والواقع والتاريخ كلاهما يشهد أنه قلَّ ما اجتهد إنسان فلم يجد ثمرة اجتهاده.

    لماذا معاشر الأحبة لا نئوب إلى الفأل الذي كان خير الخلق صلى الله عليه وسلم يحبه؟!

    ولماذا لا ننظر بمنظار الأمل المشرق لأبنائنا؟!

    ولماذا لا نفترض -بفضل الله تعالى، ثم مع فعل الأسباب- أن يكون ابني وابنك ممن يكتب الله تعالى على أيديهم نصراً وعزاً للإسلام وأهله؟!

    إن الكأس الذي ملئ نصفه بالماء يمكن أن نقول عنه: إن نصفه فارغ، وإذا أردنا أن ننظر إليه نظرة أكثر تفاؤلاً قلنا: إن نصف الكأس مملوء.

    إن شحذ الهمم، وإزالة مرض اليأس الذي خيَّم على قلوب كثير من أولياء أمور الأطفال بشأن القلق عليهم في هذا الزمن المليء بالفتن أمر مهم جداً، بل هو ضروري ليُقْلَب هذا اليأس إلى أمل مشرق يتبعه عمل، وصناعة جادة لهذه الفئة المهمة.

    أيها المربي الفاضل: إن نظرة الفأل في عملية التربية مع بذل الأسباب كفيلة بإذن الله تعالى بأن تجعل من تربيتك لأولادك متعة ولذة، وسترى بحول الله تعالى من هذه الفئة -أعني فئة الأطفال- ما يسرك.

    فهذه الفئة تملك إمكانات عجيبة، ولدى الكثير منها إدراك وذكاء لا يخطر على بال بعض المربين، بل على بال كثير منهم، والأمثلة على هذا كثيرة في الماضي والحاضر كما سيأتي.

    يقول الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى: لا يدري كثير من الناس أن الطفل واحد من رجال الأمة -وتأمَّل هذه الكلمة!- إلا أنه مستتر بثياب الصبا، فلو كُشِف لنا عنه وهو كامن تحتها لرأيناه واقفاً في مصاف الرجال القوَّامين؛ لكن جرت سنة الله ألا يتفق زوال تلك الأستار إلا بالتربية شيئاً فشيئاً، ولا تؤخذ إلا بالسياسات الجيدة على وجه من التدرج. انتهى كلامه رحمه الله.

    1.   

    قصة تدل على ما يملكه الأطفال من قدرات عجيبة

    اسمحوا لي -أيها الأحبة- أن أستبق الأحداث فأذكر هذه القصة التي تؤكد ما ذكرتُه آنفاً، وهي من أغرب الأمثلة التي سمعتها، وهي تدل على ما يملكه بعض الأطفال من قدرات عجيبة على التأثير في مجتمعاتهم، بل وعلى كبار رجالات بلادهم.

    تلك القصة تتمثل في أن طفلاً فرنسياً عمره اثنا عشر عاماً، قام بقيادة حملة من الحملات الصليبية ضد المسلمين، واستطاع أن يسيِّر خلفه ثلاثين ألف طفل من فرنسا وألمانيا ومن باقي دول أوروبا ؛ ولكن كيف تم له ذلك؟!

    لقد قام هذا الطفل بافتعال قصة راجت على أساطين ورهبان الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا ، فأخبرهم بأنه جاءته رسالة من المسيح عليه الصلاة والسلام تأمره بقيادة حملة من الحملات إلى الشام حيث بيت المقدس، من أجل استرداده من المسلمين، وذلك في السنة (السابعة بعد الستمائة)، هذا الطفل الذي أقنع، بل ضحك على دهاقنة النصارى، وأقنعهم بضرورة تسيير حملة يقودها الأطفال رغم صغر سنهم، وبالفعل نجح؛ ولكن بمقاييس النصارى، فهبت الكنيسة التي كانت تتعلق على مثل هذه الأوهام لتسخِّر كل إمكاناتها لتنفيذ تلك الرسالة المزعومة.

    وبالفعل هيأت لهم الكنيسة سفناً تقلهم؛ ولكن كيف انتهت قصة هؤلاء الأطفال؟!

    لقد انتهت نهاية مأساوية بالنسبة لهم، حيث انتهت ببيعهم رقيقاً في تونس.

    إنني حين أذكر هذه القصة الغريبة -أيها الإخوة، بغض النظر عن كونهم أطفالاً كفاراً، وعن كونهم أرادوا بهذه الحملة حرب المسلمين- أذكرها ليتبين قدرة هذه الفئة على العمل، وتنفيذ ما قد يعجز عنه بعض كبار الأجسام، وحسبك أن تنظر نظرة المتأمل لواقع مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فستجد هذا الأمر واضحاً جلياً، وإلا فماذا يعني أن يتنافس الصغار من أبنائهم على الدخول إلى المعارك التي يعلمون أن فيها إطاحة بالرءوس، وإزهاقاً للأنفس؟!

    معشر المربين: إن من المفاهيم الراسخة عند بعض الناس أن خدمة الدين والعمل له إنما يقوم بها طبقة معينة، مَن هم؟

    إنهم المشايخ، وطلبة العلم، وهذا بلا ريب مفهوم خاطئ يجب أن يصحح، نعم، الأطفال ليسوا مكلفين؛ ولكن ليس في الشرع ما يمنع من تسخيرهم لخدمة دينهم، بل فيه ما يحث على ذلك.

    فلماذا معشر الإخوة لا نهيئهم ونربيهم على تحمل الأمانة ما داموا صغاراً، حتى إذا ما كبروا كانوا أهلاً لتحملها على أكمل وجه ممكن؟!

    لماذا -أيها الأحبة الكرام- لا نزيل من أذهاننا أن هذه الفئة لا يمكن الاستفادة منها في خدمة الأمة إلا إذا كبرت، وتجاوزت مرحلة البلوغ، وربما تجاوزت مرحلة العشرين بل والثلاثين عند بعض الناس؟!

    إن تاريخنا والواقع المشاهَد -أيضاً- يؤكدان أن هذه الفئة قادرة على صنع مجد، لا، بل على صنع أمجاد للإسلام، كيف لا وهي فئة مملوءة طاقة وحيوية؟! وتاج ذلك كله خصلة البراءة، وسلامة القلوب التي هي من أعظم المعوقات للعمل الدعوي.

    إن المربي الحاذق يستطيع بفضل الله ورحمته أن ينشئ الطفل على معالي الأمور، وعلى رأسها: حب الله ورسوله، وطاعتهما، وتربيته على مراقبة الله والخوف منه، ويربيه -أيضاً- بأفعاله هو بصفته والداً يرى فيه ابنه الأمل، وأن ما يفعله أبوه هو الصواب، وأن ما ينهى عنه هو الخطأ، ويربيه أيضاً بإبراز القدوات الشرعية السابقة والحاضرة قبل أن تنفتح عينه على نجوم مزعومين وأبطال منسوجين.

    ومن أهم ما يربى عليه الطفل أيضاً: الشعور بهمَّ الإسلام، والحرقة على واقع ومستقبل الأمة.

    وكل ذلك بأسلوب يناسب سنه ومستواه وإدراكه، فإن هذا كفيل بأن يولِّد في نفسه شعوراً، بل مشاعر عظيمة يرجى أن تؤتي ثمارها بإذن الله تعالى، وسنقف بعد قليل إن شاء الله على شيء من أثر التربية على هذا الخُلُق في صناعة الأمجاد.

    أيها المربون: أيها الآباء الفضلاء! ثقوا تماماً أن الأمة إن لم تتولَّ إصلاح نشئها وشأنها بنفسها فلن تُصلحها أمة أخرى والله مهما حسنت نيتها، ومهما نبل مقصدها، والصلاح إن لم ينبت في تربة الأمة نفسها، ويزهر في جوها؛ فلا ينفعها ولا يجدي عليها، ويكون مثل الشجرة التي تنقل من مغرسها إلى مغرس آخر، فهي تزهر فيه أياماً قلائل، ثم لا تلبث أن تذبل وتذوب.

    معشر الأحبة: إن العجب لا ينقضي من أناس يريدون أن ينقلوا لنا ولأطفالنا طرق التربية الغربية أو الشرقية بعُجَرها وبُجَرها، من غير تمييز بين نافع وضار، وكأن ديننا -عند هؤلاء- وآدابنا وأخلاقنا عاجزة عن إثراء هذا الجانب العظيم والمهم.

    أين هؤلاء من رد سلمان رضي الله عنه وأرضاه على ذلك اليهودي الذي قال له كما في صحيح مسلم ، قال له اليهودي: (علمكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الخراءة؟! قال: أجل! نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ...) الحديث؟!

    وأين هؤلاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، وصححه ابن حبان قال: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتقلب في السماء طير إلا ذكر لنا منه علماً)؟!

    إن من المؤسف حقاً أن كثيراً من بلاد الغرب الكافر اهتم بهذه الفئة واعتنى بها -وللأسف- أكثر من بلاد المسلمين، خاصة أولئك الذين ظهرت عليهم أمارات النجابة، فأنشأت منذ زمن طويل معاهد لرعاية الموهوبين والاهتمام بهم، وتطوير مهاراتهم.

    والسؤال: لماذا قصر كثير من المسلمين في هذا الجانب؟! وهل عقمت أرحام المسلمات عن إنجاب أطفال موهوبين، نوابغ أذكياء، يكتب الله على أيديهم نصراً وعزاً للأمة؟!

    كلا؛ ولكن أين من يعتني بهم؟! وأين من يتولى شئونهم سواء على المستوى الفردي، أم على المستوى المؤسسي؟!

    إن في الساحة جهداً؛ لكن المؤمَّل والمطلوب أكثر بكثير من ذلك.

    أيها الإخوة الكرام: هل لهؤلاء الأطفال أمجاد حتى يُتَحَدَّث عنها؟

    والجواب: نعم؛ ولكن ما هي هذه الأمجاد؟

    إنني أعني بهذه الأمجاد كل عمل يخدم به الطفل الإسلام مهما كان ذلك في أعيينا صغيراً؛ لأن العمل من هؤلاء الصغار كبير، ولأن الجهد القليل منهم في خدمة الدين كثير، ويكفينا مكسباً -أيها الإخوة- أن يعيش الطفل منذ نعومة أظفاره وهو يحمل هم دينه وإخوانه المسلمين، فهذا والله مجد بحد ذاته، خاصة في هذا الوقت الذي قصَّر فيه كثير من المسلمين ممن هم في سن الشباب والكهولة في البذل لدينهم، بل صار بعضهم يبذل لدنياه وشهواته أكثر من بذله لأخراه التي سيُفْضي إليها ولابد.

    1.   

    نماذج لأطفال صنعوا لأمتهم الأمجاد

    أيها الإخوة: إن ما سأذكره من أخبار الأطفال الذين صنعوا أمجاداً، ما هو إلا نزر يسير في جانب ما حوته كتب السنة والأخبار والسير، ولقد حرصت على ذكر نماذج متنوعة، وفي أزمنة متفاوتة؛ ليتبين لنا أن الأطفال الذين يمكنهم أن يصنعوا أمجاداً لأمتهم موجودون في كل مجتمع، وفي كل زمان؛ ولكنهم يحتاجون إلى من يكتشفهم، ويرعى مواهبهم، ويضعهم في المكانة التي تليق بهم.

    قصة الغلام المؤمن

    النموذج الأول: لطفل مؤمن موحد عاش قبل الإسلام :-

    في قصته عبرة وعظة، هذه القصة ليست من نسج الخيال، ولا من أحاديث القصاص التي تُزْجَى بها الأوقات، بل هي قصة حدَّث بها أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم، حدث بها أصحابَه، ونقلها أصحابُه رضي الله عنهم للأمة، وحسبك من هذه القصة أهمية أن تكون من مشكاة النبوة.

    ولقد رواها الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً -والغلام في اللغة يطلق على الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم- أعلمه السحر. فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه -إذا سلك- راهبٌ، فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.

    فبينما هو كذلك -أي: الغلام- إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها، فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَي! أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبْتَلى، فإن ابتُلِيْتَ فلا تدل علي.

    وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع به جليسٌ للملك كان قد عَمِي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال -أي: الغلام-: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن أنت آمنت بالله دعوتُ الله فشفاك. فآمن بالله، فشفاه الله.

    فأتى الملك -أي: أن هذا الرجل الأعمى عاد إلى مجلسه عند الملك- فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟! قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام.

    فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله. فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب.

    فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدعا بالمنشار، فوُضِع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه.

    ثم جيء بجليس الملك -يعني: الرجل الأعمى الذي شفاه الله- فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فوُضِع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه.

    ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به، فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.

    فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به، فاحملوه في قرقور -يعني: في سفينة- فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.

    فقال للملك: إنك لست بقاتلي -تأمل هذه الكلمة!- حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خُذْ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.

    فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأُتِيَ الملكُ فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟! قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخُدَّت، وأضرم النيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه فأحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيه، فقال لها الغلام -والغلام هنا: طفل رضيع- يا أُمَّه! اصبري! فأنكِ على الحق) انتهى الحديث.

    إن في هذه القصة -أيها الأحبة الكرام- فوائد وعبراً، لو توقف المتوقف عندها لاستغرقت وقتاً كثيراً؛ ولكن حسبنا أن نقف هنا عند الشاهد الذي لأجله أُوْرِدَ هذا الحديث.

    هذا الغلام -أيها الإخوة الكرام- عاش في بيئة مليئة بالشرك والطغيان، الذي تمثل في استعباد ذلك الملك لعباد الله، وإرغامهم على عبادته، حتى إنه استغرب كلامَ الأعمى الذي آمن حينما قال له الملك: (من رد عليك بصرك؟! فقال: ربي. فقال له الملك: ولك رب غيري؟!)، ومع هذا كله يريد الله عز وجل لهذا الطفل الصغير خيراً، فيهيئ الله له ذلك الراهب الموحد، المستتر بدينه ليربيه على التوحيد، وعلى التعلق بالله عز وجل، وقطع الخوف من البشر مهما كان طغيانهم، فماذا أثمرت هذه التربية أيها الإخوة؟

    لقد أثمرت وأينعت وطابت ثمارها، لقد أنقذ الله بهذا الطفل أمة كاملة من الناس، وأخرجهم الله سبحانه وتعالى بسببه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

    فتأمل أولاً -يا رعاك الله-: كيف لجأ هذا الطفل إلى الله سبحانه وتعالى في طلب الحق حينما عرضت الدابة في طريق الناس: فالغلام في أول أمره كان في حيرة بسبب التعتيم الرهيب على دعوة الحق الذي فرضه ذلك الملك الظالم، الذي نازع رب العالمين في أخص صفاته؛ في ربوبيته جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهل هذا العمل -أيها الإخوة- من هذا الغلام في التجائه إلى الله عز وجل عند اشتباه الأمور إلا دليل على وفور عقله؟!

    ثم تأمل ثانياً كيف أن هذا الغلام رغم أنه هُدِّد معنوياً قبل أن يهدَّد حسياً : وذلك بقتل الراهب والرجل الأعمى قَبْله شر قتلة، تأمل كيف لم يتزعزع طرفة عين رغم صغر سنه، فيا سبحان الله!

    ثم يُتْبَع هذا التهديد المعنوي بتهديد حسي، وذلك بدفعه إلى أعوان الملك ليُلْقُوه من أعلى الجبل، فتفشل المحاولة، ثم لإلقائه في لجة البحر، فتفشل أيضاً، لماذا؟

    والجواب: لأن هذا الغلام طلب الكفاية من الله عز وجل، فكفاه الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه.

    فيعود الغلام سالماً منتصراً بعد أن أهلك الله أعوان ذلك الملك، وليس هذا فحسب، بل بلغ الأمر به إلى ما هو أعجب وأعظم! حينما عرض نفسه على الملك، وأخبره بالطريقة المناسبة لقتله، والتخلص منه، فيا سبحان الله! أي ثبات هذا؟! وأي قوة قلب هذه؟!

    إنها آثار التوحيد، وآثار الإيمان، والتربية الصالحة، يضحي هذا الطفل بنفسه، ويعرضها للموت رغم حب البشر، بل كل الكائنات للحياة؛ لكن لماذا؟

    لتبقى دعوته؛ دعوة التوحيد، ولتبقى قصته مع هذا الملك الظالم رسالةً إلى جميع أفراد المجتمع وغيرهم، الذين أرهقهم طغيان ذلك الملك الذي نازع رب العالمين في ربوبيته، وأن يوقن كل واحد تصل إليه هذه الرسالة أن الأمر كله لله، وأن رضاكم أيها المجتمع بالاستعباد لهذا الملك الظالم لا يقدِّم أجلاً ولا يدفع رزقاً، وأن الأمر كله لله، هو الذي بيده النفع والضر، والآجال بيده، والأرزاق بيده، وأن هذا بشر مثلكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن غيره.

    وبالفعل لم تتأخر هذه الرسالة، فبمجرد قتله ظهر مفعولها، فقال الناس جميعاً بصوت واحد: (آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام).

    الله أكبر أيها الإخوة! إنه لموقف عظيم، والله لو صدر من رجل كبير لكان موقفاً يستحق الثناء والإعجاب، فكيف وهو يصدر من طفل صغير لم يبلغ الحلم بعد؟!

    فأين أمجادكم؟! وأين أفعالكم معشر البالغين؟!

    حقاً! إن هذا الغلام أقام مجداً تليداً، وعمل عملاً عظيماً، ولهذه العبرة ولغيرها من العبر العظيمة حدَّث به النبي صلى الله عليه وسلم.

    وما من شك أنه لم يحدِّث به من أجل التسلية، أو لمجرد إضافة معلومات تاريخية للصحابة رضي الله عنهم، أو مَن يأتي بعدهم من الأمة، كلا، بل إنما حدَّث بها النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ العبرة والعظة.

    ومن دروس هذه القصة أيضاً: أثر المعلم الصالح، والمربي القدوة في صناعة تلاميذه وإعدادهم لمواجهة الحياة، وتحمل شيء من أعباء الدعوة إلى الله عز وجل، حتى ولو كان التلميذ من حوله يعيش ألواناً من الفساد، وهل بعد الكفر ذنب.

    إن هذا الغلام -فيما يغلب على الظن- كان يعيش في أسرة حالها كحال سائر الناس في الاستسلام لطغيان ذلك الملك الجبار؛ لكن الراهب -بفضل الله تعالى- استطاع أن ينتشل هذا الغلام الذي انتشل هو الآخر أمة بأكملها من الكفر إلى الإيمان بفضل الله تعالى وهدايته وتوفيقه.

    فأين أنتَ أيها الأستاذ الفاضل، وأين أنتِ أيتها المعلمة الكريمة من مثل هذه القصة؟! أين دوركم المنتظر في إعداد الجيل الصالح؟!

    إننا لو فرضنا أن كل مدرس ومدرسة في بلادنا وهم بعشرات الآلاف، بل لو فرضنا أن كل مدرس ومدرسة في بلاد الإسلام في طولها وعرضها كان من همه أن يتولى الاهتمام بطلابه وتلاميذه ورعايتهم، خاصة أولئك النجباء، ولو فرضنا أيضاً أن برنامجه الذي أعده يحتاج إلى ثلاث سنوات، وهي أقل مرحلة دراسية في العالم الإسلامي حسبما أعلم، لو تم هذا لرأينا مئات الآلاف، بل ولرأينا ملايين من الطلاب النوابغ الذين تنتفع بهم الأمة.

    ولا شك أن هناك جهوداً مشكورة ومذكورة من قبل بعض المدرسين والمدرسات الذين تحترق قلوبهم غيرة على واقع الأمة، وعلى شبابها، ولكن من المؤسف أيضاً أن من المدرسين والمدرسات -هدانا الله وإياهم- من هو قدوة سيئة في تصرفاته وسلوكه، بل ربما رأى الطلاب منه التناقض الصارخ بين ما يقوله لهم وبين ما يفعله هو، هذا إن لم يكن أداة هدم بتزيينه أو تهوينه لبعض المنكرات لطلابه، إما بلسان حاله، أو بلسان مقاله، والعياذ بالله، فحينئذٍ تكون المصيبة أعظم؛ لأن المعلم حينئذٍ يحتاج إلى إصلاح، نسأل الله تعالى للجميع الهداية والتوفيق.

    فَتَيان من فِتْيان الصحابة

    النموذج الثاني لفتيين من فتيان الصحابة رضي الله عنهم:

    روى قصتهما البخاري ومسلم في صحيحيهما، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرتُ عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيتُ لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل ؟

    قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا بن أخي؟

    قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.

    قال عبد الرحمن: فتعجبتُ لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس، فقلت: ألا تريان؟! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه، فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه.

    فقال: أيكما قتله؟

    فقال كل واحد منهما: أنا قتلته.

    فقال: هل مسحتما سيفيكما؟

    قالا: لا.

    فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله ...) الحديث.

    وفي لفظ للبخاري : (إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه -تأمل هذه الكلمة- يا عم! أرني أبا جهل .

    فقلت: يا ابن أخي! وما تصنع به؟!

    قال: عاهدتُ الله إن رأيتُه أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثل ذلك.

    قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين، حتى ضرباه وهما ابنا عفراء ).

    فتأمل -أيها الأخ المبارك- إلى هذين الصقرين كما وصفهما بذلك ابن عوف رضي الله عنه، الذي كان من همهما -ونِعْم الهم هو- أن يظفرا برأس أبي جهل فرعون هذه الأمة، الذي آذى الله ورسوله، وأنَّى لمثل هذا الهم أن ينشأ فضلاً عن التصدي لتنفيذه لولا أنهما عاشا في جو شحن قلبيهما بالولاء لله ورسوله، والعداء لأعداء الله ورسوله، وهكذا كانت هموم ذلك المجتمع الذي يعيشان فيه؛ إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله.

    قصة من سيرة ابن عباس

    النموذج الثالث: في قصة من سيرة الحبر البحر، الصحابي الجليل أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

    وأنا هنا لا أريد أن أضرب مثلاً بالأمجاد التي حققها في كبره رضي الله عنه، فهي كثيرة وعظيمة، وهي ليست من شرط هذا الحديث؛ ولكنني سأذكر قصة وقعت له في صغره قبل أن يبلغ بقليل، وهي تفسر لنا سراً من أسرار نبوغ هذا البحر المتلاطم في العلم، ومقدار ما كان عليه من العقل منذ أن كان صغيراً.

    من المشهور عند أهل العلم، بل عند كثير منهم أن سن ابن عباس رضي الله عنهما عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان ثلاث عشرة سنة، ولقد وقعت له قصة بُعَيْد وفاته عليه الصلاة والسلام، رواها ابن سعد في الطبقات، ورواها الحاكم أيضاً في مستدركه وصححها عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلمَّ نسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير.

    فقال: واعجباً لك يـابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟!

    قال ابن عباس: فتركتُ ذلك وأقبلتُ على المسألة -يعني: سؤال العلماء- فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل -يعني: نائم في وقت القائلة- فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله! ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟

    فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك.

    قال: فبقي الرجل -يعني: الأنصاري الذي قال له: واعجباً لك يـابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟!- قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي فقال الأنصاري: هذا الفتى أعقل مني].

    إن هذه القصة تكفي عن التعليق عليها، فهي تعبر عن نفسها.

    وأنتقل إلى موقف آخر من حياة ابن عباس قبل أن يبلغ أيضاً، فقد بات رضي الله تعالى عنه ليلة عند خالته ميمونة، واستمع إلى هذه القصة التي تدل على توقد ذهنه منذ أن كان صغيراً، ومن المعلوم عند أهل العلم أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد الصحابة الذين نقلوا لنا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وصفة صلاته بالليل عندما بات ليلة عند خالته ميمونة رضي الله تعالى عنها، والحديث في الصحيحين.

    ولك أن تتصور -أيها الأخ الفاضل، أيها المربي الكريم- طفلاً لم يتجاوز الثالثة عشر من العمر يصف بتلك الدقة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يخرم منه شيئاً، ويصف أيضاً صلاته عليه الصلاة والسلام بالليل بذلك الوصف الدقيق.

    نموذجان من السلف الصالح

    وهنا أطوي صفحات تاريخ أطفال الصحابة رضي الله عنهم لأنتقل إلى القرن الخامس والسادس الهجريين في النموذج الرابع:

    الذي ذكره الذهبي في السير ، في سيرة أبي عثمان الصابوني السلفي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة (449هـ) فقد ذكر رحمه الله أنه جلس للوعظ وعمره تسع سنين.

    وفي ذيل طبقات الحنابلة لـابن رجب أن أبا الفرج ابن الجوزي رحمه الله المتوفى سنة (597هـ) جلس للوعظ وعمره عشر سنين، فهذان مثلان من عدة أمثلة بهذا الخصوص.

    والسؤال: كم في أطفالنا من يملك موهبة الإلقاء والخطابة؟! وكم فيهم من يملك القدرة على مخاطبة الجماهير؟!

    إنهم كثير؛ ولكنهم يحتاجون إلى رعاية وصقل لهذه الموهبة فيهم؛ لتكون ثمرتها في مستقبل أيامهم نافعة لهم ولأمتهم بإذن الله تعالى.

    نماذج لأطفال معاصرين

    ولذا فإن النموذج الآتي وهو النموذج الخامس، نموذج لأطفال معاصرين :-

    وهي في الحقيقة تجربة قام بها أحد الإخوة المدرسين الذين شعروا بأهمية رعاية المواهب وصقلها.

    فماذا صنع؟

    قام هذا الأخ بتجربة بسيطة، وقد بدأ يجني شيئاً من ثمارها، هذه التجربة تتلخص في أنه كان إذا جاء يوم الخميس في أيام الدراسة، استغل اجتماع الأطفال -الذين هم أبناؤه وأبناءُ إخوانِه وأخواتِه- في بيت أهله فاستعد لهم ببعض المسابقات التي تناسب مستواهم، ومن هذه المسابقات مسابقة في الخطابة، حيث يقوم هذا الأخ بإعداد قطعة صغيرة تشتمل على معنىً من المعاني السامية كأهمية الصلاة، أو وجوب طاعة الوالدين، أو الولاء للمسلمين، والبراءة من الكافرين، أو احترام حقوق الجار، أو غير ذلك من الموضوعات النافعة المفيدة، ويقوم بطباعة هذه القطعة على الكمبيوتر، أو يصورها من أحد الكتب، ثم يضبط الكلمات بالشكل حتى يتعود الأطفال على تجنب اللحن وهم صغار، كما كان السلف رضي الله عنهم يحرصون على تربية أطفالهم على هذا المسلك.

    ويقوم بوضع دكة صغيرة وكأنها منبر، ثم بعد ذلك يأتي الأطفال واحداً تلو الآخر ليتنافسوا في إلقاء هذه القطعة الأدبية، والفائز منهم هو الذي يكون أداؤه في الإلقاء والصوت أجود وأحسن، يخبر هذا الأخ فيقول: إن هؤلاء الأطفال يحاولون محاكاة أصوات بعض الخطباء الذين يسمعون أصواتهم في الأشرطة، ثم بعد سماعه لخطبهم يعطيهم جوائز حسب إبداعهم وإتقانهم لما طُلِب منهم.

    بقي أن يقال: إن هذه التجربة التي قام بها الأخ تمت مع أطفال لم يتجاوزا في دراستهم الصف الرابع الابتدائي.

    لقد كان من ثمار هذه التجربة أن أورثتهم شجاعة أدبية، ظهر من ثمارها جرأتهم في إنكار المنكر، فذات مرة -كما يقول هذا الأخ- رأى بعض هؤلاء الأطفال -الذين يدربهم على الخطابة- شباباً يتعاطون الدخان، فقالوا لهم -أي: لهؤلاء المدخنين- وبكل براءة -لاحظوا-: الدخان حرام، فما كان من هؤلاء الشباب -بارك الله فيهم وجزاهم الله خيراً- إلا أن استحيوا وألقوا أعواد السجائر.

    هكذا -أيها الإخوة- يجني الإنسان شيئاً من ثمار تربيته، وما يُسْتَقبل في الأيام أفضل وأفضل بإذن الله تعالى.

    وهكذا -أيها الإخوة- فتلكن التربية، وهكذا فليكن إعداد الأطفال لصناعة الأمجاد.

    طفل كان سبباً في إقلاع أحد المشاهير عن بعض المعاصي

    النموذج السادس: وهو لطفل كان سبباً في إقلاع أحد المشاهير عن بعض المعاصي :-

    يقول هذا الأخ الذي اهتدى -نسأل الله لنا وله الثبات- في مقابلة أجريت معه، قرأتها قديماً يقول: كنتُ يوماً من الأيام في مجلس ما، فدخل علينا أحد أطفال صاحب الدعوة، فلما سلم عليَّ قال لي بكل براءة وبلهجة محلية: وأراكْ تَحْلِقْ لِحْيَكْ وَانْتْ رَجَّال؟

    قال هذا الأخ: فخجلتُ من نفسي واستحييت، فلم أعد إلى حلقها بعد ذلك اليوم.

    إن هذا الطفل -أيها الإخوة- لم يتفوه بهذه الكلمة بلا شك إلا بعد أن وعاها قلبه، وعاش في بيئة تعظِّم هذه الشعيرة، فكان من مكاسب هذه التربية أن كانت سبباً في إقلاع ذلك الأخ عن تلك المعصية، نسأل الله تعالى أن يهدينا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى.

    طفل يشارك في تخفيف مآسي المسلمين

    النموذج السابع: لطفل يعيش في الربيع الثاني عشر من عمره :

    تربى في بيت غرس في نفسه التألم لأحوال المسلمين، والحزن على مآسيهم، والبكاء على مصائبهم، فبعد أن سمع ورأى شيئاً من مآسي المسلمين في فلسطين والشيشان ، ما كان منه إلا أن قام بجلب حصَّالة صغيرة من إحدى المؤسسات الخيرية؛ لكن هذا الطفل قام بعمل فكرة استطاع من خلالها شد عواطف الناس للتبرع، وذلك أنه عند عرضه لهذه الحصَّالة يقوم أولاً بوضع الطيب على يد الشخص الذي يريد منه أن يتبرع، فها هنا لا يملك ذلك الرجل أمام هذا التصرف الجميل من هذا الطفل البريء إلا أن يشارك ولو ببعض الريالات، أتدرون كم جَمَع هذا الطفل بهذه الفكرة؟!

    لقد جمع آلاف الريالات لنصرة إخوانه المسلمين، وهي قرابة ثلاثة آلاف ريال.

    إنه لعمل كبير في نفعه من مثل هذا الطفل الصغير في سنه، الذي لم يتعذر بواجباته المدرسية، ولم يتذرع بصغر سنه، أو بأن هذا من شأن المؤسسات الخيرية، ولا شك أن وراء هذا العمل والدان كريمان لهما أثر كبير في دفع ولدهما اليافع إلى هذا العمل المشكور المبرور.

    تصور أيها الأخ المبارك كم هو النفع الذي جناه المسلمون بإذن الله تعالى! كم هو النفع الذي حصل بهذا المبلغ!

    فإذا تصورنا مثلاً أن هذا المبلغ استخدم لشراء بطانيات الشتاء التي تكلف الواحدة منها خمسة وثلاثين ريالاً، فكم بطانية ستُشترى بهذا المبلغ؟ إنها قرابة: خمس وثمانين بطانية، ينعم بسببها مثل هذا العدد من المسلمين هناك، الذين ربما مات الواحد منهم بسبب البرد القارس في بلاد الشيشان.

    وقريباً من هذا ما حدثني به أحد طلبة العلم عن ابنته الصغيرة التي قالت: سأوفر من مصروفي المدرسي ريالاً واحداً كل يوم من أجل مساعدة المسلمين في أصقاع الأرض، تقول هذه الطفلة: لا يلزم أن أشتري كما تشتري زميلاتي، أصبر قليلاً عن بعض الطعام حتى أعود إلى البيت.

    أيها الإخوة: إن في الساحة من هذه النماذج كثيراً بحمد الله تعالى، والمؤمَّل هو زيادة العدد، وتنوع أساليب خدمة الإسلام.

    طفل حفظ القرآن وشيئاً من السنة وهو في التاسعة من عمره

    النموذج الثامن: حدثني به أحد طلاب العلم :

    أنه رأى في مكة -شرفها الله- طفلاً عمره ست سنوات، يحفظ القرآن الكريم كاملاً، ويحفظ جملة طيبة من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد حضر -هذا الأخ الذي حدثني بهذه القصة- حفل تكريمه، ولعل من المناسب أن أشير إلى طريقة تحفيظه للجملة الكبيرة من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد جَمَع له أهله أحاديث كثيرة تتراوح مابين ربع سطر إلى سطر أو سطر ونصف تقريباً، مثل: (البر حُسْن الخلق) (في الركاز الخمس)، ونحو هذه الأحاديث المختصرة، يقول هذا الأخ: لقد رأيت هذا الطفل يسرد الآيات والأحاديث سرداً لا يتلعثم فيه.

    وقد رأيتُ بنفسي طفلاً في مكة أيضاً -شرفها الله- في الصيف الماضي، يبلغ من العمر: تسع سنوات، حفظ القرآن الكريم كاملاً، وحفظ أيضاً الجمع بين الصحيحين -صحيح البخاري وصحيح مسلم - وقد اختبرته بنفسي في آيات من القرآن في مقاطع صعبة، وأيضاً اختبرته في أحاديث طويلة وصعبة أيضاً، فوالله -أيها الإخوة- ما يكاد يخرم منها حرفاً واحداً، وأقول له وللذي قبله: ما شاء الله! تبارك الله!

    إنها أمثلة واقعية أسوقها حتى لا يُظَن أن الحفاظ الأطفال إنما هم تاريخ كان ولم نعد نسمعه، بل في الساحة خير كثير؛ ولكنهم -كما ذكرت- يحتاجون إلى استنبات ورعاية.

    1.   

    الأسباب المعينة على تربية صانعي المجد

    وكأني بأحد الإخوة يقول: لقد ملأتَ أسماعنا بهذه القصص، فما الوسيلة التي نجعل بها أطفالنا يصنعون أمجاداً للأمة، ونحن في عصر الفضائيات والإنترنت، وفي عصر البلايستيشن؟

    وهذا سؤال مهم، وأعتقد أن الجواب عنه يحتاج إلى محاضرة مستقلة، بل محاضرات، لماذا؟

    لأن هذا الموضوع متشعب وكبير، وله ارتباط بقضية الذكاء والموهبة عند الأطفال، وكيف تُكْتَشَف! ثم كيف تُنَمَّى! وما هو حد الذكاء! وما حقيقة النجاح! وهل هي مقصورة على التحصيل العلمي!

    ومثل هذا الموضوع ينبغي أن يستفاد فيه من كلام المختصين بهذه المواضيع، والتي تحتاج إلى سماع آرائهم بجانب آراء أهل العلم الشرعي؛ ولكن لا بأس من الإشارة والتذكير، ولو كان ذلك على وجه السرعة برءوس أقلام هي كالمفاتيح لهذا السؤال.

    اكتشاف قدرات الأولاد

    أولاً: حاول أيها المربي الفاضل أن تكتشف قدرات أولادك، ومعرفة الأشياء التي يميلون إليها، ويحبون العمل فيها، وهذا الاكتشاف كما هو معلوم لا يتم بسرعة، بل عن طريق المتابعة والتحري الطويل، الذي ربما استمر عدة سنوات، ولهذا توجد بعض الدراسات المتعلقة لمتابعة الموهوبين تستمر لأكثر من عشر سنوات.

    المساهمة في تنمية قدرات الأطفال وصقلها

    ثانياً: إذا تبيَّنت لك الجوانب التي يحسنها ابنك أو ابنتك مثل: القدرة على الحفظ، أو حب القراءة، أو القدرة على الربط بين الأشياء وتحليلها، ونحو ذلك، فحاول أن تساهم في تنميتها وصقلها، إما بنفسك، أو عن طريق الوسائل المتاحة، فإن هذه المواهب كالزرع الجديد النابت في أرض خصبة، إن تعاهده صاحبه أثمر وأينع، وإلا مات في مهده، ويمكن الاستعانة في هذه الأمور بالقراءة في الكتب المؤلفة عن الموهوبين والمبدعين، وهي كثيرة، ومطبوعة، وموجودة، ومتوفرة، وكذلك استشارة بعض مَن لهم خبرة في أمور التربية وعلم النفس.

    تصحيح مفهوم الفشل والنجاح

    ثالثاً: إياك أيها المربي الفاضل أن تظن أن فشل ابنك في الدراسة والتحصيل العلمي هو نهاية المطاف، وتذكر أن الذكاء والنبوغ ليس مقصوراً على أسلوب معين في التعليم أو العمل، هذا ما نبَّه عليه المختصون في دراسة أحوال الموهوبين، فلقد أثبتت دراسات كثيرة أنه ليس من علامة النبوغ والتميز أن يكون الطفل ناجحاً في دراسته، بل ذكر كثير من الباحثين في موضوع الموهوبين أن كثيراً منهم -أي: من هؤلاء الموهوبين- كان في أول أمره فاشلاً في دراسته.

    ومن الأمثلة المشهورة التي تُذْكَر هاهنا -وهي كثيرة-: أن أديسون المخترع المشهور قال له المدرس وهو في الصف الرابع الابتدائي: أنت يا أديسون غبي وفاشل، ولا تصلح للدراسة، فحينها نَقَل أديسون هذه الكلمة إلى أمة التي بادرت إلى فصله من المدرسة خوفاً على حالته النفسية، فماذا صنع هذا الطفل الذي اتُّهم بالغباء والفشل؟! وفعلاً لم ينجح في دراسته؛ لكنه بدأ بقراءة ذاتية، وبدأ بممارسة تفكيك بعض القطع وتركيبها حتى صار من جملة نوابغ العالم.

    إننا -أيها الإخوة- الكرام نحتاج إلى تصحيح نظرتنا إلى مفهوم النجاح في الحياة، ولضيق الوقت أقتصر على هذا المثال الذي يدركه الجميع:

    ما يقول المربي الفاضل في تاجر من التجار الكبار، وأصحاب رءوس الأموال، الذي أمضى جل وقته في تجارته ومتابعة أرباحه، وتوظيف أمواله، حتى أصبح ممن يشار إليهم بالبنان؟! ألا يعتبر هذا قد نجح في ميدان التجارة؟! بلى.

    والسؤال: هل يؤثر على نجاحه هذا كونه لا يجيد اللغة الإنجليزية مثلاً؟! أو كونه لا يتقن التعامل مع الحاسب الآلي؟! وهل يصح هنا أن نصفه بأنه قد فشل في حياته؟!

    كلا، فإن النجاح يتجزأ، واعتبر هذا -يا رعاك الله- بعلماء الأمة، فإن الغالب عليهم منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا الغالب عليهم التخصص، أي: إنهم نجحوا وأبدعوا في بعض الفنون، وشاركوا في فنون أخرى.

    منح الثقة للأولاد

    رابعاً: تذكر أيها المربي الفاضل أنه من المهم جداً منح الثقة -ولا أقول زرع الثقة- لأن الثقة موجودة فطرة في كل نفس؛ لكنها إما أن تُمْنَح وإما أن تُمْسَح.

    أقول: من المهم جداً مَنْح الثقة للطفل منذ سِنِيِّه الأولى، وبعبارة أخرى: اجعل ولدك يصنع، أو على الأقل يساهم في صنع قراراته، خاصة في الأمور التي تخصه؛ لأن صناعة القرار من أهم صفات الناجحين والمبدعين في هذه الحياة.

    أيها الأحبة الكرام: أيها المربون الفضلاء! إن بعضنا بل كثيراً منا -وللأسف- يمارس بطريقة أو بأخرى مصادرة حرية الطفل، بل ووأد رأيه، وقتل قدراته، وتحطيم نفسيته، فما إن يقترح الطفل اقتراحاً -وقد يكون جميلاً ونافعاً- إلا ويواجَه بالتسكيت والتبكيت، وما السبب؟! إنه طفل، وبعضنا يتعامل مع طفله وكأنه دمية لا روح فيه، يحركها كيف يشاء، متى شاء، وأينما شاء، بحجة ماذا؟ بحجة أنه طفل لا يعرف مصلحة نفسه، وإذا كََبُر يتعلم، ثم يطمح أبوه أو تطمح أمه بعد ذلك في أن يمارس دوره في الحياة كما ينبغي، وكيف يتم هذا -أيها الإخوة- وقد أخرج هؤلاء المربون إلى المجتمع إنساناً معوَّقاً في قدراته؟! بل من الآباء والأمهات من يرسم فشل ابنه العلمي والعملي بيده، حتى مع أبنائه البالغين، وذلك حينما يفرضون آراءهم على ابنهم الذي تخرج من الثانوية حديثاً لكي يدخل التخصص الفلاني الذي يرغبه الأب، أو ترغبه الأم، ولا يهمهم أن يكون هذا التخصص موافقاً لرغبة الابن.

    وإن من أبرز صور قتل الثقة: الدلال الزائد عن حده، فمن المربين مَن يربي أولاده على دلال غير منضبط، فإذا طلب الابن شيئاً لُبِّيَ له، وإذا أخطأ فلا يُرْشَدُ إلى خطئه، خشية أن يتأثر الطفل، فينشأ الطفل حينئذٍ على أن هذا الجو هو الجو المثالي الذي لا يُبَدَّل بجو آخر غيره، وأي محاولة لتغيير هذا الجو فسَتَلْقَى معارضةً عارمةً من هذا الطفل، فيخرج حينئذٍ إلى المجتمع لا يتحمل أي رأي آخر حتى ولو كان أصوب من رأيه.

    لا بد للوالدين -أيها الإخوة- أن يتنبَّها إلى هذا الأمر، وألا يقوما بكل شيء للأبناء، بل لا بد أن تكون هناك أعمال يتعود الأبناء على القيام بها، كترتيب الغرفة مثلاً، أو شراء بعض الحاجات، واتخاذ القرار فيما يلبسه ويأكله بالضوابط الشرعية وبإشراف الوالدين أيضاً، حتى يتعود الأولاد على المسئولية قبل أن يكبروا، فلا يقدروا حينها على اتخاذ أي قرار بأنفسهم مهما كان ذلك القرار صغيراً.

    معشر الأحبة: إن صناعة القرار ليست دواءً يُعْطَى على جرعات فيتحول المرء من متردد ضعيف إلى متخذ وصانع للقرار في يوم أو يومين، بل لا بد من تنشئة الطفل منذ نعومة أظفاره على هذا الخلق الذي يعبر عنه البعض بمنح أو تنمية الثقة في النفس حتى تكون ظاهرة فيه، ويطورها كلما توغل في هذه الحياة، وزادت سنوات خبرته.

    1.   

    كيفية تربية الأبناء على صناعة القرار

    وألخص هاهنا تجربة بعض علماء التربية في كيفية تربية الأطفال على صناعة القرار، وهي في الحقيقة تصلح أيضاً حتى للكبار، وقد لخصتها في عشر نقاط:

    القدوة في صناعة القرار

    الأولى: القدوة في صناعة القرار :-

    تحدث أيها الأب الفاضل عن القرارات التي واجهتك في هذه الحياة سواء في وظيفتك، أو في دراستك، أو في غير ذلك من القرارات، واشرح لهم بأسلوب مبسَّط تلك الخطوات التي اتبعتَها في صناعة ذلك القرار، ولا مانع من أن تعرض عليهم موضوعاً تدعوهم فيه إلى مشاركتك في صناعة القرار فيه.

    فمثلاً شاورهم في وجهة السفر التي تريدونها، وفي المكان الذي يحبون أن يتنزهوا فيه.

    كن مصدراً ومرجعاً لصناعة القرار

    النقطة الثانية: كُنْ -أيها المربي- مصدراً ومرجعاً لصناعة القرار :-

    أنت -أيها الأخ الفاضل- تعرفُ -بحكم الخبرة والتجربة- ما هو الأفضل، فبدلاً من إعطاء الأطفال الحلول والتوجيهات مباشرة، وعلى طَبَق من ذهب قُمْ أنت بدور المستشار لمساعدتهم في معرفة نتيجة التأثيرات للشيء الذي سيختارونه، ومعرفة كيفية تقويم هذه النتائج، أو بمعنىً آخر: كيف يعرفون سلبياتها وإيجابياتها، وتعويدهم أيضاً على الصبر، وتعليمهم كيفية كسب هذه المهارات؛ لأنه ليس من السهل أن يهضم الطفل عملية اتخاذ القرار على هذه الأسس.

    دع أسلوب المحاضرة وكن مستمعاً

    توضِّح هذه النقطةَ الثانية النقطةُُ الثالثة وهي: لا تُحاضِر :-

    نعم، لا تُحاضِر، بل كن مستمعاً؛ لأن القاعدة في عمليات صنع القرار عند أطفالنا هي أن نكون مصادر ومراجع للتوجيه؛ لأن الأطفال يتعلمون بالعمل.

    وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية غرس روح الحوار الهادئ مع الطفل، فإنه ينمِّي مداركه، ويزيد من قدراته على الكشف عن حقائق الأمور.

    ومع الأيام يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه، وأن يتعود السؤال عن الأشياء التي يجهلها، وبالتالي ينطلق عقله ويتوقد ذكاؤه، فإذا حضر مجالس الكبار عرف كيف يحاورهم، وكيف يستفيد من علمهم.

    وأما ما يمارسه بعض الآباء من أسلوب الكبت، أو ما يُعَبَّر عنه باللهجة الدارجة: (التسكيت)، فهذا مسلك سهل جداً؛ لكنه في الحقيقة مسلك العاجزين، وعاقبته وخيمة؛ لأن الطفل حينما يكبر سيواجه في حياته مواقف تتطلب منه أن يتحدث بلغة معينة، وبأسلوب خاص، فإذا لم يتربَّ على ذلك فسيواجه عنتاً كان في غنىً عنه، وكان يمكن استدراكه لو أن أباه رباه على مثل ذلك.

    ولعل من مظاهر ذلك ما يمارسه بعض المدرسين مع طلابهم، أو بعض الموظفين مع من يعملون تحت رئاستهم.

    والحقيقة أن هذا أسلوب فرعوني، كما قال الله سبحانه وتعالى عن فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29].

    وأما الطريقة المحمدية فهي: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، والمشاورة -بلا شك- هي نوع من الحوار وطلب إبداء الرأي.

    تجنب صناعة القرار

    النقطة الرابعة مما يعين على تربية الأطفال على صناعة القرار: تجنب صناعة القرار :-

    وأعني بذلك: ترك اتخاذ القرار في أمور يفترض أن الذي يتولى اتخاذها الأطفالُ أنفسُهم.

    فمثلاً: نوعية الأكل الذي يريدون أكله، أو الملابس التي يلبسونها، وإن كنت ترى أن تلك القطعة أنسب لهم، فدعه يختار ما يناسبه ويلائمه، لماذا؟

    لأن هدف الأبوين هو: تربية الأطفال على مواجهة الحياة بحقائقها.

    لذلك لا بد لنا من إشراكهم في ظروف تؤهلهم لتعلم مهارات الحياة، والتي سوف تساعدهم على التعامل بإذن الله تعالى تعاملاً فعالاً مع جميع ظروف الحياة التي سيواجهونها، مع عدم إغفال دور الوالدين في التوجيه والإرشاد والتنبيه على ما ينفع وما يضر.

    تعويد الطفل على سؤال نفسه: (ماذا سيحدث لو فعلت كذا؟)

    خامساً: ماذا سيحدث لو فعلتُ كذا؟! :-

    هذا السؤال هو أحد أساليب تربية الأطفال على صنع القرار، وذلك بأن يعوَّدَ الطفلُ على سؤال نفسه:

    ماذا سيحدث لو أنني قلتُ كذا وكذا؟!

    وأي شيء سيكون لو فعلتُ كذا وكذا؟!

    وهذا ما يعبر عنه بعضُهم بتعلم قانون الاحتمالات.

    أعط طفلك فرصة للخطأ

    سادساً: أعط طفلك فرصة للخطأ :-

    فأنا وأنت وكل البشر من صفتنا الخطأ، فما بالك بطفل صغير؟! إن الوقوع في الخطأ من أسباب النجاح كما هو معلوم.

    وتأمل -أيها الأخ المبارك- هذا المثل النبوي التربوي في هذه النقطة: وذلك حينما صحح النبي صلى الله عليه وسلم خطأ الحسن بن علي رضي الله عنهما حين امتدت يده إلى تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كَخْ كَخْ! ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟) والحديث في الصحيحين .

    فتأمل في هذا التوجيه النبوي، كيف جمع له عليه الصلاة والسلام بين التأديب اللطيف مع بيان الحُكْم، مع أنه طفل صغير لم يبلغ السابعة أو الثامنة بعد، وفي هذا فائدة عظيمة وهي: أن يعلَّم الطفل سبب منعه من ذلك الشيء، لتبقى هذه العلة معه لا ينساها، فمتى وُجِدَت هذه العلة امتنع من ذلك الفعل.

    فعِّل دور طفلك في مجتمعات الأطفال

    سابعاً: فعِّل دور طفلك في مجتمعات الأطفال :-

    أيها المربي: هذه المجتمعات تساهم أحياناً -بدور نفسي- في دفع الطفل لزرع الثقة في نفسه، وتعويده على اتخاذ القرار، مثل ما سبق في تجربة الأخ الذي أعد مسابقة بين الأطفال في الخطابة.

    ومن الأمثلة البسيطة التي توضح هذه النقطة: أنك لو حاولتَ أن تعوِّد طفلك الصغير على السباحة ربما ستحتاج إلى وقت طويل لتعلمه على هذه الرياضة الطيبة؛ ولكن ضعه في مجتمع من الأطفال الذين سبقوه في معرفة هذه الهواية، أو في هذه الرياضة، فتأمَّل ولاحظ كيف سيكون حماسه شديداً من أجل أن يثبت أنه طفل قادر على أن يمارس هذه الرياضة بشكل صحيح وسليم.

    ابحث عن الفرص التي تعود طفلك على مناقشة بعض الأمور

    ثامناً: ابحث -أيها المربي- عن الفرص :-

    وذلك بأن تعوِّد أطفالك على مناقشة بعض الأمور التي يفعلها بعض الناس، وذلك من خلال عرضها عليهم، أو حتى تلك المواقف التي شاهدوها هم بأنفسهم، أو عرضوها عليك، اسألهم عن رأيهم في ذلك الرأي أو في ذلك العمل أو في تلك القضية.

    فمثلاً: كثير من الأطفال يخرج مع والده عند قضاء حوائجه الشخصية من السوق، وسيرى الوالد أو المربي في طريقه مواقف كثيرة يمكنه أن يستغلها في جوانب تربوية منها ما نتحدث عنه، وذلك بتعويد ابنه على إبداء رأيه في ذلك الموضوع، ومن الأمثلة التي ربما لا تنقطع عنها العين: ظاهرة الكتابة على الجدران، يمكن أن تكون فرصة للمربي ليعرف ما لدى الطفل من رأي فيها، وبالتالي تسديده إن أخطأ، أو تأييده وشكره إن أصاب، وقل مثل ذلك في التشبه بالكفار، في الألبسة، والقصات التي يراها الطفل من أقرانه، أو مِمَّن هم أكبر منه، أو غير ذلك من المظاهر.

    التشجيع

    تاسعاً: التشجيع :-

    وهذا من أهم ما ينبغي أن يعتني به المربي، مع التأكيد على عدم الإفراط في هذا، سواء كان بالتشجيع الحسي أو المعنوي، فالكلمة الطيبة لها أثرها في نفوس الكبار فضلاً عن الصغار، والهدايا، والمكافآت كذلك؛ لأن الطفل أحياناً يبدأ بحماس، ثم لا يلبث هذا الحماس أن يفتر بسبب قلة التشجيع.

    لماذا -يا معاشر الإخوة، ويا معاشر الآباء والأمهات- لا نساهم في رفع معنويات أطفالنا بكلمات التشجيع المعتدلة؟!

    وما الذي يضرك -أيها الأب ويا أيتها الأم- أن يسمع طفلكما كلمة ثناء، وعبارة تشجيع، وأسلوب مدح يرفع من معنوياته على عمل قام به.

    تأمل في هذا الموقف من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، الذي كان مربياً من الطراز الأول، تأمل في موقفه مع ابنه عبد الله ، لَمَّا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث النخلة وهو في الصحيحين ، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ قال ابن عمر : فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت؛ لأني كنت أحدث القوم سناً، فقالوا: يا رسول الله! أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، قال عبد الله : فحدثتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال له أبوه عمر رضي الله عنه -انظر إلى التشجيع!-: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا). وفي رواية ابن حبان أنه قال: (أحب إلي من حمر النعم) تأمل! ظَفَر ابنه بالجواب على سؤال طرحه النبي صلى الله عليه وسلم يعادل عنده الدنيا وما فيها، فيا له من تشجيع! ويا له من مسلك تربوي نافع مفيد!

    مساعدة الأطفال في أعمالهم الخاصة

    أيها الأخ المبارك: النقطة العاشرة في تربية الأطفال على صناعة القرار هي: مساعدتهم في أعمالهم الخاصة :-

    وهي النقطة الأخيرة.

    إن العمل جنباً إلى جنب مع الأطفال لا شك أن فيه عناء ويحتاج إلى صبر، خاصة في المراحل الأولى، أو التجارب الأولية لهم، وتأكد بإذن الله أن العاقبة حميدة.

    فمثلاً: أنت تريد أن تغرس في نفس ابنك الاعتماد على نفسه في ترتيب أموره الخاصة، فينبغي هنا أن تجعل منطلقك: تعويده على ترتيب حاجاته الخاصة، وإن كانت في نظرك بسيطة.

    1.   

    أساليب تربية الأبناء على صناعة القرار .. حقيقتها وكيفية التطبيق

    قد يقول بعض الإخوة الفضلاء الكرام: لقد بالغتَ -هداك الله- في هذا الموضوع كثيراً! ومَن يقدر على هذه النقاط؟! وهل كانت تربية السلف لأبنائهم قائمة على هذه الخطوات التي ذكرتَ؟!

    فأقول جواباً على مثل هذا:

    اشتمال الكتاب والسنة على أصول هذه الأساليب

    أولاً: لو تأمل الأخ الفاضل في الكتاب والسنة، وفي السنة على وجه الخصوص لَوَجَدَ أصول هذه النقاط :-

    ففي القرآن: يكفيك -أيها الأخ المبارك- أن تتأمل في قصة إسماعيل مع أبيه الخليل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لترى فيها التربية على تعويد المشاركة في اتخاذ القرار، وفي أي شيء، إنها المشاركة في قرار ذبح ابنه وإزهاق نفسه، لقد كان من هدف الخليل عليه الصلاة السلام وهو يعرض هذا الأمر على ابنه أن يأخذ ابنه الأمرَ طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً؛ لينال هو الآخر أجر الطاعة، ويتذوَّق حلاوة التسليم التي ذاقها أبوه من قبل، وأن ينال الخير الذي هو خير من الحياة وأبقى، فماذا كان من الابن؟

    إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، كلا؛ ولكنه يتلقاه في رضاً ويقين، وتأمل قوله: يَا أَبَتِ [الصافات:102]، فشبح الذبح لا يزعجه، ولا يفزعه، ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودَّته، يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فهو يحس بما يحس به قلب أبيه.

    ثم انظر إلى أدبه مع الله، ومعرفة حدود قدرته، وطاقته في الاحتمال، والاستعانة بربه سبحانه وتعالى على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة بقوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فهو لَمْ يأخذ هذا الأمر بُطُولَةً، ولَمْ يأخذه شجاعةً، ولَمْ يأخذه اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة.

    أما السنة: ففيها أمثلة:

    منها: ما سبق في قصة الحسن الآنفة.

    ومنها: ما ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنهما، (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال عليه الصلاة والسلام للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً، قال: فتلَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده).

    فتأمل -يا رعاك الله-! هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، أفضل المربين، وخير الخلق عليه الصلاة والسلام يعطي الطفل حقه في اتخاذ القرار في أمر أعطاه إياه شرع الله عز وجل.

    وجود أمثلة في سيرة السلف الصالح على هذه الأساليب

    ثانياً: من تأمل في سيرة السلف، وخاصة النابغين والعظماء فإنه سيجد أمثلة متفرقة لما تقدم :

    ثم يقال: إن أساليب التربية وطرق الوصول إلى بناء الشخصية المسلمة الجادة قد تختلف من زمان إلى آخر، وإن كانت تتفق في تحقيق أصل كبير، ومقصود عظيم من التربية، ألا وهو: تنشئة الفرد الصالح في المجتمع.

    العمل بما يستطيع عليه المربي من هذه الأساليب

    ثالثاً: جواباً عن استكثار مثل هذه الطرق يقال للمربي: اتقِ الله ما استطعتَ، وافعل ما تقدر عليه من ذلك:

    وهي بطبيعة الحال ليست مُلْزِمة، وقد يرى البعض أن غيرها خيراً منها، أو يُزاد عليها، أو يُحذف منها.

    والمهم -أيها الإخوة- أن نسعى ونجتهد في بناء أطفالنا، وتهيئتهم لأدوارهم في هذه الحياة.

    وختاماً أيها الأحبة الكرام: تقدَّم في بعض النماذج السابقة الإشارة إلى بعض الأفكار والأساليب التي يمكن أن يُخُدَم بها الإسلام بواسطة هؤلاء الأطفال.

    وما ذكرتُه إنما هو نماذج، والحاجة قائمة إلى تفعيل دور هذه الفئة العزيزة على نفوسنا؛ لنجعلهم منذ صغرهم أدوات بناء في حاضر الأمة ومستقبلها، هذه الأمة التي تحتاج وخاصة في هذا الوقت بالذات إلى كل فرد من أفرادها مهما صغُر سنه أو كبر، فالأعداء يكيدون لها من كل جانب، والغزو الفكري زاد وعَظُم خطرُه في هذا الوقت.

    ومن هنا فإنني أدعو الإخوة الكرام إلى التفكير والعمل لخدمة الدين، كلٌّ بحسب طاقته.

    1.   

    من الجوانب المهمة التي يخدم بها الدين

    ومن الجوانب المهمة التي يُخْدَم بها الدين: موضوع التفكير بوسائل ومشاريع جديدة ومناسِبة يُخْدَم بها الإسلام عن طريق الأطفال؛ لأننا بتسخيرهم لخدمة أمتهم نختصر شيئاً، بل كثيراً من طريق تربيتهم الطويل، ولأن صلاحهم صلاح للمجتمع، ولا يلزم -أيها الأحبة- أن تكون هذه المشاريع عالمية التنفيذ، بل ولو على مستوى التجمعات الأسرية، أو التجمعات الصغيرة المحيطة بالطفل، في البيت أو المدرسة، أو في اجتماع جماعة المسجد، حسب الإمكان، وليس من شرط مَن يطرح الفكرة أن يقوم هو بتنفيذها، بل قد ينفذها غيره.

    وقد يستغرب البعض لو قلتُ: إن صحيح البخاري قام على هذا الأساس، وكيف هذا؟!

    كان البخاري رحمه الله تعالى جالساً يوماً في مجلس شيخه إسحاق بن راهويه، فقال في مجلسه: لو أن أحدكم انتَدَب لجمع ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال البخاري : فوقع ذلك في نفسي، فابتدأت بجمع الصحيح.

    فانظر بارك الله فيك! إن ابن راهويه رحمه الله لم يقُم بهذه الفكرة؛ ولكنه طرحها، فنفذها تلميذ من تلاميذه، وكانت تلك الفكرة سبب خير، وأيُّ خير هو؟! لقد نعمت به أمة الإسلام منذ أن ألَّفه صاحبُه، وسيستمر ذلك بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة.

    وشاهد الكلام: أن نفكر ونساهم في الدعوة إلى الله عز وجل ولو بأفكارنا، وإن لم نقم بتنفيذها نحن.

    ويجب -أيها الإخوة- ألا نستهين بهذه المسألة، ويكفي أن نعلم أن ما ننعم به من وسائل الراحة والتقنية الحديثة كالاتصالات والسيارات إنما هو نتيجة أفكار في الحقيقة؛ لكنها طُوِّرَت شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى هذه المرحلة المتقدمة من الإتقان والإجادة، والله عز وجل يقول: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

    ويا ليتنا -أيها الإخوة- نقيِّد ما يعرض لنا من أفكار مهما ظننا بساطتها، وأن نجعلها عندنا في أوراق، ونعرضها على مَن هو أقدر منا على تحليلها، فإن الفكرة أحياناً قد تكون عادية أو بسيطة؛ لكنها تفتح باباً لفكرة، بل ولأفكار أخرى.

    ويا حبذا لو أن أحدنا وضع عنده صندوقاً صغيراً، أو ملَفاً يضع فيه هذه الأفكار؛ ليتأمل فيها بين الفينة والأخرى لعل الله تعالى أن يجعل في بعض هذه الأفكار عزاً ونصراً للإسلام والمسلمين.

    أيها الإخوة: أقول ما قلتُ، فإن كان صواباً فمِن الله -وهو الذي مَنَّ بذلك سبحانه وتعالى- وإن كان مِن خطأ فهو مِن نفسي، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه،وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756233128