إسلام ويب

تفسير سورة القصص [62 - 68]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حال الكفار يوم القيامة حين لا تنفعهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله تعالى، وحين يتبرأ بعضهم من بعض، وذكر تعالى أنه يسأل الكافرين عن طاعتهم لرسل الله في الدنيا فلا يستطيعون أن يجيبوا ربهم عن هذا السؤال، وذكر أنه تعالى هو الذي يختار رسلاً من خلقه ويصطفيهم، فهو صاحب الخلق والأمر سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة القصص: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:62-68].

    يخبرنا ربنا تبارك وتعالى في هذه الآيات عن يوم القيامة وسؤال الله عز وجل خلقه عما عملوا في هذه الدنيا، فيسأل المؤمنين فيحاسبهم حساباً يسيراً، ويسأل الكافرين المشركين ويحاسبهم حساباً عسيراً، فيسأل الله عز وجل المشركين ويناجيهم: فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62].

    كانوا في الدنيا يعبدون مع الله آلهة أخرى ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] فإذا جاءوا يوم القيامة فسئلوا وسئلت الآلهة وتبرأ بعضهم من بعض فهنا يسألهم الله عز وجل قائلاً: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62] أي: الذين كنتم تفترون وتقولون بأفواهكم الكذب على الله سبحانه، فأين زعمكم وكلامكم عن هذه الآلهة؟

    فيتكلم هؤلاء الكفار يوم القيامة فيتبرأ بعضهم من بعض، قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [القصص:63] أي: حقت عليهم كلمة العذاب، وحق عليهم قول ربنا أنهم في النار، وهم رؤساء المشركين، فقالوا: رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا [القصص:63] فعرفوا ربهم في يوم القيامة فقالوا له: رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا [القصص:63] وأصلها: هؤلاء الذين أغويناهم، فيشيرون إلى أتباعهم الضعفاء، فكبار المشركين يتكلمون عن صغارهم فيقولون: ربنا هؤلاء الذين أضللناهم وأبعدناهم عن طريق الهدى، أغويناهم كما غوينا نحن وضللنا عن الطريق.

    وفي الدنيا الإنسان المؤمن يتذكر ذلك، ويعلم أنه مستحيل أن يكون الإنسان غاوياً ثم يهدي إنساناً آخر، فالضال لا يهدي إنساناً أبداً، كذلك الكافر لا يدل المؤمن على الخير أبداً، ولا يثق المؤمن في الكافر، وربنا يخبر باعترافات هؤلاء الكفار يوم القيامة.

    فالكافر لا يتمنى خيراً لغيره، والضال العاصي لا يحب لغيره هداية؛ لأنه لا يريد أن يكون أحد أفضل منه، فلذلك يدعو صاحبه إلى الضلال، والكافر يدعو الإنسان إلى كفره، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فأهل الكفر والشرك لن يرضوا أبداً عن أهل الإيمان حتى يضلوهم ويجعلوهم يزيغون عن طريق الله سبحانه، فقالوا يوم القيامة معترفين: هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا [القصص:63]، أي: أضللنا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا [القصص:63] أي: طلبنا لهم الغواية، والبعد عن الرشد، وطلبنا لهم الضلال وأخذناهم معنا في طريق الضلال، والآن يا ربنا تبنا وتبرأنا إليك فإنهم ما كانوا يعبدوننا، قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] فيوم القيامة كبار الكفار وصغارهم يتبرأ بعضهم من بعض.

    وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا أنتم أضللتمونا عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ألم تغوونا وتبعدونا عن طريق ربنا؟!

    فالصغار يرمون بالتهمة على الكبار، والكبار تبرءوا وقالوا: نحن أضللناكم، لكن أما كان لكم عقول تفكرون؟ فانظر إلى حديث الكفار يوم القيامة واعتبر من الآن في الدنيا بما يفعله الناس بعضهم مع بعض يوم القيامة مهما كانت بينهم روابط في الدنيا وأسباب، فإنه يتبرأ بعضهم من بعض.

    يقول الله عز وجل: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ [القصص:63] يعني: مما كان يفعل هؤلاء معنا، ما كانوا إيانا يعبدون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ...)

    قال تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ [القصص:64].

    أي: ادعوا آلهتكم وادعوا الذين كنتم تستعينون بهم في الدنيا، فدعوهم، فهل أجاب أحد أحداً؟

    فيبرأ يوم القيامة بعضهم من بعض، فدعوهم يطلبون منهم أن يدافعوا عنهم، فلم يستجيبوا لهم ولم يردوا عليهم، ورأوا العذاب ماثلاً أمام أعينهم فيقولون: يا ليتنا كنا اهتدينا وعرفنا طريق الله سبحانه تبارك وتعالى فاتبعناه.

    وقوله تعالى: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:64] أي: لو اهتدوا ما وصلوا إلى هذا الذي وصلوا إليه، فيتحسرون يوم القيامة فيقولون: يا ليتنا اهتدينا وما ضللنا عن سبيل الله سبحانه، فهذا كأنه من كلامهم، أو أنه من كلام ربنا سبحانه وتعالى أن هؤلاء لو كانوا اهتدوا ما وصلوا إلى ما هم فيه الآن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين...)

    قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65].

    يوم: منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر يوم يناديهم ربهم سبحانه.

    فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] أي: كيف أجبتم هؤلاء المرسلين؟ هل اتبعتم الحق أم ضللتم عن سبيل الله؟ وبأي شيء أجبتموهم؟

    قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ [القصص:66].

    الكفار في الدنيا لديهم ألسنة يجيدون بها الكلام، ويجيدون المدافعة بالباطل والزور، أما عند الله فلا ينفع هذا الكلام كله، فلما وقفوا أمام ربهم عميت عليهم الأنباء وخفيت عليهم الحجج وضاع عنهم ما كانوا يقولونه، فلم يقدروا أن يجيبوا على كلام ربنا سبحانه وتعالى، فقالوا لله سبحانه وتعالى: تبرأنا من عبادة هؤلاء فينا.

    فيقول سبحانه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ [القصص:65-66] أي: خفيت عليهم الحجج، وضاع عنهم الزور الذي كانوا يقولونه في الدنيا.

    قال تعالى: فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ [القصص:66] أي: لا يسأل بعضهم البعض عن شيء، قد أخرسوا في هذا الوقت فلا يقدرون على الكلام.

    وفي الآية الأخرى قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] فكأنهم لا يعرفون أن ينطقوا بحجة، أو أنها مواقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ففي حين يُختم على أفواههم فلا يقدرون على الكلام، فإذا تكلموا حاولوا الهرب فقالوا لربهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن...)

    قال الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67].

    التوبة شرطها أن يرجع الإنسان إلى ربه سبحانه، ويبدل ما كان في عمله من سيئات إلى أعمال صالحة حسنة.

    والتائب هو الذي تاب عن كفره، ودخل في الإيمان وعمل صالحاً، وتاب عن ظلمه وآمن وازداد يقيناً وعمل العمل الصالح، قال تعالى: فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67].

    أي: عساه عند الله عز وجل أن يجعله من المفلحين، فمناه الله سبحانه بذلك، ووعد الله حق وكلامه صدق.

    فمن أتى بهذه الشروط أي: تاب وآمن وعمل صالحاً، يكون من المفلحين، ولماذا قال الله: (عسى) وما قال (يقيناً) ولاقال: (هؤلاء هم المفلحون)؟

    والجواب: كم من إنسان يظن أنه تائب إلى الله عز وجل ويقول ذلك في نفسه، وقد يخدع الإنسان نفسه، وعلى باله أنه لو عرض له هذا الذنب في يوم من الأيام فإنه سيعمله مرة ثانية، فالتوبة لا تكون صحيحة في قلب الإنسان إذا عجز عن الوقوع في المعصية ثم قال: تبت إليك يا رب، وكذلك إذا لم يقدر على مواجهة أهل الإيمان فيقول: أنا تبت وأسلمت ودخلت في الدين، لكن في قلبه الشك والنفاق ولعله يقع في الكفر بعد ذلك.

    فالله عز وجل يتكلم عن الجميع وفيهم المؤمنون الصادقون والمنافقون الذين يظهرون الطاعة ويبطنون المعصية، فيقول: عسى أن يكون هؤلاء من المفلحين.

    فأما من آمن حقاً ظاهراً وباطناً فهذا مفلح يقيناً، وأما من آمن في الظاهر أمام الناس ولم يصدق ذلك بقلبه فإنه يوم القيامة يكون مع المنافقين.

    إذاً: المفلحون هم الفائزون، والفلاح: الفوز الأبدي والنجاح الذي لا خسران بعده أبداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار...)

    قال سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

    يرد الله على هؤلاء المشركين وفيهم الكبار والصغار، فصغار المشركين ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على أنهم ليسوا أفضل من الذين معهم، وكبار المشركين ينظرون إليه حسداً لماذا جاءت إليه هذه الرسالة، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] فكانوا يتمنون لو نزل هذا القرآن عليهم، وهذا منهم حسد للنبي صلى الله عليه وسلم.

    وعظيم مكة عند المشركين هو الوليد بن المغيرة، وكان من أعلمهم في الكلام والفصاحة واللغة العربية المتينة والشعر والخطابة، وكان من أغناهم، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر هذا الرجل فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا [المدثر:11-16].

    فقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر:11] فيها معنيان:

    المعنى الأول متفرداً في الناس بهذا الذي عنده من غنى مال ومن أولاد وقوة، ومن رئاسة في قومه، وكان المفترض عليه أن يعرف الحق فيتبعه، وخاصة أنه هو الذي قال عن هذا القرآن العظيم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، والذي منعه من الإيمان بالله ورسوله هو كبره وحسده وقول بعض الكفار له: قل في هذا القرآن شيئاً لعل الناس يتبعونك، ولما أصروا عليه بدأ يفكر، قال تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ [المدثر:18-19] أي: لعنة الله عليه، كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [المدثر:18-23] وفي النهاية قال لهم: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24] فالله عز وجل ذكر ما قاله هذا الرجل عن هذا القرآن بأنه سحر، وهو يعلم في نفسه أن هذا مستحيل أن يكون سحراً.

    والمعنى الثاني: ذرني وإياه وحده، فسيأتي إلينا يوم القيامة لوحده وليس معه لا مال ولا بنون ولا شيء.

    فالمراد بالرجل العظيم في القريتين هو عظيم قريش الوليد بن المغيرة ، أو عظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي ، فكان يقول الكفار: لماذا لم ينزل القرآن على أحدهما وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

    فالصغار نظروا إلى هؤلاء الكبار أنهم الأحق في نزول القرآن عليهم، والكبار نظروا بحسد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك يذكر عنهم الله عز وجل: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54] أي: يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه وتعالى من فضله.

    وصغار المشركين يخاصمون كبراءهم فإذا كان يوم القيامة: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ:31-32] أي: أنتم الذين كنتم مجرمين في الدنيا.

    ففي الدنيا قد كان يدافع بعضهم عن بعض ويفدي بعضهم بعضاً بنفسه وروحه.

    ويوم القيامة يبرأ بعضهم من بعض، فالكبار يخاصمون الصغار، والصغار يتهمون الكبار أنهم السبب في ذلك، ويرد عليهم الكبار أنهم كانوا مجرمين وكانوا في بعد عن الله سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ [سبأ:33] أي: نظروا العذاب أمامهم فأسروا في أنفسهم الندامة، وأظهروا الحسرة والبكاء حين لا ينفعهم بكاء ولا حسرة، فكان الشقاء الأبدي على هؤلاء.

    قال الله عز وجل: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار [القصص:68] تفرد الله بالخلق سبحانه، وهو يأمر بما يشاء، فهو المتفرد بالأمر وبالشرع قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] وهو وحده الذي يخلق ويأمر.

    إذاً: الشرع لا يكون إلا من عنده سبحانه وتعالى وهو الذي خلق العباد، وهو الذي يعرف ما الذي ينفعهم وما الذي يضرهم، لذلك شرع لهم الشريعة العظيمة التي نزلها في كتابه وفي سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

    إذاً: ربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من هؤلاء الخلق من يصطفيه، فاختار محمداً على هؤلاء جميعهم، ففضله صلوات الله وسلامه عليه، والكفار كانوا يريدون أن ينزل القرآن على رجل من القريتين، ولكن الله اختار النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون رسولاً، وهذا وهب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم.

    ولا حاجة لأن يظل الإنسان يتعبد إلى أن ينزل عليه الوحي فيكتسب ذلك بعبادة الله، فهذا اختيار من الله سبحانه تبارك وتعالى، وتوفيق من الله لمن يريده، فيقطع عن الناس التمني فلا يتمنى الإنسان أن يكون رسولاً أو نبياً، إنما هذا وهب من الله لمن يشاء، فالله يخلق ما يشاء ويختار من يريد سبحانه.

    وقوله تعالى: مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68] أي: ليس الاختيار للخلق، ولا لهؤلاء الذين يريدون أن ينزل القرآن على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود .

    فـ(ما) هنا نافية على قول جمهور المفسرين، ومعنى الآية: ليس لهم من الأمر شيء كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] وكما قال الله سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

    إنما الاختيار إلى الله عز وجل، لذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة حين نقدم على عمل من الأعمال، فهو الذي يختار لنا الخير سبحانه وتعالى.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755994300