استمعوا لهذه القصة التي أخبرنا عنها نبينا عليه الصلاة والسلام، وانظروا لأثر الجهل في دين الرحمن، عابد متعبد صالح قانت عندما أخطأ في أمر من الأمور، كيف تعرض للبلايا والشرور؟! والحديث في المسند والصحيحين، وهو في صحيح ابن حبان من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وانظروا الحديث -إخوتي الكرام- في جامع الأصول في الجزء العاشر صفحة عشر وثلاثمائة، والحديث فيه بيان الذين تكلموا في المهد، وسأذكر الحديث إن شاء الله، ثم من باب جمع من تكلموا في المهد، سأتكلم عليهم في هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه؛ لأنني في بعض المواعظ ذكرت هذا، وكأن بعض من حضر استنكر، وقال: الذي أعرف أنهم ثلاثة، وأنت تضيف إليهم، قلت: ورد ما هو أكثر من ثلاثة، فقد ورد أنهم ستة أو سبعة، وهذا في أخبار ثابتة، لكن أوصلها بعض أئمتنا إلى العشرة كما ستسمعون، عشرة تكلموا في المهد، فسأذكر الثلاثة الذين هم في هذا الحديث، وهو كما قلت في المسند والصحيحين وصحيح ابن حبان، ثم أذكر الأصناف السبعة الآخرين الذين تكلموا في المهد، وواحد من هؤلاء الثلاثة -سيأتينا- جرى له قصة، ليس هو الذي تكلم في المهد، لكن جرت له قصة نتج عنها في نهاية الأمر -لصلاحه ولتدارك الله له بالرحمة- أن أنطق من في المهد ليبرئه، لكنه ما وقع فيما وقع فيه إلا بسبب جهله وعدم فقهه، مع عظيم جده واجتهاده في طاعة ربه، فاستمعوا للحديث إخوتي الكرام:
قال عليه الصلاة والسلام: (وكان
وقد تقدم معنا ذكر ما يتعلق بهذه المسألة في فضائل سورة الفاتحة، تقدم معنا عندما خاطب نبينا عليه الصلاة والسلام أبا سعيد بن المعلى وأبي بن كعب، وكل منهما كان يصلي وما أجاب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: ألم يقل الله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، وذكرنا أنه يجب على الإنسان إذا دعاه النبي عليه الصلاة والسلام وهو يصلي نافلة أن يقطع الصلاة، كما هو الحال في الأبوين، إلا إذا لاح عنده بقرينة أن الطلب ليس بعاجل، وأمكنه أن يتجوز في الصلاة، وأن يتخفف، وأن يأتي بالأركان والواجبات فقط ثم يجيب، فيجمع بين الحسنيين، فحسن، لكن إذا دعت ودعت ودعت -كما سيأتينا هنا ثلاثاً- وهو مستغرق في صلاته ولا يبالى بهذا النداء الذي يوجه إليه من أمه أو أبيه، فإنه قد عرض نفسه لعقوبة تنزل عليه إذا طلب صاحب الحق ذلك، وهو الأب أو الأم.
( قال: يا رب! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا
قال: ( فتذاكر بنو إسرائيل
قالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، يركب على الدواب السمينة الجميلة الغالية، وله هذه العلامات والأوسمة، عندما يمشي يلفت النظر، قال: ( فترك الثدي وأقبل إليه -إلى هذا الراكب على هذه الدابة- فنظر إليه -وهو في المهد يرضع- فقال: اللهم لا تجعلني مثله )، الأم استغربت، ما ظنت أن هذا الولد يمكن أن يحاور ويتكلم! سكتت الآن، لكنها قررت أن تدخل معه في حوار، وسنرى النتيجة، قال: ( ثم أقبل على ثديها فجعل يرتضع، قال
قال: ( ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها -إلى هذه الجارية المسكينة التي تُضرب ويقولون لها: زانية سارقة- فقال: اللهم اجعلني مثلها )، وهنا تراجعا الحديث، الأم وغلامها الذي في المهد، ( فقالت: حلقى -أي: أصابك الله بداء في حلقك لا تستطيع أن تتكلم، ولا تأكل- مر رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه وهم يضربونها ويقولون: زنت سرقت، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها؟! فقال: إن ذلك الرجل كان جباراً، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنت ولم تزن، سرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها ).
هؤلاء -إخوتي الكرام- ثلاثة أصناف تكلموا في المهد، واحد منهم صاحب العبد الصالح جريج الذي أوقعه فيما أوقعه فيه جهله، وعدم فقهه كما سيأتينا.
ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (لما كانت ليلة أُسري بي أتيت على رائحة طيبة، فقلت: ما هذا يا جبريل؟)، هنا رائحة طيبة، في مكان، في وادٍ من الوديان، والنبي عليه الصلاة والسلام أسري به إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماوات العلى، قال: (فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون، قال: وما خبرها؟ ما شأنها؟)، هذه الرائحة الطيبة من هذه الماشطة، ما شأنها؟ فذكر له شأنها وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بقصتها، قال: (ماشطة ابنة فرعون، كانت تمشطها -تسرحها- فوقع المشط من يدها، فقالت: باسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي -تعنين أبي باسمه فرعون- قالت: لا، الله ربي وربك ورب أبيك)، هذا رب العالمين الله، (قالت: أخبر والدي بذلك )، وهو اللعين فرعون، أخبره أن لك رباً غيره، وهو كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، الحقير المهين ( قالت لها: أخبريه، فأخبرته فدعاها، قال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله، ورب كل شيء، فتهددها إذا لم ترجع عن ذلك ليقتلنها، قالت: افعل ما بدا لك، فجمعها هي وأسرتها وأولادها، وأتى بنُقرة)، والنقرة: هي قدر كبير من نحاس، وفي بعض الروايات: (ببقرة) وهي أيضاً بقرة من نحاس على شكل البقرة، ( وأحماها، ثم أتى بأولادها يلقيهم واحداً تلو الآخر فيها )، وإذا وُضع الإنسان في هذا القدر المحمى ما يمكث إلا لحظة ويموت ويحترق، ( ثم ما بقيت إلا هي وصبي لها ترضعه في المهد، فلما اقتربت من هذه النقرة -أو البقرة- من النحاس لتلقى هي وابنها فيها، كأنها تقاعست وتباطأت من أجل الشفقة على ولدها -ليس من أجل نفسها فهي لا تبالي بنفسها في ذات الله- فقال لها غلامها: يا أماه! إنك على الحق فاصبري، ولا تبالي -وعذاب الدنيا يسير- فطرحته في القدر، ثم ألقيت هي أيضاً فيه ) فاحترقت الأسرة بكاملها، وكانت قد طلبت من فرعون قبل أن يلقوا في القدر وقالت له: إن أبيت إلا إحراقنا فأطلب منك شيئاً واحداً بعد إحراقنا، أن تجمع عظامنا، وأن تدفننا في هذا المكان، في مكان واحد، أسرة نجتمع، حرقتنا في الحياة، نجتمع بعد الممات، عظام تجتمع، فقال: لكِ ذلك علينا، لما لكِ من الحق، يعني أنت تعملين عندنا، هذا الطلب أنفذه لكِ، لا بد من إحراق الأسرة بكاملها، وبعد الإحراق أجمع عظامكم جميعها ثم أدفنكِ في هذا المكان، فهذه الرائحة الطيبة التي انبعثت من ذلك المكان وشمها نبينا عليه الصلاة والسلام في حادث الإسراء والمعراج هي رائحة ماشطة بنت فرعون.
والحديث إسناده صحيح كالشمس، قال عبد الله بن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية المستدرك، وفي بقية الروايات: قال ابن عباس، وأثره له حكم الرفع، لكن في المستدرك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو مُصرح برفع آخر الحديث إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، تكلم في المهد أربعة صغار، هناك ثلاثة وهنا أربعة، هنا يوجد من الأربعة اثنان من الثلاثة، واثنان من غير الثلاثة، ضم اثنين إلى الثلاثة يصبح معنا خمسة، استمعوا للأربعة، أولهم عيسى بن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وثانيهم شاهد يوسف، وهذا لم نذكره، عندما شهد شاهد من أهلها: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] لأن قميصه إذا تمزق من الأمام دل على أنه يهجم عليها ويريدها وهي تدفعه، وإذا تمزق قميصه من الخلف دل على أنه هارب شارد، وهي التي تطارده، وواقع الأمر كذلك، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28].
فمن هو هذا الشاهد؟ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا هو غلام كان في المهد يرضع، وذلك من أجل إظهار براءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
والثالث: صاحب جريج، وقد تقدم معنا، والرابع: ابن ماشطة بنت فرعون.
إذاً: هناك ثلاثة: نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وصاحب جريج، والغلام الصغير الذي مر به وبأمه إنسان يركب على دابة فارهة كما تقدم معنا، فهؤلاء ثلاثة، وشاهد يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وابن ماشطة بنت فرعون، هؤلاء خمسة.
وهذا الحديث الذي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رواه الحاكم في المستدرك أيضاً في الجزء الثاني صفحة خمس وتسعين وخمسمائة بسند صحيح على شرط الشيخين من رواية سيدنا أبي هريرة، يعني الرواية الثانية التي فيها أنه تكلم أربعة في المهد من رواية عبد الله بن عباس ومن رواية أبي هريرة، انظروا المستدرك -كما قلت- في الجزء الثاني صفحة خمس وتسعين وخمسمائة بسند صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي، أما رواية ابن عباس فهي في المستدرك أيضاً -كما تقدم معنا- في الجزء الثاني صفحة سبع وتسعين وأربعمائة، فهؤلاء الأربعة ورد ذكرهم في حديث عبد الله بن عباس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
قال الحافظ في الفتح: اجتمع من هذين الحديثين أن الذي تكلم في المهد خمسة صغار، وهكذا قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء السادس صفحة ست وثلاثين ومائة، فأورد الثلاثة في حديث أبي هريرة الذي تقدم معنا، وقال: وورد أيضاً شاهد نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام وابن ماشطة بنت فرعون -كما تقدم في الآثار سابقاً- فهؤلاء خمسة.
فقال له الراهب: سيكون لك شأن، فإذا ابتليت فلا تدل علي ولا تخبر عني، ثم بعد ذلك تطور الأمر، فعمي وزير الملك، فدُل على هذا الشاب الصالح الناسك، فقرأ عليه فشُفي بإذن الله وعاد إليه بصره، فلما ذهب إلى الملك قال: من رد عليك بصرك؟ قال: الله، قال: أنا؟ قال: ربي وربك الله، فعذبه حتى دل على الشاب، والشاب عُذب حتى دل على الراهب، واجتمع هؤلاء الثلاثة، فقيل للوزير: ترجع عن هذا الدين الذي دخلت فيه وإلا تُقتل؟ قال: ربي وربكم الله، فأتوا بالمنشار فنشروه فلقتين، فوقع شقه الأيمن في جهة، وشقه الأسر في جهة، وما رجع، ثم أُتي بهذا الراهب، وأيضاً شق فلقتين، قسم أيمن وقسم أيسر، ثم بقي الشاب فقال له: ترجع عن دينك؟ قال: لا أرجع، وهو يرى هذه الحوادث أمامه، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فقال: خذوه إلى جبل واصعدوا به، فإذا رقيتم الجبل وصرتم في ذروته اطرحوه حتى يموت شر ميتة، ويقتل شر قتلة، فلما رقوا الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاضطرب الجبل فاهتز بهم فسقط أولئك وماتوا وسلم هو بإذن الله، فعاد إلى الملك، فقال له: ما شأنك؟ قال: كفانيهم الله، الذي بيده كل شيء، فأرسله مرة ثانية مع جنده وجيشه، ووضعه في قرقور سفينة، وقال: توسطوا به في البحر، حتى إذا كنتم في لجته ووسطه واطرحوه حتى يغرق، وبالفعل وضعوه في قرقور، فلما وصلوا إلى وسط البحر قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاضطرب بهم البحر، وارتجفت بهم السفينة فسقطوا وماتوا، وعاد هو إلى الملك، فقال له: لا يمكن أن تقتلني إلا بشيء واحد فقط، ما عدا هذا لا سلطان لك علي، فقال: ما هو؟ قال: أن تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تأخذ سهماً من سهامي، ثم تضعه في كبد القوس، وتصلبني على جذع شجرة، وتقول: باسم الله رب الغلام! واضرب هذا السهم ينطلق يقتلني بإذن الله جل وعلا، بهذا يمكن أن تقتلني، وسيضحي بنفسه من أجل هداية الأمة وإنقاذها من الضلال، فاجتمع الناس، وصلب على شجرة، وأخذ الملك سهماً من كنانة هذا الغلام وسدده وقال: باسم الله رب الغلام! فضربه، فأصابه في صِدغه، فوضع ذات يده على هذا المكان، ومات بإذن الله جل وعلا، فلما رأى الناس ذلك قالوا: آمنا بالله رب الغلام، فقيل للملك: وقع ما كنت تحذر وتخاف، فقد كنت تخشى فتنة الرعية وإيمانهم، والآن كلهم آمنوا بالله، فخدَّ الأخاديد وأضرم فيها النار، وجمعهم، وكل من لم يرجع عن دينه ألقاه في النار التي تضطرم، قال تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:4-7]، وكان من جملة من ألقي في النار امرأة جاءت ومعها صبي لها يرتضع من ثديها، فتقاعست من أجله كما حصل مع ماشطة ابنة فرعون، فقال لها: يا أماه! إنك على الحق فاصبري، فطرحته في النار وألقت نفسها في النار. وهذا الحديث ثابت وهو في صحيح مسلم وغيره كما قلنا.
التاسع: خير خلق الله أجمعين نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، روى ذلك الواقدي في المغازي: أن نبينا عليه الصلاة والسلام تكلم عند ولادته في المهد، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
والأثر من رواية معرض -بالضاد- ابن معيقيب اليمامي، قال: ( دخلت على النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، وهو في مكة المكرمة -صانها الله وشرفها- فرأيت وجهه يبرق سروراً أضوأ من القمر -عليه صلوات الله وسلامه- ودخل رجل من أهل اليمامة عنده ولد صغير في المهد -لفه بخرقة، أتى به إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ليُبرِّك عليه، وليدعو له- فنظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: يا غلام! من أنا؟ قال: أنت محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام )، فسمي بمبارك اليمامة.
والحديث في إسناده ضعف شديد، قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية معلقاً على هذا الأثر: هذا حديث غريب جداً. انظروا البداية في الجزء السادس صفحة ثمان وخمسين ومائة، قال: هذا حديث غريب جداً، وليس هذا مما يُنكر عقلاً ولا شرعاً. فليس بمستحيل في العقل ولا بمحذور في الشرع، فالشرع قد ورد بنظيره، والعقل يسمح بوقوعه، قال: وليس مما ينكر عقلاً ولا شرعاً، فقد ثبت في الصحيح قصة صاحب جريج، وثبت أيضاً لغيره. فليس هذا ببعيد، وما ذلك على الله بعزيز، لكن الحديث في إسناده ضعف، وهو مروي في دلائل النبوة للإمام البيهقي، وفي غير ذلك من الكتب كما ذكرت.
وعليه: فقد ذكرنا عشرة أفراد كلهم تكلموا في المهد، جمعهم الحافظ ابن حجر في الفتح -كما قلت- في الجزء السادس صفحة ثمانين وأربعمائة، إن شئتم أن تنظروا كلامه في ذلك في قرابة صفحتين حول هذه المسألة.
روى الحسن بن سفيان في مسنده كما في الفتح في الجزء الثاني صفحة ثمان وسبعين، عن يزيد بن حوشب عن أبيه، وأبوه حوشب صحابي، لكن يزيداً هذا مجهول كما قال الحافظ في الفتح، عن يزيد بن حوشب عن أبيه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لو كان
وحديث جريج بوَّب عليه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، كما رواه في كتاب أحاديث الأنبياء في الجزء السادس من شرح الحافظ ابن حجر، ورواه في كتاب الصلاة في الجزء الثاني صفحة ثمان وسبعين، انظروا لهذه الترجمة ولهذا الاستنباط، قال: باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة. يعني ما الحكم؟ ثم أورد حديث جريج، واستنبط منه أنه يجب عليه أن يجيب؛ لأن جريجاً لو أجاب لما وقع في زلة، ولما أخطأ في فعله، ولما أثر فيه دعاء أمه، لكن بسبب تقصيره دعت عليه فاستحق أن يرى وجوه المياميس، فرأى وجوههن، ونعم ما دعت عليه بالفتنة في الدين، والوقوع في معصية رب العالمين، هو عرَّض نفسه لهذا الخطأ، فلو كان عالماً وفقيهاً لما وقع فيما وقع فيه، ولكان قطع الصلاة وقال: لبيك! ماذا تريدين يا أمي؟ سمعاً وطاعة، وهي كانت ستدعو له بدلاً من أن تدعو عليه، لكن هو الذي أوقع نفسه بنفسه في هذه الورطة بسبب عدم فقهه وعلمه بشريعة ربه.
وكم يقع مثل هذا في زماننا! أخبرني مرة بعض السفهاء ممن يدَّعون الالتزام في هذه الأوقات، سفيه قابلته سابقاً في الإمارات في رأس الخيمة: يقول: كان والده على شيء من المعصية، وأحياناً يقصر في صلاة الجماعة، وأحياناً يعصي، فقلت له: كل بني آدم خطَّاء، والولد ينصح الوالد، لكن لا بد من أن ترفق به، وأن تقول له قولاً كريماً، فيقول: أنا عندما أكلمه ألكمه، وأضربه على وجهه، حتى يبكي! فقلت له: يا رجل! أما تستحي من الله؟! وأنت تدَّعي الالتزام، ولك لحية تزيد على الشبر، أما تستحي من الله، أما تخشى أن يمسخك الله قرداً أو خنزيراً؟! يا رجل! افرض أنه قصر حتى في الصلاة من أولها لآخرها، ما الذي جعلك أنت تتطاول عليه؟ لا نقول له: اتركه، لكن قل له: يا والدي! الجماعة مطلوبة، صل مع المسلمين. لكن الولد يستضعف أباه، فهو شاب قوي وذاك ضعيف مسكين، يضاف إلى ذلك الحنو الذي في قلب الأب يمنعه أن يطور الأمر، ولا يريد أن يجعل الأمر يزداد.. يضرب أباه والله تعالى القيوم يعلم بهذا! وكأنه يضرب سخلة أو حماراً! قلت له: تضرب والدك وما تخشى أن تيبس يدك، وأن يمسخك الله! يا عبد الله! إذا كان مشركاً فقد أمرك الله بمصاحبته في هذه الحياة بالمعروف، قال تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، قال أئمتنا: (في الدنيا)، فيها إشارة إلى أمرين معتبرين:
أولها: الوالدان وإن كانا على شرك بالرحمن، ومعصية لذي الجلال والإكرام، فصحبتهما يسيرة فتحمَّل، هذا ما أوجبه الله عليك، فهي في الدنيا فقط، وفي الآخرة أنت في الجنة وهما في جهنم، هذا إذا كانا كافرين. فأنت قد ابتليت بلية دنيوية فتحمل.
الأمر الثاني كما قال أئمتنا: أن الصحبة قاصرة على الأمور الدنيوية، فلا طاعة لهما في الأمور الشرعية، يعني: لو أمرك أبوك ألا تصلي، وأمرت الأم البنت ألا تتحجب، فتقول: يا أمي! لا طاعة لكِ في هذا، أنت أمي وأفديك بروحي، وغير ذلك من الكلام الطيب، لكن لا طاعة لكِ في هذا، وأنت إذا غضبت علي لأنني ما أطعتك في معصية الله، فأنتِ المخطئة، وأنا إن شاء الله لست بعاقة، وكذلك الولد ليس بعاق عندما يخاطب الأبوين أو أحدهما بهذا الأسلوب، أما أن تأتي وتلكمه فهذه سفاهة، وهذا كله بسبب الجهل، وكيف سيلقى الله هذا العاق؟! يقول الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، وهي أقل ما يقال مما يدل على التضجر، فلا يجوز أن يصدر هذا منك، التضجر والتأفف باللسان، فكيف بعد ذلك تضرب باليد؟! وهو يظن أنه بذلك ينصر دين الله، قلت: يا عبد الله! أنت مخذول، وكيف ستلقى بعد ذلك العزيز الغفور؟! تظن أن هذه سهلة، هو مخطئ مقصر، وأنت الواجب عليك أن تنصح، انصح وتكلم وأظهر بين يديه التملق له والتعلق به والحرص عليه، وابك بين يديه، يا والدي! أخشى عليك من النار، من غضب الجبار، أفديك بروحي، ماذا تريد؟ خذ مني واستقم على طاعة الله، أما إذا تأخر عن الجماعة فيأتي ويلكمه، وبعد ذلك يدعي أنه مطيع لله! من هذا الشباب الهابط الذي يعبد ربه في هذه الأيام على عقله لا على حسب شرع ربه!
لقد انتشر عقوق الوالدين في هذه الأيام بسبب الجهل، فاستمع الآن لـجريج، يا عباد الله! ما جرى منه تأفف ولا تضجر ولا كلم أمه ولا أباه -كما يقال- بكلمة قاسية، ومع ذلك دعت عليه أمه: اللهم لا تمته حتى يرى وجوه المياميس، ولولا لطف الله به لضربوه بمساحيهم وعصيهم وقطعوا رقبته، هدموا الصومعة وهو فيها حتى خرج، واتهموه بالزنا، لكنه التجأ إلى الله وهو منكسر بين يديه ليبرئه، وعلم الله صدقه فأنجاه.
ولو كان -كما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أثر يزيد بن حوشب - لو كان جريج عالماً فقيهاً لعلم أن إجابته لأمه أولى من عبادة ربه.
إخوتي الكرام! هؤلاء الأفراد العشرة كلهم يدخلون فيمن تكلموا في المهد، وبعضهم تكلم في المهد وصار نبياً بعد ذلك، وبعضهم لم يثبت له وصف النبوة، فتقدم معنا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويحيى في جملة ما قيل، والخليل، ونبينا عليه الصلاة والسلام، هؤلاء الأربعة أنبياء وتكلموا في المهد، وهذا الأمر الخارق للعادة يقال له ضمن التعريف الدقيق: خوارق العادات، ويسمى إرهاصاً، وقد تقدم معنا أن خارق العادة إذا جرى على يد من سيكون نبياً قبل نبوته فيسمى إرهاصاً، وأشرت إليه في مباحث النبوة، وقلت: سوف يأتينا الكلام عليه بعد ذلك تفصيلاً، والإرهاص: من الرهص، وهو أساس الجدار، وهو مقدمة للنبوة، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد ذكرنا من ذلك عندما ولد مسروراً مختوناً، وما حصل من آيات عند ولادته عليه الصلاة والسلام، وقلت: هذا يقال له: إرهاص على يد من سيكون نبياً.
وأما إذا ظهرت هذه الخوارق وجرت وصدرت ممن ليسوا بأنبياء، ممن لم يصبحوا أنبياء في المستقبل، فإنها تدخل في دائرة الكرامة، وتقدم معنا أن الخارق للعادة له ستة أنواع: إرهاص أولها، معجزة ثانيها، كرامة ثالثها، معونة رابعها، استدراج خامسها، إهانة سادسها، ستة أنواع، جمعت في أبيات من الشعر محكمة كل نوع قيل في بيت من الشعر:
إذا رأيت الأمر يخرق عادة فمعجزة إن من نبي لنا ظهر
وإن بان منه قبل وصف نبوة فالارهاص سِمْه تتبع القوم في الأثر
وإن جاء يوماً من ولي فإنه الـ كرامة في التحقيق عند ذوي النظر
وإن كان من بعض العوام صدوره فكنوه حقاً بالمعونة واشتهر
ومن فاسق إن كان وفق مراده يسمى بالاستدراج فيما قد استقر
وإلا فالإهانة عندهم وقد تمت الأقسام عند الذي اختبر
هذه ستة أنواع لخوارق العادات ما بين إرهاص وما بين كرامات.
إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بالدليل الثالث من الأدلة الأربعة التي تدل على منزلة الفقه.
أما الدليل الرابع، فقد أجلت الكلام عليه لأتكلم عليه في موعظة تناسب مكانة صاحبه، وهو قول نبينا عليه الصلاة والسلام لابن عمه سيدنا الحبر البحر ترجمان القرآن: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، هذا مما يدل على منزلة الفقه في الدين، وسأتكلم عنه في الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه، وعلى أثر هذه الدعوة في هذا الغلام المبارك الذكي الزكي النبيه المجد سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وكيف كان فقيه الصحابة في زمنه، أترك هذا للموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر