أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
وبعد:
فقد جاء الشرع الكريم بالرحمة والرأفة ورفع الحرج، فما جعل علينا في الدين من حرج، وراعى قدرات الخلق وإمكاناتهم وأجاز أموراً ممنوعة للضرورة، قال تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173] ، وقال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، فالشاهد من ذلك: أن قدرات الناس يجب أن تراعى، وكذلك الأحاسيس والمشاعر.
ومن ذلك: مجيء عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه عبد الله بن أُبي، وكان رأس المنافقين كما هو معلوم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! استغفر لأبي، وألبسه قميصك!) يعني: لعله أن يُرحم بسبب ذلك، وكان هذا قبل أن ينزل قول الله تبارك وتعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما طلبه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول منه، فاستخرجه وألبسه قميصه، ونفث فيه من ريقه واستغفر له، ولما جاء عمر وقال: يا رسول الله! تستغفر له وقد قال كذا يوم كذا وكذا؟ فقال: (أخر عني يا
فما دام أنه لم يكن هناك نهي وثمّ جبر لخاطر عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وهو رجل مؤمن؛ فلا مانع من جبر الخاطر وتهدئة المشاعر، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا
ومن مراعاة الأحاسيس أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) ، فسب الأموات فيه أذىً للأحياء، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الأموات مراعاة لأحاسيس الأحياء، والله تبارك وتعالى أعلم.
اللهم! إلا إن كان هذا الميت قد سن سنة سيئة في المسلمين، فحينئذٍ يُذكر للتحذير منه، كما قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت
فالشاهد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو بن لحي؛ لكونه سيب السوائب، وذكر أنه رآه يجر قصبه في النار، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2]، فالشاهد: أن لمسألة سب الأموات فقهاً، وأن الأصل عدم سب الأموات، اللهم إلا إذا دعت ضرورة لسبهم ولبيان أحوالهم؛ لكونهم سنوا في الناس سنناً سيئة، فحينئذٍ يُذكرون بمساويهم؛ حتى يحذرهم الناس، ويحذروا سننهم، والموفَّق هو الله سبحانه وتعالى.
أما إذا لم تكن ثمّ حاجة إلى ذكرهم بسوء، فحينئذٍ يضرب الذكر صفحاً عنهم، قال فرعون لموسى على نبينا وعلى موسى السلام: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] ، وقد قال عدد من العلماء لما سُئلوا عن الخلافات التي دارت بين الصحابيين الكريمين علي ومعاوية رضي الله عنهما، قالوا: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل لما صلى بالناس صلاة العشاء وأطال في الصلاة إذ استفتح بالبقرة، فانفض رجل من خلف معاذ وفارقه وأتم صلاته وحده، فبلغه أن معاذاً نال منه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوه إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفتانٌ أنت يا
وكذا لما جاء بنو مخزوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستشفعون عنده بـأسامة بن زيد كي يتجاوز عن قطع يد السارقة، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو أن
فهذا باب يجب أن يُراعى، ألا وهو مراعاة الأحاسيس والمشاعر والقدرات، ودوماً الموفق من وفقه الله، وفقنا الله وإياكم لكل خير، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر