الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فنحن في هذا المجلس بإذن الله تعالى نتكلم على شيء من تفسير سورة الفاتحة أو السبع المثاني، وهذه السورة هي من عظائم السور التي امتن الله عز وجل بها على نبيه وعلى هذه الأمة.
هذه السورة الكريمة فيها من جليل المعاني، ومن الأمور المهمة والمقدمات الجليلة التي ينبغي أن نقدمها في صدر الكلام على تفسير هذه السورة:
فأقول: ينبغي لكل طالب علم أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل وحيين على رسوله صلى الله عليه وسلم متلازمين من جهة الحجة وقيامها على هذه الأمة، أولهما: كتابه سبحانه وتعالى القرآن العظيم، ثانيهما: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي وحي من الله عز وجل كما أوحى الله عز وجل القرآن على رسوله، نزل بهذه السنة جبريل عليه السلام على رسوله كما نزل بالقرآن، ولهذا يقول حسان بن عطية كما روى الخطيب، قال: نزل جبريل بالسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نزل بالقرآن.
وكذلك أيضاً فإن سنة النبي عليه الصلاة والسلام موصوفة بالكتاب، فإذا أطلق كتاب الله فيراد به القرآن ويراد به السنة، وهذا استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موضع من كلامه عليه الصلاة والسلام، وربما يفترقان فيسمى القرآن: بالكتاب، وتسمى السنة: بالحكمة؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، والحكمة: هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم على قول غير واحد من المفسرين، والكتاب: هو القرآن: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:48]، فالكتاب: القرآن، والحكمة: هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما فسر ذلك غير واحد: كـابن عباس وابن مسعود وغيرهم من المفسرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة موصوفة بالتلاوة كالقرآن كما قال الشافعي رحمه الله: السنة وحي يتلى، وقاله ابن حزم رحمه الله أيضاً، يتعبد الإنسان بتلاوتها كما يتعبد بالقرآن، إلا أن الله عز وجل قد جعل للقرآن مزيد خصائص وفضل من جهة الأجور ومن جهة اختصاصه بمواضع من حال الإنسان وعبادته كالقراءة في الصلاة وغير ذلك، فكان لكلام الله عز وجل جملة من الخصائص باعتبار أن حروفه ومعانيه من الله جل وعلا، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالمعاني من الله والحروف هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم غالباً توصل مراد الله بالمعنى الذي يفهمه الناس، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتدبرها وتأملها والعناية بها من الأمور المتحتمة على طالب العلم.
وقرنها بكلام الله جل وعلا من جهة معرفة البيان ومعرفة التفسير، ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ من المنسوخ، ومعلوم أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام لها أثر في القرآن أكثر من العكس وكلها وحي؛ وذلك أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام مفسرة لما أجمل من القرآن ومبينة له ومقيدة لما أطلق وناسخة لما نسخ منه؛ ولهذا السنة تنسخ القرآن أكثر من أن ينسخ القرآن السنة.
ولهذا فمعرفة المعاني في كلام الله عز وجل لا بد لها من معرفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم المقترن بها، حتى يصبح الإنسان عالماً بكلام الله عز وجل كما يريد الله لا كما يريد الإنسان؛ لأن في القرآن من الإطلاقات والعمومات ما لا تحمل على ظاهرها؛ ولهذا يقول العلماء عليهم رحمة الله: إن القرآن غائي، والمراد بالغائي، يعني: معانيه تطلق إلى مرتبة الغاية، بخلاف السنة: السنة تفصيلية فتفصل الأحكام وتبينها ولا يراد من ذلك الغاية؛ ولهذا تجد في كلام الله جل وعلا من معاني الصلاة أشياء متنوعة: منها العبادة، ومنها غيرها، وغالباً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة المراد بها الصلاة المعروفة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم.
وكلام الله على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد بجميع أنواعه، سواء ما يتعلق بربوبية الله أو بألوهيته أو بأسمائه وصفاته.
القسم الثاني: الحلال والحرام، وهي آيات الأحكام وما في كلام الله عز وجل من فروع ذلك وتفاصيله مما يدخل في أمور المستحبات من الآداب والسلوك وغير ذلك؛ فإنها داخلة في أمور الأحكام، باعتبار أن الأحكام التكليفية هي الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح فهي داخلة في دائرة ذلك، فمعرفة مواضع العقائد في القرآن من الأمور المهمة، ومعرفة مواضع الحلال والحرام من الأمور المهمة أيضاً؛ لأن أعلى مراتب الاحتجاج هي الاحتجاج بكلام الله.
فلا ينبغي لطالب علم أن يرى الحجة ظاهرة من كلام الله ثم يتنكبها إلى قول من دونها، سواء كان من السنة أو كان من الموقوف فضلاً عن أقوال العلماء.
إذا أراد الإنسان أن يدلل على وجوب الصلاة والآية ظاهرة في كلام الله عز وجل، يقول: قال الله جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فالإنسان مأمور بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بدليل ظاهر من القرآن، فيستدل بالقرآن لا يستدل بغيره، ثم بعد ذلك إن شاء أن يضيف إلى ذلك من أمور الاستدلال من غيرها من السنة والآثار والإجماع وغير ذلك فهذا من أمر السعة؛ ولهذا كان السلف الصالح إذا ظهرت لهم الحجة من كلام الله سبحانه وتعالى استدلوا بها وقدموها على غيرها إلا إذا كان في ذلك إجمال فإنهم يستدلون بما دونها من التفصيل.
ولهذا لما انتدب علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى عبد الله بن عباس ليناظر الخوارج، قال عبد الله بن عباس : إني أريد أن أناظرهم بالقرآن، فقال له علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى: لا تناظرهم بالقرآن، قال: إن القرآن في بيتنا نزل، يعني: في بيت النبوة ونحن أعلم الناس به وبتأويله، فقال علي بن أبي طالب عليه رضوان الله: إن القرآن حمال أوجه، يعني: هناك إطلاقات وعمومات مفسرة بالسنة؛ ولهذا الله عز وجل يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19]، بيانه غالبه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير ومعرفة المعاني؛ ولهذا تضل الأمة إذا أخذت بجزء من الشريعة وغيبت جزءً آخر كما كان يفعل بنو إسرائيل.
وضلال بني إسرائيل على أنواع: منه أنهم أخذوا وجهاً وتركوا وجهاً آخر، أخذوا بالعموم وتركوا الخصوص، أو أخذوا بالخصوص وغيبوا العموم، أو أخذوا بالمنسوخ وتركوا الناسخ، فوقعوا في شيء من الضلال فضلاً عما وقعوا فيه من التحريف والتبديل لآية بعينها.
ولا يكاد يجد الإنسان في كلام الله عز وجل ما لا يعرف معناه أو لا يعرفه أحد، وهذا أيضاً موضع خلاف عند العلماء: هل يوجد في القرآن ما لا يعرف معناه أحد من الخلق، يعني: أنه من المتشابه المطلق.
ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل في القرآن آيات محكمات: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، يعني: هن الأصل من الإنزال والمراد وهي الأكثر، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، فالمتشابه في كلام الله سبحانه وتعالى هل هو مطلق، بمعنى: أنه لا يعرفه أحد؟ نقول: إنه لا يكاد يوجد في كلام الله عز وجل متشابه مطلق إلا وله بيان، وهذا البيان يختلف من شخص إلى شخص معرفةً بمقدار علمه من الشريعة؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير: ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، ما قال: جميع الناس، إذاً هي متشابهة عند الكثير، ولكنها ليست متشابهة عند الجميع، من الذي يعلمها؟ يعلمها أهل العلم والمعرفة الذين أكثروا أخذاً من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينئذ يستطيعون تفسيره، لكنها قد تكون متشابهة عند عالم واحد أو نحو ذلك.
وما من أحد من الناس إلا ولديه متشابه في كلام الله لا يعلم تأويله، فما من شيء هو من دين هذه الأمة -وإذا علمه الإنسان وجب عليه أن يؤمن به ويكون متشابهاً مطلقاً- لا يعلمه أحد؛ لأن هذا ينافي مقتضى البيان الواجب في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة؛ لأن الله عز وجل أنزل كتابه تبياناً وما أنزله سبحانه وتعالى ليكون فيه شيء من المتشابه المطلق.
وبعض العلماء قال: يوجد متشابه مطلق، ولكنه نزر يسير وشيء قليل، وسبب وجود هذا المتشابه، قالوا: شيء من التعجيز ويحملون ذلك على بعض المواضع كالحروف المقطعة من كلام الله، قالوا: ما معناها؟ لا يستطيع أحد أن يجزم بمعنى معين من هذه الحروف: ك(حم) و(ن) و(ق) و(ص) وغير ذلك من الحروف في القرآن، ما معناها وما مراد الله عز وجل بها؟ هذا من مواضع الخلاف، فمن العلماء من يجتهد في معناها، ومنهم من يقول: هذا من المتشابه وعلمها عند الله سبحانه وتعالى.
وأما ما يتعلق بمجلسنا في هذا اليوم فهو الكلام على تفسير سورة الفاتحة، وهي تسمى: بالسبع المثاني، وقد خصها الله عز وجل بجملة من الخصائص والفضائل.
وفي مقدمة هذه السورة نشير إلى مسألة: وهي فضائل السور، هل سور القرآن تتفاضل، يعني: سورة أفضل من سورة وآية أفضل من آية؟ مع أن ذلك هو كلام الله سبحانه وتعالى كله، وله من المنزلة والمزية ما تشترك الآيات والسور فيه، فنقول: إن هذا أيضاً من مواضع الخلاف، والذي تعضده النصوص من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آي القرآن وسوره تتفاضل، ولكن ليس تفاضلاً مطلقاً.
كلام الله سبحانه وتعالى من جهة مجموع خصائصه يشترك من جهة الفضل، فهو كله كلام الله سبحانه وتعالى وليس بمخلوق, وكله شفاء لهذه الأمة، ورحمة وفضل وخير وأجر، إذا قرأ الإنسان منه حرفاً فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وهذا فضل الله عز وجل جعله لجميع القرآن.
لكن الخصائص التي جعلها الله عز وجل في مواضع دون مواضع هي من جهة الأصل متعلقة بأثرها على العبد؛ لوجود تباين فيها من معانيها؛ لهذا نقول: الإنسان إذا كان لديه مرض من الأمراض كالجهل فعلاجه السؤال، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإنما شفاء العي السؤال )، قال: شفاء، شفاء الجهل أن تسأل، وهذا يدل على تمايز القرآن بعضه عن بعض بسبب مواضعه لا بذاته مطلقاً؛ ولهذا نقول: إن الإنسان إذا كان جاهلاً لحكم الصلاة فهل يستدل بأحكام الطهارة حتى يفهم الصلاة؟! لا، أيها أفضل له؟ الأفضل له أن يفهم أحكام الصلاة من آيات الصلاة، هذا دليل على فضل آيات الصلاة في هذا الموضع، كما أن الإنسان إذا أصبح مريضاً أو به مس أو نحو ذلك فإنه يرقى ببعض الآي، فكل شيء من القرآن في موضعه الذي يظهر منه معنى أو دل عليه دليل من سنة النبي عليه الصلاة والسلام يكون أفضل من غيره، وغيره يشترك معه بمجموع الفضائل.
لهذا نقول: إن آيات الصفات شفاء لعي الجهل بها، وآيات التوحيد في الربوبية والألوهية هي أفضل من غيرها من جهة معرفة المعاني في هذا الباب؛ ولهذا نقول: إن فضلها يختلف بحسب الحاجة إلى ذلك الموضع.
ولهذا نقول على ما تقدم: القرآن توحيد وأحكام وقصص؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن )، ثلث القرآن من جهة هذا التقسيم؛ لأنها توحيد.
ولهذا جعل الله عز وجل أجر قراءة القرآن على وجوه: أجر قراءة معانيه، فقراءة آي التوحيد تختلف عن قراءة آي الأحكام والقصص، وقراءة القرآن من جهة حروفه سواء، ولكن من جهة معانيه تتمايز بمقدار التكليف الواجب على الإنسان، فالذي يعتني بمعرفة آي القرآن في التوحيد والحلال والحرام، يقال: أفضل من غيره، لماذا؟ لاختلاف مقامات العلم.
فهل الذي يقرأ في القرآن في أمور الآداب من اللباس ودخول البيوت والاستئذان وغير ذلك، كالذي يقرأ في آيات العقيدة والأحكام والحلال والحرام؟ لا، مرتبة هذا أعظم من مرتبة ذاك، إلا أن القرآن لا يهجر، يعلم منه هذا ويعلم منه هذا، ولكن يؤخذ بقدر التكليف الواجب عليه؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، تعدل ثلث القرآن، هي في باب الجزاء لا في الإجزاء، يعني: أن الله عز وجل يجعل ذلك ثواباً له يعدل ثلث القرآن كما يقرأ الإنسان معاني التوحيد، فمعاني التوحيد يجدها مجتمعة في هذا، لا أن ذلك يجزئه عن قراءة القرآن كاملاً، فيقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ثلاثاً، قال: حينئذ يؤتى قراءة القرآن كاملاً، نقول: هذا من أمور الجزاء لا أمور الإجزاء .
وكذلك أيضاً فإن تفاضل القرآن في ذلك من جهة جمع سياقاته وألفاظه والمتشابه من ألفاظه ثم يدرك الإنسان من ذلك معنى، هذا يشترك فيه القرآن، فإذا أراد الإنسان أن يفهم معنى للصلاة يجمع إطلاقات الصلاة في القرآن، فهذا يخرج بشيء من المعاني والتدبر ما لا يخرج به غيره، الزكاة يجمعها من مواضع متعددة مع اختلاف السياقات؛ لهذا ثمة اشتراك في معاني القرآن، وثمة اشتراك أيضاً في أجوره، وثمة تمايز في معانيه، وإن كان كله هو كلامه سبحانه وتعالى.
من العلماء من قال: لا يوجد تفاضل بين مواضع القرآن وهذا فيه نظر؛ وذلك لأن النصوص ناطقة بتفاضلها، ولكن هذا التفاضل هو على هذا الوجه.
هذه السورة التي نتكلم عليها -وهي سورة الفاتحة- قد خصها الله عز وجل بجملة من الخصائص وفضلها الله عز وجل على غيرها بجملة من الفضائل المؤثرة على الإنسان؛ ولهذا تسمى: بالسبع المثاني؛ لعدد آيها.
وجعلها الله سبحانه وتعالى صلاةً بينه وبين عبده، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة ( قال الله جل وعلا: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله، قال الله جل وعلا: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله سبحانه وتعالى: مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، قال: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ).
فالله سبحانه وتعالى سماها: صلاةً، باعتبار أنه لا تقوم صلاة الإنسان إلا بقراءتها؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن )، فهذه السورة تسمى: بأم القرآن، وتسمى: الفاتحة، وتسمى: السبع المثاني، كما جاء عن رسول الله أنه جعلها أفضل سور القرآن.
ومعلوم أن ثمة أفضلية لآيات وثمة أفضلية لسور؛ فأفضل سور القرآن اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أشهرهما الفاتحة وسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ثم اختلف في أيهما أفضل؟! وظواهر النصوص في هذا: أن أفضلية الفاتحة مقدمة على أفضلية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ؛ وذلك لقوة الإطلاقات في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال: ألا أدلك على أعظم سورة في القرآن أنزلت علي؟ فقرأ عليه عليه الصلاة والسلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، فأتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فقال: هي السبع المثاني والقرآن العظيم )، وهذا من الخصائص التي جعلها الله جل وعلا لهذه السورة.
وكذلك أيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قد جعلها مزيةً لهذه الأمة تختلف عن غيرها، وجعلت في مقام الزبور، أي: أن هذه السورة وحدها تساوي ما جاء في الزبور، فقد جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة منها حديث أبي هريرة، وجاء أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( الطوال تعدل التوراة، والمئين )، يعني: الآيات التي فيها مئون ( تعدل الإنجيل، والفاتحة السبع المثاني تعدل الزبور، وفضل الله عز وجل رسوله بالمفصل )، يعني: بالمفصل من القرآن.
وكان السلف أول ما يبدءون به هو معرفة المفصل من الأحكام؛ ولهذا روى البخاري في كتابه الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حفظت وعلمت المفصل، يعني: عرفت المفصل، إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أول ما يبدأ به أن يبدأ بمعرفة مفصل القرآن، وألا يبدأ بالطوال، وعلى هذا كان السلف الصالح من الصدر الأول.
ومن خصائصها ومزاياها: أنها رقية، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري : ( أنه لما رقى رجلاً من لدغة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: وما يدريك أنها رقية؟ ).
وكذلك أيضاً من خصائصها ومزاياها: أنها مع قصرها جعلت في صدر القرآن، وهي سابقة حتى للطوال، وهذا بإجماع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى؛ لأنه لا تتم صلاة الإنسان سواء كانت فرضاً أو نفلاً إلا بقراءتها، بل جعلها الله عز وجل حتى في الصلاة التي ليست لها ركوع ولا سجود وهي صلاة الجنازة، فيجب على الإنسان أن يقرأها، فلا صلاة للإنسان إلا بقراءة فاتحة الكتاب؛ ولهذا تسمى: سورة الصلاة، ويطلق عليها أيضاً: أنها هي الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل )، ثم تقدم الحديث في هذا، أي: الإشارة إلى معنى الصلاة إلى أنها الفاتحة، ولا تصح صلاة الإنسان إلا بها.
من مواضع الخلاف في هذه السورة: أن بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، هل هي آية منها أم ليست بآية، وإنما هي فصل بين هذه السورة وبين غيرها مما يقرؤه الإنسان؟
نقول: مما ينبغي أن يعلم أن العلماء يتفقون على أن: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، جزء آية من القرآن في سورة النمل، وذلك في كتاب سليمان: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، هذا الموضع ليس فيه خلاف، ومن شكك في ذلك فقد كفر، واختلف فيما عدا ذلك.
وثمة خلاف قوي وخلاف يسير: فالخلاف القوي في هذا هو في موضعين: في براءة وفي الفاتحة، ففي سورة الفاتحة الأشهر: أنها آية من سورة الفاتحة، وأما براءة فالأشهر أنها ليست آيةً منها.
وقد تكلم العلماء عليهم رحمة الله تعالى على أحكام البسملة وفضائلها ومواضعها في الذكر، سواء كان ذلك في قراءة القرآن أو في غيره، وقد صنف في هذا جماعة من العلماء، كـالخطيب البغدادي وابن عبد الهادي وابن عبد البر وابن خزيمة، وصنف ابن الصبان فيها رسالة، وهو أوسع من تكلم فيها، وهذه الرسالة تسمى: الرسالة الكبرى في أحكام البسملة.
ولها أحكام متعددة جداً: منها ما يتعلق بذكرها فاصلة بين السور، ومنها ما يتعلق بذكرها في مواضعها، كذكرها عند الأكل، وعند الذبح، وعند دخول المسجد، وعند دخول الخلاء وعند ستر العورة أو كشفها وغير ذلك من المواضع التي جاءت فيها، وقراءتها في فواصل السور، ثم أيضاً أحوال قراءتها والزيادة والإضافة عليها على: الرحمن الرحيم، في قول أو اختصارها: باسم الله، من غير إضافة: الرحمن الرحيم، أو إضافة شيء عليها: باسم الله وعلى ملة رسول الله، أو: باسم الله والله أكبر، كما جاء في مسألة الطواف أو غير ذلك، أو باسم الله وعلى ملة رسول الله كما في وضع الميت في قبره، أو: باسم الله مجرداً عند الذبح، أو: باسم الله وإضافة ألفاظ أخرى كلا حول ولا قوة إلا بالله، وغير ذلك من المواضع المتعددة التي جاءت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكلم فيها العلماء بكلام طويل.
أشهر هذه المسائل ما يتعلق بباسم الله: هل هي آية من أول كل سورة، أم ليست بآية؟ ومن مواضع الخلاف ما يتعلق بسورة الفاتحة.
ومن مواضع الخلاف في البسملة: الجهر بها في الصلاة، وهذا أيضاً من مشهور المسائل وأعلامها عند العلماء: هل قبل الفاتحة يجهر بقراءتها في صلاته أم لا، وكذلك أيضاً في السور إذا أراد الإنسان أن يستأنف قراءة سورة من أولها في صلاته، هل يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، أم لا يقرؤها؟ هذا أيضاً من مواضع الخلاف عند العلماء.
وأشهر الأدلة في هذا هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى الذي رواه الإمام أحمد وكذلك رواه النسائي في كتابه السنن، من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة أنه قال: لأصلين بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، إلى آخر الحديث، فهذا من أدلة العلماء القائلين بالجهر بها، ومن العلماء من قال: إن ذكر البسملة في هذا الحديث غير محفوظ، وقد جاء من طرق متعددة وليس فيه ذكر البسملة.
ومنهم من قال: إنه يقرأ البسملة وتسمع منه، لكنه لا يجهر بها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى: ( أنه كان يفتتح صلاته بالحمد لله رب العالمين، ولا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )، وعلى هذا كان أبو بكر وعمر، وهذا هو المشهور من عمل السلف كالصحابة؛ فإنهم كانوا يتلفظون بالبسملة بينهم وبين أنفسهم، إلا أنهم لا يجهرون بها، والأدلة الواردة في الجهر بها معلولة فيما أرى، تكلم فيها الحفاظ.
تكلم على هذا جماعة من العلماء كـابن عبد الهادي رحمه الله في رسالة البسملة، وتكلم على هذا أيضاً ابن عبد البر رحمه الله في كتابه الاستذكار، وتكلم على هذا ابن الصبان أيضاً في الرسالة الكبرى، وثمة أيضاً كلام حسن للزيلعي رحمه الله في نصب الراية، تكلم على هذه المسألة وعلى هذه الأحاديث وبين عللها، وقال: إن هذه المسألة هي من المسائل المشهورة ومن أعلام المسائل، ولو صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام لجاءت عنه بأشهر وأقوى الأسانيد.
إذاً: فمسائل البسملة متعددة ويرجع إليها في مواضعها، ولو أردنا أن نتكلم عن البسملة والمواضع الواردة فيها والأحكام المتعلقة وخلاف العلماء في ذلك في مواضع متعددة، لأخذ منا هذا المجلس كاملاً وربما يزيد، فنحيل إلى هذه المصنفات التي صنفت في هذا الباب.
في قول الله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]: الحمد هنا هو ذكر صفات المحمود على وجه الحب له، فإذا ذكر الإنسان صفات أحد -وهو يحبه- فهذا حمد له، فيصفه مثلاً بالقوة، ويذكره باللطف ويذكره بالرحمة وبالشجاعة وغير ذلك، فإن هذا من صفات حمد الإنسان لمن يحب، وهنا يقول: الحمد لله رب العالمين، فجعل الحمد له مستغرقاً لجميع المحامد لله سبحانه وتعالى، أي: لا يبقى شيء من ألفاظ ومعاني الحمد التي يفخر بها إلا وهي لله سبحانه وتعالى، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
ولهذا نقول: إن من عقيدة أهل السنة في مسائل الصفات: أن الإنسان يثبت لله عز وجل ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه من غير زيادة ولا نقصان، وأما ألفاظ وصفات المحامد فإنها تنسب إلى الله عز وجل خبراً، فلا نجعلها ثبوت لزوم في ذلك، وإنما نجعلها لله سبحانه وتعالى باعتبار أن هذا من صفات الكمال، بخلاف ما كان من صفات الكمال عند البشر، فلا نلحقه بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه ربما يكون كمالاً عند البشر ونقصاناً في حق الخالق سبحانه وتعالى وذلك كصفة الولد، الإنسان إذا كان ليس له ولد أو عقيم أو نحو ذلك فإن هذا صفة نقصان، أليس كذلك؟ فهل نثبت لله عز وجل الولد؟! تعالى الله عز وجل عن ذلك.
لهذا ليست صفات المحامد بأذواقنا بل نقول: إن المحامد لله سبحانه وتعالى كلها، نثبت لله عز وجل ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، وكذلك نصف الله جل وعلا بصفات المحامد إذا كانت كاملةً تليق بالخالق جل في علاه.
وقوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أي: ملكاً لله وحقاً سبحانه وتعالى، وهنا ذكر الحمد، ومن مواضع الخلاف عند العلماء: التفريق بين الحمد والشكر، هل هما بمعنى واحد أو بينهما عموم وخصوص؟ من العلماء من قال: إن الحمد والشكر هما بمعنى واحد، ومنهم من قال: إن بينهما عموماً وخصوصاً، وهذا أيضاً من مواضع الخلاف عند أهل اللغة، وكذلك عند علماء التفسير، ومنهم من جعل الاختلاف بينهما بحسب النزول، أي: بحسب الموضع الذي يحمد عليه، وكذلك أيضاً الصدور قالوا: فإن الشكر يكون بالأمور الظاهرة من جهة صدوره، فالإنسان يشكر شخصاً بلسانه ويقول: أشكرك بكذا على ما وقع منك ونحو ذلك، وهو من جهة صدوره من الإنسان يكون بالأمر الظاهر، أما الحمد فيحمد الإنسان ظاهراً وباطناً.
كذلك أيضاً فإن الشكر يكون على الأمور المتعدية، والحمد يكون على المتعدية واللازمة، فالأمور المتعدية مثل: أن يهدي الإنسان لأحد هدية أو يعطيه هبة، أو يعينه على حاجة من حاجاته أو يعالجه إذا كان مريضاً، فهذا من الأمور المتعدية، فالشكر يقع على الأمور المتعدية، والحمد يكون على الأمور المتعدية واللازمة؛ ولهذا يقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
يعني: أن اليد واللسان والضمير المحجب -وهو القلب- هذه الأمور الظاهرة والباطنة كلها تقوم بالشكر.
ولهذا نقول: إن الحمد هو أفضل من الشكر في الغالب؛ ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، باعتبار أنه يشمل جل أجزاء الشكر، والشكر كذلك أيضاً له فضائله من وجوه متعددة .
وفي قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، اللام هنا للملك، أي: أن الحمد ملك لله سبحانه وتعالى لا ينازعه في استحقاقه جل وعلا أحد، فإذا نسب الحمد لغير الله وقع الإنسان في شيء من نسبة أو تفويض العبادة لغير الله سبحانه وتعالى بمقدار تلك النسبة، فإذا حمد الإنسان غير الله جل وعلا على شيء لا يقدر عليه إلا الله، فهذا ضرب من ضروب الشرك، وإذا توجه الإنسان إلى حمد مخلوق على وجه يستحقه الإنسان فحمده على أخلاقه ولطفه وإحسانه وشجاعته ونحو ذلك، فهذا من الأمور الحسنة، لكن لا يجعل الكمال له في ذلك، ولا يجعله يتملك جميع أنواع المحامد، فملكها كلها هو لله سبحانه وتعالى.
وهنا في قوله: (( لِلَّهِ )): فذكر الله جل وعلا وما صدر غيره من أسماء الله سبحانه وتعالى فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ما قال: الحمد للرحمن أو الحمد للرحيم أو الحمد للطيف أو غير ذلك، وهذا فيه إشارة إلى مزية هذا الاسم لله سبحانه وتعالى، وهو أظهر أسماء الله جل وعلا الدالة على ذاته.
وقد اختلف العلماء: هل هو اسم الله عز وجل الأعظم أم لا؟ هذا من مواضع الخلاف عند العلماء، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في اسم الله الأعظم خبر، وإنما يوجد في ذلك بعض المراسيل وبعض الموقوفات، وأظهر الأدلة في ذلك تدل على أن اسم الله عز وجل الأعظم هو: الله؛ لاشتماله على مجموع المعاني وأنواع الصفات لله سبحانه وتعالى.
واختلف العلماء في اشتقاق هذا الاسم: هل له وجه في الاشتقاق على باب معين أم لا؟ فمنهم من قال: إنه مشتق من: أله، أي: تعبد، ويستدلون بقول الشاعر:
لله در الغانيات اُلمدَّهِ سبحن واسترجعن من تألهي
يعني: من تعبدي.
ومنهم من قال: إنه من الارتفاع، قال: مشتق من: إلهة، وهو العلو والارتفاع، وأله الشيء إذا ارتفع، ويستدلون بقول الشاعر الجاهلي:
تروحنا من اللغباء عصراً فأعجلنا الإلهة أن تؤوبا
والمراد بالإلهة: الشمس، كانت العرب تسمي الشمس: إلهة، ليس أنها معبودة لكنها مرتفعة، فيرون لارتفاعها قبل أن تغيب وتختفي عن الأنظار.
ومنهم من قال: الله، مشتق من: إله، أي: التجأ، لأن الله عز وجل يلتجأ إليه، فيلتجئ الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، ولهذا يستدلون بقول الشاعر:
ألهت إليكم في أمور تنوبني فألفيتكم منها كراماً أماجدا
ألهت إليكم، يعني: التجأت إليكم بشيء مما تقدرون عليه من أمور قضاء الحاجات والإعانة على النوائب، وهذا من المعاني التي هي تدخل في هذا الأمر.
ومنهم من قال: إنه مشتق من: لاه، وهو الخفاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا على الأرجح.
ومن مواضع الخلاف: هل النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه وتعالى في المنام، أو رأى الله جل وعلا؟ هذا من مواضع الخلاف، والأشهر أنه لم يره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يراه أحد من الناس في هذه الدنيا، ولكن رؤيا تكون في الآخرة، واختلفت العبارة في هذا في كلام السلف الصالح، ومما استدل به من قال: إن لفظ الله سبحانه وتعالى مشتق من: لاه -يعني: اختفى- قول الشاعر الجاهلي:
لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها
يقول على معشوقته:
لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها
إذا كانت مختفية يقال: لاهت المرأة، يعني: اختفت عن أنظارنا، وهذا من معاني الاشتقاق، قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى لا يرى في هذه الدنيا، ويرى سبحانه وتعالى في الآخرة؛ وذلك لأن البشر ليس لديهم قدرة بدنية على رؤية الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا الله جل وعلا لما تجلى للجبل جعله دكا، فأراد الله عز وجل أن يدلل لموسى عليه السلام أنه لا يستطيع رؤيته على ما خلقه الله سبحانه وتعالى على هذه الخلقة، حتى يجعل الله عز وجل له من القدرة ما يرى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نور أنى أراه! ).
ومنهم من قال: المراد طول البقاء، مشتق من: أله، أي: بقي ولم يتغير، ويستدلون لذلك بقول الشاعر:
ألهت بدار لا تبين رسومها كأن بقاياها وشام على اليد
يعني: الوشم إذا كان على اليد لا يزول، الوشم إذا كان على يد الرجل أو المرأة فإنه لا يزول، قالوا: إن الله سبحانه وتعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن لا تغيره سبحانه وتعالى الحوادث جل في علاه.
لكن نقول: إن هذه المعاني الدالة على الاشتقاق من هذا الاسم لله سبحانه وتعالى العظيم دليل على عظمة هذا الاسم، وأنه أكثر ذكراً في القرآن وكذلك السنة؛ ولهذا قال هنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
ذكر هنا بعد ذكر لفظ الجلالة (لله) قوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أي: هو ربهم سبحانه وتعالى الذي خلقهم ورباهم سبحانه وتعالى بنعمته.
و(العالمين): هم كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، سواء كانوا من الثقلين من الإنس والجن، أو كانوا أيضاً من الجمادات، أو كانوا من غيرهم من مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الحيوان وغير ذلك.
وكل مخلوق لله عز وجل لديه شيء من الإدراك يتوجه إليه شيء من الخطاب، والله سبحانه وتعالى يسير الأفلاك، فهي مأمورة بأمر الله سبحانه وتعالى تدرك أمره، ولديها نوع من الخشية، جعلها الله عز وجل فيه تختلف عن خشية الناس، وفي البهائم كذلك، فهي لكل مخلوق إدراك؛ ولهذا ربما يقول بعض العلماء: إن البهائم تدرك من المعاني ما لا يدركه الإنسان من أمر الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم جمعة إلا والبهيمة مصيخة )، يعني: منصتة تنتظر الساعة.
يقول ابن عبد البر رحمه الله: في هذا دليل على أن البهائم تدرك من أمر الآخرة ما لا يدركه بنو آدم، كذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يسمعه كل أحد إلا الثقلين )، يعني: في عذاب صاحب القبر في حال ضربه بمطرقة أو ما يكون له من عذاب في يوم البرزخ؛ ولهذا نقول: إن الله عز وجل جعل لها شيئاً من الخصائص والإدراك تدرك بها، ونقول: إن الروح والنفس قد جعلها الله عز وجل خصيصةً لبني آدم .
ومعلوم أن المخلوقات: إما أن تكون ذات روح ونفس، وإما أن تكون ذات نفس بلا روح، وإما أن تكون ذات نمو لا بروح ولا بنفس، وإما أن تكون لا بروح ولا بنفس ولا بنمو، فالنفس والروح والنمو هذا يكون في الإنسان، وكذلك أيضاً يكون في الجان، هذا النوع الأول، وأما النوع الثاني فهو ما كان له نفس ونمو وليس له روح وذلك كالبهائم، وهذا من مواضع الخلاف عند العلماء: هل للبهائم أرواح أم لها أنفس، وهل من يقبضها عند موتها هو ملك الموت كما يقبض بني آدم أم لا؟ هذا أيضاً من مواضع الخلاف، جاء في ذلك جملة من الأخبار عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وعن غيره، أن الذي يقبضها هو ملك الموت الذي يقبض بني آدم.
والنوع الثالث: وهي التي لها نمو وليس لها روح ولا نفس، وهي كحال الشجر لها نمو، ولكن ليس فيها روح وليس فيها نفس.
والنوع الرابع: التي ليس لها نمو ولا نفس ولا روح وهي كحال الجمادات، كالأحجار والتراب وغير ذلك، فهذه ليس فيها روح ولا نفس ولا نمو، ولكن لها شيء من الإدراك جعلها الله سبحانه وتعالى فيها .
الله سبحانه وتعالى هو رب العالمين، رب هذه الأشياء كلها وغيرها مما لا نعلمه، وهو خالقها سبحانه وتعالى ومدبرها ومصيرها، وهو المستحق سبحانه وتعالى للعبودية جل في علاه.
وقوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]: الله سبحانه وتعالى رحمن لجميع عباده رحيم بالمؤمنين، اسم الرحيم هو ألصق بالمؤمنين، والرحمن هو عام لجميع خلقه سبحانه وتعالى، فالله عز وجل كان بالمؤمنين رحيماً، الله سبحانه وتعالى رحيم بأهل الإيمان ورحمن أيضاً على الخلق، فلله عز وجل رحمة يجعلها في مخلوقاته تتراحم بها البهائم، وتتراحم بها الطيور، ويتراحم بها الناس، يغرسها الله عز وجل في فطر المخلوقات؛ ولهذا جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله مائة رحمة، جعل منها واحدةً في الناس تتراحم بها البهائم وترحم الأم صغيرها، ويرفع الطائر مخلبه عن فراخه بهذه الرحمة، وتسعاً وتسعين عند الله سبحانه وتعالى )، وهذا دليل على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى.
ونقول: إن الله عز وجل جعل رحمة في العباد يتراحمون بها، والله سبحانه وتعالى رحيم بأهل الإيمان.
قوله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] : ذكر الله سبحانه وتعالى ملكه ليوم الدين، والمراد بيوم الدين هو يوم القيامة والساعة والصاخة والطامة ويوم التغابن ويوم الحساب، وله أسماء كثيرة في كلام الله سبحانه وتعالى، وهي أسماء دالة على معنى عام واحد، وإن كان يذكر في بعضها شيء من الصفات القائمة فيه، كيوم الحساب إشارة إلى محاسبة الناس، وكذلك يوم التغابن وكذلك يوم الدين ويوم الحسرة ويوم الندامة الذي يندم فيه الإنسان حتى المحسن يندم باعتبار أنه فرط، لماذا لم يستكثر من أمور الخير، لماذا لم يقدم لله جل وعلا، لماذا لم يبذل، لماذا ضيع أوقاته ولو كان محسناً؟! لا بد أن يقع في الناس شيء من الندم؛ لأنه يريد من ذلك مزيداً.
إذا أدرك المحسن حق الإدراك عظمة الله سبحانه وتعالى رأى أنه قصر وفرط في جنب الله سبحانه وتعالى فيما مضى، وأنه كان بمقدوره أن يفعل أعظم من ذلك ولم يفعل، فيقع فيه شيء من الندامة، والندامة في ذلك تتباين: منها الندامة الشديدة والحسرة العظيمة التي تكون من الكفار والمشركين، ومنها ما هي دون ذلك كالتي تكون من العصاة والمذنبين، ومنها ما تكون أيضاً دون ذلك من أهل الصلاح الذين وقع منهم تقصير وتفريط في جنب الله سبحانه وتعالى في بعض المواضع، ومنها ما هي حسرة تكون في كثير من الصالحين الذين قصروا في جانب الاستكثار، فهي بحسب تقصير الإنسان.
قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، لماذا خصص الملك ليوم الدين، مع أن الله سبحانه وتعالى مالك لكل شيء، مالك للدنيا ومالك ليوم القيامة؟ فالجواب: أن الله ذكر يوم الدين على سبيل الخصوص؛ لكونه لا اختيار ولا مشيئة للإنسان فيه إلا ما يريده الله سبحانه وتعالى من عبده، فالله عز وجل يأمر نافخ الصور أن ينفخ في الصور، ثم يقوم الناس لرب العالمين، فكل شيء هو بإرادة الله سبحانه وتعالى كاملاً، ولا يخاطب الناس بخلاف ذلك فيملكون مخالفة أو عدم مخالفة، أما في الدنيا فجعل الله عز وجل للإنسان الخيار يصلي أو لا يصلي.. يشرب الخمر أو لا يشربها، ولكن يأمره الله جل وعلا شرعاً بأن يؤدي الصلاة، وأن يدع الكبائر من شرب الخمر وغيرها.
إذاً: فالله سبحانه وتعالى مالك للدنيا والآخرة، ولكنه جعل في الدنيا للإنسان شيئاً من الخيار؛ ولهذا نقول: إن مخلوقات الله سبحانه وتعالى في الدنيا من جهة الاختيار وعدمه على نوعين: مخلوقات لا اختيار لها في الدنيا، ومخلوقات مسخرة سخرها الله سبحانه وتعالى كالشمس والقمر والنجوم والأفلاك والكواكب والليل والنهار، هذه هي مخلوقات الله سبحانه وتعالى التي ليس لها اختيار.
النوع الثاني: مخلوقات لها مشيئة واختيار، وهم الإنس والجن، فلهم شيء من الاختيار؛ لهذا الله سبحانه وتعالى يقول: ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار )، الذي يسب الشمس والقمر هذا يؤذي الله سبحانه وتعالى أو لا يؤذيه؟ يؤذيه. لماذا؟ لأنه ليس لها اختيار، لكن الذي يسب الإنسان بعينه هل هو يؤذي الله جل وعلا؟ لا. لماذا؟ له اختيار، جعل الله عز وجل له اختياراً، فالذي يسب الزمن أو يسب الشمس والقمر يؤذي الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يصير إلا باختيار الله، ولا يخرج عنه مثقال ذرة عما أراده الله عز وجل.
إذاً: تسبه لأجل ماذا؟ لخروجه عن مراد الله؟ لا. فالله عز وجل هو الذي جعل له ذلك كله، أما بالنسبة للإنسان فالله عز وجل أمره بأوامر شرعية، وجعل له مشيئة الاختيار فخرج عنها، فربما وقع السب والذم على مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا الله عز وجل ما قال في أذيته جل وعلا، أذية الناس له في سب الإنسان لغيره؛ لأنه ربما يكون على حق، أما سب الليل والنهار والساعات والدقائق والأزمنة والشمس والقمر والأعوام وغير ذلك، وسبها أذية لمن صيرها ولم يخرجها عن مرادها، ولحكمته سبحانه وتعالى في ذلك.
وقول الله جل وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
الكلام على هذا المعنى في معنى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] هو من المعاني العظيمة الجليلة، تكلم عليها أئمة كثر في تفسيرها، وما فيها أيضاً من معاني العبودية لله سبحانه وتعالى في ربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتعلق العباد ظاهراً وباطناً بالله سبحانه وتعالى وتجرده، فنقول: إن هذه الآية شاملة لجميع أنواع العبادة لله سبحانه وتعالى، وقد صنف ابن القيم رحمه الله في عدة مجلدات كتابه مدارج السالكين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] جمع أحكاماً كثيرة في أمور العبودية وتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأعمال القلوب وتعلق الإنسان بربه سبحانه وتعالى، ويحسن أن يرجع إلى مثل هذا الكتاب.
وفي قوله سبحانه وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] يعني: لا نشرك معك غيرك في عبوديتك سبحانك وتعاليت، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ذكر العبودية هنا وذكر الاستعانة بعد ذلك، مع أن الاستعانة هي نوع من أنواع العبودية، ولكن ذكرها على سبيل التخصيص بعد الإجمال، وذكر الخاص بعد العام لمزية في باب الاستعانة.
وهنا العبودية في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] العبودية هي التذلل والخضوع؛ ولهذا تقول العرب: طريق معبد، أي: مذلل، إذا ذلل الناس الطريق بشيء من توطينه وتهيئته للسير، يقول: طريق معبد، كذلك العبد يسمى عبداً إذا كان متذللاً بين يدي سيده.
وهنا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] لا نتذلل إلا لك سبحانك وتعاليت، في هذا التذلل إلا لله جل وعلا، والعبادة في ذلك مختلفة: ظاهرة وباطنة، فالباطنة هي أعمال القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل على الله سبحانه وتعالى والاستعانة والخشية، وغير ذلك من أمور العبادة، فلا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وأصل ضلال البشر هو في الأمور الباطنة، فإذا ضلوا في الأمور الباطنة اختل لديهم ميزان الباطن واختل لديهم ميزان الظاهر، فإذا خشي غير الله فقد عبده من دون الله، وإذا أحب غير الله سبحانه وتعالى فقد عبده من دون الله؛ ولهذا نقول: إن أصل ومنبت الانحراف في دائرة العبودية لغير الله عز وجل أصله من البواطن.
والإنسان لا يعبد أحداً إلا وقد صرف شيئاً من أعمال القلب له، سواء كان من الأحجار أو الأشجار أو غيرها، فالذين يعبدون الكواكب أو يعبدون الأوهام من الجن أو الغول، أو يخافون الأشباح ونحو ذلك، يوجد في قلوبهم تعظيم هذه المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فصرفوا لها شيئاً من دون الله جل وعلا.
كفار قريش صرفوا شيئاً من العبودية للجن، حيث إنهم كانوا إذا نزلوا وادياً استعاذوا بعظيم ذلك الوادي، فهذه الاستعاذة من شر الجن بعظيم جن ذلك الوادي هي لياذ بذلك العظيم من دون الله؛ وذلك لأنهم عظموه، ورأوا أن له أمراً ونهياً على من دونه من أفراد الجن فاستعاذوا به، ولم يستعيذوا بالله سبحانه وتعالى، فصرفوا شيئاً من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى.
وقوله جل وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] هذا إشارة إلى أمر الجماعة، وهنا ذكر أمر الجماعة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: أن الأصل في أعمال الناس لله سبحانه وتعالى أن تكون جماعية، وهذا يظهر كثيراً في مواضع من القرآن سواء الصلاة أم غيرها، مثل الإتيان بلفظ الجمع في قوله: (واعتصموا) و(سارعوا) وغير ذلك من الألفاظ، فإنه يتوجه الخطاب إلى أمر الجماعة، وهذا ظاهر أيضاً حتى في هذا الموضع؛ باعتبار أن هذه السورة تسمى سورة الصلاة، وقد أمر الله عز وجل بأداء الصلوات الخمس جماعة، كما جاء ذلك في كثير من المواضع في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضاً في ظواهر القرآن في الركوع مع الراكعين، وهذا يكون في الإتيان إليها جماعة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
العبودية على ما تقدم هي: التذلل والخضوع، ونستطيع أن نقول: إن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، سواء كانت ظاهرة أو باطنة، ومعلوم أن للقلب قولاً وعملاً، وللسان قولاً ظاهراً، وكذلك أيضاً للجوارح أعمال كأعمال الإنسان من سجوده وطوافه وغير ذلك.
ولهذا نقول: إن الإنسان إذا علق ظاهره وباطنه بالله سبحانه وتعالى كان من أهل التوحيد، وبقدر نقصان ذلك يكون بعده عن الله سبحانه وتعالى.
وذكر الاستعانة هنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: أن الإنسان أصل وجوده في الدنيا لعمل، فإذا أراد العمل فلا بد أن يكون معتمداً على أحد، فإذا كان معتمداً على أحد فهو يستعين به، فإذا استعان بغير الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، فنقول: إن الاستعانة في ذلك على ضربين: الضرب الأول: هو أن يستعين بأحد فيما لا يقدر عليه، كالذي يستعين بأحد الموتى، ويستعين بالكواكب والنجوم على طلب حاجة أو قضائها من دون الله سبحانه وتعالى، ويعلم أنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، فهذا شرك مع الله عز وجل.
وأما النوع الثاني وهو أن يستعين بالناس على شيء يقدرون عليه، فيقول: يا فلان! أعني على حمل هذا المتاع، أو أعني على هذا العدو الذي تسلط عليّ، فهذا طلب إعانة، ومن العلماء من كره استعمال لفظ الاستعانة إلا بالله سبحانه وتعالى، قال: ويجوز أن يستعمل غيرها، ولكن نقول: لا حرج في ذلك، ولكن النهي في هذا هنا هو أن يصرف شيئاً من ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى لغير الله، والقدرة هي في جعل الأسباب سواء كانت الشرعية أو كانت المادية الظاهرة ألا تكون إلا بشيء ثابت.
إذاً: الأسباب وتعليقها بالذوات نقول: هي مرتبطة بأمرين: بثبوت القدرة شرعاً، إذا دل الدليل على أن هذا شيء مؤثر، فإن الإنسان لا حرج عليه أن يستدفع تأثيره بما يليق به، فنقول حينئذٍ: إنه لا حرج عليه.
الأمر الثاني: ثبوت ذلك مادياً كأمور الأدوية والعقاقير وغير ذلك التي يتخذها الإنسان، فيكون للإنسان شيء من التعلق المادي بهذا، نقول: إذا ثبت بأحد هذين الأمرين فلا حرج عليه بقدر، ولكن يجب عليه أن يعتقد أن الله عز وجل جعل هذه أسباباً، فالإنسان جعله الله سبباً لدفع عدو أو صائل، أو سبب إعانةٍ على حمل متاع أو نحو ذلك، لكنه هو في ذاته ليس لديه قدرة ذاتية قائمة بذاته منفصلة عن عون الله عز وجل وتسديده له.
إذاً: فوجب على الإنسان بكل حال أن يعتمد على الله جل في علاه، ثم بعد ذلك يستعين بغيره بما يستطيع.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أشار بهذا إلى أمر الاستعانة، فالإنسان إنما وجد في الدنيا لأجل العمل، فيستعين عند إرادته العمل، فالاستعانة تقع عند إرادة الأعمال، وأكثر من التروك، يعني: أكثر ممن يقصد ترك شيء فلا يستعين عليه، لماذا؟ لأن الترك هو العدم، فهو يستعين على عمله، وهذا هو أكثر الضلال، وبهذا ضل كفار قريش حينما كانوا يصرفون شيئاً من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى إذا أرادوا عملاً، فإذا أرادوا سفراً ذهبوا إلى أزلامهم وإلى أنصابهم، أو ربما ذهبوا إلى شيء من الطيور من الهامة أو غير ذلك، أو أخذوا طيراً آخر وطيروه، فإذا ذهب يميناً تفاءلوا، وإذا ذهب شمالاً تشاءموا، وربما امتنعوا عن السفر؛ ولهذا نقول: إن مثل هذه الأشياء هي أسباب مادية، ولم تثبت شرعاً، والتعلق بذلك ضرب من ضروب الشرك الأصغر، وتختلف في ذلك مراتبه بحسب تعلق الإنسان به.
وقوله سبحانه وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، هذه دعوة إلى طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وطريق الأنبياء من قبله، وتوحيد الله عز وجل في العبادة في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
يسأل الإنسان ربه جل وعلا الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة، في يومه وليلته، وتدبر هذا المعنى أمر عظيم جداً، وذلك أن الإنسان إذا سأل الله سبحانه وتعالى الهداية إلى الصراط المستقيم بمثل هذه الكثرة، ثم ينحرف ويضل، هذا دليل على ماذا؟ دليل على أنه يتلفظ بالدعاء ولا يدرك معناه؛ فإن الله عز وجل أكرم من أن يُسأل هذا السؤال بمثل هذا العدد ثم لا يستجيب لعبده سبحانه وتعالى؛ ولهذا نقول: إن المصلي الذي يستكثر من قراءة هذه السورة، وما يتضمن من سؤال الله عز وجل الهداية دليل على أن الإنسان يهذ ذلك الدعاء هذاً من غير أن يتدبر معناه؛ وبرهان ذلك أنه لم يجد في ذلك تأثيراً واستقامة لحاله، وإنما وجد تقصيراً في جانب الواجبات، ووقوعاً في بعض المحرمات، وعدم تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى.
أكثر دعاء يسأله الإنسان ربه سبحانه وتعالى هو: اهدنا الصراط المستقيم، فإذا لم يجد الإنسان عقب ذلك استقامة فإن ذلك إشارة إلى أنه غافل عما يدعو، غير متدبر لما يقول.
أما إذا كان الإنسان يتمتم بكلام لا يدرك معناه، ولا يستحضر في قلبه مقصوده، فإن هذا ليس بدعاء، وإنما هو حروف مركبة ليس لها وزن، فليست هي من جملة الدعاء؛ لهذا يجب على الإنسان أن يتدبر الأدعية، ويتدبر معاني القراءة، وكذلك أيضاً الذكر؛ فإن الله عز وجل يؤتي الإنسان على تدبره بمقدار ما حضر في قلبه من ذلك.
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. ذكر الصراط المستقيم الذي ليس بمعوج وهو فرد واحد؛ لأن طريق الحق واحد، وطرق الضلال متعددة، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] ذكر نوراً واحداً وذكر الظلمات متعددة؛ ولهذا جاء في حديث عبد الله بن مسعود ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً، فقال: هذا الصراط المستقيم, وهذه سبله )، الصراط المستقيم واحد، وأما الطرق المعوجة فمتعددة، وإنما جعله مستقيماً؛ لكون الإنسان يرى أوله ونهايته، فالإنسان صاحب الحق مطمئن لماذا؟ لأنه يرى مد البصر، يرى النهاية، أما صاحب الغواية فنظرته عجلى يرى ما بين يديه.
قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، الصراط المستقيم هو منهج محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المفسر في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى؛ لهذا نقول: إن الإنسان إنما يضطرب في الصراط المستقيم إذا لم يكن لديه يقين.
وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7].
ما هي النعمة المذكورة هنا؟ هي نعمة الإسلام؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فسمى الله عز وجل الإسلام نعمة، وقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، فنعمة الله سبحانه وتعالى هي الإسلام الذي أنزله الله عز وجل على رسوله في كتابه وفي سنته عليه الصلاة والسلام التي هي الحكمة، فأعظم نعمة يذكرها الإنسان هي نعمة الحق.
ولهذا يقول الله جل وعلا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، أنعم عليهم بالرزق والمادة، أنعم عليهم بشيء من أمور وحظوظ الدنيا؟ لا، وإنما المراد بذلك هو: نعمة الإسلام بعد الضلال والظلام والجاهلية، والعنت وغير ذلك، لقد أنزل الله عز وجل على هذه الأمة نعمة الإسلام؛ ولهذا نقول: إن الأصل في النعمة إذا ذكرت بالقرآن أن المراد بها الإسلام، إلا في بعض السياقات التي تحتف بها القرائن فتنصرف إلى غيرها، وقد تشترك نعمة الإسلام مع غيرها بحسب السياق، إلا أن الغالب في استعمالها أنها إذا أطلقت فهي نعمة الإسلام، وهي أعظم نعمة يوفق إليها الإنسان.
وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
والمغضوب عليهم والضالون هم اليهود والنصارى، وهذا محل اتفاق عند العلماء، يقول ابن أبي حاتم في كتابه التفسير: اتفق العلماء على أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون النصارى، ولا خلاف عند المفسرين في ذلك.
إشارة إلى أن أعظم ضلال وخطر على أمة الإسلام هو ضلال اليهود والنصارى، وهم الذين حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام أكثر تحذير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ) يعني: من يوجد غيرهم؛ ولهذا الأمة إنما تضل باتباعها واقتدائها لمن سبقها في ضلاله من اليهود والنصارى.
وهذا فيه بيان أنه ينبغي للإنسان حتى في أمور دعائه ونحو ذلك ألا يكتفي بالاتباع، بل ينظر إلى المخالفة؛ لأن كمال الاتباع لا يأتي إلا مع كمال المخالفة، فقال الله جل وعلا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، يعني: لا نريد طريق المغضوب عليهم ولا الضالين، مع أن الصراط المستقيم في ظاهر المعنى يقول الإنسان: إنه واضح والمراد بذلك هو الإسلام، ولكن أيضاً لا بد للإنسان أن يعرف المخالف لطريق الحق؛ حتى يكون حذراً من ذلك، فلا يقع في شيء من التشبه أو التقليد في هذا؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تأكيد أمرٍ أمرَ به ونهى عن ضده.
فالواجب على المؤمن وعلى طالب العلم عموماً أن يكون عالماً بالوحي وعالماً بالحق ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالماً بتفاصيل طرق الضلال؛ ولهذا يقول حذيفة بن اليمان كما جاء في الصحيح وغيره، قال: ( كنت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر؛ مخافة أن يدركني )؛ لأن الخطورة ليست في معرفة الحق، بل الخطورة قد تكون في الزيادة عليه، فيما يظن الإنسان أنه الحق.
ولهذا نقول: إن أخطر مواضع الضلال هو الضلال الذي يكون من أهل الكتاب؛ وذلك لتسويلهم للأمة أنهم على حق سواء كان في أمر الدنيا، أو كان في أمر الدين.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
ثم يقول الإنسان: آمين، أي: استجب لنا دعاءنا؛ إشارة إلى الرغبة الملحة باستجابة هذا الدعاء.
وآمين بمعنى: استجب، وإذا سمع الإنسان دعاء ثم قال المستمع: آمين كأنه دعا؛ ولهذا موسى وهارون عليهما السلام لما كان موسى يدعو، وهارون يؤمن قال الله عز وجل: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، مع أن الدعاء جاء بصيغة الفضل من موسى عليه السلام؛ ولهذا الذين يكونون خلف الإمام ثم يقولون: آمين، كأنهم دعوا بهذا الدعاء وتلوا ذلك.
وفي هذا إشارة أيضاً إلى أن قراءة الإمام في الصلاة الجهرية تجزئ عن قراءة المأموم، على الصحيح، فعليه أن يستمع وأن يتدبر، وأن يتأمل.
ونكتفي بهذا القدر، وبالله التوفيق والإعانة والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر