أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تحدثنا عن لحظة من أهم اللحظات في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل وفي تاريخ الأرض عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً منتصراً صلى الله عليه وسلم، ودخل كما تعلمون في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وكما ذكرنا لم يلق مقاومة تذكر في مكة المكرمة إلا مجموعة واحدة من كفار قريش أرادت المقاومة، فاستطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه مع فرسان معه أن يقضوا على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة المكرمة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول عليه الصلاة والسلام دخل بموكبه المهيب مخترقاً مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة.
أول ما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة أمر بتكسير الأصنام التي حولها داخلها، فقد كان حول الكعبة (360) صنماً غير هبل أعظم آلهتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين بتكسير كل هذه الأصنام وشاركهم في ذلك.
وهذا الأمر كان بعد صبر دام (21) سنة كاملة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة مدة (13) سنة متتالية. أي: الفترة المكية، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وطاف في عمرة القضاء قبل الفتح بعام واحد ولم يفكر لحظة واحدة في كسر صنم واحد من هذه الأصنام، وهذه المفارقة وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة.
بعد صبر (21) سنة الآن لا يصبر عليه الصلاة والسلام لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة ولم يكلم الناس ولم يعمل أي شيء قبل أن يكسر الأصنام ويأمر بذلك.
عندما نأتي لندرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد أن نأخذ اهتماماً خاصاً بالأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود، فكل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم متابعة بالوحي، وفيها رعاية كاملة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهي تشريع للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح لا يصبر دقائق على وجود صنم يعبد من دون الله عز وجل، هذا ما أسميه بـ: فقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاستئصل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة.
أما الآن وبعد أن صار صلى الله عليه وسلم حاكماً لمكة المكرمة، بل ولأجزاء كبيرة جداً من الجزيرة العربية، وصار في هذه القوة فإنه لا يصبر على وجود مثل هذا المنكر الشنيع من صنم يعبد من دون الله عز وجل، فكسر كل الأصنام، وكسرها وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).
بالإضافة إلى كونه لا يرضى عن وجود هذا المنكر، فتكسيره للأصنام كان خطوة سياسية في منتهى الروعة؛ لأن هذه الخطوة كسرت تماماً كل معنويات أهل مكة، وهذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله لا أقول عشرات السنين بل مئات السنين في داخل مكة المكرمة، أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، فهاهي الآن تكسر هذه الأصنام، وكل مشرك كان يعتقد في داخله أن هذه الأصنام ستصيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضرر أو بسوء؛ لأنهم فعلوا معها ذلك، ومع ذلك لم يحدث له شيء، وكذلك الجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، فظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين من أنهم كانوا في ضلال مبين كل هذه السنوات السابقة.
إذاً: هذه خطوة رائعة وهامة جداً لكسر معنويات كفار قريش، فبعد هذا التكسير لهذه الأصنام خارت قواهم تماماً وفقدوا كل أمل في المقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص صلى الله عليه وسلم على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة، فأرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لكسر العزى، وهي من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، فذهب خالد بسرية وكسر هذا الصنم الضخم صنم العزى.
وأرسل سرية بقيادة سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه لكسر صنم مناة وهو من أشهر أصنام العرب.
وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سواع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب أيضاً.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه كسر هبل في صحن الكعبة، وأرسل خالد بن الوليد لكسر العزى، وسعيد بن زيد لكسر مناة، وعمرو بن العاص لكسر سواع، لكن بقي صنم مشهور جداً من أصنام العرب وهو صنم اللات، وصنم اللات هذا كان موجوداً في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة.
لقد كسر الرسول عليه الصلاة والسلام كل الأصنام الكبرى التي استطاع أن يكسرها في ذلك الوقت، سواء في داخل مكة أو في المناطق التي حول مكة.
وبذلك كما ذكرنا سقطت كل معنويات قريش، وحطم تماماً كل أمل عندهم للمقاومة.
إذاً: هذه كانت أول خطوة عملها الرسول صلى الله عليه وسلم: تكسير الأصنام في الكعبة وما حولها.
الخطوة الثانية كانت هامة جداً، وتضيف معنى مهماً جداً عند قريش في ذلك الوقت؛ ليفقهوا الإسلام على حقيقته، وهي: أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته.. وعن أي شيء، فمن انتمى لهذا الإسلام فهو عزيز ومن لم ينتم إليه فهو ذليل.
رأى المشركون من أهل قريش بعيونهم في ذلك اليوم عندما نادى صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه، وأمره أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن الأذان للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الفعل، أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن في الكعبة في عمرة القضاء، والآن يأمر بلالاً أن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض، فوق الكعبة البيت الحرام؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، الله أكبر، الله أكبر.. إلى آخر الأذان.
و بلال رضي الله عنه وأرضاه عندما كان يعذب في مكة قبل الهجرة كان يقول: أحد، أحد، في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يصدح بالتكبير في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يستمع إليه رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا الأمر كما ذكرنا كان له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث على سبيل المثال من أبي سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام ، فهؤلاء الثلاثة كانوا قاعدين في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، فـأبو سفيان كان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن عتاب بن أسيد كان أحد الشباب في قريش، فقد كان عمره حوالي (20) سنة ما زال مشركاً، والحارث بن هشام أيضاً كان ما زال مشركاً، والحارث بن هشام هذا هو أخو أبي جهل ، فهو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة، وأحد زعماء بني مخزوم، فقال عتاب معلقاً على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة: أكرم الله أسيداً -أي: والده أسيد - ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، فقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان : لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. يعني: أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي.
فجاءهم صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات وقال: (قد علمت الذي قلتم، ثم قال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، فقال
كذلك بنو سعيد بن العاص لما رأوا بلالاً يؤذن على الكعبة قالوا: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال رجل من قريش للحارث بن هشام : ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فرد عليه الحارث بن هشام : دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.
أعتقد أن هذا الكلام قاله بعد أن أسلم رضي الله عنه، ولكن كان هذا في بداية إسلامه.
وصار بعض قريش يستهزئ ويقلد صوت بلال غيظاً، فقلده أحد الشباب واسمه أبو محذورة الجمحي ، وأبو محذورة كان عمره (16) سنة، وكان صوته جميلاً جداً، كان من أحسن قريش صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة عند هذا الشاب، فناداه، فمثل هذا الشاب الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة : فامتلأ قلبي إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله.
فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، وظل الأذان في أبي محذورة وعقب أبي محذورة بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان.
والرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأذان وضح لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، هكذا فهم القرشيون في هذا الموقف العظيم.
إذاً: الفتح تم كما رأينا بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعداداً قوياً جداً للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم قريش بوصوله إلا على بعد (22) كيلو متر فقط من مكة المكرمة، وقام بحرب سياسية بارعة، عندما استخدم أبا سفيان لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل تفصيلاتها ابتداء من إظهار العدد الضخم للجيش الإسلامي وإشعال النيران، فقد جعل أبا سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة والقبائل المتعددة، كذلك كسر الأصنام وأذان بلال كل ذلك تحطيم لمعنويات القرشيين وإخماد كل مقاومة عندهم.
فهذا إعداد باهر ومتقن وحكيم، ويبرز لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القيادة وبين النبوة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام برغم هذا الإعداد القوي لم يكتف به ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قلما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بشكل عام...
الخطوة الثالثة: وسيلة امتلاك القلوب، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، وكانت هناك حرب طويلة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ما في داخلهم؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، فماذا فعل؟
نحن رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان كما ذكرنا زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة في داخل قريش، فهو صلى الله عليه وسلم ألف قلب زعيم أكبر القبائل القرشية في داخل مكة المكرمة.
وهذا موقف ثان رائع منه صلى الله عليه وسلم في تأليف قبيلة ثانية كبيرة، وهذا الموقف عندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وعثمان بن طلحة أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة شهور، أسلم مع عمرو بن العاص ومع خالد بن الوليد ، وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً وفيها شرف كبير جداً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين قبل ذلك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام دعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه ليعطيه شخصاً من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، طلب أن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم من السقاية والحجابة، فيكون عندهم مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى تعرف مدى العظمة والحكمة راجع موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا
وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوها خالدة تالدة).
إذاً: هذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع بها الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكسب قلوب بني عبد الدار جميعاً، فبنو عبد الدار رأت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أنزل الناس منازلهم حين أبقى لهم على الفخر الذي كان لهم.
وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة.
وقبل ذلك كسب قلوب بني أمية، والآن يكسب قلوب بني عبد الدار.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يسير بخطة محكمة، فقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى ولو يوماً واحداً لا عدة سنوات سابقة، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعاً، وقد كان موقفهم في منتهى الحرج، بعد صراع طويل جداً وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، ومصادرة للأموال وللديار، وقتل لبعض الأصحاب، وجلد وتعذيب للبعض الآخر.. وكذا وكذا من الأمور التي نعلمها، وفصلنا فيها كثيراً في الفترة المكية، وفي الحروب المتتالية بين المسلمين وبين المشركين، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: (ما تظنون أني فاعل بكم؟)، يعني: ماذا سيكون رد فعلي معكم بسبب ما فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذاء في كل هذه السنوات المتتالية؟ من المفترض أن يأخذ كل هذا الشعب أسرى وسبايا وغنائم؛ لأن هذا فتح عسكري، دخل صلى الله عليه وسلم بالقوة إلى مكة المكرمة، أحاطها بعشرة آلاف مقاتل، فكونه يأخذهم سبايا وأسرى هذا مقبول جداً في عرف العرب، وفي عرف العالم أجمع، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان واضح الرؤية، فهو لم يدخل مكة ليهلك أهلها، ولم يفتح بلداً من البلاد لا مكة ولا غيرها ليهلك أهلها، بل كان دائماً حريصاً على إسلامهم، وإسلام رجل واحد كان أحب إليه من أموال الدنيا جميعاً.
وقد عرف الرسول عليه الصلاة والسلام عرف أن قوى أهل مكة خارت، حين رأوا أصنامهم قد كسرت، وأصبح صلى الله عليه وسلم يؤمل كثيراً جداً في إسلامهم، فقد أصبحوا على مقربة من الإسلام، لم يبق إلا أن يقولوا الشهادة، لذلك قال لهم صلى الله عليه وسلم متلطفاً بهم: (ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم)، يعني: هم الآن في موقف وأزمة شديدة، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم لم يقل لهم: أنتم تعرفون هذه العلاقة التي بيني وبينكم من قبل، وتعرفون أنني أشرف العرب نسباً وأشرف قريش نسباً، وأنني الصادق الأمين، وكل ذلك أنكرتموه بعد أن نزلت علي الرسالة، لم يقل كل ذلك ولم يعنفهم، بل قال في منتهى الرحمة والعفو: (أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم جميعاً من غير فداء، مع أنه كان بإمكانه أن يأخذهم كلهم أسارى، والدولة الإسلامية في مرحلة النشء تحتاج إلى أموال وتحتاج إلى طاقات، ومع ذلك قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، لماذا أطلقهم؛ لأن هذا أدعى لإسلامهم وإسلامهم، أحب إليه -كما ذكرنا- من أموال الدنيا جميعاً.
وبالفعل بعد هذا الإطلاق العظيم اجتمع شعب مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا وأخذوا يبايعونه جميعاً على الإسلام إلا القليل، فمعظم شعب مكة في ذلك اليوم أعلنوا إسلامهم، وانتهت أحزان الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبر سبحانه عنها بقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزن حزناً شديداً على رجل واحد لم يسلم، فتصور مدى فرحته ومدى سعادته عندما أسلم شعب مكة جميعاً في يوم واحد.
هذا نصر مهيب وفتح من رب العباد سبحانه وتعالى، كما سماه ربنا في كتابه الكريم: نصر الله، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، وحتى تتصوروا مدى فرحة الرسول عليه الصلاة والسلام فأريدكم أن تعودوا بأذهانكم سنوات وسنوات؛ لتتذكروا يوم أن وقف صلى الله عليه وسلم في نفس المكان على الصفا يدعو أهل مكة إلى الإسلام فلم يجبه منهم أحد، يقول لهم صلى الله عليه وسلم: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً، أو نار أبداً)، فلم يقتنع أحد من أهل مكة طيلة هذه السنوات الكثيرة إلا القليل، وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة بعد (13) سنة مستمرة من الدعوة، وخرج معه حوالي (160) أو (170) صحابياً من شعب مكة بكامله، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة يسلم شعب مكة بكاملهم في يوم واحد، أي نصر؟ وأي عزة؟ وأي سيادة للإسلام؟ نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين.
لقد بقي من أهل مكة بعض الزعماء وبعض الكبراء لم يسلموا، ففر بعضهم خارج مكة المكرمة، وبعضهم اختفى في بيته، وبعضهم طلب الإجارة من بعض الناس، وهؤلاء الذين هربوا جميعاً كان لهم تاريخ طويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل الذي فر خارج مكة المكرمة واتجه إلى اليمن، وفر صفوان بن أمية بن خلف الجمحي إلى البحر الأحمر؛ ليلقي بنفسه في البحر منتحراً بعد فتح الرسول عليه الصلاة والسلام لمكة المكرمة، وبعد أن فقد كل أمل في أن يكون له موضع أو مكان في مكة المكرمة، وهو من الزعماء.
كذلك سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكان له تاريخ طويل مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
كذلك هند بنت عتبة ... هناك ناس كثير هربوا من وجه الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وكل واحد منهم له قصة، وكل واحد منهم شاء ربنا سبحانه وتعالى شاء أن يدخل الإسلام في قلبه، ولكن بطريقة جميلة جداً على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم مباشرة.
تعالوا بنا نرى قصتهم واحداً واحداً وفيها من العبر ما فيها، فهذا سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وهو من كبار زعماء قريش، ومن كبار زعماء مكة في التاريخ، وكبير جداً في السن، وعنده الكثير من الأولاد، وهؤلاء الأولاد معظمهم من المسلمين وفي جيش المسلمين الفاتح لمكة المكرمة، فهو بعد أن فتحت مكة المكرمة لم يجد له عوناً من الزعماء الذين كانوا معه؛ فكل واحد فر، ففر هو الآخر ودخل بيته، يقول: فانقحمت في بيتي وأغلقت علي بابي، ثم يقول: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل وابنه كان من جنود الجيش الفاتح كان قد أسلم قبل ذلك بزمن، فقال سهيل : وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لا آمن من أن أقتل. فـسهيل بن عمرو ظل يتذكر تاريخه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تذكرت أثري عند محمد وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته المعاهدة التي تمت في صلح الحديبية، لو تذكرون كان سهيل بن عمرو ممثل قريش وزعيم قريش الذي أرسلته ليتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديبية، فيجد أنه أثر تأثيراً سلبياً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، ويظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يتذكر له هذه المواقف.
ثم يقول سهيل بن عمرو : ومع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت معها، فهو يخاف أن يقتل، فذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله هل تؤمن أبي؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم، هو آمن بأمان الله؛ فليظهر)، انظروا إلى هذا التعامل مع أحد كبار زعماء مكة المكرمة، ومدى العظمة في هذا التعامل، بينما عند احتلال أي دولة لدولة ثانية تجد أن الأمراء والوزراء والكبراء في البلد يتتبعون في كل مكان؛ ليقتلوا، أو يسجنوا في السجون فترات طويلة، أو يمثل بهم... أو كذا أو كذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي سهيل بن عمرو الأمان، ويقول: (فليظهر).
وانظروا إلى ما سيأتي من حوار بعد ذلك بينه وبين سهيل بن عمرو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين حوله في ذلك الوقت: (من لقي
هكذا يذكر صلى الله عليه وسلم صفة سهيل بهذا التعظيم والتكريم له، مع أنه من ألد أعدائه قبل ذلك.
انظروا إلى الرحمة النبوية وإلى فن امتلاك القلوب وعبد الله بن سهيل عندما استمع إلى هذه الكلمات طار بها إلى أبيه، فلما ذكر له هذه الكلمات قال سهيل : كان والله براً صغيراً وكبيراً، وأتى سهيل بن عمرو وأعلن إسلامه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما يقول الرواة بعد ذلك: كان سهيل بعد هذا الإسلام كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهداً في سبيل الله، وكان أميراً على إحدى فرق المسلمين في موقعة اليرموك.
بهذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب الناس، فعلاً هو فن الدعوة إلى الله عز وجل، ليس أبداً تصرف قائد متغطرس احتل دولة من الدول يسوم أهلها العذاب، ولكن هو التصرف الرحيم من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو قدوة لنا أجمعين، ولا يخفى على أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب بني عامر جميعاً بتساهله وتسامحه مع سهيل بن عمرو زعيم بني عامر.
تعالوا نرى موقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية ، صفوان بن أمية بن خلف كان أبوه من أشد المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين قتلوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية للإسلام والمسلمين من أبيه، وحارب الرسول عليه الصلاة والسلام بكل طاقته، وكان ممن التف على المسلمين في أحد هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه، واشترك اشتراكاً كبيراً في قتل سبعين من شهداء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، واشترك أيضاً في الأحزاب، بل ومن الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة، بل إن صفوان بن أمية قبل ذلك دبر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنه عداء شخصي بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكما تذكرون هذه المحاولة كانت بينه وبين عمير بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وذكرناها بعد درس بدر، وفيها تعهد صفوان بن أمية لـعمير بن وهب أن يتحمل عنه عياله وأن يسدد عنه دينه، في نظير أن يقتل عمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا القصة بتفصيلاتها بعد غزوة بدر، ورأينا كيف أسلم عمير بن وهب في المدينة المنورة، ومرت الأيام وجاء فتح مكة المكرمة وفر صفوان بن أمية لما لم يجد له أي مكان في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يستقبل في أي مكان في الجزيرة العربية، فقرر أن يلقي نفسه في البحر؛ ليموت فيه، فخرج في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار ، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، ثم إنه من بعيد رأى أحد الرجال يتتبعه فخاف، وقال لغلامه: ويحك انظر من ترى، قال: هذا عمير بن وهب ، وكان عمير بن وهب صديقاً حميماً لـصفوان بن أمية قبل أن يسلم، فقال صفوان : ما أصنع بـعمير والله ما جاء إلا يريد قتلي، فهو الآن مسلم قد ظاهر محمداً علي، فقال صفوان بن أمية لما لحقه عمير : يا عمير ما كفاك ما صنعت بي، حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي. فقال عمير : جعلت فداك، أنا ما زلت صديقك، وجئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس... إلى آخر الحكاية فـعمير بن وهب عندما علم أن صفوان بن أمية هرب من مكة المكرمة، تذكر صديقه القديم صفوان بن أمية ، فخاف عليه وخشي عليه وأحب له الإسلام، وأحب له أن يدخل فيما دخل فيه عمير رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وطلب لـصفوان بن أمية الأمان، فقال: (يا رسول الله! سيد قومي خرج هارباً؛ ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فداك أبي وأمي فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمنته، فخرج
انظروا كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تعال لو أردت أن تسلم الآن فأسلم، ولك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، وإن أردت أن تأخذ شهرين كاملين لتفكر فيهما فأنت في أمان.
فهو أوفى الناس وأبرهم صلى الله عليه وسلم، وقد بعث إليك بعمامته العلامة التي كان يريدها صفوان بن أمية قال عمير بن وهب : تعرفها؟ قال: نعم. فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس أمامه أي طريق آخر، ليس أمامه إلا أن يقبل بهذا الأمان، وهو يعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام دائم الحفظ لوعده وعهده فهو الصادق الأمين، فعاد مع عمير بن وهب إلى مكة المكرمة ودخل في الحرم والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس صلاة العصر، فوقفا سوياً حتى ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال صفوان لـعمير بن وهب : كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات، قال: يصلي بهم محمد، قال: نعم، فلما سلم الرسول عليه الصلاة والسلام وانتهى من صلاته صاح صفوان يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام من بعيد قال: (يا محمد إن
نأتي إلى قصة واحد من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاريخ كله، هذا هو عكرمة بن أبي جهل وليس فقط مشكلة عكرمة أنه ابن أبي جهل وأنه شرب العداوة هذه المدة الطويلة من أبيه أشد أعداء الإسلام مطلقاً وفرعون هذه الأمة، لكن عكرمة استمر وزاد في العداوة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أهدر دمه، وهناك مجموعة من المشركين أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمهم، وقال: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وكان من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل ، ولعله علم ذلك فكان ممن قاتل في الخندمة يوم الفتح ضد خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولكنه بعد هزيمته فر من مكة المكرمة، وحاول أن يصل إلى اليمن، وذهب إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق فيها إلى اليمن، وكانت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ابنة عمه قد أسلمت في يوم الفتح على جبل الصفا مع من أسلم من أهل مكة، فذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لتستشفع عنده لـعكرمة بن أبي جهل أن يؤمنه كما أمن صفوان بن أمية ، لكن موقف عكرمة كان مختلفاً، وكما ذكرنا هو مهدر الدم، قالت أم حكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد هرب
أي أخلاق كريمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو جهل فرعون هذه الأمة ولعنه صلى الله عليه وسلم صراحة قبل ذلك، ودعا عليه، وجاء ذكره في أكثر من موضع في القرآن الكريم باللعن عليه، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ألا يلعنوا هذا الرجل فرعون هذه الأمة أمام عكرمة بن أبي جهل ؛ لكي لا يؤذوا مشاعر عكرمة ، مع أن عكرمة حتى هذه اللحظة لم يسلم بعد، ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم وثب إليه وما عليه رداء فرحاً به.
انظروا إلى أسارير الرسول عليه الصلاة والسلام كيف انبسطت عندما رأى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه ويأتي إليه وهو على أبواب الإسلام، هو لم يسلم بعد، ومع ذلك كان هذا الاستقبال الحافل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لواحد من أكبر أعدائه قبل ذلك، وكان من أكبر الذين قاوموه ومنعوه من دخول مكة المكرمة قدر ما يستطيع، فهو الآن يستقبله هذا الاستقبال الحافل.
فجلس عكرمة بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (يا محمد! إن هذه أخبرتني أنك أمنتني -يعني: زوجته- فقال صلى الله عليه وسلم: صدقتك فأنت آمن، فقال
كل هذا الكلام كان يسمعه قبل ذلك سنوات وسنوات ولكنه لم يعقله، فالقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، في هذه اللحظات شعر عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أن كل ما ذكره صلى الله عليه وسلم حق، وأن كل ما تحدث عنه قبل ذلك في مكة وغيرها كان صدقاً وكان حقاً، وأنه من كلام النبوة والوحي حقاً، فقال عكرمة بن أبي جهل عن ذلك: (قد كنت -والله- فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً وأبرنا براً، ثم قال
وانظروا إلى جهاده رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك مع المسلمين، في هذه اللحظات قال عكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم: (يا رسول الله! علمني خير شيء، قال: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله فقال
ثم اجتهد في القتال رضي الله عنه وأرضاه طيلة حياته، سواء في حروب الردة أو في فتوح الشام حتى قتل شهيداً رضي الله عنه وأرضاه في اليرموك.
كيف بدل الله عز وجل حياته كاملة بحسن استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم له وبعفوه عن كل ما بدر منه معه صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين؛ (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، وخير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت).
إذاً: هذه كانت قصة عكرمة بن أبي جهل ودخوله في الإسلام، وإضافة قوته رضي الله عنه وأرضاه إلى قوة المسلمين.
نأتي أيضاً إلى قصة إسلام واحد من أشد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام وهو فضالة بن عمير الليثي ، وهذا الرجل من شدة عدائه للرسول عليه الصلاة والسلام أنه قرر أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم الفتح والرسول عليه الصلاة والسلام في وسط الجيش الكبير عشرة آلاف، وإذا قتله فضالة بن عمير فلاشك أنه مقتول، ومع ذلك سيضحي بنفسه ليقتل الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة كراهيته له، بجوار الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يطوف بالبيت، فلما دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يحمل السيف تحت ملابسه، قال له صلى الله عليه وسلم: (أ
انظروا تغير (180) درجة، بعد هذا الإسلام أصبح رجلاً آخر غير الرجل الأول.
هكذا يصنع الإسلام الرجال والنساء على نهجه، بصورة تكاد تكون مختلفة تمام الاختلاف عن حياته قبل الإسلام.
من الذين نحب أن نقف مع إسلامهم وقفة هامة وطويلة، ليس مع إسلام أحد رجال مكة أو أحد زعماء مكة، ولكن مع إسلام إحدى نساء مكة، إحدى النساء اللاتي حاربت الإسلام طويلاً ولمدة سنوات كثيرة، ولها ذكريات مؤلمة جداً مع المسلمين ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً، سنقف مع إسلام هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنه.
لقد كان هند بنت عتبة موتورة من المسلمين، قتل أبوها عتبة بن ربيعة في بدر، وقتل عمها شيبة بن ربيعة كذلك في بدر، وقتل ابنها حنظلة بن أبي سفيان أيضاً في بدر، وقتل أخوها الوليد بن عتبة بن ربيعة أيضاً في بدر، فتصور أربعة من أقرب الأقرباء إليها قتلوا جميعاً في بدر، وهم جميعاً من سادة قريش.
فالحقيقة موقفها كان في غاية الصعوبة، فقد حملت في قلبها كراهية لم يحملها أحد مثلها إلا القليل، وظلت على هذا الأمر سنوات طويلة منذ بدر وإلى فتح مكة، ست سنوات متصلة، وقبل ذلك أيضاً كانت معادية للإسلام، ولكن ظهرت العداوة بشدة بعد مقتل هؤلاء الأربعة في بدر، وخرجت بنفسها مع الجيش الكافر في موقعة أحد، وحمست الجيش قدر ما تستطيع لحرب المسلمين، ولما فر الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تحثو في وجوههم التراب وتدفعهم دفعاً إلى حرب المسلمين، ولم تفر كما فر الرجال، ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهاية موقعة أحد قامت بفعل شنيع، قامت بالتمثيل بالجثث، وبدأت تمثل بواحدة تلو الأخرى بنفسها، حتى وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فبقرت بطنه رضي الله عنه وأرضاه وأخرجت كبده ولاكت من كبده، يعني: أكلت من كبده قطعة، فما استساغتها فلفظتها، لكن هذا الموقف أثر بشدة في الرسول عليه الصلاة والسلام، وخرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل واستمرت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة من فتح مكة، رفضت هند بنت عتبة ما طلبه زوجها من أهل مكة من أن يدخلوا في بيوتهم طلباً لأمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعت أهل مكة لقتل زوجها عندما أصر على مهادنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودفعتهم دفعاً إلى القتال، يعني: تاريخ طويل شرس جداً مع المسلمين، ومع ذلك عندما جلس صلى الله عليه وسلم عند جبل الصفا ليبايع الناس على الإسلام جاءت هند بنت عتبة وهي منتقبة متنكرة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يبايع النساء في ذلك اليوم مشافهة ما وضع يده في يد امرأة أجنبية قط صلى الله عليه وسلم، وكانت بيعة النساء على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، فبدأت النساء تبايع وقال صلى الله عليه وسلم لهن: (بايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً، فقالت
وتمت مبايعة نساء مكة جميعاً بما فيهم هند بنت عتبة رضي الله عنها وأرضاها هذه المبايعة المباركة، وحسن إسلام هند بنت عتبة ، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتحمسها لحرب المسلمين بدأت تخرج مع جيوش المسلمين لتحمسهم لحرب الكفار.
ومن أشهر مواقفها هذا الموقف الذي وقفته في يوم اليرموك، عندما بدأت تشجع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد (200) ألف رومي، فكانت من أدوات النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.
فالله عز وجل فتح قلوباً غلفاً في ذلك اليوم يوم الفتح، بما لا يمكن أبداً أن يتصور، فمدينة كاملة من أعظم مدن الجزيرة العربية أسلمت بكاملها في ذلك اليوم، ولم يتخلف أحد منهم عن الإسلام.
نريد أن نذكر بموقف من المواقف الرائعة في فتح مكة لإحدى نساء المسلمين، وهي السيدة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها وأرضاها أخت سيدنا علي بن أبي طالب ، لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام بأعلى مكة ودارت الحرب في أسفل مكة بين مجموعة من المشركين وبين سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هرب رجلان من بني مخزوم ولم يجدا أي ملجأ في ذلك الوقت إلا أن يدخلا عند السيدة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها؛ لأن زوجها هو هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، فهم من أقارب زوج السيدة أم هانئ ، وطلبا منها أن تجيرهما.
فهذا شيء فيه إهانة كبيرة جداً عند العرب، لكن في نفس الوقت هذان الاثنان لم يجدا لهما أي سبيل غير أن يطلبا الإجارة من امرأة، فأجارتهما أم هانئ رضي الله عنها، فما لبث أن دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما الباب رضي الله عنها، وقالت: قد أجرتهما، فسيدنا علي مصر على أن يقتلهما، فقالت: نذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسيدنا علي لما سمع ذلك سكت وذهب معها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعرضت السيدة أم هانئ أمرها عليه وقالت: (يا رسول الله زعم ابن أمي -الذي هو
يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بإجارة أم هانئ في اثنين كانا يقاتلان المسلمين، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يجير من أجارت السيدة أم هانئ رضي الله عنها وأرضاها: (قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت).
هذه هي قيمة المرأة في الإسلام، وكما ذكرنا أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام تؤمن عكرمة بن أبي جهل مع أنه كان مهدر الدم.
وكذلك أم هانئ الآن تؤمن الرجلين بعد أن كانا على مقربة من القتل على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
قبل ذلك أم سلمة كما ذكرنا في الدرس السابق توسطت عند الرسول عليه الصلاة والسلام ليقبل توبة أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية بعد أن رفض صلى الله عليه وسلم في البداية.
إذاً: هذه مكانة عظيمة جداً وراقية جداً للمرأة في الإسلام، ومنذ الأيام الأولى للإسلام.
إن الأحداث في فتح مكة من الصعب أن تحصى في لقاء واحد؛ لأن الأحداث كثيرة جداً، وكنت أود أن أتكلم فيها، لكن الوقت لا يتسع؛ لذلك سأختار بعض الحوادث القليلة التي أعلق عليها تعليقاً سريعاً، ونسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا في اللقاءات الأخرى لنفصل في موقف من أهم المواقف اللافتة للنظر في فتح مكة، وهذا الموقف: هو الموقف من المرأة المخزومية التي سرقت، هذه المرأة سرقت بعد أن فتحت مكة، وكانت من النساء اللاتي أسلمن، فهي من بني مخزوم شريفة من الأشراف، وقبيلة بني مخزوم قبيلة كبيرة جداً، وكما يعلم الجميع أن العلاقة بين بني مخزوم وبني هاشم كانت علاقة حساسة جداً، وكان التنافس بينهما على كل الأمور تقريباً، وكان أبو جهل زعيم بني مخزوم، وكان الموقف حرجاً جداً مع هذه القبيلة بالذات، ويخشى من أن تنقلب على المسلمين انقلاباً قد لا يحمد عقباه، ومع أننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يحاول قدر المستطاع أن يؤلف قلوب القبائل، فألف قلوب بني أمية، وألف قلوب بني عبد الدار، وألف قلوب بني عامر كما ذكرنا في الدرس، لكن هذا حدث مهم مع بني مخزوم، وقد يفهمه الفاهمون أنه ليس فيه نوع من التأليف لبني مخزوم، لكن نحتاج أن ندرس الموضوع بدقة.
فهذه امرأة من أشراف بني مخزوم سرقت، فقرر صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد وهو أن يقطع يدها؛ لأنها سرقت واكتملت أركان جريمة السرقة، وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: أريد أن أتألف قلوب بني مخزوم بالعفو عن هذه المرأة التي سرقت، لكنه أقام عليها الحد مضحياً بما قد يحدث من أحداث دامية في داخل مكة نتيجة تطبيقه لهذا الحد، لأجل أن يرينا معنى مهماً جداً ويزرع فينا معنى لازماً ينبغي أن نفهمه جميعاً فهماً جيداً دقيقاً، ألا وهو: أنه لا يمكن أبداً لأي إنسان مهما كان نسبه ومهما كان شريفاً ومهما كان عظيماً أن يتغاضى عنها أو يعطلها، أو يقوم بأمر من الأمور يمنع من إقامتها في الدولة الإسلامية، حتى لو كانت العواقب وخيمة، وقرر صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر وشاع بين الناس أن المرأة المخزومية ستقطع يدها، فذهب بنو مخزوم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفعوا عنده، لكن لم يستطيعوا أن يكلموه مباشرة، فذهبوا إلى أسامة بن زيد بن حارثة
رضي الله عنهما فقد كان يسمى بين الصحابة: الحب بن الحب، كان حب الرسول عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ، وأسامة بن زيد هو الحب بن الحب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، ففي أثناء دخوله مكة المكرمة في يوم الفتح أردفه خلفه، من شدة حبه له رضي الله عنه وأرضاه.فذهبوا إلى أسامة وقالوا له: استشفع لهذه المرأة ألا تقطع يدها؛ فهي امرأة عزيزة شريفة من بني مخزوم، فـأسامة بن زيد رضي الله عنهما أخذ الموضوع بسهولة ويسر وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفع لهذه المرأة في حد من حدود الله، فلما كلمه أسامة ، تلون وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب غضباً شديداً، وقال لـأسامة : (أتشفع في حد من حدود الله أتشفع في حد من حدود الله؟!) حتى إن أسامة بن زيد رضي الله عنهما لم يجد أي مبرر إلا أن يقول: (يا رسول الله استغفر لي.. يا رسول الله استغفر لي).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على السيدة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولكنه في آخر اليوم قام وخطب خطبة ليفهم المسلمين هذا المعنى الدقيق؛ ليضع لهم أسس بناء دولة إسلامية، ليوضح لهم أن العدل أساس الملك حقاً، وتطبيقاً واقعياً في حياة المسلمين، قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن
فهو صلى الله عليه وسلم تألف قلوب الناس بأمور مالية وبأمور مادية هذا أمر ممكن، أما أن يتألف قلوب الناس بتعطيل حد من حدود الله فهذا لا يقبل مطلقاً، مهما كان هذا الذي أخطأ عزيزاً أو شريفاً كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فأي إنسان وقع في حد من حدود الله لابد أن يقام عليه الحد.
وهذه الكلمات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته: (لو سرقت
فهذا الموقف مر بأمان، وهدأت بنو مخزوم ولم تفعل شيئاً في ذلك الموقف، وحسنت توبة هذه المرأة المخزومية، وكانت تأتي الرسول عليه الصلاة والسلام كثيراً لتسأل عن أمور في الفقه وفي الإسلام فيجيب عنها صلى الله عليه وسلم.
هذا موقف آخر ففي نفس الغزوة غزوة الفتح حدث أمر آخر يثبت به الرسول عليه الصلاة والسلام نفس المعنى في قلوب المسلمين، فبعد مرور يوم واحد من الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه، وهذا الرجل الذي قتل مشرك، وقتلوه برجل قتله في الجاهلية، فغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقام بين الناس خطيباً .. فخزاعة الآن تأخذ بالثأر لقتيل لها في الجاهلية، وهذا عكس تعاليم الإسلام، وخزاعة تدخل مكة الآن وهي رافعة رأسها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فتح مكة من أجل خزاعة، ومع ذلك لا يغفر لها هذا الذنب، (قام صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً، وهي لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها، فقولوا: إن الله أحلها لرسوله ولم يحلها لكم، ثم قال: يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله) يعني: بعد هذه الحادثة سيخير أهل القتيل بين أمرين: إن شاءوا أن يقتل الذي قتل صاحبهم، وإن شاءوا أن يأخذوا الدية، فهم بخير النظرين فليختاروا ما شاءوا.
إذاً: الحدود نفذت على هذا الملأ الواسع وفي هذه الظروف؛ ليعلم أنه لا تفريط أبداً في حدود الله عز وجل.
فهذه كانت من المواقف الهامة جداً في فتح مكة.
كان من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام إذا فتح بلداً أو دخل الإسلام إلى بلد أن يولي عليها أحداً من رجاله، لكن المشكلة أن أبا سفيان كان قبل ذلك زعيم مكة بعد مقتل أبي جهل ، ولم يطمئن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد إلى إسلامه حتى يعطيه إمارة مكة، وبالذات أن مكة أعظم مدن العرب على الإطلاق، فهو لا يستطيع أن يعطيها لرجل لم يثق بعد في إسلامه، ونحن علمنا أن في الحوار الذي دار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن فيه أبو سفيان حتى اللحظات الأخيرة مقتنعاً تمام الاقتناع بقضية النبوة، فكيف يتصرف الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
إذا أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الإمارة لغيره قد يحزن أبو سفيان وينقم على ذلك الأمر ويثور، وقد تثور بنو أمية التي منها أبو سفيان ، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن تحدث قلاقل أو اضطرابات في مكة وقد أسلمت بكاملها من لحظات قليلة أو أيام قليلة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في لفتة بارعة أعطى إمارة مكة لـعتاب بن أسيد رضي الله عنه، وكما ذكرنا أن عتاب بن أسيد كان من شباب مكة، فقد كان عمره حوالي (20) سنة تقريباً، وكان من بني أمية من نفس قبيلة أبي سفيان ، فإذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام إمارة مكة فسيكون فيه تأليف لقلوب بني أمية، ولن تقف بنو أمية طويلاً عند تنحية أبي سفيان عن إمارة مكة؛ لأن الأمير الجديد منها أيضاً، وعتاب بن أسيد شاب لم يتلوث كثيراً بعقائد المشركين، وليس هناك تاريخ عداء طويل بينه وبين المسلمين فيسهل قياده، وبالفعل فإن عتاب بن أسيد حسن إسلامه جداً، وكان كثير الصلاة والصيام والصدقة، وكان من المقربين جداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، واستطاع فعلاً بحكمة أن يحفظ الأمن والأمان في داخل مكة، فلم نسمع عن أي قلاقل في حياته في فترة حكمه لمكة المكرمة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن عتاب بن أسيد معلوماته عن الإسلام قليلة جداً؛ لأنه لم يسلم إلا منذ أيام قليلة؛ فلذلك ترك معه معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه؛ ليعلم الناس دينهم، لقد ترك معهم بحراً من بحور العلم معاذ بن جبل ، فهو إمام العلماء يوم القيامة وأعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله عنه، وأهل مكة فيهم الكثير من العقليات والمفكرين والمبدعين، فهم يحتاجون إلى رجل من علماء الأمة ليجادلهم فيما يختلفون فيه، ولا ننسى أن لهم تاريخاً طويلاً جداً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندهم شبهات كثيرة قالوها قبل ذلك، وأعلم الناس في الرد عليهم في ذلك الوقت هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، بذلك استقر الوضع في داخل مكة المكرمة، ودخل الناس جميعاً في الإسلام بفضل الله عز وجل.
يتبقى لنا موقف نحب أن نعلق عليه في ختام هذا الدرس وهو مهم جداً، وهو موقف الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
رأى الأنصار الأحداث التي تجري في داخل مكة المكرمة وإسلام الجميع، وهؤلاء جميعاً هم أهل وعشيرة ورحم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنهم شاهدوا فرحة وسعادة الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام، وشاهدوا أيضاً استقرار الأوضاع في داخل مكة المكرمة، وإسلام عكرمة بن أبي جهل ، وإسلام سهيل بن عمرو ، وإسلام فضالة بن عمير ، وإسلام قادة مكة بصفة عامة.
فالوضع بدأ يستقر جداً في داخل مكة المكرمة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقف على الصفا يدعو الله عز وجل، والأنصار يقفون تحته يفكرون في وضعهم بعد هذا الفتح، قال بعض الأنصار لبعض: أما الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؛ لأنهم يرون تفاعله صلى الله عليه وسلم مع الأحداث في داخل مكة.
قال أبو هريرة راوي الحديث كما عند مسلم : (وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف عليهم فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي، فلما انقضى الوحي رفع رأسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة في عشيرته، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم) يعني: أنني سوف أعيش معكم حياتي كاملة، وليس معنى أنني تعاطفت مع هذه الأحداث التي تجري في مكة المكرمة، وأنني فرحت بإسلام هؤلاء العشيرة والأهل والرحم أنني سأبقى في مكة وأترككم.
وقد ذكرنا في بيعة العقبة الثانية أن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بيننا وبين القوم حبالاً وإننا قاطعوها) فقد بايعوه صلى الله عليه وسلم على حرب الأحمر والأسود من الناس، وصرحوا بأنه بعد هذه البيعة هل إذا استقرت الأوضاع في مكة سيعود إليها صلى الله عليه وسلم ويتركهم مع اليهود أو غيرهم من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل المحيا محياكم والممات مماتكم، أنا منكم وأنتم مني)، فالرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد على نفس المعنى الآن ويقول: (ما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله)، يعني: مستحيل أن أخالف ما تعاهدت معكم عليه قبل ذلك، (إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم، قال
والأنصار رضي الله عنهم لهم قيمة عالية جداً في ميزان الإسلام، وبذلوا الكثير والكثير رضي الله عنهم، ولم يأخذوا شيئاً لا في الفترة المكية بعد البيعة ولا في الفترة المدنية من أولها حتى هذه اللحظة وإلى آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام شرفهم بكلماته العظيمة، فقال في حقهم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار).
إذاً: نحن نعذر الأنصار تماماً في هذا الأمر الذي وقعوا فيه، وعذرهم ربهم سبحانه وتعالى ورسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكل بذل الأنصار قبل الفتح وبعد الفتح له قيمة عالية جداً؛ لأنه كان في وقت الشدة ووقت العناء ووقت المشقة، ولا يمكن أبداً أن يساويه بذل بعد الفتح، بأي صورة من الصور، ومما يؤكد هذا المعنى الأخير هذه القصة التي أختم بها هذا الدرس، وهي عندما جاء مجاشع بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بأخيه مجالد بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين جاء ليعلن إسلامه بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الفتح، فـمجاشع من الذين أسلموا قبل الفتح ومجالد أخوه من الذين أسلموا بعد الفتح، فجاء بأخيه ليبايع بعد الفتح، وقال: (جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقال: على أي شيء تبايعه، قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد).
إذاً: فالأنصار مكانة عظيمة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10].
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر