إسلام ويب

سلسلة الأندلس الخلافة الأمويةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تولى عبد الرحمن الناصر إمارة الأندلس بعد وفاة جده، فرفع من شأن الأندلس من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العزة ومن الهوان إلى المجد والسيادة، واستطاع أن يقضي على جميع الثورات الداخلية، واستطاع القضاء على الممالك النصرانية واسترداد الأراضي الإسلامية الأندلسية من تحت سيطرتها، وأعاد المجد والعز للإسلام والمسلمين.

    1.   

    الرد على من يقول: إن أمر الدولة الأموية بالجهاد كان تجنباً للثورات والانقلابات الداخلية

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وبعد:

    فمع الحلقة السادسة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط.

    نفتح سوياً صفحة جديدة في هذا التاريخ الطويل، وقبل أن ندخل في هذه الحلقة فإن بعض الإخوة اشتكوا من كثرة المعلومات في الدروس السابقة، وتلاحق الأسماء والتواريخ، فهذه دراسة لثمانمائة سنة من تاريخ الأمة الإسلامية، والحق أنك تحتاج إلى سماع الحلقة أكثر من مرة لاستنباط الدروس، وقد لا نقف أحياناً على بعض الدروس في بعض المواقف، ويترك للأفراد الاستفادة منها بقدر حاجتهم، فعلى سبيل المثال: صفات عبد الرحمن الداخل ؛ فلو جلست مع نفسك أياماً ما استطعت أن تكفيه حقه، ولا أن تدرس صفاته دراسة كافية وافية.

    فبعض الأسئلة جاءت بخصوص الحلقات السابقة.

    فمنها هذا السؤال وهو: ما زال يعتقد أن الصوائف -وهي خروج الدولة الأموية للجهاد في سبيل الله كل صيف، كانت سواء في فترة الشام أو في فترة حكمهم لبلاد الأندلس، لم تكن إلا لإخراج الشباب من البلاد إلى الثغور وذلك لإفراغ الشحنات، وبذلك يتجنبون الثورات والانقلابات والتمرد في داخل البلاد، فهل هذا حقيقي وصحيح؟

    أولاً: الرد على هذا السؤال هو أنني حزنت حزناً شديداً، أن أرى هذا الفهم لفتوحات الدولة الأموية الكثيرة، بأن يقلب كل حسن إلى قبيح، وكل خير إلى شر، فلماذا الطعن في فتوحات بني أمية، وأياديهم البيضاء على المسلمين لا تنقطع؟ ماذا كان سيقع لو أن بني أمية لم يدخلوا إلى ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية جميعاً؛ أوزباكستان وكازاخستان والشيشان وأذربيجان وأفغانستان والهند.. وغيرها من البلاد التي ظلت تحكم بالإسلام قروناً طويلة بفضل هذا الدخول؟

    ولماذا الطعن في الأمثلة الجميلة والصور الرائعة، كـموسى بن نصير ، والقول بأنه ما ذهب إلى بلاد الأندلس بجيشه إلا غيرة من طارق بن زياد رحمه الله؟

    ولماذا الطعن في عبد الرحمن الداخل، والقول بأنه لم يذهب إلى الأندلس إلا طلباً للملك وللسيادة والسلطان؟

    ولماذا تشويه هذه الصور للشباب، وهي صور قلما تتكرر في تاريخ الأمم؟

    ثانياً: أن المستشرقين ومن على شاكلتهم من أبناء المسلمين يقيسون التاريخ الماضي بأفكار الحاضر، فقد رأوا في هذه الآونة أن السياسة لا تستغني عن الغش والخداع والغدر والرشوة والمؤامرة والمكيدة، والعلمانيون لا يتخيلون أبداً أن يبذل الإنسان نفسه وماله وجهده ووقته من أجل الآخرين، أو من أجل شيء غير منظور، كالجنة مثلاً، لذلك من المستحيل عليهم أن يفهموا هذه النماذج الطاهرة، التي ما تكررت إلا في التاريخ الإسلامي فقط.

    ثالثاً: هناك سنة من سنن الله الثوابت، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، فلو كان سعي بني أمية كله في هذه الفتوح لمجرد إلهاء الشعوب عن الملك، وإلهاء الشباب عن الثورات والمؤامرات، وليس في نواياهم الجهاد والدعوة وحب الإسلام، أكان يصلحه الله؟

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)؛ فقد علمنا انهزام المسلمين عند الأخطاء القلبية، فقد هزم المسلمون في أحد لخطأ قلبي، قال تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، وهزم المسلمون في حنين لخطأ قلبي أيضاً، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25]، وهذا على كرامة هذا الجيش من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فإذا حقق الأمويون هذا النصر الراسخ لقرون خلت، أليس هذا دليلاً على خيريتهم؟

    هل اطلع هؤلاء الطاعنون على قلوبهم، فوجدوا فيها خبثاً، قال تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148].

    رابعاً: ليس معنى هذا أنه لا توجد في بني أمية أخطاء أبداً، بل يجب أن نشير إلى أخطائهم، ولكن في حجمها، وقد أشرنا في الدروس السابقة إلى أخطاء ملموسة في عهد الإمارة الأموية، أدت إلى ظهور عهد الضعف في الإمارة الأموية، وستظهر أخطاء أخرى، وقد تكون جسيمة وتؤدي إلى هلكة، وإلا لاستمر بنو أمية إلى هذه الآونة، لكن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه من أفسد يهلك، فمن عدم الإنصاف أن ننظر بعين واحدة إلى الأخطاء ولو قلت، ونهمل الحسنات ولو تعاظمت.

    1.   

    موقف الشرع من الفن الغنائي

    هذا سؤال بخصوص قصة زرياب وأثره على المجتمع الأندلسي؟

    إن الفن ليس حراماً مطلقاً كما أنه ليس حلالاً مطلقاً، بل هناك شروط إن لم تتوافر في الفن أصبح حراماً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر سورة الشعراء وهو يستثني الشعر الحلال من الحرام، يقول سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226].

    ثم يستثني سبحانه وتعالى فيقول: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227].

    فالاستثناء ألا يتعارض العمل الأدبي شعراً كان أو غيره مع الإيمان والعمل الصالح، حتى لو وصل هذا الأدب أو هذا العلم أو هذا الشعر إلى أرقى جوائز الأدب في العالم، فإن كان يعارض الشرع والإيمان والعمل الصالح فإن الله سبحانه وتعالى سيحبطه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].

    أما الاستثناء الثاني: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية أيضاً: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الشعراء:227]، فلا يلهي هذا العمل الأدبي صاحبه أبداً عن ذكر الله في كل أحواله؛ لأن الأصل هو ذكر الله، والفرع هو قول الشعر أو ما شابهه من أعمال الفن الجائز.

    ثم يكمل سبحانه وتعالى فيقول: وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، أي: أن يستخدم شعره وأدبه في الدفاع عن الإسلام والنفس والوطن، وتحسين الصورة للشرق والغرب، ودفع الشبهات .. وغيرها.

    1.   

    حال الحكام في فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس

    هذا سؤال أخير عن طبيعة الحكام في فترة الضعف في عهد الإمارة الأموية في الأندلس والتي استمرت من (238هـ - 300هـ)؟

    الجواب: أن الأمراء الذين حكموا في هذه الفترة ثلاثة وهم: محمد بن عبد الرحمن الأوسط ، والمنذر بن محمد وعبد الله بن محمد ، فقد كان محمد بن عبد الرحمن الأوسط عاقلاً رزيناً مجاهداً، خفف الأعباء المالية عن الناس واهتم بالعلماء، أما المنذر بن محمد فقد كان فارساً شجاعاً وقائداً متميزاً، ولم يحكم إلا سنتين فقط، ثم مات وهو في حصار إحدى حركات التمرد، أما عبد الله بن محمد فإنه كان متقشفاً عادلاً رحيماً محباً للناس ينظر في المظالم بنفسه.

    إذاً: كان الأمراء على درجة عالية جداً من التقوى والعدل والرحمة والجهاد، ومع ذلك ضعفت الأمة، والملحوظة الغريبة أنه يسأل: لم لم تسقط الأمة في عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي تميز في معظم فترات حياته بالظلم والقسوة، ولكنها سقطت في عهد هؤلاء الذين تميزوا بالتقوى والعدل والرحمة والجهاد؟

    ولتبرير هذا التباين أرى بعض الأمور، وقد يكون هناك تبريرات كثيرة جداً، لكن أكتفي باستنتاجين:

    الأول: أن هؤلاء الأمراء كانوا يتصفون بضعف القيادة، وسوء الإدارة باستثناء المنذر بن محمد ، بينما تميز الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل -على الرغم من ظلمه- بحسن الإدارة وقوة الشخصية.

    إذاً: القائد لا بد أن تجتمع له مع التقوى الكفاءة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع المهام على أصحابه، كان يعطي هذا قيادة الجيوش، وهذا قراءة القرآن، وهذا الأذان، وهذا إمامة الصلاة، وهكذا كان يوزع عليهم الأمور بحسب كفاءتهم وقدرتهم على العمل، مع أن الجميع من الأتقياء.

    إذاً: الكفاءة مطلوبة مع التقوى.

    الثاني وهو هام جداً: أن الشعب في عهد الحكم بن هشام كان قد ربي على أعلى درجات التربية، وذلك في عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وفي عهد ابنه هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي شبهوه بـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فلم تسقط الإمارة في عهد الحكم بن هشام ، بل إنه قد تاب من ظلمه في آخر عامين من حياته تأثراً بشعبه الذي كان غالبه على التقوى.

    بينما الشعب في عهد الضعف كان شعباً متراخياً، ربي على الدعة والخنوع والطرب والمال وحب الدنيا وكثرة الغنائم.. وما إلى ذلك، فحتى إن تولى الصالحون فإن الأمة ستسقط، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث).

    والخبث كثر في عهد الإمارة الأموية الثاني، حتى أصبح عموم الشعب من الخبثاء، ومن محبي الدنيا والدعة والخنوع، وهذا يبين دور تربية الشعوب على حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    ما كانت عليه الإمارة الأموية سنة 300هـ

    أما ما كانت عليه الإمارة الأموية في فترة الضعف سنة (300هـ)، فكان كما يلي:

    أولاً: وجود حركات تمرد في معظم مناطق الأندلس؛ كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون الذي تنصر في سنة (286هـ).

    ثانياً: الحكومة الأموية المركزية لا تملك إلا قرطبة فقط، وما حولها من القرى، وهذا يمثل تقريباً أقل من عشر مساحة الأندلس في ذلك الوقت.

    ثالثاً: شمال الأندلس كانت به ثلاث ممالك نصرانية: أراجون، ونافار، وليون، وأكبرها مملكة ليون، وكانت هذه الممالك قد بدأت تجترئ على الحدود الشمالية الأندلسية وتهجم عليها، بل واحتلت بعض المدن الإسلامية في الشمال، مثل: مدينة سالم.

    رابعاً: أن الأمير عبد الله بن محمد وهو آخر الأمراء كان قد مات في سنة ثلاثمائة من الهجرة، وابنه الأكبر محمد الذي كان مرشحاً للخلافة كان قد قتل، وخلف وراءه طفلاً عمره ثلاثة أسابيع فقط.

    خامساً: الدولة العبيدية الشيعية المسماة بالفاطمية ظهرت وبقوة في المغرب، فقد بدأ ظهورها في عام (296هـ) وهي تؤيد عمر بن حفصون وتدعمه بالسلاح عن طريق مضيق جبل طارق.

    سادساً: روح سلبية رهيبة تستولي على الناس في كل ربوع الأندلس، أنه لا أمل في الإصلاح.

    سابعاً: الأمر في بلاد العالم الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الأحوال في بلاد الأندلس، فقد تمزق العالم الإسلامي إلى دويلات كثيرة متفرقة.

    في هذا الجو المليء بالفتن، وهذه التركة المثقلة بالهموم حدث أمر غريب ولكنه متوقع، فقد زهد جميع أبناء عبد الله بن محمد المرشحين للخلافة عن الحكم، لأن الحكم تركة مثقلة بالهموم، ولا يصلح فيهم أحد لهذا الأمر، فقدموا حفيد عبد الله بن محمد ، حفيد الأمير الأخير عبد الله بن محمد ، وهو ابن القتيل محمد بن عبد الله ، الذي قتل منذ اثنتين وعشرين سنة، وهذا الحفيد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت اثنين وعشرين عاماً فقط، وهو الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الناصر .

    يقوم عبد الرحمن الناصر بأمر الإمارة، فإذا به يغير الضعف إلى قوة، والذل إلى عزة، والفرقة إلى وحدة، والهوان إلى مجد وسيادة وسلطان، وهي خطوات بحق لا بد أن تدرس بعناية.

    فهذا الرجل لو كان في زماننا لكان في السنة الرابعة في الجامعة على أقصى تقدير، فقد كانت طاقة الشباب لديهم كبيرة جداً، وأحياناً قد يبخس الشباب نفسه، أو يبخس المجتمع، وسبحان الله! فإن الإسلام دين عجيب، وهذه الأمة أمة ولادة، فإن موسى بن نصير فتح الأندلس وهو في الخامسة والسبعين من عمره، ومع ذلك كانت له روح الشباب في هذا السن المتقدم.

    أما الشاب عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فقد ضم إلى فورة الشباب حكمة الشيوخ، رحمه الله وأكثر من أمثاله.

    1.   

    خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح

    كانت خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح، فهي كما يلي:

    تربية الناصر التربية الصحيحة من قبل جده عبد الله بن محمد

    أولاً: يخطئ من يظن أن تاريخ عبد الرحمن الناصر رحمه الله بدأ منذ ولايته على البلاد، فقد ربي تربية جيدة لم تتكرر كثيراً في التاريخ؛ ليكون عبد الرحمن الناصر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

    إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر ، فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر ، فهل نحن نعلم أبناءنا الصلاة لسبع سنين، ونضربهم عليها لعشر؟! فإياك أن تضرب ابنك على الصلاة لعشر وأنت لم تأمره بها لسبع.

    وهل نحفظ أبناءنا القرآن؟ أم أن أبناءنا يحفظون أغاني فلان وعلان من المطربين والمطربات، الأحياء منهم والأموات؟

    وهل نعلم أبناءنا السباحة، وألعاب القوى، والدفاع عن النفس، أو أنهم مشغولون بأفلام الكرتون والتلفزيون والكوتشينة؟!

    وهل يريد أبناؤنا أن يكونوا مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي ، وعبد الرحمن الناصر ، وعبد الرحمن الداخل ، أم أنهم يريدون أن يكونوا مثل مارادونا ومايكل جاكسون ومن على شاكلتهم؟

    الحقيقة أن المسئولية ضخمة جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).

    وعبد الرحمن الناصر رحمه الله قتل أبوه وعمره ثلاثة أسابيع فقط، فرباه جده الأمير عبد الله بن محمد ليفعل ما لم يستطع هو أن يفعله، رباه على سعة العلم وقوة القيادة والجهاد وحسن الإدارة، والتقوى والورع، والصبر والحلم، والعزة والكرامة، والعدل مع القريب والبعيد، والانتصار للمظلوم، رباه ليكون عبد الرحمن الناصر .

    ثقة الناصر بربه ثم بنفسه في الإصلاح

    ثانياً أمسك : عبد الرحمن الناصر رحمه الله زمام الإمارة وعنده ثقة شديدة بالله سبحانه وتعالى، ثم بنفسه أنه يستطيع أن يغير، فهو يثق بأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ويثق في قوله سبحانه وتعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ثم يثق في نفسه أنه من الممكن أن يغير، فلو كان في قلبه إحباط من التغيير، وأنه لا أمل له في الإصلاح ما استطاع أن يتحرك خطوة واحدة، فهو مع صغر سنه أخذ على عاتقه مهمة تعتبر من أثقل المهام في تاريخ الإسلام، فبهذه المؤهلات، وبهذه التربية من جده عبد الله بن محمد التربية الشاملة لكل فروع كمال الشخصية، وبهذه الثقة الشديدة بالله ثم بالنفس غير عبد الرحمن الناصر من التاريخ، وأول شيء فعله عندما تملك الأمور في الأندلس بدأ ينظف المراكز المرموقة الموجودة في البلد من وزراء وقواد للجيش من رموز الفساد التي عمت، وبدأ ينتقي من يتصف بالتقوى والورع ونظافة اليد وسعة العلم، ويعطيه المراكز القيادية في قرطبة، وهو لا يملك من كل بلاد الأندلس إلا قرطبة وما حولها من القرى، وقرطبة كانت من أكبر بلاد الأندلس على الإطلاق؛ لأنها كانت العاصمة لسنوات طويلة، فكانت مركزاً ثقيلاً وكبيراً، لكنها لم تكن تمثل أكثر من عشر الأندلس، فبدأ يصلح في هذه المنطقة الصغيرة، ثم أعلى من شأن العلماء جداً، ورضخ لهم رضوخاً كاملاً، وطبق الشرع الإسلامي بحذافيره على نفسه قبل أن يطبقه على شعبه، ولم يتنازل أبداً عن مسألة واحدة من مسائل الشارع الكريم، سواء في كتابه سبحانه وتعالى أو في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان هو أول من طبق عليهم ذلك.

    لما بنى عبد الرحمن الناصر قصراً من القصور، وحضر خطبة الجمعة، وكان الخطيب المنذر بن سعيد رحمه الله أكبر علماء قرطبة في ذلك الوقت، وكان شديداً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حتى على الأمير عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فأسرف المنذر بن سعيد في الكلام وأفرط في التقريع على عبد الرحمن الناصر ؛ لأنه بنى قصراً كبيراً، فقال عبد الرحمن الناصر عندما عاد إلى بيته: لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف علي وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسية في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني.

    وأشار عليه رجل أن يخلع المنذر بن سعيد عن خطبة الجمعة، فقال الأمير عبد الرحمن الناصر : أمثل المنذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا والله لا يكون، وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه سبحانه وتعالى في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، وأبقاه على مكانته، وأكثر منذر بن سعيد رحمه الله من تقريع عبد الرحمن الناصر ، وما عزله حتى مات.

    فكان عبد الرحمن الناصر يربي أهل قرطبة على هذه المعاني، وكان في انصياعه للحق أفضل قدوة للناس جميعاً.

    استعداد الناصر وتخطيطه للقضاء على ابن حفصون المرتد

    ثالثاً: فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يبدأ أولاً بالقضاء على ثورة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون ؛ لأن عمر بن حفصون ارتد عن الإسلام فأصبح قتاله فرضاً على المسلمين، فهذا الرجل لا يختلف عليه اثنان في أنه يستحق القتل؛ لأنه ارتد عن دين الله سبحانه وتعالى.

    الأمر الثاني: أن المعركة في منتهى الوضوح، فهي معركة بين المسلمين والمرتدين، فاستطاع أن يحفز أهل قرطبة الذين قد ألفوا الثورات لقتال المرتدين، فقاد حملة بعد شهرين فقط من توليه الإمارة، واسترد مدينة إستجة التي كانت من أحصن مدن الأندلس، ثم قاد حملة كبيرة جداً بنفسه على صمويل بن حفصون ، استمرت ثلاثة شهور كاملة: شهر شعبان، ورمضان، وشوال في سنة (300) من الهجرة، أي: في نفس العام الذي تولى فيه عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فاسترد جيان، وهي من المدن الحصينة جداً، واسترد فيها سبعين حصناً من حصون عمر بن حفصون ، ثم ما زالت قوة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون كبيرة جداً، حيث يأتيه المدد من ممالك النصارى في الشمال، ومن الدولة الفاطمية في الجنوب، ومن إشبيلية؛ لأن حاكمها من أولاد حجاج ، وهو حاكم مسلم، لكنه متمرد على سلطة قرطبة، ومعه جيش إشبيلية المسلم وهو جيش كبير، فأراد عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقطع عليه المدد القادم من هذه الأماكن الثلاثة، ولكن بمن يبدأ؟ هل يبدأ بالنصارى أو بالدولة الفاطمية أو بإشبيلية؟!

    فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله في أن يهجم على إشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة؛ لأن عبد الرحمن الناصر رحمه الله له نزعة إسلامية واضحة جداً، والتأثير الإسلامي للدعوة الإسلامية على القلوب كبير، فهو يؤمل أن يرغم حاكمها على الانضمام أو الانصياع له بالقوة، وأن ينضم إليه جيش إشبيلية المسلم، فبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية في هذه الفترة، وهذا ما فعله بالفعل، فذهب إلى إشبيلية سنة (301هـ) أي: بعد أقل من سنة من ولايته، واستطاع بفضل الله سبحانه تعالى وكرمه ومنه وجوده على المسلمين أن يضم إشبيلية، فقويت شوكته جداً رحمه الله، ثم عاد إلى عمر بن حفصون بعد ذلك وقد قطع المدد الغربي عنه والذي كان يأتيه من إشبيلية، فاسترد منه جبال رندة، ثم شذونة، ثم قرمونة، وهذه جميعاً من مدن الجنوب، ثم تعمق في الجنوب أكثر حتى وصل إلى مضيق جبل طارق؛ فاستولى عليه، وبذلك قطع المساعدات الفاطمية التي تقدم عن طريق جبل طارق، والمساعدات التي تأتي من الدول النصرانية؛ إذ إنها تأتي من الشمال عن طريق المحيط الأطلسي، ثم مضيق جبل طارق، ثم البحر الأبيض المتوسط، ثم تدخل على عمر بن حفصون ، وبذلك قطع الإمداد على عمر بن حفصون من جميع النواحي.

    ونتيجة لهذه الأمور فإن صمويل بن حفصون طلب من عبد الرحمن الناصر رحمه الله المعاهدة وصلح الأمان على أن يعطيه (162) حصناً، فوافق عبد الرحمن الناصر رحمه الله؛ لأن البلاد عنده متقلبة شديدة التقلب، وهو يريد أن يتفرغ لغيره، فلما أمن جانبه وضمن في يده (162) حصناً كاملة وافقه على المعاهدة، فعند وقت الحرب كان يحارب وعند وقت المعاهدة تجده رحمه الله من أفضل الساسة.

    1.   

    سياسة الناصر في القضاء على المتمردين حوله وممالك النصارى

    كان الموقف في عهد عبد الرحمن الناصر كما يلي:

    أولاً: أصبحت قوة عبد الرحمن الناصر رحمه الله تضم قرطبة وإشبيلية وجيان وإستجة وهي جميعاً مدن الجنوب، بالإضافة إلى حصون مجاورة كثيرة، وهذا يمثل حوالي سدس الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت.

    ثانياً: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصوناً كثيرة، ويسيطر سيطرة كبيرة على الجنوب الشرقي من البلاد، لكن قطعت عنه الإمدادات الخارجية سواء من النصارى أو الدولة الفاطمية أو إشبيلية.

    ثالثاً: هناك تمرد في طليطلة وهي توجد في شمال قرطبة.

    رابعاً: هناك تمرد في سرقسطة في الشمال الشرقي.

    خامساً: هناك تمرد في شرق الأندلس ومقره بلنسية.

    سادساً: هناك تمرد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجليقي .

    إذاً: الأندلس في سنة (302هـ) كانت مقسمة إلى ستة أقسام:

    قسم واحد في يد عبد الرحمن الناصر ويشمل قرطبة وإشبيلية وما حولها، وخمسة أقسام موزعة على خمسة من المتمردين.

    إذاً: المتوقع من عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقاوم من جديد إحدى هذه التمردات من حوله، لكنه يفاجئنا ويفاجئ الجميع بأمر يجعل الواحد منا يقف فاغراً فاه لهذا الرجل المعجزة عبد الرحمن الناصر رحمه الله.

    يترك عبد الرحمن الناصر كل هذه المؤامرات، ويتجه إلى الشمال الغربي، ليقاتل قوات النصارى في مملكة ليون التي هجمت على منطقة من مناطق المتمردين في غرب الأندلس، فيحاربهم لمدة سنتين كاملتين في أرض المتمردين.

    ثم بعد أن ينتصر عليهم انتصارات كبيرة ويعود محملاً بالغنائم يترك البلاد ويعود إلى قرطبة وإشبيلية، وكأنه يعلم الناس أمراً في منتهى الوضوح، لكنه كان قد خفي عنهم، وهو أن العدو الحقيقي هم النصارى في الشمال وليست الأعداء من داخل المسلمين، وبهذا الفعل أحرج عبد الرحمن الناصر المتمردين إحراجاً كبيراً أمام شعوبهم، وحرك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه، وكذلك تتحرك عواطف الشعوب تجاه من يدافع عن قضاياها الخارجية، ومن يقاتل أعداءها الحقيقيين.

    هي نصيحة لكل المسلمين أن يوجهوا الشعوب إلى الأعداء الحقيقيين، بدلاً من تصارع كل قطرين مسلمين على الحدود بينهما، فنركز على قضية فلسطين، أو الشيشان، أو كشمير أو البوسنة أو كوسوفا .. أو غيرها من قضايا المسلمين الحقيقية.

    وقد أتم عبد الرحمن الناصر رحمه الله في هاتين السنتين انتصارات عديدة بجيشه القليل نسبياً، فقد كان معه العلماء والمجاهدون يرغبون الناس في الجنة، والموت في سبيل الله.

    وانتهت هذه الحملات بحملة في سنة (304هـ)، وهي من أكبر الحملات التي قادها رحمه الله على النصارى، وعاد محملاً بغنائم كثيرة.

    وحدث بعد عودته إلى قرطبة وإشبيلية أن انضمت سرقسطة بدون قتال إلى عبد الرحمن الناصر ، وهذه هدية من الله لمن جاهد وثبت على دينه، ثم هدية أخرى من رب العالمين سبحانه وتعالى في سنة (306هـ) وهي موت صمويل بن حفصون على نصرانيته مرتداً وقد بلغ من العمر ستاً وستين سنة، فيستغل عبد الرحمن الناصر الموقف ويضم إليه كل مناطق الجنوب الشرقي، واستتاب النصارى الذين انقلبوا من الإسلام إلى النصرانية لمدة ثلاثة أيام، فمن قبل منهم الإسلام قبله في جيشه، ومن أبى إلا أن يبقى على نصرانيته قتله ردة، وكان من بين هؤلاء ابنة عمر بن حفصون والتي كانت تحفز الناس على ألا يتركوا دين النصرانية، فقتلها ردة.

    وفي سنة (308هـ) تحرك عبد الرحمن الناصر إلى طليطلة، وما استطاع التمرد الذي كان فيها أن يقف أمام هذه القوة الإسلامية الجارفة فضمها إليه بسهولة، وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة فقط.

    وأصبح الطريق آمناً للشمال الشرقي والذي به سرقسطة، فضم طليطلة للمسلمين، ثم وجه حملة ضخمة جداً للنصارى، تعرف بغزوة موبش الكبرى في سنة (308هـ)، ضد جيوش ليون ونافار المجتمعة، واستمرت الغزوة ثلاثة شهور كاملة وعبد الرحمن الناصر رحمه الله على رأس الجيوش، فتحققت انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة، وضم إليه مدينة سالم والتي كان قد سيطر عليها النصارى من قبل.

    وفي سنة (312هـ) قاد عبد الرحمن الناصر حملة ضخمة أخرى بنفسه على مملكة نافار، واستطاع في أيام معدودات أن يكتسحها اكتساحاً، وضم إلى أملاك المسلمين مدينة دندلونة عاصمة نافار، وبدأ رحمه الله يحرر الأراضي التي أخذها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأموية.

    وفي سنة (316هـ) قاد حملة على شرق الأندلس، وقمع التمرد الذي كان هناك، وضمها إلى أملاكه.

    ثم في نفس العام قاد حملة على غرب الأندلس فهزم عبد الرحمن الجليقي ، وضمها إلى أملاكه من جديد، وبذلك وحد الأندلس كلها تحت راية واحدة بعد ست عشرة سنة من الكفاح المضني، ولم يبلغ من العمر إلا ثمانية وثلاثين سنة فقط.

    نظر إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضعفت جداً، حيث قتل المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت على يد مؤنس المظفر التركي ، وتولى الأتراك الحكم فعلياً في البلاد، وإن كانوا قد وضعوا في الصورة الخليفة القادر بالله العباسي .

    ثم نظر إلى الجنوب فوجد الفاطميين قد أعلنوا خلافة، وسموا أنفسهم بأمراء المؤمنين، وهو الذي وحد الأندلس وصنع هذه القوة، فهو أحق بذلك الأمر منهم، فأطلق على نفسه أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأموية بالخلافة الأموية، فيبدأ في الأندلس عهد جديد هو عهد الخلافة الأموية من سنة (316هـ) إلى سنة (400هـ) يعني: 84 سنة متصلة.

    يعتبر عهد الإمارة الأموية في بلاد الأندلس استكمالاً لعهد الخلافة الأموية، فقد بدأت أبهة الحكم وقوة السيطرة والسلطان تظهر على بلاد الأندلس.

    وفي سنة (319هـ) اتجه عبد الرحمن الناصر إلى مضيق جبل طارق لغزو بلاد المغرب ومحاربة الفاطميين، فضم إلى أملاك الأندلس سبتة وطنجة، فسيطر بذلك على مضيق جبل طارق ، وبدأ بإمداد أهل السنة في منطقة المغرب بالسلاح؛ لئلا يلقي بخيرة جنده في بلاد المغرب؛ لأنه كان يخشى من ممالك النصارى في الشمال.

    وفي سنة (322هـ) تحدث خيانة من حاكم سرقسطة -وهي مملكة في الشمال الشرقي- وهو محمد بن هشام التجيبي الذي كان يحكم سرقسطة في ذلك الوقت، فانضم إلى مملكة ليون لحرب عبد الرحمن الناصر ، فيتصدى عبد الرحمن الناصر له في منتهى الحزم ويأخذ جيشاً كبيراً يهاجم فيه سرقسطة، فيغزو قلعة حصينة ويمسك بقواد هذا الجيش، ويقوم بإعدامهم فوراً أمام الجميع في منتهى الحزم والقوة، فعندها يعلن حاكم سرقسطة محمد بن هشام التجيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر ، فقبل منه رحمه الله، ثم أعاده حاكماً على سرقسطة.

    فقد ألغى قلبه تماماً وحكم عقله، فاكتسب كل قلوب التجيبيين بعد أن تملك الأمور منهم، واقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلق كفار أهل مكة عندما دخل لفتحها وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

    هكذا فعل عبد الرحمن الناصر ، فقد أطلق حكام سرقسطة بعد أن أعلنوا توبتهم، وأطلق التجيبيين وأعادهم إلى حكمهم، فأثر بذلك جداً في المنطقة، وما ارتدت بعد ذلك عن عهدها مع عبد الرحمن الناصر ، فقد تمثل الحزم وقت الحزم، والعفو عند المقدرة.

    وفي سنة (325هـ) هجم على مملكة أراجون، وهي مملكة نصرانية في الشمال الشرقي، وضمها وضم برشلونة التي سقطت منذ سنوات كثيرة إلى أملاك المسلمين.

    وفي سنة (327هـ) كانت قوة الجيش الإسلامي قد بلغت شأناً عظيماً، حيث بلغت مائة ألف مقاتل، وصارت كل مناطق الأندلس موحدة، فاتجه بهذا الجيش العظيم إلى ليون ليحارب النصارى في موقعة كبيرة تسمى بموقعة الخندق أو سمورة، وهناك حصلت زلة لـعبد الرحمن الناصر رحمه الله، ومَنْ من البشر بلا أخطاء؟

    دخل عبد الرحمن الناصر هذه الموقعة واثقاً بقوته وعدده وجيشه، ونسي جيشه الدعاء الذي كانوا يدعونه لرب العالمين أن ينصرهم وهم ضعفاء، فدخلوا الموقعة بهذا الجيش الكبير، فإذا بغزوة حنين أخرى، وإذا بالتاريخ يتكرر، والله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين أحد من البشر نسب، وإذا أخطأ العباد وبعدوا عن ربهم سبحانه وتعالى تكون الهزيمة محققة لا محالة، فهزم جيش المسلمين في موقعة الخندق أو سمورة، وقتل وأسر من المسلمين خمسون ألفاً، أي: نصف الجيش، وفر عبد الرحمن الناصر رحمه الله مع الجيش الباقي، وعادوا إلى قرطبة بهزيمة ثقيلة.

    لكن عبد الرحمن الناصر رحمه الله الذي ربي على الجهاد والطاعة لربه ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم علم أين الخلل وأين الضعف، فتدارك الأمر بسرعة وحفز الناس، وقام العلماء والمربون يعلمون الناس الإسلام من جديد، فأعادوا هيكلهم من جديد، ثم قاموا بحرب عظيمة على النصارى، وبحملات مكثفة وانتصارات تتلوها انتصارات من سنة (329هـ) إلى سنة (335هـ) حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك ليون الأمان والمعاهدة على أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، وكذلك فعل ملك نافار، وملك مملكة أراجون، فدفعوا جميعاً الجزية لـعبد الرحمن الناصر ابتداء من سنة (335هـ) إلى آخر عهده رحمه الله في سنة (350هـ).

    1.   

    التطور في شتى المجالات في عهد عبد الرحمن الناصر

    كان هذا هو التاريخ السياسي والعسكري لـعبد الرحمن الناصر رحمه الله، لكن لم يكن كل جهد عبد الرحمن الناصر موجهاً إلى السياسة وإلى هذه الجيوش والحروب فقط، بل كان متكاملاً متوازناً في كل أموره رحمه الله.

    فقد أنشأ الحضارة العظيمة في بلاد الأندلس، وأنشأ هياكل إدارية على أعلى مستوى، أكثر مما عليه الآن الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضم عمالاً وكتبة وأفراداً كثيرين.

    وقام بالحضارة المعمارية، فأنشأ مدينة ضخمة جداً تسمى مدينة الزهراء في الشمال الغربي لقرطبة، واضطر لإنشاء هذه المدينة لاستقبال الوفود الكثيرة التي تأتي من كل بلاد العالم تطلب وده رحمه الله، فأنشأ مدينة الزهراء على طراز رفيع جداً، وعلى درجات مختلفة، فالدرجة السفلى للحراس والكتبة والعمال، ثم درجة أعلى منها للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير، واستجلب لهذه المدينة المواد من القسطنطينية وبغداد وتونس وأوروبا، وأنشأ قصر الزهراء، ولم يكن في الإسلام قصر مثل قصر الزهراء، وبالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، وكان الناس يأتون من أوروبا والعالم الإسلامي ليشاهدوا قصر الزهراء في مدينة الزهراء.

    أما مدينة قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر ، فقد اتسعت جداً، وبلغ سكان قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر نصف مليون مسلم، وهي بذلك تعتبر ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره، والمدينة الأولى هي مدينة بغداد إذ كان عدد سكانها مليونين.

    وفي مدينة قرطبة كان هناك ثلاثة عشر ألف دار، والدار بلغة ذلك الزمان عبارة عن بيت واسع فسيح ومن حوله حديقة، وكان فيها ثمان وعشرون ضاحية، وثلاثة آلاف مسجد، حتى أطلق عليها بحق جوهرة العالم، ووسع في مسجد قرطبة حتى أصبح من آيات الفن المعماري في زمانه، وكان المحراب عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارة أتى بها من إيطاليا.

    وأنشأ حدائق للحيوان في كل بلاد الأندلس، وكذا مسارح للطيور.

    ومن الناحية العسكرية فقد أنشأ أسطولاً بلغ أكثر من مائتي سفينة في زمانه، وبلغ الجيش أكثر من مائة ألف فارس، وزاد في مصانع الأسلحة حتى كثرت في كل مدينة.

    ومن الناحية الاقتصادية فقد اهتم جداً بالزراعة، حتى كثرت الفواكه، واهتم بزراعة القطن والكتان والقمح، واهتم جداً بقوانين الزراعة.

    وأيضاً في مجال الصناعة والمناجم، فقد اهتم باستخراج الذهب والفضة والنحاس، واهتم بصناعة الجلود والسفن وآلات الحرب والأدوية، وأنشأ كثيراً من الأسواق، وجعل هناك الأسواق التخصصية، فهناك مثلاً: سوق للنحاسين، وسوق للحوم، وسوق حتى للزهور.

    وكانت البلاد في عهده تعيش في رخاء منقطع النظير، وكثرت الأموال حتى بلغت ميزانية الدولة في عهده ستة ملايين دينار ذهبي، كان يقسمها كجده عبد الرحمن الداخل رحمه الله ثلاثة أقسام: ثلث للجيش، وثلث للبناء والمعمار والمرتبات .. وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادخار لنوائب الزمن.

    أما من الناحية الأمنية فقد قويت الشرطة جداً في عهد عبد الرحمن الناصر ، كانت هناك الشرطة التخصصية، شرطة للنهار، وشرطة لليل، وشرطة للتجارة، وشرطة للبحر، وهكذا وزع أقسامها حتى عم الأمن والأمان، ولم تقم ثورات أبداً في النصف الثاني من خلافته رحمه الله، وأنشأ ما يعرف بمحاكم المظالم، وهي شبيهة جداً بمحاكم الاستئناف في هذه الآونة، وطور المحاكم وأقام الشرع إقامة محكمة دقيقة، ما فرط قدر استطاعته في كلمة من كلمات الله، أو في كلمة من كلمات رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

    أما البريد فقد ازدهر في عهده رحمه الله.

    أما من الناحية العلمية فقد شاع التعليم في عهده، واهتم بمكتبة قرطبة التي كانت قد أسست قبل ذلك الزمن، وزاد في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، في زمن ليس فيه طباعة، وإنما فيه النسخ فقط، فقد جمعها من كل بلاد المسلمين.

    وظهرت للمسلمين وظائف عجيبة جداً في ذلك الزمن، وهي: وظيفة النساخين، فقد كان الكتاب الواحد من الصعب جداً طباعته أكثر من نسخة، فظهرت هذه الوظيفة، فمن أراد ينسخ كتاباً ليمتلكه في بيته يذهب إلى نساخ، فيذهب النساخ إلى مكتبة قرطبة فينسخ له ذلك، ولم يكن هناك حقوق طبع مثل الآن، فالكاتب أو المؤلف كان يكتب الكتاب ويتمنى أن ينتشر وينسخه كل العالمين؛ لأنه ما كان يكتب ذلك إلا لابتغاء وجهه سبحانه وتعالى.

    وظهرت أيضاً وظيفة الباحثين، فكان من الصعب على الواحد أن يبحث في أربعمائة ألف كتاب، فكان يذهب إلى الباحثين الخبراء ليبحثوا له عن مسألته، سواء كانت في الفقه أو العقيدة أو السيرة .. أو غيرها.

    وذاع صيت عبد الرحمن الناصر في الدنيا جميعاً، ورضيت عنه ممالك الشمال بالعهد والجزية، وجاءت السفارات من كل أوروبا تطلب وده، فقد جاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا وبيزنطة في أقصى بلاد شرق أوروبا، وأهدت له الهدايا، ومن أشهرها جوهرة ضخمة جداً كان يضعها في وسط قصر الزهراء.

    جاءته رسالة من ملك إنجلترا يرجوه فيها أن يعلم أربعة من علماء إنجلترا في جامعة قرطبة، ثم وقع في آخر الرسالة: خادمكم المطيع ملك إنجلترا.

    فارتفع عز الإسلام ومجده في عهد عبد الرحمن الناصر ، وأصبح عبد الرحمن الناصر بلا جدال أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى، حتى إن إسبانيا في سنة (1961م) احتفلت بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر ؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مر العصور، حتى إنهم على نصرانيتهم لم يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، والذي جعل الأندلس أقوى دولة في العالم في ذلك الحين، فهي أقوى من كل ممالك أوروبا والمسلمين.

    وظل عبد الرحمن الناصر رحمه الله يحكم البلاد من سنة (300هـ) - (350هـ)، أي: نصف قرن كامل، وكان رحمه الله مع كل هذا السلطان سريع الرجوع إلى ربه.

    فقد حدث قحط شديد في الأندلس وأمر الناس بالاستسقاء، فخرجوا ولكنهم لم يجدوا أميرهم معهم، وكان الإمام لصلاة الاستسقاء هو المنذر بن سعيد ، فأرسل غلاماً يبحث عن عبد الرحمن الناصر ، فذهب الغلام إلى القصر فوجده حائراً منفرداً بنفسه لابساً أخشن الثياب، جالساً على التراب ودموعه قد بللت لحيته، يعترف بذنوبه ويقول: يا ربّ! هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟ يا رب! لن يفوتك شيء مني.

    فتركه الغلام وذهب إلى المنذر بن سعيد وأبلغه بذلك، فقال: يا غلام أبشر، فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء.

    والمنذر بن سعيد لا يقصد أنه كان جباراً متجبراً على الناس، لكنه كان يملك الناس، فإذا خشع هذا الملك فإن ملك الملوك سيرحم.

    توفي عبد الرحمن الناصر رحمه الله سنة (350هـ) عن اثنين وسبعين عاماً، ووجدوا في خزانته ورقة بخط يده قد عد فيها الأيام التي صفت له دون كدر، فعدوها فوجدوها أربعة عشر يوماً.

    إنها حياة طويلة في جهاد دائم مستمر، فرحم الله عبد الرحمن الناصر ، ورزقنا من أمثاله الكثير.

    1.   

    استخلاف الحكم بن عبد الرحمن الناصر بعد أبيه

    استخلف عبد الرحمن على الحكم ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، والذي تولى من سنة (350هـ - 366هـ)، وفي عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر حدثت في الأندلس نهضة علمية غير مسبوقة، فقد كان الحكم بن عبد الرحمن الناصر عالماً من العلماء، ولا غرو فهو ابن عبد الرحمن الناصر رحمه الله، تولى الحكم وهو يبلغ من العمر (47) سنة، وكانوا يلقبونه بعاشق الكتب، وهو الذي أنشأ المكتبة الأموية، أعظم مكتبات القرون الوسطى على الإطلاق، وكانت تنافس مكتبة قرطبة ومكتبة بغداد، واستجلب لها أعظم الكتب من كل مكان في العالم، وكان يدفع فيها الآلاف من الدنانير، وكان له عمال وظيفتهم فقط أن يجمعوا الكتب من مشارق الأرض ومغاربها، ومن بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإن أتوا بكتاب في الطب، أو الفلك، أو الهندسة.. أو غيرها من أي بلد من بلاد غير المسلمين ترجم فوراً، وضم إلى المكتبة الأموية، وكان يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، حتى إنه أحضر النسخة الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني ، وهو كتاب في الأدب، وأصفهان تقع الآن في إيران، وكثر النسخ في عصره رحمه الله، وكان النسخ في عصره وظيفة النساء في البيوت، واشتهرت نساء الأندلس بحسن خط اليد، أما الرجال فهم مشغولون في الجهاد، وفي نشر العلم، وفي البناء والمعمار، وكثرت صناعة الورق والكتب والتجليد والأحبار في الأندلس، حتى كان باباوات إيطاليات يشترون الورق من الأندلس؛ ليكتبوا عليها أناجيلهم، وكذلك كل دول أوروبا كانت تستورد أشياء كثيرة جداً من بلاد الأندلس، وقد وسع الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله المكتبة، وجعل لها أروقة عظيمة لتستوعب كثرة الحضور من المسلمين، وزاد التعليم للناس بشدة، حتى أصبح في ذلك الزمان، أي: قبل ألف عام كان كل أهل الأندلس يتعلمون القراءة والكتابة حتى اختفت الأمية تماماً في هذا العهد السحيق في تاريخ الإسلام، وأنشأ داراً لتعليم الفقراء بالمجان، وخصص المعونات والمكافآت للطلاب، وأنشأ جامعة قرطبة، وكان العلماء قبل إنشاء جامعة قرطبة يباشرون أعمالاً أخرى كالتجارة والزراعة والصناعة، ثم يتعلمون ويعلِّمون، لكن الحكم بن عبد الرحمن الناصر جعل وظيفة التدريس وظيفة خاصة، فجعلهم يتفرغون للتدريس وللتعليم حتى يبدعوا فيه، وظنت ممالك أوروبا الشمالية وممالك الأندلس النصرانية الشمالية أن هذا الرجل يهتم بالعلم فقط على حساب الجهاد، فهاجموا مناطق الشمال، وخالفوا عهدهم الذي كانوا قد أبرموه مع أبيه عبد الرحمن الناصر ، فرد عليهم كيدهم في نحورهم، وهاجمهم بغزوات كغزوات أبيه رحمه الله، وانتصر عليهم في مواقع عدة حتى رضوا منه بالجزية من جديد.

    ومن منطلق إسلامي بحت، بدأ الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله في حرب الدولة الفاطمية ولم يكن يملك الأندلسيون إلا ميناء سبتة وطنجة فقط في عهد عبد الرحمن الناصر ، لكن الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله ضم كل بلاد المغرب جميعاً إلى الأندلس تحت حكم الخلافة الأموية، وظل الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله يحكم من سنة (350هـ) - (366هـ) وهي أقوى فترات الأندلس على الإطلاق، وأعظم عهودها.

    فماذا حدث في آخر عهده رحمه الله؟! وكيف كانت الأمور من بعده؟! وكيف انتقلنا من هذا العهد إلى عهد جديد؟!

    هذا ما نتداوله بإذن الله من سنة (366هـ) بوفاة الحكم بن عبد الرحمن الناصر .

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950452