إسلام ويب

سلسلة كن صحابياً الصحابة والأخوةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأخوة منحة ربانية وإشراقة قدسية، وصمام أمان لهذه الأمة من الذلة والضعف والهوان، وقد ترجم ذلك الرعيل الأول في مفاهيم عدة، فانتشر الحب والوئام فيما بينهم، وسادوا الدنيا بأجمعها، لأنهم علموا أن أمة الإسلام لا يستقيم أمرها ولا يكون لها شأن إلا بالتآلف والتآخي بين أبنائها.

    1.   

    الأخوة صمام أمان لهذه الأمة وضرورة حتمية لإقامة كيانها

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فمع المحاضرة العاشرة من محاضرات: كن صحابياً، وما زلنا نبحث عن معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة، والذي نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، وسنتحدث بمشيئة الله تعالى عن مفهوم جديد من المفاهيم الإسلامية، وكيف تعامل الصحابة مع هذا المفهوم، هذا المفهوم الذي لا يستقيم لأمة الإسلام أن تقوم بغيره، والذي بعدُّ من دعامات المجتمع الصالح، ولبنة أساسية من لبنات إقامة الأمة الإسلامية الصالحة، ألا وهو: مفهوم الأخوة، فأي مجتمع صالح لابد أن يقوم على أساس الأخوة.

    روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وانظروا إلى هذا التشبيه الجميل، فبنيان الأمة الإسلامية مثل العمارة الضخمة الكبيرة، فهل تستطيع أن تبني عمارة بأن تضع طوبة بجانب طوبة فوق طوبة من غير إسمنت وغيره من المواد؟ لا يمكن ذلك، لأنه لابد أن يكون هناك شيء يربط بين كل طوبة وأخرى، وإذا فرضنا أنك تستطيع أن تعمل ذلك في ارتفاع متر أو مترين فإنك لن تستطيع أن تعمله في عمارة ضخمة، والإسمنت الذي بين طوبة وطوبة أخرى، أو الخرسانة التي بين دور ودور آخر هي الأخوة، فلا تستطيع أن تبني عمارة كبيرة من غير إسمنت، أو من غير خرسانة، وكذلك الأمة الإسلامية، فلا تستطيع أن تبني أمة من غير أخوة، لذا قال ربنا عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، حصر منه عز وجل، فلا ينفع أن تكون أمة المؤمنين من غير أخوة، ولذلك كان من أوائل الأساسات التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد هجرته أساس الأخوة، فأقام المؤاخاة بين الأوس والخزرج، وفك النزاع القديم الأصيل في المدينة، وليس فقط ذلك، بل جعل كل طرف يحب الطرف الثاني، ووجدت المحبة والمودة في المدينة لأول مرة، ونحن لا نريد مجرد التعايش السلمي، بل نريد الأخوة في الله، والحب في الله.

    ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، ووصلت هذه المؤاخاة إلى حد الميراث، يعني: كأنها أخوة حقيقية تماماً، بل أشد من الأخوة الحقيقية، والغريب أن الأوس والخزرج قحطانيون من اليمن، بينما قريش عدنانيون من مكة، لكن الإسلام جمع بينهم، وليس فقط أقام لهم دولة، بل جعل كل فرد في هذه الدولة يحب الفرد الآخر، وهذا هو ما عمله الإسلام في المدينة، ولذلك نجد أن معظم شعائر الإسلام تقوم على الجماعة، أي: على المجتمع، ولذا كان لابد لهذا المجتمع أن يكون فيه أواصر أخوة ومحبة، فمثلاً: صلاة الجماعة تفضُل على صلاة الرجل في بيته بسبع وعشرين درجة، وذلك حتى يرتبط المسلم بجماعة المسلمين، وكذلك الزكاة، لابد أن تكون من واحد لمجموعة، أو من واحد لواحد، ولا ينفع أن تكون الزكاة شيئاً فردياً، والحج أيضاً مؤتمر جماعي كبير، يأتي إليه الناس من كل أقطار الأرض، ليجتمعوا وليعملوا هذا المؤتمر العظيم كل سنة، وكذلك الجهاد لابد أن يقوم به مجموعة من الناس، ولا ينفع أن يكون الجيش فرداً أو فردين أو ثلاثة، لأنه عمل يشمل كل الأمة في أقطارها، وفي الدعوة لابد أن يكون هناك داعية ولابد أن يكون هناك مدعوون، وفي العلم لابد أن يكون هناك عالم ومتعلمون، والشورى أيضاً لابد أن تكون بين مجموعة من المسلمين، فكل شيء محتاج إلى مجموعة من الناس، وكل شيء في الإسلام محتاج إلى العمل الجماعي، وأعظم دليل على ذلك: قضية الاستخلاف على الأرض، فلن تقوم إلا بعمل جماعي، فهناك من يزرع، وهناك من يبني، وهناك من يبيع، وهناك من يعالج، وهناك من يخترع، وهناك من يحارب ويدافع، ولابد من تفاعل وتنسيق بين كل هؤلاء، وذلك حتى يخرجوا بعمل طيب ونافع، وهذا كله لا يحصل إلا إذا وجدت محبة بين المسلمين، وفوق ذلك هناك صراع حتمي بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو سنة من سنن الله عز وجل في الأرض، وهذا الصراع سيحتاج إلى وحدة بين أهل الحق في مواجهة أهل الباطل، ولا يمكن أن يتصارع أهل الحق مع أهل الباطل وهناك فرقة وبغضاء وشحناء بين أهل الحق، ولذلك فإنه إذا تصارع أهل الحق فيما بينهم فلن يكون هناك شرائع ولا جهاد ولا شورى ولا استخلاف، ولذا أوجب الله عز وجل الأخوة والحب في الله بين أفراد المجتمع المسلم، ونهاهم عن الشحناء والبغضاء والكراهية، وبذلك يستطيع المؤمنون بالله أن يقوموا بأمر الاستخلاف كما أراد الله عز وجل، ومن هنا فقه الصحابة أهمية الأخوة بين بعضهم البعض دون ارتباط بنسب ولا مال ولا مصلحة، فهموا أنه لن تقوم لهم أمة، ولن يعبدوا الله حق عبادته، ولن يقوموا بأمر الاستخلاف كما ينبغي إلا بالأخوة فيما بينهم.

    إن قيمة الأخوة والألفة والمحبة في بناء المجتمعات الصالحة لا ينكرها أحد، لكن لكل مجتمع نظرته الخاصة لموضوع الأخوة، والناس تفهمها بطريقتها الخاصة، لكن ماذا كانت نظرة الصحابة للأخوة؟ ويا ترى ما هو مفهومهم عن قضية الحب في الله؟ ويا ترى ما هو مفهوم مجتمع الصحابة عن قضية الحب بين أفراد المجتمع، أو الأخوة بين أفراد المجتمع؟ من هنا سأتحدث عن أربعة مفاهيم أعتقد أنها كانت تميز نظرة الصحابة لمعنى الأخوة، وأتمنى لو نتعلم ونطبق هذه المفاهيم في حياتنا.

    1.   

    من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها طريق إلى الجنة

    المفهوم الأول: أن الصحابة فهموا أن الأخوة طريق إلى الجنة، مثلها مثل: الصلاة والصوم والجهاد والدعوة إلى الله عز وجل، وكل هذا فهموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعطينا قيمة وقدراً عالياً لها.

    الأحاديث النبوية التي تربط بين الأخوة ودخول الجنة

    انظر إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، الرسول يقسم أن البشر لن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا، وهذا أمر مفهوم، لكن التي ستأتي بعدها قد يستغربها كثير من الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (ولن تؤمنوا حتى تحابوا)، إذاً هذا شرط من شروط الإيمان، وعليه فإن العبد يخاطر بقضية الإيمان، ويخاطر بدخول الجنة إذا قطع علاقته مع كل الناس، ثم يعطيك النبي صلى الله عليه وسلم أحد الطرق لزيادة المحبة أو لتأصيل المحبة بين المسلمين فقال: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).

    وانظر أيضاً إلى الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، تخيل في هذا اليوم الصعب العسير، والشمس تدنو من الرءوس قرابة ميل -والميل: ميل المسافة أو الميل الذي تكتحل به العين- ومع ذلك هناك طائفة من الناس لا تشعر أبداً بهذا الحر، ألا وهم المتحابون بجلال الله عز وجل، الذين كان يحب بعضهم بعضاً دون نسب ودون مصالح ودون منافع.

    وتأمل هذا الحديث الخطير الذي رواه الترمذي وقال: صحيح. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، يا ترى كم واحداً منا يحب أن صديقه أو جاره يكون عنده من الأموال مثل الذي عنده، أو يحب أن ابن جاره أو ابن صاحبه يأخذ وظيفة جيدة مثل التي عند ابنه، أو أن أولاد جاره يكونون متفوقين تماماً مثل ابنه بل وأحسن؟ يا ترى هل هناك أحد منا يعمل بهذه العواطف أو المشاعر، أم يريد دائماً أن يكون أحسن وأعظم وأذكى من كل الذين حوله؟ إذاً فالقضية خطيرة جداً، ولذلك كان ثوابه أكبر وأعظم من الذي يمكن أن نتخيله.

    وتأمل أيضاً في هذا الحديث الذي يُعظِّم من ثواب أولئك الذين أحبوا بعضهم البعض إلى درجةٍ وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى) فتعجب عندما ترى الأنبياء والشهداء يغبطون هؤلاء الذين أعطوا درجة عالية جداً يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، وقربوا منه سبحانه وتعالى، لكن يا ترى ماذا عمل هؤلاء؟ وما هو العمل العظيم الذي أوصلهم إلى هذه الدرجة؟ لذا فإن الصحابة تشوقوا لمعرفة هؤلاء الناس: (قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها). فلا يوجد بينهم نسب ولا مصالح، (فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]).

    فهؤلاء هم أولياء الله عز وجل، وليس الولي الذي يمشي فوق الماء أو يطير في الهواء، إنما الأولياء هم الذين يتحابون بروح الله على غير أنساب بينهم، ولا أرحام ولا أموال يتعاطونها.

    إذاً فهذه هي القيمة العالية للأخوة في الله.

    التباغض والشحناء سبب لتأخر المغفرة وتخلف الثواب

    وانظر إلى الناحية الأخرى عندما توجد الشحناء والبغضاء محل الأخوة في الله، وخطر منعها مغفرة الله تعالى:

    روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)، فتخيل لو أنك تشاجرت مع جارك أو صاحبك أو قريبك فإن مغفرة الله عز وجل تؤجل لك ولصاحبك إلى أن تتصالحا، ثم الله أعلم هل ستموت قبل أن يغفر لك أم ستلحقك المغفرة في الدنيا؟! إذاً علاقتك بإخوانك هي التي تحدد مغفرة الله لك، وهذا شيء في منتهى الخطورة.

    لذا كان الشافعي يقول أبيات رائعة:

    أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وقوله: إنه ليس من الصالحين إنما هو تواضع منه رحمه الله تعالى.

    وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سوياً في البضاعة

    فيقول رحمه الله تعالى: بأن حبه للصالحين هو الذي يمكن أن يدخله الجنة، وهذا مفهوم راقٍ جداً عند الإمام الشافعي رحمه الله، ولذا نجد أن تلميذه الإمام أحمد بن حنبل عندما سمعه يقول هذين البيتين قال له:

    تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم سوف يلقون الشفاعة

    وتكره من تجارته المعاصي وقاك الله من شر البضاعة

    فهذا هو الكلام الذي ينفع مع أمثال الشافعي أو أحمد بن حنبل رحمهما الله.

    سلامة الصدر وحب الخير للآخرين صفة ترتقي بصاحبها في درجات الجنان

    إن معنى الأخوة والحب في الله قد زرعه النبي الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه من خلال التربية والتعليم من المواقف، وذلك بأسلوب سهل وبسيط، فعند الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، والصحابة في شوق إلى معرفة هذا الرجل، فيا ترى هل هو أبو بكر ؟ أم عمر ؟ أم عثمان ؟ أم علي ؟ أم غيرهم من كبار الصحابة؟ لا، يقول أنس بن مالك راوي الحديث: (فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال)، وانظروا إلى وصف أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه للرجل، فهو رجل بسيط جداً، وليس معروفاً بين الصحابة، وإنما هو مجرد رجل من الأنصار كما يقول أنس ، ولو كان هذا الرجل معروفاً لقال أنس : فطلع سعد بن معاذ أو سعد بن عبادة أو أسيد بن حضير وذكره باسمه، لكن هو رجل غير معروف، خرج لتوه من الوضوء ولحيته تقطر ماء، وواضع نعله في يده الشمال، والصحابة لا يرون فيه شيئاً غريباً، فهو رجل متوضئ مثلما هم يتوضئون وذاهب ليصلي مثلما هم يصلون، وليس معروفاً بين الصحابة بعمل كبير أو عمل عظيم.

    قال أنس راوي الحديث: (فلما كان من الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى -وبنفس الهيئة- فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى)، وكان باستطاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم بمنتهى الوضوح ما هو العمل الذي عمله هذا الرجل وانتهى الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يشوقهم إلى معرفة عمل هذا الرجل الذي أهله لأن يكون من أهل الجنة، ثم في الأخير أراد أحد الصحابة أن يعرف ما خبر وقصة هذا الرجل؟ وما الذي جعله من أهل الجنة وهو رجل بسيط لا أحد يعرفه؟

    قال راوي الحديث: فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص .

    يعني: أن عبد الله بن عمرو بن العاص تبع هذا الرجل ومشى خلفه وقال له: إني لاحيت أبي.

    يعني: تشاجرت مع والدي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً أي: قلت: أنا لن أدخل البيت لثلاثة أيام، فأريد أن أبر بالقسم، ولا أجد مكاناً أقعد فيه، فأريد أن أقعد عندك، ولذلك قال له: فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضي فعلت حتى تنقضي الثلاثة الأيام، فقال: نعم. وأخذ الرجل الموضوع ببساطة ورحب به في بيته.

    قال أنس : وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، يعني: أن أنساً راوي الحديث رضي الله عنه وأرضاه يحكي أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحكي حكايته مع هذا الرجل الذي هو من أهل الجنة، والذي لا يعرفه أحد من الصحابة، فيقول أنس بن مالك يروي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص : أنه لم يره يقوم من الليل شيئاً، وإنما ينام حتى طلوع الفجر، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار، أي: استيقظ من نومه، وتقلب في فراشه ذكر الله عز وجل وكبر، أي: يذكر الله ويكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، ثم قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً يعني: كل كلامه كان خيراً.

    فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، وليس المقصود هنا أن عمله ليس جيداً، فالرجل يصلي ويذكر الله عز وجل ولا يقول إلا خيراً، لكن كل الصحابة كانوا على هذه الصورة، فلماذا هذا الرجل بالذات يؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، وكان هذا الذي دعا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الاستغراب وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من عباد الصحابة، كان يصوم معظم الأيام، ويقوم معظم الليالي، ويقرأ القرآن يختمه في ثلاثة أيام، فهو لم ير العمل الكبير عند هذا الرجل الأنصاري حتى جعله من أهل الجنة بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيده لذلك، فبدأ يصارحه فقال له: إني لم أتشاجر مع والدي ولكن أردت أن أعرف قصتك، يقول عبد الله : قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: احتمال أن يكون هناك عمل خفي بينك وبين الله أردت أن أعرفه فأقتدي بك، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، أي: هذا هو كل عملي، فلا يوجد أي شيء مخفي.

    وعند ذلك شعر عبد الله بن عمرو بن العاص بإحباط شديد عندما لم يجد الذي يريد، قال: فلما وليت دعاني، أي: لما مشيت قال لي: تعال، ثم قال له: غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، أي: في حياتي ما غششت أحداً من المسلمين، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. أي: وفي حياتي أيضاً ما حسدت أحداً على شيء أعطاه الله له، فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق، أي: هذا صعب جداً أن تحب الخير لكل الناس، لكن لو عملتها تكون من أهل الجنة، حتى ولو كنت رجلاً بسيطاً لست من العلماء، ولست عظيماً من العظماء.

    إذاً: ترسخ في أذهان الصحابة أن دخول الجنة مقرون بحبك لأخيك دون مصلحة ولا منفعة، وترسخ لديهم أن الشحناء والبغضاء والهجر معوقات واضحة لدخول الجنة، وعلى قدر حبهم للجنة أحبوا بعضهم البعض، وعلى قدر اشتياقهم للجنة غفر بعضهم لبعض.

    1.   

    من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها مسئولية أمام الله تعالى

    المفهوم الثاني: مفهوم في منتهى الخطورة، ألا وهو: أن الأخوة مسئولية، وليست مجرد كلمة تقال أو إحساس يشعر به الإنسان، الأخوة ليست أخذاً بلا عطاء، وليست مصالح تقضى لك كلما ازدادت معارفك، وليست قوة في سلطانك كلما ازدادت علاقاتك، يعني: أنت عندما يكون لك معرفة في رئاسة الحي تستطيع أن تحصل على ترخيص، ولو عندك معرفة في المرور تستطيع الحصول على الرخصة لو كانت مسحوبة منك، ولو عندك معرفة في وزارة التربية والتعليم تستطيع أن تدخل طفلاً قبل السن القانوني، ليس هذا هو المقصود من الأخوة ومن كثرة المعارف، إنما الأخوة تبعات ومسئولية، وهذا على العكس من المفهوم السائد عند كثير من الناس، فالأخوة تضحية وبذل وعطاء وإنفاق، إنفاق بلا مردود أو بلا طلب مردود، الأخوة إيثار على النفس، الأخوة حب خالص من القلب لا يراد به إلا وجه الله تعالى.

    الحقوق الأخوية أمر إلهي يترتب عليه ثواب الدنيا والآخرة

    وتعالوا بنا نرى كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم غرس في فهم الصحابة معنى الأخوة، أو معنى الحب في الله، أو معنى أنك تعيش في مجتمع متعاون مع إخوانك، ففي الحديث اللطيف الذي أتى بروايات كثيرة، وكلها في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم.

    ففي رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى عليه صدقة) والسلامى: هو العظم أو المفصل، وهناك حديث آخر يبين أن عدد المفاصل في الجسم 360 مفصلاً، يعني: عليك كل يوم 360 صدقة، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة فقال: (كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة)، أي: تساعد الرجل في أن يصعد على دابته، أو تحمل متاعه وترفعه فوق الدابة، ثم يقول: (والكلمة الطيبة صدقة)، وهذه الكلمة الطيبة صادرة لشخص وليست صادرة هكذا للهوى، فأنت تكلم إنساناً لا جماداً، ثم قال: (وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة)، وهذا عمل من الأعمال الفردية، والمراد بذلك: أنه ذاهب إلى صلاة الجماعة، يعني: ذاهب يلتقي بالمسلمين، (ودل الطريق صدقة) أي: تدل التائه على الطريق الذي يريده. فهذه هي روايات الحديث عند البخاري .

    وهناك روايات أخرى غيرها، ففي رواية يقول: (يعدل بين الاثنين صدقة)، أي: تصلح بين اثنين متخاصمين صدقة، وفي رواية: (ويميط الأذى عن الطريق صدقة)، أي: تبعد الأذى عن طريق الناس صدقة، وفي رواية: (يعين ذا الحاجة الملهوف)، وفي رواية: (فليعمل المعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)، أيضاً هذا خير تعمله في الناس، أو شر تكفه عن الناس، وفي رواية: (تسليمه على من لقي صدقة)، وفي رواية: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، وفي رواية: (وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة) يعني: تدل الرجل الأعمى على طريقه أو تمسكه بيده وتأخذه إلى المكان الذي يسأل عليه صدقة، فكأن عينيك أصبحت بصراً له، وفي رواية: (وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة).

    فهذه أعمال خيرٍ قالها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة في مجلس، ومرة في مجلس آخر، والمهم أن الصدقة الحقيقية التي يمكن أن تدفعها عن أعضائك وعن النعم التي أعطاك إياها ربنا جل وعلا هي أن تساعد غيرك، وأن تشعر بمسئوليتك تجاه الناس الذين تعيش معهم، أو المجتمع الذي تعيش بداخله، أو الأمة التي تعيش فيها، وعند ذلك تخيل مجتمعاً يفقه الأخوة بهذه الصورة، على أنها اختبار وامتحان وبذل وعطاء ومجهود، وهذا فعلاً ما فقهه الصحابة من أن الأخوة مسئولية، وليست منافع ومصالح، أو أن معارفي كثيرة فسأستطيع أن أكسب كثيراً، لا، إنما المراد أنك ستشتغل للمسلمين كثيراً، وستضحي من أجلهم كثيراً، حتى يشفق عليك مَنْ ليس له إخوان يتعب من أجلهم.

    إعانة المسلم وكشف كربته سبب لإعانة الله للعبد وكشف كربته يوم القيامة

    وهذا المعنى قد ذكره الصحابي الجليل: النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه في خطبته المشهورة في موقعة نهاوند: ولا يكل أحدكم قرنه إلى أخيه -كلمة في منتهى الصعوبة- أي: لا أحد يرمي مسئوليته على أخيه الذي بجواره، وإنما كل واحد يحمل مسئوليته، بل لو استطاع أن يحمل مسئولية أخيه فليفعل، ثم قال: كلمة في منتهى الخطورة: فإن الكلب يدافع عن صاحبه. سبحان الله! الكلب يدافع عن صاحبه، فلماذا لا يدافع المؤمن عن أخيه المؤمن؟! صعب جداً أن يتدنى المؤمن إلى درجة أقل من الحيوان، فالحيوان يدافع عن صاحبه، والمؤمن لا يدافع عن إخوانه، هذا هو مفهوم المسئولية عند النعمان بن مقرن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) فالجزاء من جنس العمل، بل الجزاء عظيم على هذا العمل، فإذا كنت أنت الذي تنفس عن مؤمن كربة فربنا سبحانه وتعالى بنفسه هو الذي سينفس عنك يوم القيامة، وإذا كنت تيسر على معسر فربنا سبحانه وتعالى أيضاً هو الذي سييسر عليك في الدنيا وفي الآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم جملة في منتهى الجمال هي ملخص لكل ما فات: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، أي: ما دام أنك تساعد إخوانك فإن الله سيساعدك، وعلى قدر ما تعطي لإخوانك المسلمين يعطيك الله عز وجل ويكون في عونك، وتخيل لو أن عندك مسألة أو قضية أو مشكلة في حياتك فإن الله عز وجل يجعل لك من ذلك مخرجاً، ولذلك كان الصحابة باذلين حياتهم كلها لنفع الآخرين ولمساعدة الآخرين وللتضحية من أجل الآخرين، لأنهم علموا المردود لذلك، وأن ربهم هو الذي سيعوضهم وليس البشر.

    حرص الأشعريين على مواساة بعضهم ومدح النبي لهم

    ولنتأمل في قبيلة الأشعريين التي منها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، هذه القبيلة كان لها عادة جميلة جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام علق على هذه العادة وشكرها.

    روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو) أي: فني زادهم، وطعامهم في الغزو (أو قل طعام عيالهم بالمدينة) سواء كانوا في سفر أو في غزو، أو حتى وهم في المدينة مع بعضهم البعض، ماذا يعملون؟ (جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد)، أي: جمعوا كل الأكل من كل البيوت، أو جمعوا كل الأكل الذي معهم السفر (ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية) أي: أن كل واحد يأخذ نصيباً مساوياً للآخر، لكن قد يقول قائل: ما ذنبي أنا؟ لقد بقيت أجمع الطعام يومين وثلاثة وشهر وشهرين وجاري هذا لم يجمع شيئاً، فلماذا أتحمل أنا المسئولية؟ أيضاً: أنا صاحب عيال وزوجة، ولا أدري ماذا سيحدث غداً؟ لا، فقد كانوا يضعون الأكل في إناء واحد، ثم يقسمونه بينهم بالسوية، ولا يبقى هناك فضل لأحد على أحد، يعني: لا أحد يعرف من الذي كان أكله كثير ومن الذي كان أكله قليل، وهذا منتهى الإخلاص، وانظروا الرسول صلى الله عليه وسلم يعلق على هذا فيقول: (فهم مني وأنا منهم) أي: أن الأشعريين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منهم، وهذه منقبة عظيمة لهم، مع أن الأشعريين من اليمن، يعني: أنها قبيلة بعيدة جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الفعل يرقى بهم إلى أن يكونوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منهم صلى الله عليه وسلم.

    فهم عثمان بن عفان لمفهوم الأخوة وتطبيقه له

    وذكر أيضاً ابن عباس رضي الله عنهما: أن الناس قحطوا في زمن أبي بكر وحصل قحط شديد، وفي هذا الوقت جاءت قافلة لـعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فجاء التجار يريدون شراءها في هذا القحط الشديد، فسألهم عثمان : كم تربحونني؟ قالوا: في العشرة اثنا عشر، يعني: مقابل كل عشرة دراهم سنعطيك اثني عشر درهماً، قال: قد زادني غيركم، يعني: أنا أتاجر مع آخر وقد زادني على هذا الربح، فقالوا: في العشرة خمسة عشر، وهذا ربح عظيم جداً، ففي مقابل كل عشرة سيكون مكسب خمسة عشر، قال: قد زادني، قالوا: من الذي زادك؟ ونحن تجار المدينة، ولا يوجد أحد آخر غيرنا، فقال: الله عز وجل، زادني بكل درهم عشرة، فهل لديكم مزيد على ذلك؟ ثم قال: اللهم إني وهبتها لفقراء المدينة بلا ثمن وحساب، وتبرع بكل القافلة لفقراء المدينة، لأنه فهم معنى الأخوة، ولو كان رجلاً آخر ليس عنده مشاعر الأخوة في الله لأعطى زكاته 2.5 %، ثم لا دخل له بعد ذلك، لكن الصحابي الجليل عثمان بن عفان فقه معنى الأخوة في الله، وأنها مسئولية وتضحية وبذل وعطاء لفقراء المسلمين، بل ولعموم المسلمين ولأمة الإسلام، فهذه هي حياة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذه هي حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فهم معاذ وسلمان لحقيقة الأخوة وتطبيقهما لها

    لم تكن مسئوليتهم تنحصر في المسئولية المادية فقط، بل كان الصحابي يعين أخاه على طاعة الله عز وجل. ففي البخاري أن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه كان يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة. فليس كله عمل، وليس كله شغل، وليس كله مادة، وليس كله انغماس في الدنيا، وإنما مساعدة على طاعة الله عز وجل، وهذا هو المعنى الذي ذكره الله عز وجل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في سورة طه فقال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32]، لماذا كل هذا؟ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34]، فالمؤمن يتعاون مع أخيه، وأخوه يعينه في يوم من الأيام، وكل واحد يتبادل مع أخيه منفعة المعاونة على الطاعة، وهذا هو العون الحقيقي، ولذا لم يقل الصحابي سلبياً أبداً في تعليم إخوانه الخير الذي عرفه.

    ففي البخاري عن وهب بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، وهي المؤاخاة التي حصلت في المدينة المنورة بعد الهجرة فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة أي: رثة الهيئة، وهذا كان قبل فرض الحجاب فقال لها: ما شأنك؟ أي لماذا تعملين بنفسك هكذا؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، يعني: أن أخاه أبا الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة في أهل بيته، فلا حاجة لأن تتزين، فهي تعيش حياتها بهذا التبذل أو بهذه الهيئة الرثة، وعندما سمع سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه هذا الكلام عرف أن هذا البيت على شفى حفرة، فقرر أن يكون إيجابياً فينصح أخاه.

    يقول الراوي وهب بن عبد الله رضي الله عنه يقول: فجاء أبو الدرداء ، يعني: أن سلمان دخل البيت وأتاه أبو الدرداء فصنع له طعاماً، أي أن أبا الدرداء صنع لـسلمان طعاماً، فقال له سلمان : كل، أي: كل معي، قال: فإني صائم، وأبو الدرداء كان يسرد الصوم قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل استحياء من ضيفه، ولأنه صيام تطوع، قال: فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم أي: يصلي صلاة الليل، قال له سلمان : نم، فنام قليلاً، ولم يستطع أن ينام، لأنه متعود على القيام، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، فقام مرة أخرى لكي يصلي فقال له سلمان : نم، ومرة أخرى أمره بالنوم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان : قم الآن أي: لما كان آخر جزء من الليل قال له سلمان : تعال نصلي القيام، فصليا، فقال له سلمان بعد أن أكملوا الصلاة - فـسلمان يعلمه درساً في منتهى الرقي- إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، وفي رواية الترمذي قال: وإن لضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.

    فكل واحد لابد أن يأخذ حقه، ولا ينفع أن تعطي الوقت كله لطاعة ربنا سبحانه وتعالى -على عظم هذا الأمر- ثم تترك أهلك من غير رعاية، أو تترك نفسك من غير رعاية، أو تترك ضيفك من غير رعاية، وكأن هذا الكلام لم يعجب أبا الدرداء ، ولم يكن مقتنعاً، فهو يريد أن يعتكف طول حياته ليعبد ربه عز وجل، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو سلمان ، وذكر له كل هذه القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان .. صدق سلمان ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان على هذا التعليم اللطيف الذي عمله مع أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين.

    والشاهد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أعطى من وقته يوماً وليلة ليعلم أخاه درساً ينفعه، ولكي يحافظ له على بيته، وهذا من سلمان شيء في منتهى الروعة، وذلك أن الإنسان يوقف شغله ويوقف حياته ويوقف نظامه كله من أجل أنه يحافظ على بيت أخيه، أما أن يرى الأخ أو يسمع بمشاكل طاحنة في بيت أخيه وحياته لا تسير بصورة طبيعية، ثم لا يتدخل لحلها فليست بأخوة، فالأخوة مسئولية، ولذلك لو اضطررت لأن تقطع حياتك يوماً وليلة من أجل أن تسافر إلى أخيك، أو تدخل مع أخيك في قضية من القضايا تحلها له فافعل.

    ابن عباس وقيامه بحق الأخوة طلباً لثواب الله

    وأخرج الطبراني والبيهقي والحاكم وقال: صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المعتكف لا يخرج من معتكفه إلا لضرورة شديدة، فما بالك إذا كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس إلى جنبه، وكان يظهر على الرجل الكآبة والحزن، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً، وفي هذا ينبغي للمسلم أن يطمئن على أحوال إخوانه وإن لم يتكلموا، قال: نعم، يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان علي حق وحان أجله وليس معي ما يقضيه، أي: إن هناك ديناً علي، وليس معي ما يقضيه، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحببت أن أكلمه لك، فـابن عباس هنا يعمل شيئاً إيجابياً لينفع صاحبه، فهو لا يستطيع أن يساعده بالإنفاق، لكن يمكن أن يكلم الرجل الذي عنده دين فيصبر عليه قليلاً، فقال الرجل: نعم، لأنه مضطر لذلك، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما من اعتكافه ليقضي حاجة الرجل، فقال الرجل: أنسيت ما كنت فيه، أي: أنت في اعتكاف فكيف تخرج؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت صاحب هذا القبر -هذا الكلام كان بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم- يقول: (من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين) يعني: ظل مجتهداً في حاجته حتى قضاها، لأن الاعتكاف يعود نفعه على الفرد، وخدمة الآخرين تعود على المجتمع بأسره.

    السعي في حاجات المسلمين كالجهاد والصيام والقيام في الأجر

    ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الساعي على الأرملة والمسكين)، وهذا أمر قد يتساهل فيه بعض الناس، فقد يعطيهم نقوداً قليلة في السنة مرة واحدة ويكفي، لا، ثم بين الجزاء فقال: (كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل).

    فتأمل تعظيم الناس لأمر الجهاد في سبيل الله -وهو أمر عظيم حقاً- وتعظيمهم للصيام والقيام، لكن ما مقدار ما يُعظِّم الناس السعي على الأرملة والسعي على المسكين! والسعي على الأرملة أو المسكين ليس فقط بأن تعطيهم بعض النقود كل سنة مرة، لا، فالساعي متكفل بالمسكين من أول ما يولد إلى أن يدخله الجامعة، وكذلك ينفق على الأرملة إلى أن يكبر عيالها، وهذا هو المجتمع المسلم الذي بني على أسس راسخة متينة.

    وهذا لم يكن كلاماً فقط، بل كان أفعالاً متكررة في حياة الصحابة، وانظروا إلى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه نعي جعفر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لأن أهل جعفر عندهم مصيبة الموت، فقد مات جعفر رضي الله عنه (فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)، فانظر إلى الرفق والفقه والرحمة، وهذا على عكس ما هو منتشر في كثير من البلاد، حيث أن أهل الميت يصنعون طعاماً للناس التي تأتي إليهم، فتجتمع عليهم مصائب عدة: مصيبة الموت، ومصيبة الإنفاق ومصيبة التجهيز والتحضير واستقبال الناس، وهذا كله مخالف للسنة، فالأخوة مسئولية وبذل وعطاء، وليس المقصود أنك تذهب فتكسب من أخيك أو تستفيد من أخيك وانتهى الأمر.

    من نصر مسلماً أو ذب عن عرضه نصره الله في موطن يحتاج فيه إلى نصرته

    أيضاً: الصحابي لم يكن يقبل أن يقال في حق أخيه وهو غائب كلمة قدح أو جرح، وإنما لابد أن يرد عنه في غيبته، وأن يدفع عنه.

    فقد روى أبو داود وأحمد عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)، وفي المقابل (وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته)، هذا هو أحد المفاهيم التي ترسخت عند الصحابة.

    وفي البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أحد المخلفين في غزوة تبوك أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم بغيابه في الغزوة قال: ما فعل كعب ؟)، اطمئناناً منه صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فهو يسأل لماذا لم يأت كعب معنا؟ فقال رجل من بني سلمة -بكسر اللام- يا رسول الله! حبسه برداه أي: حبسته ثيابه، ونظره في عطفيه يعني: في حسن وبهاء الثوب الذي عليه، والمراد من ذلك: أن الدنيا قد شغلته عن القدوم إلى الغزوة. فرد عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلاً: (بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً)، والشاهد أن معاذاً دافع عن أخيه كعب ، وإن كان كعب متخلفاً عن أهم غزوة في حياة المؤمنين، لكن معاذاً عذر أخاه حتى يعرف سبب تخلفه عن هذه الغزوة هذه هي الأخوة الحقيقية وهذا هو المعنى الذي فهمه الصحابة عن الأخوة.

    كذلك: لما وقع الناس في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حادثة الإفك المشهورة قالت أم أيوب لزوجها أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: نعم، وذلك الكذب، وتأمل كيف يدافع عن عائشة وهو جالس في بيته ولا أحد يراه، ثم قال كلمة شديدة لامرأته أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب ، يعني: أكنت تفعلين هذا الفعل الذي يقوله الناس على السيدة عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فـعائشة والله خير منك، فهكذا قال أبو أيوب الأنصاري مدافعاً عن السيدة عائشة في غياب كل الناس، وهو قاعد مع امرأته فقط، ولذا كان من حق السيدة عائشة رضي الله عنها على أبي أيوب الأنصاري أن يدافع عنها في غيبتها، وبهذا فعلاً تُحفظ حرمة المؤمنين وحرمة المؤمنات من السوء.

    والخلاصة: أن الأخوة مسئولية وتضحية، ولن نستطيع أن نستفيض بذكر كل الروايات التي أتت في هذا الموضوع؛ لأن هذا يعني أننا سنتكلم عن حياة الصحابة من أولها إلى آخرها، لنرى مدى عملهم من أجل إخوانهم ومن أجل أخواتهم.

    1.   

    من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها تكون لكل مؤمن

    المفهوم الثالث: أن الأخوة لكل من آمن بالله العظيم رباً، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم نبياً، وبدين الإسلام ديناً.

    فهي لمن قرب ولمن بعد، وهي لمن كان عربياً أو كان أعجمياً، لمن كان حديث الإسلام أو سابقاً بالإيمان، لمن تعرف ولمن لا تعرف، فهي لكل واحد من المسلمين ممن يستحق كل حقوق الأخوة، حتى وإن كنت لا تعرفه قبل ذلك، وهذا شمول رائع في مفهوم الأخوة.

    فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (يطرق الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم يوم أن أسلم)، يطرقه وله تاريخ طويل ومؤلم مع المسلمين، تعذيب وإيذاء ومعاداة وكراهية، وفي آخر لحظة من لحظات كفره أراد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا به يطرق الباب فيقول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ثم دخل عمر وآمن بالله عز وجل.

    فانظر مقدار ما حصل في حياة الصحابة، وكيف تحولت الكراهية الشديدة في قلوب المؤمنين التي كانت لـعمر بن الخطاب إلى حب لـعمر رضي الله عنه، وكيف رضوا أن يخرجوا خلف عمر بن الخطاب وخلف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما في صفين إلى الكعبة، وهو لا يزال قبل يوم أو يومين أو ثلاثة يحاربهم، وكيف أن قلوبهم تغيرت وتحولت، فهذه هي معجزة هذا الدين, وأصبح عمر أخاً لكل المسلمين يدافع عنهم ويدافعون عنه.

    وهذه هي الأمة التي رضي الله عز وجل عنها، والتي أنعم عليها بهذه النعمة، أي: نعمة الأخوة، ولذا فقد استفاد عمر رضي الله عنه وأرضاه من هذا الدرس الذي فعله معه المؤمنون، وذلك عندما رأى المؤمنين كلهم يحبونه -رغم ما فعله بهم- بمجرد أنه أطلق كلمة الإيمان، وأصبح مقياس الحب والكره في قلب عمر مربوطاً بالإيمان.

    وهذا مثال آخر: فعند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: في إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وثمامة بن أثال أسلم في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد حياة طويلة من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيروي أبو هريرة عن عمر بن الخطاب أنه قال: لقد كان -يقصد ثمامة بن أثال - والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنه في عيني الآن أعظم من الجبل، أي: بعد أن آمن بالله رباً اختلفت النظرة، وأصبح له كل حقوق الأخوة، وأولها الحب والبغض في الله.

    وانظر أكثر فقد تحدث هذه العاطفة الأخوية الراقية مع مؤمن لم تره من قبل مطلقاً، فتشعر بهذه العاطفة القوية تجاهه، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجل هذا لا أحد يعرفه، فقال: يا رسول الله! أصابني الجهد يعني: أنا فقير معدم لا أجد شيئاً آكله، وليس معي نقود لأشتري طعاماً فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى نسائه يطلب أكلاً لهذا الرجل فلم يجد عندهن شيئاً فهذا بيت رئيس المدينة المنورة، وزعيم الأمة الإسلامية في زمانه، ورغم ذلك لا يوجد في بيته طعام يكفي رجلاً واحداً فقط، ورغم ذلك لم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم القضية، وقال: أنا ليس معي شيء، ولا أستطيع أن أعطي. لا، بل شعر بحقيقة الأخوة ولم يتركه، ثم قال: (ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله) فيطلب من الصحابة أن يضيف أحدهم هذا الرجل، والجزاء يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فذهب إلى أهله ودخل على امرأته -لوحده في المرة الأولى- فقال لها: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً يعني: أي شيء عندك أعطيه إياه، فقالت المرأة -مفاجأة قاسية-: والله ما عندي إلا قوت الصبية يعني: ليس عندي أكل الذي يكفي الأطفال فقط، حتى أنا وأنت لا طعام لنا، فقال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم فالرجل أيضاً لم ييأس، فقال لامرأته: عندما يأتي وقت عشاء الأطفال اجعليهم ينامون، ونطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فقط ذلك، بل قال: وأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، حتى يشعر الضيف أن الطعام كثير، وأننا نأكل معه، وحتى لا يشعر أيضاً بالحرج، وفعلاً ناما جائعين، قال: ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، أي: أن المرأة وافقت زوجها في ذلك، (ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله عز وجل، صنيعكما بضيفكما الليلة)، فكان ذلك أمراً عظيماً من هذا الصحابي، ولمن؟ لشخص لا يعرفه وأصابه الجهد، وهذا هو مفهوم الأخوة عند الصحابة، وليس مهماً أن تعرف الإنسان، بل المهم أن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل، ولذا فإنه من أجل هذه الأخوة دون سابق معرفة فإن الله عز وجل أوجب على المسلمين أن ينفروا لنجدة إخوانهم المسلمين في البلاد الأخرى إن احتاجوا إلى مساعدة، والفقهاء اتفقوا على أنه لو وقعت امرأة من أهل المشرق، امرأة من أهل المشرق في السبب -وهذه المرأة لا تعرفها ولم ترها من قبل- وجب على كل المسلمين تخليصها، فإذا لم يستطيعوا وجب ذلك على أهل المغرب، أي: أن كل المسلمين يجب تحرير امرأة واحدة فقط، فما بالك عندما يسبى شعب من المسلمين!! الرسول صلى الله عليه وسلم أجلى بني قينقاع من المدينة دفاعاً عن رجل مسلم واحد قُتِل، وعن امرأة مسلمة واحدة كشفت عورتها، فهذه هي المسئولية، وهذا هو المفهوم الذي زرعه النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة، وممكن أن يكون جيش المسلمين الذي ذهب لإجلاء بني قينقاع من المدينة المنورة لا يعرف هذا الرجل الذي قتل، كذلك قد لا يعرف هذه المرأة التي انكشفت عورتها، لكنها المسئولية عند الأخ لأخيه، فهذا المعتصم أخرج جيشاً لإنقاذ امرأة واحدة في بلاد الروم، امرأة مؤمنة صفعت في بلاد الروم، لم تقتل بل صفعت في بلاد الروم، وهذا الحاجب المنصور -كما رأينا في دروس الأندلس، وكان في الخلافة الأموية في الأندلس -أخرج جيشاً لفك أسر ثلاث نساء مؤمنات، فهذا هو مفهوم الإسلام عن الأخوة في الإيمان، لا فرق بين مصري ولا سوري ولا فلسطيني ولا شيشاني ولا كشميري ولا بسنوي ولا أي أحد من المسلمين، فالكل إخوة في الله.. إخوة في الإيمان.. إخوة في الإسلام، والله عز وجل سائلك عن أي تقصير في حقوق من ارتبطوا معنا برباط عقائدي واحد.

    1.   

    من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها تورث السعادة في الدنيا والآخرة

    المفهوم الرابع: أن الأخوة في الله نعمة من الله عز وجل نسعد بها في دنيانا وكذلك نسعد بها في آخرتنا، فالمسلم عندما يؤاخي أخاه في الله لا من أجل الثواب في الآخرة فقط، بل من أجل الحصول على السعادة في الدنيا، لأنه أن يكون أهل الأرض جميعاً يتصارعون على الدنيا ولا يجدون هذه السعادة التي يحس بها المسلم مع أخيه المسلم، وانظر إلى قول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]، فهذه نعمة واضحة أمامك، إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، فنعمة الأخوة في الله لا تعدلها أموال الأرض جميعاً ولا نعيم الدنيا كلها، وهذه ليست مبالغة أقولها، بل هذا كلام ربنا عز وجل، واسمع إلى كلامه في كتابه سبحانه وتعالى إذ يقول: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، فهذه نعمة واحدة فقط، ولو أنفقت كل ما في الأرض لن تستطيع أن تعملها، فهي أغلى من كل ما في الأرض، ولا يدرك فضلها وقيمتها إلا الذي فقدها، لذا فإن أمم الأرض جميعاً تحسد المسلمين على هذه المنة العظيمة، والعجب أن كل من في الأرض يضحي من أجل إخوانه إلا المسلمين، قال الله عز وجل في حق اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، وقال في حق النصارى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:14]، لكن أمة الإسلام شيء آخر، فهي تعيش في نعمة وسعادة في الدنيا بسبب هذه الأخوة، فكيف يمكن أن نفقد هذه السعادة! وكيف يمكن أن نضحي بهذه الأخوة! ليس ممكناً أبداً لمؤمن فاهم عاقل أن يضحي بهذه السعادة ويطلب أي نعيم في الدنيا أو أي مال في الدنيا في نظير هذه الأخوة، إن أعلى معدلات الاكتئاب النفسي التي توجد عند الرجال والنساء أو الأطفال الذين يعانون من الوحدة في البلاد التي يقولون عنها بأنها راقية عالية جداً، وراجعوا إحصائيات الاكتئاب النفسي الموجودة في أمريكا وإنجلترا والسويد والدنمارك وغيرها من البلاد التي يقولون عنها بأنها بلاد راقية جداً، وكل ذلك بسبب أنه ليس فيها أخوة، وليس فيها من يسأل عن الآخر، فالابن عندما يكبر قليلاً ويصل إلى السادسة عشرة أو السابعة عشرة يترك بيت أبيه وأمه ولا يسأل عنهم أبداً، والكبار قد يضعوهم في دار مسنين ولا يسأل أحد عنهم، فتخيل مجتمعاً بهذه الصورة، وعلى النقيض تخيل مجتمعاً إسلامياً بالصورة التي ذكرناها، سعادة ما بعدها سعادة، فهذه نعمة الإسلام الكبرى، أعني: نعمت الأخوة في الله، ولذلك كان من المستحيل أن يضحي الصحابة بهذه السعادة من أجل أي شيء في الدنيا مهما كان كبيراً في أعين الناس.

    والخلاصة: مفاهيم الصحابة عن الأخوة، وهكذا تعاملوا مع هذه المسألة الهامة في بناء الأمة الإسلامية، ففهموا أن الأخوة طريق للجنة، وأن الأخوة مسئولية لكل مؤمن مهما بعد أو قرب، عرفوه أم لم يعرفوه، وأن الأخوة تورث السعادة في الدنيا وفي الآخرة.

    وأختم حديثي بالحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (حقت -وفي رواية: وجبت- محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتباذلين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتجالسين في).

    أسال الله عز وجل حبه وحب من أحبه وحب عمل يقربنا إلى حبه، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755983301