إسلام ويب

سلسلة التتار بداية القصةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التاريخ مملوء بالعظات والعبر، ودراسته مهمة ونافعة في معرفة سنن الله عز وجل في الأمم والشعوب، وقد مرت أحداث تاريخية هامة على الأمة الإسلامية، كان من أسوئها على الأمة الإسلامية اجتياح التتار لها، وتدميرهم لمعظم البلدان الإسلامية في حالة ضعف المسلمين وهوانهم.

    1.   

    أهمية دراسة التاريخ

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

    من رحمة الله عز وجل بخلقه أن جعل لهم في الأرض سنناً لا تتغير ولا تتبدل، وبهذه السنن تستقيم حياة الناس، وعليها يعتمد الخلق في حركاتهم وسكناتهم، وإذا لم يكن لكل زمان ومكان سنة خاصة به لاضطربت حياة الناس، ولضاعت كل الخبرات السابقة، ولكن بفضل الله عز وجل الخبرات السابقة لا تضيع، وما حدث معك بالأمس يتكرر اليوم، وما يحدث معك اليوم سيتكرر غداً، وهكذا إلى يوم القيامة، ومن هنا جاءت أهمية دراسة التاريخ الإسلامي وغيره من التاريخ بصفة عامة، فالأحداث السابقة تتكرر دائماً وبصورة تكاد تكون متطابقة، وليس هناك جديد على الأرض، فإذا درسنا التاريخ وعرفنا أن حدثاً ما قد مر قبل ذلك، وكانت فيه نفس الظروف والملابسات التي تواكب حدثاً نعيشه الآن، فإننا نستطيع ببساطة أن نستنتج النتائج، فإن كان الحدث نصراً مجيداً سرنا على نفس الطريق الذي سار فيه المنتصرون، حتى نصل إلى نفس النتيجة، وإن كان الحدث هزيمة مخزية تجنبنا أخطاء السابقين، حتى لا نصل إلى هزيمة كهزيمتهم، ودراسة التاريخ بهذه الطريقة تجعله حياً ينبض.

    فعليك أن تقرأ التاريخ لتتفاعل، لا لمجرد التسلية أو لمجرد الدراسة الأكاديمية البحتة، ودراسة التاريخ بهذه الصورة لها هدف واضح، وهو البحث عن العبرة، وهو ما ذكره لنا ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عندما قال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111]. ولهذا السبب جعل الله عز وجل ثلث القرآن قصصاً؛ حتى يستقرئ المسلمون سنن الله عز وجل في الأقوام السابقين، وليعلموا حتماً ويقيناً أن هذه السنن ثابتة، فيستطيعون توقع الشيء قبل حدوثه، ومن ثم الاستفادة منه، ولا يأتي هذا إلا بتفكر عميق جداً في كل قصة، ودراستها من كل زاوية، وهذا أمر في غاية الأهمية، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].

    1.   

    أوجه التشابه بين الأحداث أيام التتار والأحداث التي نعيشها

    بين أيدينا حدث من الأحداث الهامة جداً في تاريخ المسلمين، بل وفي تاريخ الأرض بصفة عامة، وهو حدث ظهور قوة جديدة رهيبة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري، وقد أدى ظهور هذه القوة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامة، وفي أرض الإسلام بصفة خاصة، تلك القوة هي دولة التتار.

    والقصة عجيبة بكل المقاييس، ولولا أنها موثقة في كل المصادر، وبصورة تكاد تكون متطابقة أحياناً، لقلنا: إنها خيال، بل وأغرب من الخيال؛ لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوة ومن قوة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتاً يسيراً جداً، فما هي إلا أعوام قليلة ويغير الله عز وجل من حال إلى حال، ويعز الله عز وجل دولة ويذل أخرى، ثم تمر أعوام أخرى قليلة جداً في عرف الناس والتاريخ، فيذل الله عز وجل الأولى ويعز الأخرى، وهكذا يعز الله من يشاء ويذل من يشاء، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير.

    والقصة عجيبة للمبالغة الشديدة في أحداثها، ففيها مبالغة في الأرقام، وأعداد القتلى، والجيوش، والخيانات.. وغيرها من الأحداث.

    والقصة عجيبة لشدة التطابق بينها وبين ما نعيشه الآن في واقعنا، وكأن الله عز وجل أراد أن يوضح لنا حقيقة ثبات السنن، وتكرار التاريخ، فجعل الأحداث التي تمر بها أمتنا في القرن الخامس عشر الهجري، تتطابق مع نفس الأحداث التي مرت بها أمتنا في القرن السابع الهجري، ثمانية قرون مضت، ومع ذلك تتطابق الأحداث. وإذا بحثنا في التاريخ فسنجد أحداثاً أخرى كثيرة تتطابق مع نفس الأحداث التي تمر الأمة بها الآن.

    وقد وقع اختياري على هذا الحديث بالذات؛ لأنه كان في نفس المنطقة التي تدور فيها بأمتنا أحداث هامة جداً في هذا الوقت الذي نعيشه الآن، ففي وقتنا هذا تدور الأحداث في أفغانستان، وأوزباكستان، والعراق، وفلسطين، وإيران.. وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، وبهذا التطابق يستطيع القارئ لأحداث التتار والمتابع والمدقق والمحلل لها أن يربط بسهولة بين التاريخ وبين الواقع، ويستطيع أيضاً أن يستقرئ سنن الله عز وجل في أرضه وفي خلقه.

    وليس الغرض من هذه المحاضرات هو الدخول في كل تفصيل، والبحث عن كل موقف، فهذا يطول جداً، فنحن هنا سنمر على الأحداث في عجالة؛ لنبحث فيها عن مواطن العبرة، وأوجه الشبه بينها وبين زماننا المعاصر، ونحلل بسرعة أسباب الهزيمة وأسباب النصر، ومن أراد أن يستزيد فليعد إلى المراجع الكثيرة العظيمة التي تزخر بها المكتبة الإسلامية. والله أسأل أن ينفعنا بكل كلمة وحرف من هذه القصة العجيبة.

    1.   

    حالة العالم وقت ظهور التتار

    ظهرت قوة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، ولكي نفهم الظروف التي نشأت فيها هذه القوة لا بد من إلقاء نظرة على واقع الأرض في ذلك الزمان؛ حتى نرى القوى المؤثرة في الأرض في ذلك الوقت، فقد كان هناك قوتان رئيسيتان في ذلك الزمان، وهما:

    القوة الأولى: قوة أمة الإسلام.

    القوة الثانية: قوة الصليبيين.

    حالة الأمة الإسلامية وقت ظهور التتار

    عند تحليل كل قوة من هاتين القوتين نجد أن مساحة أمة الإسلام في ذلك الوقت تقترب من نصف مساحة الدنيا، فحدود البلاد الإسلامية كانت تبدأ من غرب الصين، وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى غرب أوروبا وبلاد الأندلس، فقد كانت مساحتها شاسعة للغاية، ولكن للأسف الشديد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت مؤسفاً جداً، فمع المساحات الواسعة من الأرض، والأعداد الهائلة من البشر، والإمكانيات العظيمة جداً من المال والمواد والسلاح والعلوم إلا أن الفرقة كانت شديدة جداً في العالم الإسلامي، والحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية متدهورة تدهوراً كبيراً، والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري ما بين (20) إلى (30) سنة حيث كانت أمة الإسلام قوية ومنتصرة ومتوحدة ورائدة، ولكن سنة الله الماضية، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

    وقد كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت عبارة عن كيانات متفرقة:

    الكيان الأول: كان كياناً كبيراً جداً، ولكنه للأسف الشديد كان ضعيفاً جداً في أوائل القرن السابع الهجري، وهذا الكيان هو الخلافة العباسية.

    والخلافة العباسية خلافة قديمة جداً، فقد نشأت بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132هـ)، أي: أن عمرها إلى أوائل القرن السابع الهجري (500) سنة تقريباً، وكانت تتخذ من بغداد عاصمة لها، ثم ضعفت الخلافة العباسية جداً في أوائل القرن السابع الهجري، حتى أصبحت لا تسيطر حقيقة إلا على وسط العراق وجنوبه، وكان حول العراق عشرات الإمارات المستقلة استقلالاً حقيقياً عن دولة الخلافة، وإن كانت لا تعلن نفسها كخلافة منافسة للخلافة العباسية، وكانت الخلافة العباسية في ذلك الزمن مجرد صورة خلافة، وليست خلافة حقيقية.

    ولكي نفهم معنى خلافة عباسية في ذلك الوقت، فلننظر إلى واقع بريطانيا الآن، فالإنجليز الآن يبقون على ملكتهم كرمز تاريخي فقط، وإلا فهي ليس لها دور يذكر في الحكم، وكذلك أبقى المسلمون في ذلك الزمن على الخليفة العباسي كرمز للمسلمين، وللخلافة العباسية العريقة التي حكمت العالم الإسلامي (500) عام، مع أن الخليفة العباسي كان يحكم وسط وجنوب العراق فقط.

    وكان يتعاقب على الخلافة العباسية في العراق خلفاء من بني العباس حملوا هذا الاسم العظيم الجليل: (الخليفة)، ولكنهم في هذه الفترة ما اتصفوا أبداً بهذا الاسم، ولا حتى رغبوا في الاتصاف به، إذ لم يكن همهم إلا جمع المال وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة جداً من الأرض، ولم ينظروا نظرة صحيحة أبداً إلى وظيفتهم كحكام، ولم يدركوا أن من مسئولية الحاكم أن يوفر الأمان لدولته، ويقوي جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأصحابها، ويجير المظلومين، ويعاقب الظالمين، ويقيم حكم الله عز وجل في العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن كل ما يتعلق بالإسلام، ويوحد الصفوف والقلوب، فهم لم يدركوا أبداً هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم، وكان كل ما يريدونه هو الاستمرار أطول فترة ممكنة في الحكم، ثم توريثه لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، وإقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى واللهو والطرب، فحياة الحكام في هذه الفترة كانت حياة لا تصلح أن تكون حياة لفرد من عوام أمة الإسلام، فضلاً عن أن تكون حياة حاكم لأمة الإسلام، فقد ضاعت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة.

    هذه هي حالة الخلافة العباسية في أوائل القرن السابع الهجري، كانت تحكم نصف العراق أو ثلثه تقريباً.

    الكيان الثاني من العالم الإسلامي: كان متمثلاً في مصر والشام والحجاز واليمن، وقد كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولكن للأسف الشديد هؤلاء الحكام الذين حكموا هذه الأقاليم، لم يكونوا أبداً على شاكلة هذا الرجل العظيم رحمه الله، بل تنازعوا الحكم، وقسموا الدولة الأيوبية الموحدة -التي هزمت الصليبيين في حطين هزيمة منكرة وفتحت بيت المقدس- إلى ممالك صغيرة متناحرة، فقد استقلت الشام عن مصر، وكذلك اليمن والحجاز، بل وانقسمت الشام إلى إمارات متعددة متحاربة، فقد انفصلت حمص عن حلب ودمشق، وفلسطين عن الأردن، ثم ما لبثت الأراضي التي حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من أيدي الصليبيين بعد جهد جهيد ودماء كثيرة أن تقع من جديد في أيدي الصليبيين، بعد هذه الفرقة الشنيعة بين المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    الكيان الثالث: بلاد المغرب والأندلس، وقد كانت هذه البلاد في تلك الآونة تحت إمرة دولة الموحدين، وكانت هذه الدولة فيما سبق دولة قوية جداً، ومترامية الأطراف، فقد كانت تحكم من ليبيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوباً، ثم في أوائل القرن السابع الهجري بدأت في الاحتضار، وبالذات بعد موقعة العقاب الشهيرة في سنة (609هـ)، فقد كانت هذه الموقعة بمثابة الضربة القاضية لدولة الموحدين، فقد سقطت وانهارت هذه الدولة العملاقة بعدها.

    الكيان الرابع: كان عبارة عن دولة أخرى كبيرة وضخمة جداً، وكانت تسيطر تقريباً على كل شرق العالم الإسلامي، وهي دولة خوارزم، وكانت الدولة الخوارزمية دولة مترامية الأطراف، وتضم معظم البلاد في قارة آسيا، وكانت حدودها تمتد من غرب الصين شرقاً إلى أجزاء كبيرة من إيران غرباً، وكانت على خلاف طويل وعقيم مع الخلافة العباسية، وبينهما مكائد ومؤامرات متعددة، وكثرت فيها الفتن والانقلابات، وخاضت حروباً كثيرة جداً مع الخلافة العباسية والسلاجقة والغوريين والأتراك.. وغيرهم من المسلمين، فالدولة الخوارزمية قامت على مشاكل كثيرة جداً، ليس بينها وبين الدول المحيطة بها فقط، ولكن أيضاً في داخلها.

    الكيان الخامس من دول العالم الإسلامي في ذلك الوقت: الهند، وكانت الهند دولة إسلامية قديمة، وهي الآن تحت حكم الهندوس، وحكمت بالإسلام قروناً طويلة جداً، وكانت في ذلك الوقت تحت سلطان الغوريين، وكما ذكرنا منذ قليل كانت الحروب بينهم وبين دولة خوارزم كثيرة جداً ومتكررة، فكانت هذه المنطقة منطقة قلاقل حقيقية.

    الكيان السادس: كان يقطن منطقة شاسعة جداً في وسط آسيا في الجزء الغربي من منطقة فارس، وهي إيران الآن، الملاصق للخلافة العباسية، وكان تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من أخبث طوائف الشيعة مطلقاً، ولهم مخالفات كثيرة جداً في العقيدة جعلت كثيراً من العلماء يخرجونهم من الإسلام تماماً، وكانوا يخلطون الدين بالفلسفة، وهم أصلاً من أبناء المجوس، أظهروا الإسلام وأبطنوا المجوسية، وتأولوا آيات القرآن على هواهم، وأنكروا الكثير من فرائض الإسلام، وأنكروا الرسل والشرائع، وكانوا يسعون وراء الملك والسلطان؛ لذلك ركزوا على أمور السلاح والقتال وبناء القلاع والحصون.. وما إلى ذلك من الأمور العسكرية، وهم من أخطر طوائف الباطنية، فقد كانوا يبطنون أشياء معينة لا يظهرونها لغيرهم، ولا يظهرونها إلا لمن دخل معهم في فرقتهم، وكانوا سبباً دائماً لقلب أنظمة الحكم الإسلامية، وحاولوا اغتيال الكثير من الشخصيات الإسلامية البارزة في ذلك الوقت، سواء كانوا خلفاء أو أمراء أو علماء .. أو غيرهم، وكانت هذه الطائفة موجودة في شرق العراق، وغرب الدولة الخوارزمية، وكانت مستقلة عن تلك الدولتين.

    الكيان السابع: كان متمركزاً في منطقة الأناضول، التي هي تركيا الآن، وهذه المنطقة كان يحكمها السلاجقة، وكانت أصولهم ترجع إلى الأتراك، وكان لهم في السابق تاريخ عظيم جداً وجهاد كبير، وبالذات في أيام القائد المسلم الفذ ألب أرسلان رحمه الله، ولكن أحفاده الذين حكموا بعده هذه المنطقة الحساسة والخطيرة جداً، والملاصقة للإمبراطورية البيزنطية، كانوا على درجة شنيعة من الضعف، أدت بهم إلى مواقف مؤسفة جداً من الذلة والهوان.

    هذه أعداد الدول التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وإن كان العالم الإسلامي يدخل اسماً تحت حكم الخلافة العباسية.

    ونلاحظ أن هذه الفترة انتشرت فيها الفتن والمؤامرات، وتعددت فيها الحروب بين المسلمين، وكثرت فيها المعاصي والذنوب، وعم الترف والركون إلى الدنيا، وقد علم يقيناً أن من كان هذا حاله فلا بد من استبداله، وأصبح العالم الإسلامي ينتظر كارثة تقضي على كل هؤلاء الضعفاء في كل هذه الأقطار، حتى يأتي بعد ذلك جيل من المسلمين يغير الوضع بإذن الله، ويعيد للإسلام هيبته، وللخلافة قوتها ومجدها.

    هذه القوة الأولى في الأرض في ذلك الزمن، قوة أمة الإسلام، فقد كانت قوة لها تاريخ طويل، ولكنها للأسف كانت مفككة ومشتتة.

    حالة الصليبيين وقت ظهور التتار

    القوة الثانية: قوة الصليبيين، وكان مركزهم في ذلك الوقت في غرب أوروبا، وكان لهم هناك أكثر من معقل، وقد انشغل الأوربيون في ذلك الوقت بالحروب المستمرة مع المسلمين، فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية المشهورة على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى أسبانيا والبرتغال وكذلك فرنسا في حروب مستمرة مع المسلمين في الأندلس.

    وبالإضافة إلى هذا التجمع الصليبي الضخم في غرب أوروبا، كانت هناك تجمعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمعات على درجة عالية جداً من الحقد على الأمة الإسلامية، ولم تنقطع الحروب بينها وبين الأمة الإسلامية أبداً.

    وكان أشهر هذه التجمعات الإمبراطورية البيزنطية: الدولة الرومانية الشرقية، التي كانت تحكم شرق أوروبا، وكانت تقع في غرب الأناضول المسلم، ومع أن حروب الدولة البيزنطية كانت شرسة مع الدولة الإسلامية عبر تاريخها، إلا أنها في ذلك الوقت كانت قد وصلت إلى حالة من الضعف، لا تسمح لها بدخول الأراضي الإسلامية، كما أن الدولة الإسلامية في ذلك الوقت كانت ضعيفة ومفرقة.

    وكذلك التجمع الصليبي الذي كان في مملكة أرمينيا، التي تقع في شمال فارس وغرب الأناضول، فقد كانت أيضاً في حروب مستمرة مع المسلمين السلاجقة الأتراك في منطقة الأناضول تركيا.

    وكذلك التجمع الصليبي في مملكة الكورج -جورجيا الروسية الآن-، فقد كانت دولة نصرانية، وإن كان فيها بعض القبائل الوثنية تعيش في نفس المنطقة، ولم تتوقف الحروب بينها وبين أمة الإسلام، وبالذات مع الدولة الخوارزمية.

    ومن التجمعات الصليبية تجمع خطير جداً، ومع أنه كان قليل الحجم، إلا أنه كان في عمق العالم الإسلامي، وهو الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين وتركيا، فقد كانت هذه الإمارات تحتل مناطق إسلامية في داخل هذه البلاد منذ أواخر القرن الخامس الهجري من سنة (491هـ)، وعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي رحمه الله على القوات الصليبية في حطين وبيت المقدس .. وغيرهما إلا أن هذه الإمارات كانت لا تزال باقية، بل ولا تزال من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلة، وكان أشهر هذه الإمارات الصليبية: أنطاكيا، وعكا، وطرابلس، وصيدا، وبيروت .. وغيرها.

    وهكذا استمرت الحروب في كل بقاع العالم الإسلامي تقريباً، وزادت جداً ضغائن الصليبين على الإسلام، لكن كانت فترة نهاية القرن السادس الهجري سعيدة جداً على العالم الإسلامي، وتعيسة جداً على الصليبيين، ففي أواخر القرن السادس الهجري انتصر البطل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في موقعة حطين بالشام، وذلك في عام (583هـ)، وبعد ذلك بثمان سنوات فقط انتصر البطل الإسلامي الجليل المنصور الموحدي رحمه الله زعيم دولة الموحدين على نصارى الأندلس في موقعة الأرك الخالدة في سنة (591هـ)، وبالرغم من هذين الانتصارين العظيمين، إلا أن المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري كانوا في حالة ضعف شديد، وكان الفارق بين زمان القوة والضعف عشرين سنة فقط.

    1.   

    لمحة سريعة عن نشأة التتار

    ظهرت قوة جديدة ثالثة ناشئة قلبت الموازين تماماً على الأرض، فغيرت من خريطة العالم تماماً، وفرضت نفسها كقوة ثالثة في الأرض، أو كانت القوة الأولى في الأرض في النصف الأول من القرن السابع الهجري وبلا منازع، وهذه القوة هي قوة دولة التتار أو المغول.

    ظهرت دولة التتار في عام (603هـ) -أي: في أوائل القرن السابع الهجري، ظهرت في منغوليا في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو جنكيز خان، وجنكيز خان هذا ليس اسمه الحقيقي، وإنما يعني: قاهر العالم أو ملك ملوك العالم أو القوي، حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه الأصلي تيموجين، وكان رجلاً سفاحاً سفاكاً للدماء، وقائداً عسكرياً شديد البأس، وله القدرة على تجميع الناس حوله، فقد ظهر في منغوليا ثم بدأ في التوسع تدريجياً في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتسعت مملكته، حتى بلغت حدودها من كوريا شرقاً إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غرباً، ومن سهول سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً، وفي غضون سنوات قليلة أصبح يضم بين طياته دولة الصين بكاملها، والصين وحدها (9) مليون كيلو متر مربع تقريباً، فضم الصين ومنغوليا وفيتنام وكوريا وكمبوديا وتايلاند وأجزاء من سيبيريا.

    واسم التتار والمغول يطلق على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين، في صحراء تسمى صحراء جوبي في منغوليا.

    فالتتار هم أصل القبائل في هذه المنطقة، ومنهم جاءت قبائل أخرى كثيرة، منها: قبيلة المغول والترك والسلاجقة.. وغيرها من القبائل، وعندما سيطر جنكيز خان على هذه المنطقة أطلق اسم المغول على هذه القبائل كلها، وكان للتتار ديانة عجيبة جداً، خليطة من أديان مختلفة، فقد جمع جنكيز خان بعض الشرائع من الإسلام ومن المسيحية ومن البوذية، واخترع أشياء من عنده، ثم أخرج من عنده كتاباً جعله كالدستور للتتار، وسمى هذا الكتاب: الياسق أو الياسك أو الياسة، حسب التسميات المختلفة، فكان دستور دولة التتار ودينهم.

    1.   

    السمات المميزة لحروب التتار مع غيرهم

    كانت حروب التتار مغ غيرهم تتميز بصفات خاصة جداً:

    أولاً: سرعة انتشار رهيبة.

    ثانياً: أعداد ضخمة هائلة من البشر، وملايين من المقاتلين.

    ثالثاً: نظام محكم وترتيب عجيب جداً.

    رابعاً: تحمل للظروف قاسية، فهم يقاتلون في الحر والبرد والصحاري والأدغال .. وفي كل مكان.

    خامساً: قيادة عسكرية بارعة جداً، وليس فقط جنكيز خان وإنما جميع القادة الذين تحته كانت لديهم قدرة قيادية فذة حقيقية.

    سادساً: أنهم بلا قلب تماماً، فحروب التتار كانت حروب تخريب غير طبيعية، ومن السهل أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا فدمروها وقتلوا كل سكانها، ولم يفرقوا في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مدني ومحارب، بل أبادوهم إبادة جماعية رهيبة، فقد كانت طباعهم دموية لا تصل إليها الحيوانات الشرسة، وكأن قصدهم إبادة العالم، فهم لا يقصدون الملك والمال، ولا يريدون من الدنيا شيئاً إلا أن يخربوها.

    سابعاً: رفض قبول الآخر، وعدم قبول آخر يعيش بجانبهم، وإنما كان عندهم مبدأ القطب الواحد، ولا يقبلون التعامل مع الدول الأخرى المحيطة بهم، والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائماً بأنهم ما جاءوا إلى البلاد إلا ليقيموا الدين، ولينشروا العدل، وليخلصوا البلاد من الظالمين.

    ثامناً: أنهم كانوا لا عهد لهم مطلقاً، ولا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وكانت هذه صفة أصيلة فيهم، لازمة لهم، لم يتخلوا عنها مطلقاً في أي مرحلة من مراحل دولتهم، منذ قيامها وإلى أن سقطت.

    هذه هي السمات التي اتصف بها جيش التتار، وهي صفات تتكرر كثيراً في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله عز وجل، والذين يملكون القوة ويفتقرون إلى الدين لا بد أن يكونوا بهذه الصورة، وقد يتفاوتون في الجرائم والفظائع، ولكنهم في النهاية مجرمون، فقد كانت حروب المرتدين قريباً من هذا، وكذلك حروب الفرس والرومان، وكذلك حروب الصليبيين في الشام ومصر والأندلس، ثم سار على طريقتهم بعد ذلك أتباعهم من المستعمرين من الأسبانيين والبرتغاليين والإنجليزيين والفرنسيين والطليان واليهود، ثم الأمريكيين، فكلهم شكل واحد، وقد يختلف الشكل الخارجي أحياناً، وتختلف الوجوه والأشكال، ولكن القلوب واحدة، فقد امتلأت حقداً وضغينة وشحناء وبغضاء على كل ما هو إسلامي، بل على كل ما هو حضاري، يقول الله عز وجل في حقهم: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53].

    إذاً: القوى التي كانت موجودة على الساحة في أوائل القرن السابع الهجري كانت ثلاث قوى رئيسية:

    القوة الأولى: قوة الأمة الإسلامية، وهي قوة ذات تاريخ عظيم جداً، وأمجاد معروفة، ولكنها كانت تمر بفترة من فترات الضعف، وهذا الضعف وإن كان شديداً إلا أنه لم يسقط هيبتها تماماً؛ لأن أعداءها كانوا يعلمون أن أسباب النصر وعوامل القوة مزروعة في داخل هذه الأمة، وهي فقط تحتاج إلى من يستخرج هذه الأسباب وينميها.

    القوة الثانية: قوة الصليبيين، وهم وإن كانوا أيضاً في حالة ضعف وتخلف علمي وحضاري شديدين بالمقارنة بالأمة الإسلامية، إلا أنهم كانوا قوة لا يستهان بها؛ لكثرة أعدادهم، وشدة حقدهم وإصرارهم على استكمال المعركة إلى النهاية مع المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

    فكانت قوة الإسلام وقوة الصليبيين تمثلان سوياً قوة العالم القديم في ذلك الوقت.

    ثم ظهرت القوة الثالثة الجديدة: وهي قوة التتار، وكانت قوة همجية بشعة، فهي قوة بلا تاريخ، وبلا حضارة، فقد ظهرت فجأة وليس عندها مخزون ثقافي أو حضاري أو ديني يسمح لها بالتفوق على غيرها، فكان لا بد لها من الاعتماد على القوة الهمجية والحرب البربرية؛ لفرض سطوتها على من حولها.

    1.   

    تحالف قوى الكفر ضد الإسلام سنة ماضية

    من سنة الله عز وجل أن يحدث الصراع بين القوى المختلفة، ويحدث التدافع بين الفرق المتعددة.

    ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الأقوياء المفتقرين إلى الدين لا يقبلون أبداً بوجود الضعفاء إلى جوارهم، ولا يرحمونهم مطلقاً.

    ومن سنة الله عز وجل أيضاً أن الباطل مهما تعددت صوره، فلا بد أن يجتمع لحرب الحق مهما كانت الأيدولوجيات والتوجهات مختلفة.

    ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الحرب بين الحق والباطل لا بد أن تستمر إلى يوم القيامة.

    فإذا وضعنا كل هذه السنن في أذهاننا، فإننا يجب أن نتوقع تعاوناً بين التتار والصليبيين -على اختلاف توجهاتهم وسياساتهم ونظرياتهم- لحرب المسلمين، وهذا ما حدث بالضبط.

    فقد أرسل الصليبيون وفداً رفيع المستوى من أوروبا إلى منغوليا -والمسافة بينهما مسافة تزيد على اثني عشر ألف كيلو متر ذهاباً فقط- ؛ ليحفزوا التتار على غزو بلاد المسلمين، وإسقاط الخلافة العباسية، واقتحام بغداد درة العالم الإسلامي في ذلك الوقت، فقد كان الصليبيون غير قادرين على دخول العالم الإسلامي، فقد كانوا ضعفاء حال خروجهم من معركة حطين ومعركة الأرك، ويريدون أن يدمروا أمة الإسلام، فنظروا إلى هذه القوة الجديدة الناشئة، فأرسلوا إليها، يعرضون عليها التعاون معها، وعظموا لهم جداً من شأن الخلافة الإسلامية، وذكروا لهم أنهم سيكونون عوناً لهم في بلاد المسلمين، وعيناً لهم هناك، وبذلك تم إغراء التتار إغراء كاملاً، وحدث ما توقعه الصليبيون، فقد سال لعاب التتار لأملاك الخلافة العباسية، وقرروا غزو هذه البلاد الواسعة الغنية جداً بثرواتها، والمليئة بالخيرات، هذا مع عدم توافق التتار مع الصليبيين في أمور كثيرة، حتى إنه دارت بينهم بعد ذلك حروب في أماكن متفرقة من العالم، فقد حارب التتار الصليبيين في كل مكان، ولكنهم عندما يواجهون أمة الإسلام، فإنهم يوحدون صفوفهم لحرب الإسلام والمسلمين.

    وهذا الكلام ليس غريباً، بل هو من السنن الثابتة لأهل الباطل في حربهم على المسلمين، فقد تعاون قبل ذلك اليهود مع المشركين لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، مع الاختلاف الكبير جداً بين عقائد اليهود وعقائد المشركين، وتعاون بعدهم الفرس مع الرومان في حرب المسلمين، مع شدة الكراهية بين الدولتين الكبيرتين: فارس، والروم، ومع الثارات القديمة والخلافات المستمرة والحروب الطويلة بينهما، وتعاون أيضاً الإنجليز مع اليهود لإسقاط الخلافة العثمانية، واحتلال فلسطين، وزرع إسرائيل في داخل هذه الأرض المباركة، مع شدة العداء بين اليهود والنصارى، واليوم نرى التعاون بين الروس مع الأمريكان للقضاء على ما يسمونه بالإرهاب الإسلامي، فروسيا تسهل مهمة أمريكا في حروبها مع أفغانستان والعراق وفلسطين، وأمريكا تسهل مهمة روسيا في حربها ضد الشيشان، والضحية في الحالتين من المسلمين.

    فاتحاد أهل الباطل في حربهم ضد المسلمين أمر متكرر، وسنة ماضية؛ ولأجل ذلك لا يستقيم أن يتعامل المسلمون بالمبدأ القائل: عدو عدوي صديقي. بل لا بد أن يعرف المسلمون أعداءهم، وأن عدو عدوهم قد يكون أيضاً عدوهم، وقد يتحالف المسلمون أحياناً مع أعدائهم لهدف خاص، وإلى أجل معين، ولكن لا يصح أن يكون ذلك بتفريط في الدين، أو بتساهل في الحقوق، بل لا بد أن يكون بحذر كاف، وإلى أجل معلوم، ولا يصل الأمر إلى الولاء والصداقة ونسيان الحقائق التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حين قال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].

    والمهم في كل ذلك أن التتار بدءوا يفكرون جدياً في غزو بلاد العالم الإسلامي، ويخططون بحماسة لإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية منذ خمسة قرون، فبدءوا في التفكير في التمركز في منطقة أفغانستان وأوزباكستان، وهذه الأحداث تتكرر اليوم بحذافيرها؛ لأن الله عز وجل يريد أن يرسخ في أذهاننا أن سننه سبحانه وتعالى ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.

    1.   

    غزو التتار للدولة الخوارزمية

    أسباب غزو التتار للدولة الخوارزمية

    فكر جنكيز خان بالذهاب إلى أفغانستان وأوزباكستان قبل الذهاب إلى العراق؛ لأن المسافة كبيرة بين الصين والعراق، ولا بد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين، وهذه المنطقة تعرف اليوم بالقوقاز، وكانت غنية جداً بثرواتها الزراعية والاقتصادية في ذلك الوقت، والآن في القرن الخامس عشر الهجري ظهر فيها أيضاً البترول، حتى أصبحت من أغنى مناطق العالم بالبترول، بل يقال: إن المخزون الذي فيها أعلى من المخزون الذي في الخليج، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة، وأموالها وفيرة، هذا بالإضافة إلى أن جنكيز خان لا يستطيع تكتيكياً أو إستراتيجياً أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه، أو تقطع عليه خطوط الإمداد، فمن أجل كل هذا فكر جنكيز خان أولاً خوض حروب متتالية مع المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف بالدولة الخوارزمية، فقد كانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية، ولا مانع عندهم من نقض العهد وتمزيق كل الاتفاقيات السابقة، وهي سنة في أهل الباطل، قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].

    وحتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، فلا بد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، فهو الآن في حالة اتفاق، ويريد أن يدعي أن الاتفاقيات بين الدولتين لم تعد سارية، فبحث جنكيز خان عن سبب مناسب فلم يجد، ثم حدث أمر مفاجئ يصلح أن يكون سبباً مقنعاً للحرب، ولم يكن هذا السبب من إعداد جنكيز خان ، ولكن لا مانع من استغلاله، وتقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير خطوات أخرى، فهو في كل الأحوال سيدخل أرض المسلمين وينقض العهد معهم، وليس في ذلك خلاف، ولكنه يريد سبباً منطقياً أمام المسلمين والتتار والعالم أجمع.

    وكان هذا الأمر أن مجموعة من تجار المغول ذهبوا إلى مدينة أوترار الإسلامية في شرق مملكة خوارزم شاه، وفي حدود الدولة التترية، فأمسكهم حاكم المدينة المسلم وقتلهم، وقد اختلف المؤرخون في سبب قتلهم.

    فمنهم من يقول: إنهم كانوا جواسيس أرسلهم جنكيز خان للتجسس على الدولة الإسلامية واستفزازها.

    ومنهم من يقول: إن هذا كان عمداً من حاكم مدينة أوترار؛ رداً على عمليات السلب والنهب التي قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة.

    ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلاً متعمداً من حاكم أوترار المسلمة؛ لاستثارة التتار للحرب؛ ليدخل خوارزم شاه منطقة تركستان التي كانت في أملاك التتار في ذلك الوقت. وهذا الرأي مستبعد؛ لأن محمد بن خوارزم شاه لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار، وكل ما كان يريده هو بقاء كل فريق في مملكته دون تعد على الآخر، وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيوشهم، أو أنه لم يكن يدري عن قواتهم شيئاً، فهم الملاصقون له، وقد ذاع صيت جنكيز خان في كل مكان في ذلك الوقت.

    ومن المؤرخين من يقول: إنما أرسل جنكيز خان بعضاً من رجاله إلى أرض المسلمين؛ ليقتلوا تجار التتار هناك؛ حتى يكون ذلك سبباً لغزو بلاد المسلمين.

    ومنهم من قال: إن حاكم أوترار طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها. وكل هذه الاحتمالات واردة، قتل التجار أو الجواسيس.

    فلما وصل النبأ إلى جنكيز خان أرسل رسالة إلى محمد بن خوارزم شاه زعيم دولة خوارزم الكبرى يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعدياً على سيادة البلاد المسلمة، فهو لن يسلم مجرماً مسلماً ليحاكم في بلدة أخرى وبشريعة أخرى، وقال له: إنه سيحاكمهم في بلاده، فإن ثبت أنهم قتلوا التتار، عاقبهم في بلادهم حسب نصوص الشريعة الإسلامية.

    وكان هذا الكلام منطقياً ومقبولاً جداً في كل أعراف أهل الأرض وبقاعهم، فأي بلد يحدث في داخله جريمة، فإن المجرمين يعاقبون على جريمتهم بقانون هذا البلد، ولكن جنكيز خان لم يكن يرغب بالاقتناع بهذا الكلام، فليس المجال مجال الحجة والبرهان والدليل، وإنما كان تخطيطاً مسبقاً لغزو العالم الإسلامي، ولن يعطل هذا التخطيط حجة أو برهان أو دليل، فهو إنما كان فقط يبحث عن علة مناسبة لدخول الأراضي الإسلامية واحتلالها، وقد وجد في قتل التجار هذه العلة التي كان يبحث عنها.

    هجوم التتار على الدولة الخوارزمية

    بدأ الإعصار التتاري الرهيب على بلاد العالم الإسلامي، وجاء جنكيز خان بجيشه الكبير في الهجمة التتارية الأولى لغزو مملكة خوارزم شاه ، وخرج له محمد بن خوارزم شاه بجيشه أيضاً، وكان هذا في سنة (616هـ)، أي: بعد ثلاث عشرة سنة فقط من قيام دولة التتار- فدولة التتار بدأت في منغوليا في جزء صغير جداً منها سنة (603هـ)، ولم تأت سنة (616هـ) إلا وكانت قد احتلت تقريباً كل شرق آسيا، ولم يبق غير الدولة الخوارزمية، والتقى جيش التتار مع جيش محمد بن خوارزم شاه في شرق الدولة الخوارزمية أو في غرب الصين، واستمرت الحرب أربعة أيام متصلة في شرق نهر سيحون، المعروف الآن باسم نهر سرداريا، والواقع في دولة كازاخستان المسلمة، فقتل من الفريقين خلق كثير، واستشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفاً، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وبعد أن تحاجز الفريقان انسحب محمد بن خوارزم شاه بعد أن وجد أن أعداد التتار هائلة، ثم ذهب إلى تحصين المدن الكبرى في مملكته وبالذات العاصمة أورجندة، وانشغل بتجميع الجيوش من أطراف مملكته، وقد كان منفصلاً ومعادياً للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية، فلم يكن على وفاق مع الأتراك، ولا مع السلاجقة، ولا مع الغوريين في الهند، فقد كانت مملكته منعزلة عن بقية العالم الإسلامي، ووحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول، وهذه المملكة وإن كانت قوية وكبيرة، وثابتة في أول اللقاءات، إلا أنها لن تصمد بمفردها أمام الضربات التتارية المتوالية بلا شك.

    أسباب هزيمة المسلمين أمام التتار

    لم يكن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك في الأساس هذه القوة التترية وبأسها وعددها، وإنما كان بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

    فالفشل جعله الله عز وجل قريناً للتنازع، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا في نزاع مستمر وخلاف دائم، وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار، كان المسلمون يغيرون على بعضهم بعضاً، ويأسرون بعضهم بعضاً، ويقتلون بعضهم بعضاً، وقد علم يقيناً أن من كانت هذه صفتهم فلا يكتب لهم النصر أبداً.

    فقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (.. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة -يعني: لا يهلك أمة الإسلام بكاملها بقحط مثلاً- وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم -يعني: لا يأتي عدو من أعداء أمة الإسلام فيستأصلها بكاملها، مهما كانت قوة هذا العدو- وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، -أي: إذا اجتمع أهل الأرض جميعاً لحرب أمة الإسلام، فلن يستأصلوها، هذا وعد من رب العالمين سبحانه وتعالى- ثم قال: حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) وكان المسلمون في تلك الفترة يهلك بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، فلا عجب إن غلبهم جيش التتار أو غيره.

    وبالإضافة إلى داء الفرقة، فقد أخطأ محمد بن خوارزم خطأ واضحاً في الإعداد، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية في دولته دون حماية كافية، فعلى الرغم من كونه قائداً محنكاً وعلى دراية بالحروب، إلا أنه وقع في مثل هذا الخطأ الساذج، فقد ترك كل الحدود الشرقية دون حماية، وهذا لم يكن خطأً تكتيكياً في المقام الأول، ولكنه كان خطأً قلبياً أخلاقياً في الأساس.

    فقد اهتم محمد بن خوارزم الزعيم المسلم لدولة خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، والحفاظ على كنوزه وكنوز آبائه، وأهمل تماماً تأمين شعبه والحفاظ على مقدراته وأملاكه، وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأمتهم، بل وتسقط الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح.

    احتلال التتار لكازاخستان وبخارى

    أما جنكيز خان فقد جهز جيشه من جديد، واخترق إقليم كازاخستان -وكازاخستان دولة حجمها ثلاثة ملايين كيلو متر مربع تقريباً، يعني: ثلاثة أضعاف دولة مصر- وقطعه دون مقاومة تذكر، حتى وصل إلى مدينة بخارى -وهي الآن في دولة أوزباكستان، وهي بلدة الإمام الجليل والمحدث العظيم البخاري رحمه الله- فحاصرها سنة (316هـ)، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان محمد بن خوارزم شاه بعيداً عنها في ذلك الوقت، فقد كان يعيش في أورجندة -وهي تقع في دولة تركمانستان المسلمة الآن- فاحتار أهلها ماذا يفعلون، ثم ظهر رأيان:

    الرأي الأول: قال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا.

    الرأي الثاني: قال أصحابه: نأخذ الأمان ونفتح الأبواب للتتار؛ لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرروا القتال واعتصموا بالقلعة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها، وفريق آخر من المستسلمين -وهم الفريق الأعظم والأكبر في المدينة- قرروا فتح أبواب المدينة والاعتماد على أمان التتار، ففتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيز خان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم؛ وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين في القلعة الكبيرة داخل المدينة، وبدأ جنكيز خان في حصار القلعة، وأمر جنكيز خان أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة؛ ليسهل فتحها، فأطاعوه، ولا تستغربوا ذلك، فنحن نرى كثيراً من جيوش المسلمين يحاربون مع أعدائهم إخوانهم المسلمين، فحوصرت القلعة عشرة أيام، ثم فتحت عنوة، ولما دخلها جنكيز خان عليه لعنة الله قتل من فيها من المجاهدين جميعاً، ولم يبق فيها مجاهداً، وهنا بدأ جنكيز خان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، واصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا فيها ما لا يتخيله عقل.

    يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية مصوراً ما فعله التتار في بخارى: فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن، وارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت المدينة تماماً، حتى صارت خاوية على عروشها. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.

    ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وقد روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث). والخبث كان قد كثر جداً في هذه البلاد.

    فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.

    ومن الخبث أن يصدق المسلمون بعهود الكافرين لهم.

    ومن الخبث أن يسلم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.

    ومن الخبث أن يتفرق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم.

    ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.

    هذا كله من الخبث. وإذا كثر الخبث فلا بد أن تحدث الهلكة، وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم.

    وهكذا هلكت بخارى في سنة (616هـ).

    هذه أول صفحات القصة، وبداية الطوفان والإعصار، وستكون صفحات القصة القادمة أشد سواداً وأكثر دماءً، وسيدخل المسلمون فيها أسوأ وأظلم السنوات التي مرت على تاريخ المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، فماذا حدث في هذه السنة الرهيبة (617هـ)؟ وماذا فعل فيها التتار؟ وماذا فعل فيها المسلمون؟ وما هو مصير محمد بن خوارزم شاه الزعيم المسلم لدولة خوارزم الكبرى؟ وما هو مصير شعبه؟ وما هو مصير الدول الإسلامية المحيطة بدولة خوارزم؟

    هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدرس القادم.

    أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767117037