إسلام ويب

تفسير سورة القصص [76 - 82]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان قارون من بني إسرائيل، وكان رجلاً غنياً فبغى على قومه واستكبر، ولم يشكر الله تعالى، فعاقبه الله وخسف به وبداره الأرض.

    1.   

    سبب طغيان قارون ونصح قومه له

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد:

    قال الله عز وجل: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:76-78].

    ذكر الله عز وجل في هذه الآيات قصة من قصص القرآن وفيها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    والمؤمن يعتبر من القصص التي في كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا فيها مواطن العبر والعظات.

    كان الرجل من قوم موسى، وكان اسمه قارون قالوا: كان ابن عم موسى أو كان قريباً لموسى عليه الصلاة والسلام، فهو من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل كانوا مستذلين في مصر من فرعون وملئه وجنوده، وهذا الرجل منهم ثم بغى عليهم واستكبر ورأى أنه أفضل منهم وأنه أحسن منهم؛ لأن الله أعطاه مالاً كثيراً.

    فسبب بغيه وطغيانه أن الله عز وجل آتاه كنوزاً عظيمة قال: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، إذا كانت هذه المفاتيح فكيف بالكنوز نفسها، فقد كان العشرة من الرجال لا يقدرون على حمل مفاتيح الخزائن، فاغتر هذا الرجل بماله واغتر بما آتاه الله سبحانه وتعالى من كنوز.

    قال الله سبحانه: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ [القصص:76].

    أي: لا تغتر، ولا تستكبر، ولا تكن من المفسدين؛ لأن الفرح المطغي للإنسان يجعله يفسد فيكون فاسداً في نفسه بعيداً عن الصلاح، ويكون مغوياً لغيره، فهو باستكباره وهو من بني إسرائيل يدفعهم إلى أن يحسدوه وإلى أن يتمنى كل منهم الدنيا ويتناسى الدار الآخرة، وهذا الذي حصل من كثيرين منهم.

    وهنا يذكر الله عن بعض قومه قولهم له إن الله عز وجل لا يحب الإنسان الذي يبطر ويستكبر على الخلق ويرى نفسه أفضل منهم، فالله لا يحب من يفرح هذا الفرح الغامر الذي يجعله يتعالى على غيره، وإلا فإنه يجوز للإنسان أن يفرح بما آتاه الله من مال وعلم وحكمة، ويفرح المؤمنون بنصر الله كما قال الله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4-5].

    فالفرح الذي يحبه الله عز وجل لعباده هو أن يسر المؤمن برحمة الله سبحانه، وأن ينسب الخير إلى ربه سبحانه، فيفرح لأنه مؤمن؛ ولأن الله أعطاه من نعمه فيشكر الله عز وجل ويحمده عليها، أما الفرح الذي لا يحبه الله عز وجل ويبغض صاحبه فهو الذي يدفع صاحبه للغرور، وللإفساد في الأرض، وللشعور بأنه أعلى من غيره.

    قال الله : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].

    فكانت نصيحة له ذكرها الله عز وجل في القرآن لتكون نصيحة لكل منا، والإنسان حين يعطيه الله عز وجل المال الكثير يعلم أن المال مال الله عز وجل، ويعلم أن الدنيا زائلة، وأنه سيترك هذا المال يوماً من الأيام، فإذا كان الأمر كذلك فليتصرف في هذا المال بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، وبما يجعله له ذخراً في الآخرة، فيعمل الصالحات ولا يقال للإنسان: تصدق بجميع مالك، ولكن تصدق بشيء وأبق شيئاً لأهلك فهو خير لك.

    فقال له قومه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77]، أي: في هذا الذي أعطاك الله عز وجل ابتغ الدار الآخرة، فخذ من مالك وأنفق في سبيل الله سبحانه، وأنفق على قومك، وأنفق على من يجب عليك أن تنفق عليه، وابتغ بهذا المال إصلاح دنياك وإصلاح أخراك.

    وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، الإنسان يحب أن يكون له أشياء يختص بها في الدنيا، يكون له بيت، يكون له قصر، يكون له طعام، يكون له شراب، يكون له زوجة أو زوجات، فمهما أخذت فلا حرج عليك طالما أنها مباحة لك شرعاً، ولكن قد قال الله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، فلا يجوز للإنسان أن يسرف، وأن يضيع ماله فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، كل بقدر معلوم، واشرب بقدر معلوم، ولا تتجاوز الحد فتتعب نفسك وتحرم غيرك.

    فقال له قومه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ [القصص:77]، أي: تذكر أن هذا من عند الله عز وجل فابتغ الدار الآخرة بهذا: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، أي: خذ من هذه وهذه، فالمؤمنون يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    والكافر يسأل الله عز وجل الدنيا، يريد المال والبنين والمنصب، ويريد كل شيء فيها وينسى الدار الآخرة، فحذره قومه من ذلك، وذكروه وقالوا: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، أي: أحسن الله عز وجل إليك فأعطاك، فأحسن أنت إلى غيرك، فجزاء الإحسان إحسان من الله سبحانه، إذا أحسنت وأعطيت للناس فإن الله سيعطيك: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

    تذكر هذه الآية، وقس ما في هذه الآية على ما صنعه هذا الرجل، الله سبحانه وتعالى ذكره على ألسنة قومه فلم يتذكر ولم يعتبر، قالوا له: تذكر أن الله قد أحسن إليك، لا؛ لأنك تستحق ولكن لفضله سبحانه ولكرمه.

    وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77]، أي: لا تطلب الإفساد في الأرض: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

    إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، لما سمع ذلك ازداد كبراً، وازداد غروراً ولم ينتصح بهذه النصيحة الجميلة بل رد عليهم رداً لا يدل على عقل وإنما يدل على جهل.

    قال الله : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، فكانت نصيحة له وذكرها الله عز وجل في القرآن لتكون نصيحة لكل منا، والإنسان حين يعطيه الله عز وجل المال الكثير يعلم أن المال مال الله عز وجل، ويعلم أن الدنيا زائلة، وأنه سيترك هذا المال يوماً من الأيام، فإذا كان الأمر كذلك فليتصرف في هذا المال بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، وبما يجعله له ذخراً في الآخرة فيعمل الصالحات، ولا يقال للإنسان: تصدق بجميع مالك، ولكن تصدق بشيء وأبق شيئاً لأهلك فهو خير لك، فقال له قومه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77]، أي: في هذا الذي أعطاك الله عز وجل ابتغ الدار الآخرة، فخذ من مالك وأنفق في سبيل الله سبحانه، وأنفق على قومك، وأنفق على من يجب عليك أن تنفق عليه، وابتغ بهذا المال إصلاح دنياك وإصلاح أخراك.

    وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، الإنسان يحب أن يكون له أشياء يختص بها في الدنيا، يكون له بيت، يكون له قصر، يكون له طعام، يكون له شراب، يكون له زوجة أو زوجات يحب أن يختص بشيء، فمهما أخذت من أشياء مباحة فلا حرج عليك طالما أنها مباحة لك شرعاً، ولكن قد قال الله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، فلا يجوز للإنسان أن يسرف، وأن يضيع ماله فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، كل بقدر معلوم، اشرب بقدر معلوم، لا تتجاوز الحد فتتعب نفسك وتحرم غيرك، فقال له قومه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ [القصص:77]، أي: تذكر أن هذا من عند الله عز وجل فابتغ الدار الآخرة بهذا: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، أي: خذ من هذه وهذه، فالمؤمنون يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    والكافرون يسألون الله عز وجل الدنيا يريد المال والبنين، والمنصب ويريد كل شيء فيها وينسى الدار الآخرة، فحذره قومه من ذلك، وذكروه وقالوا: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، سبحانه: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، أي: أحسن الله عز وجل إليك فأعطاك، فأحسن أنت إلى غيرك، فجزاء الإحسان إحسان من الله سبحانه، إذا أحسنت وأعطيت للناس فإن الله سيعطيك: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، تذكر هذه الآية وقس ما في هذه الآية على ما صنعه هذا الرجل، الله سبحانه وتعالى ذكره على ألسنة قومه فلم يتذكر ولم يعتبر قالوا له: أحسن وتذكر أن الله قد أحسن إليك ليس؛ لأنك تستحق ولكن لفضله سبحانه ولكرمه، وإياك أن تفسد في الأرض، وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77]، أي: لا تطلب الإفساد في الأرض: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

    إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، لما سمع ذلك ازداد كبراً، وازداد غروراً ولم ينتصح بهذه النصيحة الجميلة بل رد عليهم رداً لا يدل على عقل وإنما يدل على جهل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي ...)

    قال الله سبحانه: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

    قالوا: كان هذا الرجل يقرأ التوراة ويجيد قراءتها، فيقول: لأني أحسن منكم في القراءة أنا أستحق هذا الشيء.

    أو قال: على علم من عندي يعني أنا ذكي وأنا أستحق ذلك بتعبي وبكدي.

    وكثير من الناس يعطيه الله عز وجل من فضله فيقال له: احمد ربك على ما أعطاك فيقول: أنا ذكي وأعرف أشتغل، وأنا أجيد عملي وأعتمد على نفسي، وينسى الله سبحانه وتعالى، كم من إنسان يفعل كما فعل قارون مع الفارق بين الاثنين، قارون أوتي كنوزاً عظيمة وهذا قد يؤتى شيئاً حقيراً يسيراً، هذا يقول: أوتيته على علم مني، وذاك يقول: بذكائي وبقوتي وبتفكيري وسأخطط وسأعمل، وينسى تدبير الله سبحانه وتعالى.

    قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، يعني: على علم بوجوه التجارة ووجوه الكسب، والأماكن التي يمكن أن أكسب فيها.

    أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78].

    يعني: هذا الإنسان الذي أعطاه الله عز وجل مالاً، وأعطاه رجالاً، قد مر قبله قرون كثيرة كان فيهم ملوك وعظماء عندهم الأموال وعندهم الجيوش، وهذا لا يساوي شيئاً بجوار هؤلاء الملوك، وإن كان يضرب به المثل في الغنى، ولكن الله عز وجل قد أهلك قبله من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً للدنيا.

    وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].

    فكأنه سبحانه وتعالى يحذر الإنسان إذا آتاه الله عز وجل من المال وآتاه من الكنوز أن يغتر بذلك، بل عليه أن يحذر من الغرور وأن يتذكر السابقين، فإنهم اغتروا فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، ولو كان المال يدل على فضل صاحبه لما أهلك الله عز وجل هؤلاء بذنوبهم، فقد أعطاهم أموالاً كثيرة ثم أهلكهم بذنوبهم فليعتبر قارون وليعتبر من يقلده.

    لكن قارون لم يعتبر مع أن الله عز وجل قد نصحه على ألسنة قومه وعلى لسان موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن لم يتفكر ولم يتذكر أن السابقين كان عندهم أموال كثيرة وما وصلت إليك هذه الأموال إلا حين تداولها السابقون، فلم يكن المال مالك، ولم تولد ومعك هذا المال ولكن أخذته ممن جمعه قبلك، وتذكر أن من كان معه هذا المال قبلك قد أهلكه الله سبحانه، وأنه لم يعطه المال لفضله.

    واعتبر بفرعون الذي هو ملك وأنت لست ملكاً وإنما أنت رجل تملك مالاً وهذا الملك أهلكه الله سبحانه وتعالى، فقد كان عدواً لموسى وأنت تعلم ذلك، وكم أهلك الله من قبله من القرون من هو أشد قوة وأكثر جمعاً للمال.

    وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، أي: لا يحتاج الله سبحانه أن يسألهم سؤال استفهام، فهو قد أحصى عليهم كل شيء فعلوه، فلا يسألهم سؤال من لا يعرف، وإنما يسألهم سؤال توبيخ وتقرير وتبكيت وفرق بين سؤال وسؤال.

    فأن تسأل الإنسان عن الطريق الذي يوصلك إلى مكان كذا؛ لأنك لا تعرف، وحين تسأل إنساناً بقولك أنت عملت هذا الشيء وسأحاسبك عليه، فأنت تسأله لتبكته، فهم لا يسألون سؤال من يجهل حالهم، أو سؤال من يكرمهم بذلك، وإنما سؤال إهانة، وتبكيت وتقريع، وتوبيخ يوم القيامة، فالله عز وجل يذكر أنه سيسألهم قال: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]، ويقول هنا: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، ولا تعارض؛ فإن الله عز وجل سيسألهم سؤال العالم بهم، فهو علام الغيوب سبحانه وتعالى، ولن يسألهم سؤال من لا يعرف عنهم شيئاً، بل يسألهم سؤال القادر العالم الذي يبكت على الشيء، ثم يدخلهم النار بعد ذلك، فلا يسأل عن ذنوبهم المجرمون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته...)

    وذكر سبحانه وتعالى أنه خرج على قومه في زينته وذكرنا قبل ذلك قصة لـقارون مع موسى عليه الصلاة والسلام تدل على كفر هذا الرجل، وإن كان من قوم موسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان من أحسن قراء التوراة في عصره، ولكنه أراد أن يكيد لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    ومن كيده أنه ذهب إلى امرأة بغي وأعطاها مالاً، قيل: أعطاها ألفي درهم ثم سألها أن تقول أمام الناس إن موسى عليه الصلاة والسلام زنى بها.

    وجاء بالناس وقال لهم: موسى يفعل كذا وكذا، وذهب إلى موسى أمام الناس وقال: ما جزاء من يزني في شرعك؟ فقال له موسى عليه الصلاة والسلام إنه يرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، فإذا به ينادي على المرأة فتقول: إن موسى زنا بها!

    فلما قالت ذلك دعا موسى ربه سبحانه وتعالى، ثم قرر المرأة ما الذي تقولينه؟ فقالت: لقد أعطاني مالاً حتى أقول عليك كذا، فرجعت عن كلامها، فدعا موسى على قارون فاستجاب الله سبحانه وتعالى له استجابة عجيبة جداً، فقد جعل هذا الرجل يعلو فجأة أمام الناس حتى يأخذه وهو في علوه وغروره فيجعله عبرة للناس حوله.

    فإذا بقارون يزداد عتواً وغروراً فيخرج على الناس في يوم عيد ليريهم أنه أعلاهم، وأنه أفضلهم، فتزين زينة عظيمة، وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أنه خرج على قومه في زينته، وترك لك أن تتخيل ما هذه الزينة، ولم يفصل لنا ما هي، ولكن واضح أنه خرج على الناس، ولن يخرج لوحده، ولكن تخيل أنه خرج في غلمانه، مع أولاده، ومع الجواري، معه مال يتزين به غير الذي تركه في دياره وفي خزائنه، لقد خرج على الناس في زينته ليريهم أنه أفضل منهم، وحتى يتحسروا على ما هم فيه من فقر، فكان الرجل فتنة لهم.

    فلما خرج قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا [القصص:79]، والأمة التي مع موسى هم بنو إسرائيل فيهم المؤمن القوي، وفيهم المؤمن الضعيف الإيمان، فيهم الصالحون وفيهم الفاسدون، فقال كثير منهم وهم الذين يريدون الحياة الدنيا واغتروا بما رأوه من قارون قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79].

    أي: يا ليت عندنا مثل ما عند هذا الإنسان، والإنسان أحياناً ينسى النعم التي أعطاه الله سبحانه وتعالى في بدنه وفي قلبه وفي عقله وفي لسانه، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10].

    والله عز وجل نعمه عظيمة على الإنسان لكنه ينساها إذا نظر إلى ملك من الملوك يتبختر أمامه، فتراه يقول: ياليت عندي مثل ما عند فلان، كذلك هؤلاء قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79]، فإن الله قد فتح له باباً واسعاً جداً، فعنده المال الكثير، وعنده الحظ العظيم: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ [القصص:79].

    وأهل الإيمان وأهل الطاعة يعرفون أن هذا كله زائل ولن يبقى منه شيء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير ...)

    قال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [القصص:80].

    والذين أوتوا العلم قريبون من فضل ربهم ومن رحمة ربهم ومن حكمة ربهم سبحانه وتعالى، قالوا لهؤلاء: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80].

    أي: هذا كله لا يساوي شيئاً بجوار ثواب الله وفضل الله، وجنة الله سبحانه وتعالى، وكلامهم فيه توجع لما في هؤلاء من طمع وطلب للدنيا، فقالوا: وَيْلَكُمْ [القصص:80]، أي: أفيقوا من هذا الذي أنتم فيه، فلكم الويل على ما تقولون! وليس المعنى أنهم يدعون عليهم بالويل، ولكنهم يتعجبون مما هم فيه من حال، ومن نسيانهم لربهم سبحانه وتعالى.

    ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80]، أي: كل هذه الدنيا لا تساوي شيئاً عند الله سبحانه، فما عند الله خير وأبقى للذين يعملون الصالحات.

    قال: وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، أي: جنة الله رب العالمين لا يلقاها إلا الصابرون، والأعمال الصالحة (لا يلقاها) أي: لا يؤتاها إلا من صلح واستحق ثواب رب العالمين سبحانه.

    إذاً: العمل الصالح والجنة يلقاهما الصابرون الصالحون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض ...)

    قال الله سبحانه تبارك وتعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ .... [القصص:81].

    أي: لما كان الأمر على ذلك وكان المؤمنون ينظرون إليه أنه مغرور وأن ما عنده لا يساوي شيئاً مما عند الله، وكان الذين لهم طمع في الدنيا يتحسرون على حالهم وينظرون إليه نظرة حسرة وحسد، إذا بالله عز وجل يخسف به الأرض أمام الجميع.

    فتزلزلت الأرض من تحته، وغاص في الأرض بزينته وماله ودياره وخزائنه، وكل شيء كان يملكه لم يجعلها الله إرثاً لبني إسرائيل، فإنه لو ترك هذا المال لكان ميراثاً لبني إسرائيل ولكن الله عز وجل لم يجعله لهم وإنما خسف بـقارون وبداره الأرض.

    فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ [القصص:81]، يعني: لم يكن معه قليل ولا كثير يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81]، وحتى لو كانت له فئة فمستحيل أن ينتصر وقد كتب الله عز وجل عليه الهزيمة.

    قال سبحانه: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82]، أي: حين وقعت المفاجأة بهت الجميع ثم ردت إليهم عقولهم فأصبحوا بعد ذلك يتكلمون عما حدث في هذه القصة.

    لقد كانت مفاجأة للجميع، ثم جاءت التذكرة بعد ذلك، وحين تنزل مصيبة بالإنسان لا يعتبر ويتفكر في وقت المصيبة، ولكن يمر عليه الليل وحين يصبح بالنهار يتفكر فيما حدث.

    وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82].

    (وي) كأن أصلها: ويل، وهي كلمة تقال عند المفاجأة وعند التوجع، وعند التعجب، فكأنه يقول: عجباً كأن الأمر كذا وكذا، فقال سبحانه: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ [القصص:82].

    وقيل معناها: ألم تر أن الله فعل كذا وكذا.

    وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82].

    (يبسط) يعطي كثيراً، (يقدر)، يقبض ويضيق سبحانه وتعالى، فيعطي ويمنع.

    لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [القصص:82].

    أي: كانت مصيبتنا مصيبة عظيمة لو كان الله أعطانا مثلما أعطى هذا الإنسان، لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82]، يعني: نحن طمعنا وتمنينا ما مع هذا الإنسان، ولو أن الله أعطانا لخسف بنا كهذا الإنسان.

    وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82]، أي: الشأن والأمر أنه لا يفلح الإنسان الكافر مهما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من مال ومن بنين.

    نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756573502