إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [16]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القاعدة الثالثة في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أن القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو غير مراد يحتاج إلى تفصيل، فإن أريد بظاهر النصوص المعاني الصحيحة اللائقة بالله، فإن هذا الظاهر مراد، وإن أريد بالظاهر التشبيه الذي يليق بالمخلوقات، فإن هذا المعنى غير مراد، ولكن لا يجوز أن يقال: إنه هو ظاهر النصوص، فإن ظاهر نصوص الصفات هو إثبات الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه، وهذا لا يقتضي تشبيهاً ولا تمثيلاً.

    1.   

    القاعدة الثالثة: أن القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو غير مراد يحتاج إلى تفصيل

    قال المصنف رحمه الله: [القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد؟].

    هذه هي القاعدة الثالثة، وقد يقال: إنها تعتبر جملة من جمل القاعدة الثانية؛ لأن المصنف لا يزال يتكلم في الألفاظ المجملة الحادثة المشتركة، سواء كان اللفظ لفظاً فرداً؛ كلفظ الجهة، أو كان اللفظ لفظاً مركباً؛ كقول: ظاهر النصوص مراد أم ليس مراداً.

    فما يقال فيه: إنه يستفصل فيه، قد يكون كلمةً، وقد يكون جملةً مركبة، لكن المصنف عني بإفراد هذه الجملة في هذه القاعدة؛ لأن هذه الجملة من الجمل التي شاع النظر فيها كثيراً، فإن سائر من تأول الصفات أو بعضها، يسمي ما تأوله ظاهراً، ويجعل ما يقابل هذا الظاهر هو المؤول.

    فيذكر المصنف أنه إذا قيل: ظاهر النصوص مراد أو ليس بمراد؟ فإن هذه الجملة من الجمل المجملة التي لا بد فيها من استفصال، وهذا الإجمال إنما هو باستعمال المستعملين من النظار لهذه الجملة، وليس هو إجمالاً بأصل اللغة، فلولا أن هؤلاء الذين خالفوا الأئمة تكلموا بلفظ الظاهر على قدر من التأويل له، أو التعطيل للمعاني الصحيحة، أو ما إلى ذلك؛ لكان الأصل أن من تكلم في التقرير فقال: إن ظاهر النصوص مراد؛ فإن كلمته هذه كلمة سائغة جائزة، لكن لما جاء الاشتراك من جهة استعمال المستعملين لها؛ لزم أن يقال بالتفصيل؛ لأن المتكلم بذلك قد يكون فهم من الظاهر التشبيه، فإذا قيل له: إن ظاهر النصوص مراد، فكأنه قيل له -في زعمه-: إن التشبيه مراد. ولذلك فلابد أن يقال: ماذا يقصد بالظاهر؟

    فإن قصد بالظاهر المعاني الصحيحة، فإن ظاهر النصوص مراد، وإن قصد بظاهر النصوص التشبيه الذي يليق بالمخلوقات وما إلى ذلك، فإن هذا المعنى ليس مراداً، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: إنه هو ظاهر النصوص, وهذا من طرق الرد على المخالفين الذين سموه بظاهر النصوص, أي: فهموا فهماً من التشبيه وسموه: ظاهر النصوص، ونقول: إنه يلزم على ذلك أن يقال: إن ظاهر القرآن كفر؛ لأن التشبيه نقص, والله منزه عن النقص، ومن نقص الله فقد كفر.

    فمن قال: إن ظاهر النصوص هو التشبيه، فهي بحاجة إلى التأويل، فيقال له: ليس ظاهر النصوص هو التشبيه؛ لأنه يلزم على هذا أن ظاهر القرآن كفر.

    ومن المعلوم أن غالب الناس لا يعلمون التأويل؛ ولا سيما أن هؤلاء يجعلون التأويل على طرق كلامية، فيلزم من ذلك أن جمهور من يقرأ القرآن ويعتقد بظاهره، أن هذا الظاهر عندهم كفر؛ لأنه نقص وتشبيه.

    قال المصنف رحمه الله: [فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك, فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً, ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال].

    فلا يجوز لأحد أن يقول: هذا هو ظاهر القرآن، حتى وإن قال: إنه سيتأول هذا إلى معنى صحيح بزعمه، فإن مجرد تسميته لظاهر القرآن بهذه الحقائق الكفرية، من تشبيه الله بخلقه؛ فإن هذا طعن في كلام الله سبحانه وتعالى.

    غلط من يجعل ظاهر النصوص يقتضي التشبيه

    قال المصنف رحمه الله: [والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل].

    أي أنهم يفسرون الآية بمعنى من معاني التشبيه والتمثيل، فيقولون: إن ظاهر الآية يدل على كذا وكذا، ويكون هذا الذي فسروا الآية به غلطاً، أي: أنه ليس لائقاً بالله سبحانه وتعالى، ويتفق أهل السنة معهم على أن هذا المعنى ليس لائقاً بالله، فإذا فسروها بذلك قالوا: فهذا ظاهر القرآن, فهو يحتاج إلى تأويل.

    والحق أن معنى الآية ليس هو ما فسروها به ابتداء وسموه ظاهراً، ولا ما فسَّروها به ثانياً وسموه تأويلاً؛ بل إن معناها يكون صحيحاً مناسباً ليس من باب التشبيه، ولا من باب النفي والتعطيل الذي سموه تأويلاً.

    فمثلاً: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يقولون: إن ظاهر هذه الآية أنه استوى مثل جلوس المخلوق على شيء مخلوق، وهذا يلزم منه قدم هذا المخلوق معه، ويلزم منه مماسة، ويلزم منه تحيزات، ويلزم منه حاجة الباري إلى الاستواء على العرش، أو إلى العرش، وغير ذلك من الكلمات التي يقحمونها على هذا النص.

    فهذا المعنى -أي: أنه محتاج إلى العرش، وليس غنياً عما سواه ونحو ذلك- لا شك أن الله منزه عنه؛ ولذلك يتأولون الآية فيقولون: إن المخرج من هذا التفسير الظاهر أن يقال: إن (استوى) بمعنى: استولى. فيكون الجواب هنا: أن تفسير الآية بالمعنى الأول الذي سميتموه ظاهراً، وبالمعنى الثاني كلاهما غلط، وثمة معنى ثالث وهو المعنى الصحيح، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، أي: علا على عرشه علواً يليق بجلاله، وهذا المعنى لا يلزم فيه تلك اللوازم التي ادعوها لازمة للتفسير الأول.

    وقوله: (وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل):

    هذا هو الوجه الثاني من غلطهم، وهو أنهم ربما قالوا: إن ظاهر النص هو كذا وكذا، وهو ليس مراداً، ويكون تفسيرهم لظاهر النص تفسيراً صحيحاً, لكنهم ينازعون في نفيه، ولا ينازعون في أصل التفسير.

    فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، قالوا: إن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الله موصوف بهذه الصفة وهي الأصابع، وهذا ليس مراداً، وقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] قالوا: إن ظاهر ذلك أن الله خلق آدم بيديه، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله أخبر عن نفسه كذلك.

    إذاً: فهم ربما فسروا الآية بمعنىً حق، لكنه عندهم يكون باطلاً، فتكون منازعتهم في نفيه وليس في أصل التفسير، وهذا يختلف عن الوجه الأول، وهو أنهم يفسرون الظاهر بمعنى يُتفق معهم على أنه غلط، لكن ينازع في كونه هو ظاهر اللفظ.

    1.   

    أهمية اعتبار السياق في فهم النصوص

    قال المصنف رحمه الله: [فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني ...) ، وفي الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) ، وقوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق. فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق].

    إن من أسباب التوهم الذي عرض لهؤلاء، مع ما دخل عليهم من علم الكلام ومادته، إلا أن من أسباب التوهم الإشكالي الذي طرأ على هؤلاء: أنهم لم يفقهوا القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار السياق، وإنما يأخذون حرفاً أو كلمة ويبنون عليها، وهذا الأمر -وهو عدم فقه الشريعة وأصولها باعتبار السياق- إذا دخل على أحد في مسائل أصول الدين؛ خرج من السنة إلى البدعة، ومن فاته الفقه للسياق في باب الفقه وفروع الشريعة؛ خرج من الأقوال المحكمة إلى الأقوال المتشابهة الشاذة، مع أنه ربما يظن أن هذا هو عين المتمسك بصريح النص، أو بالحقائق الظاهرة.

    إذاً: فلابد من اعتبار السياق في فهم النصوص؛ لأن فقه الأئمة رحمهم الله -حتى في فروع الشريعة- هو فقه سياق، بمعنى: أنهم يعتبرون قواعد هذا الباب، وأصوله، وغير ذلك، ولذلك لا بد لطالب العلم المقتدي بهدي الأئمة وهدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يكون متبعاً لهذا الفقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فاعتبار السياق مهم جداً.

    ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم قسماً، فأعطى رجالاً ولم يعطِ رجلاً، فقال سعد : (يا رسول الله! أعطِ فلاناً فإنه مؤمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو مسلم، قال سعد: أقولها ثلاثاً ويكررها علي ثلاثاً: هو مسلم، ثم قال: إني لا أعطي الرجل ...) الحديث. وما جاء في حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ائتني بها، فجاءه بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة).

    وهنا سؤال: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسمي ذلك الرجل مؤمناً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن جارية معاوية بن الحكم : إنها مؤمنة، لما أجابته بأن الله في السماء وأنه رسول الله؟ والرجل في حديث سعد يعلم بالقطع أن سعداً ما زكاه وما مدحه إلا لكون ذلك من البدهيات؛ وذلك لأنه يقر بأن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، فالحقيقة التي مع الجارية يعلم أنها معه؛ بل إن معه أكثر من ذلك. ولكن الفرق هو من جهة اعتبار السياق.

    كذلك المنافقون، فإنه قد يقال: إن القرآن جعل المنافقين من جملة المسلمين، وقد يقال أيضاً: إن القرآن لم يجعل المنافقين من جملة المسلمين، أي: من جهة الاسم، وإلا فإن المنافق من حيث الباطن كافر.

    والقائل بأن المنافقين في القرآن ليسوا من جملة المسلمين قد يستدل على ذلك بقول الله تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56] والله تعالى يقول في موضع آخر من كتابه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ [الأحزاب:18] والمعوقون هنا هم المنافقون، ومع ذلك قال الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ [الأحزاب:18] وهناك في آية التوبة يقول: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [الأحزاب:18] ولذلك يقول ابن تيمية : "إن القرآن إذا ذكر المنافقين في سياق ربما أدخلهم في الإسلام، وإذا ذكرهم في سياقٍ آخر ربما أخرجهم منه، ويكون الاعتبار بحال السياق، وبحال فقه السياق".

    مثال آخر: مسألة التكفير، قد يقول قائل: إن فقه الحجة ليس لازماً, فإن الله تعالى كفّر الكفار وحكم عليهم بالنار، وقد قال الله عنهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ [الملك:10] وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] فحكم الله بكفرهم، وذرأهم لجهنم، مع أنه وصفهم بأنهم لا يفقهون.

    وقد يقول آخر: بل لا بد من فقه الحجة، ونحو ذلك من تسلسل المعاني، والدليل على ذلك أن الله لما كفر أصحاب فرعون قال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] وقال تعالى عن أهل الكتاب: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] مع أن الكلام في حقيقته ليس متناقضاً، بمعنى: أن القوم الذين قال الله فيهم: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] هؤلاء يدخل فيهم فرعون ومن معه الذين قال الله فيهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] فهل يثبت القرآن مرةً أنهم يعرفون، ومرة يثبت أنهم يجهلون، ومرة يثبت أنهم يعقلون، ومرةً يثبت أنهم لا يعقلون؟ الجواب: لا، ولكن هذا من تنوع مادة السياق.

    ولذلك فإن الخوارج عندما قرءوا قول الله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22] وقوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192] ظلوا لأمرين:

    أولاً: لأنهم لم يعتبروا سياق الآيات الأخرى، وهذا نقص فاتهم، فلم يقرءوا قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وغيرها من الآيات الدالة على أن الله تعالى يغفر الذنوب لمن يشاء.

    ثانياً: لأنهم لم يفقهوا سياق الآية، فلو قرءوا ما قبل الآية وما بعدها، وتأملوا في سياق الآية نفسها؛ لبان لهم أن هذا السياق في قومٍ كفار.

    إذاً: لا بد من اعتبار فقه السياق، سواء في أصول الدين، أو في فروعه، ولذلك يقال: إن من فاته فقه السياق، فإذا كان في باب أصول الدين؛ فإنه يخرج من السنة إلى البدعة، كما فعلت الخوارج، فإنهم لم يفقهوا سياق القرآن؛ بل أخذوا بعض الكلمات من القرآن وبنوا عليها، وهذا من الضلال التي ضل فيه أهل الكتاب، الذين قال الله فيهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] وربما كان هذا الكفر كفر جحود، وربما كان من باب التحريف، أو من باب الترك، أو من باب عدم الفقه، أو من غير ذلك.

    الكلام على حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض)

    قال المصنف رحمه الله: [أما الحديث الواحد، فقوله: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمنيه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال: (يمين الله في الأرض) ، وقال: (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه) ، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً وأنه محتاج إلى التأويل؟! مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس ].

    يبين المصنف أنه لسنا بحاجة إلى أن نقول: إن هذا من باب المجاز؛ بل إن من قرأ هذا الأثر، وقرأ سياقه كاملاً، لا يفقه منه أن الحجر الأسود هو يمين الله، أي: على الحقيقة، أنه صفة من صفاته القائمة بذاته، ولذلك قال ابن عباس : (فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله) ، فقد جاء السياق هنا من باب الكناية والتشبيه ونحو ذلك، وليس من باب الحقائق التي هي من باب الصفات التي تليق بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أن الحجر الأسود هو حجر مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، فيمتنع أن يكون صفة من صفات الباري القائمة بذاته؛ كيديه سبحانه وتعالى ونحو ذلك.

    والإضافة في قوله: (يمين الله)، هي من باب إضافة التشريف، ومن المعلوم أن المضافات إلى الله تعالى ليست بالضرورة من باب الصفات والأفعال، وهذا مثل قولنا: (رسول الله)، فليس معنى ذلك أن الرسول صفة من صفات الله، إنما سمي برسول الله، أو نبي الله لأن الله أرسله، وبيت الله إنما سمي بذلك لأن الله جعلها قياماً للناس، وهذا من باب إضافة الاختصاص والتشريف.

    الكلام على حديث: (عبدي جعت فلم تطعمني...)

    قال المصنف رحمه الله: [وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسراً: (يقول الله: عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده) ، وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده, فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسِّراً ذلك بأنك: (لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، لو عدته لوجدتني عنده) ، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل ].

    فقوله: (أما علمت أن عبدي فلاناً..) إلخ، هذا هو التفسير لقوله: (جعت فلم تطعمني)، وهذا معروف في كلام العرب، ولذلك فلا يقال: إن هذا النص يحتاج إلى تأويل؛ بل هو مفسر في نفس سياقه، فمن قال: إن الأئمة تأولوا حديث: (عبدي! جعت فلم تطعمني)، فيقال: إن هذا ليس من باب التأويل، فليس في كلام الأئمة أبداً استعمال للتأويل بمعنى التأويل الذي يستعمله المتكلمون، أما التأويل بمعنى التفسير للآية أو للحديث، كما يقول ابن جرير : "وتأويل قوله تعالى كذا"، فهذا لا إشكال فيه، لكن التأويل بمعنى التأويل الكلامي، فهذا لم يقع.

    إنما قد يظن البعض أن ظاهر النص شيء آخر، فزعم أن الخروج عنه من باب التأويل، والحق أن كلمات الله، وكلمات نبيه صلى الله عليه وسلم في الإخبار عنه سبحانه وتعالى، هي كلمات تقصد على معنى واحد، وقد سبق أن أشرت إلى أن ابن تيمية تكلم في المجاز من جهة كونه من عوارض المعاني، فقال: "لا يمكن أن يكون هناك خبر عن الله سبحانه وتعالى له معنى باطل، ومعنى صحيح، والأول يسمى حقيقة والثاني يسمى مجازاً..." إلخ، بل إن الآية لا تدل إلا على معنى واحد وهو المعنى الحق، وهذا هو ظاهر الآية وهو باطنها، وليس لها أكثر من ذلك.

    ولذلك إذا قرئ هذا الحديث على العامة من المسلمين قراءة تامة؛ بل لو قرئ على غير المسلم وقيل له: إن في حديث نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل هذا الحديث، فلن يستشكل السياق؛ لأن السياق هنا سياق اجتماعي كامل, لكن لو قرئ عليه قوله: ( عبدي؛ جعت فلم تطعمني )، وقطع الحديث عن سياقه، فهنا ربما يتبادر الإشكال إلى بعض الأذهان.

    الكلام على حديث: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما قوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه. ولا في قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرته ليديه. وإذا قيل: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة].

    فالبينية لا تستلزم المماسة، وإن أمكن ذلك في بعض السياقات من كلام العرب، فإن هذا ليس مطرداً لازماً؛ بل إن جمهور لغة العرب إذا ذكروا البينية وقالوا: إن هذا الشيء بين يدي الشيء، ونحو ذلك، فليس هذا من باب المماسة.

    فإذا جاز في سياق من كلام العرب، فلا يلزم أن يجوز في سائر السياقات، ولذلك فإن القرآن الكريم يفسر بكلام العرب، ويبنى تفسيره على كلام العرب، لكن لا بد من اعتبار السياق، فإن أهل اللسان العربي من أكثر الأمم تعدداً في السياقات، فكلماتهم يتعدد سياقها تعدداً كثيراً، ولكثرة هذه السياقات ظهر ما يسمى بنظرية الحقيقة ونظرية المجاز، مع أن الأمر لم يكن محتاجاً إلى مثل هذا التقسيم.

    فالمقصود: أن كلمة البينية لا تستلزم المماسة، ولذلك فإن الله تعالى يقول: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] ولم يلزم من ذلك أن يكون السحاب مماساً للأرض ولا مماساً للسماء، مع أن هذا كلام عربي معروف، وقد ذكره الله تعالى في كتابه.

    ومن رد تفسيره المخالف لإجماع الأئمة إلى لسان العرب، فإنه ينظر معه في مقامين:

    المقام الأول: التحقق من أن لسان العرب يجوز هذا المعنى على هذا اللفظ فرداً, فإذا ما وجد أن في لسان العرب تجويزاً لهذا المعنى على هذا اللفظ من حيث هو لفظ فرد، قيل: ينظر معه في المقام الثاني.

    المقام الثاني: التحقق من أن لسان العرب يجوز هذا المعنى فيما شاكل أو ماثل السياق القرآني الذي تأوله.

    وأحياناً ينقطع المتأول في المقام الأول، فمثلاً: قولهم: إن (استوى) بمعنى: استولى، إذا نظر في لسان العرب فإنهم لا يستعملون هذا المعنى حتى في مقام الإفراد، ولو فرض أنهم يستعملونه، قيل: لا بد من النظر في السياق، فإنه لو صح -كما زعموا- أن العرب نطقوا بهذا المعنى، كما في قول الأخطل :

    قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق

    فيقال: هذا سياق آخر، أما السياق الذي في القرآن فليس هو كذلك؛ لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالاستيلاء؛ لأن الاستيلاء يكون عن مغالبة، وعن انتزاع، وكأن أحداً نازعه أو غالبه في ملكه، أو ما إلى ذلك. وحتى إذا فسر الاستيلاء بالملك الذي ليس عن مغالبة، فإن ملكه سبحانه وتعالى ليس مختصاً بالعرش وحده؛ بل هو ملك السماوات والأرض ومن فيهن. وهذا يدل على أهمية اعتبار السياق.

    فرق بين قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) وبين قوله: (مما عملت أيدينا)

    قال المصنف رحمه الله: [ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فقيل: هو مثل قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس:71] ].

    فهنا ثلاثة سياقات: فقوله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة، وقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] هذا فيه إثبات صفة اليدين، ومعنى ذلك: أن الله خلق آدم بيديه على الحقيقة، على ما يليق بجلاله، من الفعل الذي لا نعلم كيفيته.

    وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس:71] أي: مما عملنا.

    وهذا التفسير ليس من باب التضاد؛ بل إنه من باب التنوع الذي جميعه لائق بالله تعالى، وقد فسرت هذه الآيات بهذه الأوجه من باب اعتبار السياق.

    قال رحمه الله: [فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] وهناك أضاف الفعل إليه فقال: (لما خلقت)، ثم قال: (بيدي)، وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] ].

    وهذا تفريق من المصنف من جهة السياق، فإن هذا سياق مضاف، وهذا سياق مفرد، وهذا سياق جمع.. وغير ذلك.

    قال رحمه الله: [وهذا في الجمع نظير قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] وبِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران:26] في المفرد، فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك].

    من المعلوم أن الله إذا ذكر نفسه فإما أن يكون بصيغة المفرد، وإما أن يكون بصيغة الجمع، أما صيغة التثنية فإن هذا لم يقع إلا فيما هو من صفاته سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ولم يقل: لما خلقت أيدينا، ونحوه.

    وقوله: (وربما تدل على معاني أسمائه):

    هذا من جهة أن صيغة الجمع إذا ذكرت دلت من جهة سياقها على جملة من معاني أسماء الرب سبحانه وتعالى، فقد سبق أن الاسم من أسماء الرب، أو الفعل من أفعاله سبحانه وتعالى يكون دالاً على جملة من المعاني، كالسميع؛ فإنه يدل على صفة السمع، ويدل على إثبات صفة العلم، ويدل على إثبات صفة البصر؛ لأن من اتصف بالسمع لزم أن يتصف بنظيره وهو البصر، ولزم أن يكون متصفاً بالحياة؛ لأنه لا يكون سميعاً إلا إذا كان حياً..وهلم جرا.

    فالاسم الواحد يقتضي إثبات جملة من كمالات الرب سبحانه وتعالى.

    قال رحمه الله: [فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت يدي، كان كقوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] وهو نظير قوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، و(بِيَدِكَ الْخَيْرُ)، ولو قال: خلقت بيدي، بصيغة الإفراد؛ لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) بصيغة التثنية].

    وهذا صريح في أن هذا فيه ذكر لصفة اليدين، ولهذا جاء بصيغة التثنية المضافة، ولا يوجد في كلام العرب أنهم يجوزون تأويل مثل هذا السياق على معنى النعمة أو القوة، أو غير ذلك.

    قال رحمه الله: [هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) ، وأمثال ذلك].

    أي أن هذا السياق في قوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ليس سياقاً واحداً في القرآن؛ بل له نظائر في كلام الله وكلام رسوله، وقد أجمع سلف الأمة على هذا المعنى، وعلى هذا الإثبات لصفة اليدين.

    وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

    1.   

    من يقول في بعض الصفات: الظاهر مراد أو ليس بمراد يلزمه ذلك في جميع الصفات

    قال المصنف رحمه الله: [وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير, واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد -كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا].

    ولذلك إذا قيل: هل الأصل أن يقال: إن ظاهر النصوص مراد أم ليس مراداً؟ قيل -مع القول بأن هذا الكلام دخله إجمال باستعمال بعض الطوائف له-: الأصل أن يقال: إن ظاهر النصوص مراد, وقد سبق أن أشير إلى أن كلمة (الظاهر) لم يأتِ ذكرها على هذا الوجه، وإنما جاء في القرآن مثل قول الله تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] أما المستعملون للظاهر وما يقابله فهم درجات: فمنهم من يستعمل الظاهر ويجعل المؤول مقابلاً له، وهذا هو استعمال جملة المتكلمين لكلمة الظاهر، أما الباطنية فإنهم يجعلون الباطن مقابلاً للظاهر.

    وقد وقع في كلام الإمام الشافعي أن قال في رسالته: "إن بعض الأدلة تدل على حكم ظاهر، فيكون الحكم المحصل منها حكماً ظاهراً، وبعض النصوص إذا قضت بحكم كان هذا الحكم ظاهراً وباطناً".

    وكلام الشافعي رحمه الله ليس هو من باب المشاكلة لكلام الباطنية وما إلى ذلك, إنما مقصود الشافعي : أنه إذا قيل عن حكم بأنه واجب، وأن دليله من القرآن كذا وكذا، كمسألة شرعية، فإذا كانت الدلالة قطعية صريحة فإنه يقال: إن هذا الحكم ظاهراً وباطناً.

    وقوله: (ظاهراً) أي: أن هذا هو نظرنا واجتهادنا، و(باطناً) أي: أننا نقطع ونعلم أن هذا الحكم هو في نفس الأمر عند الله تعالى، فمثلاً: قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] قال الشافعي : إن حج البيت الحرام واجب، وهذا هو الحكم المأخوذ من الآية ظاهراً، أي: بنظرنا في الآية، وهو باطناً، أي: أنه يعلم أن الحكم عند الله في نفس الأمر أن الحج واجب.

    لكن قول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] قد اختلف العلماء في المراد بالقرء، فمنهم من فسره بالطهر، ومنهم من فسره بالحيض، فيقال: إن هذا الحكم حكم ظاهر؛ لأنه اجتهاد المجتهد، ولكن لا يقطع بأنه الباطن، أي: الحكم في نفس الأمر. فهذا هو مقصود الشافعي : أن دلالة الآيات والأحاديث تكون على وجهين: فإما أن يقال: إن الحكم ظاهر باطن، وإما أن يقال: إن الحكم ظاهر، ولا يجزم بأنه باطن، وليس هذا من باب مشاكلة الباطنية في كلامهم.

    قال رحمه الله: [وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالمٌ حقيقة، قادرٌ حقيقة، لم يكن مرادهم أنه يكون مثل المخلوق الحي الذي هو حي عليم قدير، فكذلك إذا قالوا في قوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] إنه على ظاهره، لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضاً كرضاه].

    وهذا يرجع إلى أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر؛ بمعنى: أن من طرأت له شبهة في صفة من الصفات، فإنه يرد ذلك إلى صفات أخرى محكمة لم تدخل عليها شبهة، أي: محكمة عنده، لم تدخل عليه فيها شبهة، فمن كانت عنده شبهة في صفة النزول، رد ذلك إلى صفة العلم، وصفة العلو، وغيرها من الصفات، فإذا ما بان له أن هذا الباب محكم، وسلم بإحكامه؛ قيل: إن باب الصفات باب واحد.

    قال رحمه الله: [فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي].

    هذا نتيجة البحث السابق: أن ظاهر النصوص مراد أم ليس مراداً، فيقال: الأصل أن يقال: إن ظاهر النصوص مراد، لكن هذه الجملة لما استعملها من استعملها على معنى من الاشتراك المجمل، وضمنوها بعض المعاني الباطلة، احتيج إلى الاستفصال في بعض مقامات ذكرها.

    قال رحمه الله: [وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً].

    أي: أنه لا يجوز في العقل ولا في السمع أن يختص السمع أو العقل بنفي صفة معينة دون غيرها؛ بل إذا فرض أن السمع يدل على النفي؛ لزم أن يدل على نفي سائر الصفات، وإذا فرض جدلاً أن العقل يدل على النفي؛ لزم أن يكون دالاً على نفي سائر الصفات، ومعلوم أنه يمتنع أن يكون العقل -فضلاً عن السمع- دالاً على نفي سائر الصفات، فإذا علم هذا الامتناع؛ علم امتناع التأويل لصفة من الصفات؛ لأن الشرع جاء بإثبات الصفات، فإذا علم امتناع اطراد النفي لصفات الله في الشرع وفي العقل؛ علم من هذا الامتناع امتناع النفي لصفة واحدة، فإن القول في سائر الصفات كالقول في آحادها.

    1.   

    صفات المخلوقين أعيان وأعراض

    قال المصنف رحمه الله: [وبيان هذا: أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام, وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد, ومنها ما هي معانٍ وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة].

    بين المصنف أن من كان موجب النفي عنده لصفة الوجه واليدين أنها أبعاض لنا، فيقال له: ليس النقص فيها أنها أبعاض لنا؛ بل وجه النقص هنا أنها صفات لنا على تقديرك، فيلزمه أن ينفي صفة العلم؛ لأن صفة العلم قائمة للمخلوقين.

    فمن كان وجه النفي عنده أن هذه الصفات جائزة للمخلوق، فيقال له: إن الذي جاز للمخلوق ليس فقط صفة اليدين؛ بل مما جاز للمخلوق: صفة العلم، والسمع، والبصر، وما إلى ذلك، فإذا جاز له نفي صفة اليدين؛ جاز له نفي صفة العلم، ومعلوم أن هذا لا يتناهى إلا بتعطيل سائر الصفات، وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل.

    1.   

    امتناع كون صفات الخالق كصفات المخلوق

    قال المصنف رحمه الله: [ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا؛ بل صفة الموصوف تناسبه].

    لأنها مضافة إليه، ولذلك -ولله المثل الأعلى- كما يمتنع أن تفسر صفة مخلوق بصفة مخلوق آخر، بعد إضافتها إلى المخلوق الأول، كذلك يمتنع من باب أولى أن تفسر صفة من صفات الباري بما هو من حقائق وكيفيات صفات مخلوقاته، ثم يذهب إلى نفيها، فإن النفي هنا لا شك أنه نفي صحيح، لكن الإشكال هو في أصل التفسير، أي: أنهم لم يفهموا من صفاته إلا ما كان مشابهاً لصفات المخلوقات، ولذلك قال أهل العلم: (كل معطل ممثل)؛ وذلك لأنه لم يذهب إلى التعطيل إلا لأنه لم يكن في عقله وإدراكه عن الصفة إلا حقائق من حقائق التشبيه والتمثيل، ولذلك نفاها، وإلا فلو تحقق عنده الكمال اللائق بالله سبحانه وتعالى، ولم يدخل عليه مادة من التشبيه؛ لما انقاد عقله إلى مقام التعطيل.

    صفة كل موصوف تكون مناسبة له

    قال المصنف رحمه الله: [فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه].

    وهذا من مدارك العقل الأول: أن صفة كل موصوف تكون مناسبة له، ولهذا لم يقع لعاقل أن يفسر صفة من صفات المخلوقين بصفات الله؛ بل ولا بصفة مخلوق آخر، فإذا علم ذلك فإن ما وصف الله به نفسه من الصفات لا بد أن يكون لائقاً به.

    وأما أن يكون موجب الرد لظواهر القرآن والسنة هو أنه قد يفهم منها هذا الفهم الغلط، فإنه يقال: إن هذا الفهم لو كان ممكناً لمدارك العقول؛ لسبق إلى عقول قوم لا يؤمنون بأن محمداً رسول الله، فإن العرب في جاهليتهم لما سمعوا القرآن، لم يعترضوا أبداً ويقولوا: إن هذا السياق في صفات الله في اليدين أو في غيرها يفهم منه في لساننا أن الله موصوف بكذا وكذا، ولا سيما أن الجاهليين كانوا يؤمنون برب، ومفهوم الربوبية عندهم من حيث الأصل مفهوم كمال، وهو أن الله هو الخالق للسماوات والأرض، وأنه هو الرب.. ونحو ذلك، فلو كان يفهم من سياق آيات الصفات أنها من باب النقص، وأن لسان العرب يقتضي هذا التفسير، كما زعم الزاعمون من أئمة التعطيل؛ لفهم ذلك العرب الجاهليون، ولاعترضوا على القرآن بذلك، ولكنهم قالوا في اعتراضهم عليه: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] فلماذا لم يفهموا من آيات الصفات ما هو من التشبيه، فيكون من طعنهم على القرآن، ومن طعنهم على صاحب النبوة: أن صاحب النبوة قد جاء بتشبيه الخالق وإسقاط مقام الربوبية؟!

    إذاً: فعدم اعتراض العرب على آيات الصفات يعد دليلاً على أن هذه السياقات في كلامهم العربي لا تقتضي التشبيه، ويدل على أن هذه السياقات في عقولهم لا تقتضي نقصاً وتعطيلاً, ولذلك إذا قال قائل: إن النصوص بحاجة إلى التأويل، قيل: لو كانت بحاجة إلى التأويل للزم أن يعترض العرب على ظاهره.

    وقد يجيب المعتزلة على هذا الكلام فيقولون: إن العرب سكتوا ولم يطعنوا على القرآن بهذا لأنهم يعرفون بأن لها تأويلاً، ونقول: من هو الذي يسكت لأنه يعرف أن لها تأويلاً لو جاز هذا الكلام؟ ذلك هو المؤمن، أما الذي يريد أن يطعن على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكفيه في الطعن أن يقول: إن ظاهر هذا الكلام النقص.

    والعرب قد قالوا كلاماً هم يعرفون غلطه، فقالوا عن النبي: إنه مجنون, وساحر، وكاهن، وغير ذلك، وهذا يدل على أن الحجج قد تناهت عندهم، حتى استعملوا كلاماً هم يفهمون غلطه، وحتى نساؤهم وصبيانهم يعرفون أن هذا الرجل ليس مجنوناً، فهل يعقل أنهم وصلوا إلى هذا الحد من الانغلاق في الحجج مع أنه كان يمكنهم أن يقولوا: إن القرآن قد نطق بظواهر لا تليق برب العالمين؟!

    لو كان هذا متبادراً أو ممكناً في عقولهم أو في لسانهم، لكان أقوى بكثير من الحجج التي يستعملها هؤلاء في الاعتراض على القرآن.

    أما قولهم: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] ، إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] فإن هذا من باب التحكم، فلما لم يجدوا دليلاً على أن محمداً مجنون قالوا هذا الكلام.

    ومن الأدلة على إثبات الصفات أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن، وكان يحدث ويخبر عن ربه عز وجل، وما نقل أن أحداً لا من المسلمين ولا من الذي وفدوا من المشركين الذي أسلموا أو لم يسلموا -لم ينقل أن أحداً سمع هذا القرآن أو هذا الحديث فاستشكل صفة واحدة، مما يدل على أن المعاني معروفة ومستقرة.

    وهذا الذي ذكر في كلام العرب الجاهلين، كما أنه يبطل التأويل، فهو أيضاً يبطل التفويض؛ لأنه لو كان الحق في تفويضها، لكان من اعتراض العرب: أنك يا محمد تأتي بكلام أو ينزل عليك كلام تقول: إنه كلام الله، وهو كلام غير معقول الحقائق، فهذا من الأمور البدهية: أن العرب في جاهليتهم كانوا يقرون بجملة الصفات، وإن كان تفصيلها لا يتلقى إلا عن صاحب الكتاب عليه الصلاة والسلام.

    قال رحمه الله: [كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) ، فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي].

    قوله: (فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي):

    فإن الله منزه عن مشابهة خلقه، ولذلك قال بعض المخالفين: إن هذا من نصوص التشبيه، فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث به لم يستشكل أحد من أصحابه أو يتبادر إلى فهمه ما هو من التشبيه، إنما شبه عليه الصلاة والسلام الرؤية بالرؤية، وليس هذا من باب التشبيه الذي هو تشبيه المرئي بالمرئي.

    وهذا التشابه ليس من باب المطابقة التامة، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كخلقه، لكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين أنهم يرون ربهم حقيقة كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755793554