أيها الإخوة: سنتحدث في هذه الليلة إن شاء الله عن عبادة عظيمة من العبادات، وموضوعٍ مهمٍ من المهمات وهو: حلق العلم، وشيء من فضلها وآدابها وشروطها، ونظرة نقدية لواقع حلق العلم التي يجلس فيها بعض الشباب، بل وبعض النساء أيضاً لنتعرف على شيءٍ من الآداب، وفي ذات الوقت الآفات التي تحيط بهذه القضية.
أما بالنسبة للعلم، فإن طلب العلم من أجل العبادات وأفضل القربات، وهو حياة القلوب ونور الأبصار، به يطاع الله عز وجل ويعبد، وبه يحمد الرب ويوحد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام، فتعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل في الظلمة، والسنان على الأعداء، وأهل العلم في المنارات العالية، قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ المجادلة:11] وفضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدناكم كما خاطب بذلك أصحابه، ولم يأمر الله نبيه أن يطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].
وهو دليلٌ على توفيق الله للعبد، قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفي حكمه جاء حديثه عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ونافلة العلم أفضل من نافلة العبادة، كما ورد في الحديث الصحيح ()فضل العلم أحب إلي من فضل العباد) والملائكة ترضى عن طالبه بقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىاً بما يصنع) وكل وسيلة مشروعة لتحصيله فهي طريقٌ مؤدية إلى الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وحلق العلم من أعظم الوسائل الموصلة إلى العلم، ولذلك فإن هذا السبيل وهو حلق العلم من أعظم السبل المؤدية إلى الجنة.
ولذلك كان حرياً بنا أن نتفطن لهذه القضية؛ وهي الاهتمام بحلق العلم، لأنها السبيل العظيم الموصل إلى الجنة، وقد وردت أحاديث في فضل حلق العلم عظيمة، منها ما هو مقيدٌ بالمسجد، ومنها ما هو مطلق، فمن الأشياء المقيدة بالمسجد حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) وفي إتيان المساجد لتعلم القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يغدو كل يومٍ إلى بطحان أو إلى العقيق ، فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثمٍ ولا قطيعة رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين كوماوين، وثلاث خيرٌ له من ثلاث، وأربع خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) حديثٌ صحيح رواه الإمام أحمد وغيره، وهذا دليلٌ عظيمٌ على استحباب إتيان المساجد لحلق الذكر، أما غير المساجد، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده).
أما بالنسبة لذكر الله الوارد بالحديث، فقد قال ابن حجر رحمه الله: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما يدخل، قال: قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل في مسمى ذكر الله عز وجل، وإن كان ذكر الله بالمعاني الأخرى أيضاً أقرب إلى مسمى ذكر الله من مدارسة أو ذكر الأسانيد ونحو ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه سهل بن الحنظلية : (ما اجتمع قومٌ على ذكرٍ فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) وذكره الألباني رحمه الله في صحيح الجامع .
والصحابة جلسوا يذكرون الله ويحمدونه على ما هداهم للإسلام ومنَّ به عليهم، فإذاً.. تذكر الأشياء وتذكر نعمة الله تعالى، وتحديث البعض للبعض الآخر بنعمة الهداية مثلاً، يعتبر من مجالس الذكر، ولو لم يقرءوا فيه إسناداً ولا متناً، فلا يقتصر مفهومنا لحلق الذكر على قراءة المتون فقط، فالمسألة أعظم من ذلك.
لو جلس جماعة يتواصون بالصبر، يتكلمون في مسألة الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبل إعزاز الدين، ويناقشون كيفيات إعزاز الدين , والسبل الموصلة إلى تبليغ الدعوة، وكيف يحققون ذلك، لكان هذا من حلق الذكر.
ولو جلس جماعة حتى لو لم يكونوا من أهل العلم ولا من حفاظ العلم، جلسوا يذكرون نعم الله عليهم، وهذا قد يتكلم فيه بعض العامة كلاماً جميلاً، يذكر نعم الله عليه، ويقارن حال المهتدين بحال الزائغين، ويبين فضل الله عز وجل على المهتدين، فهذه حلقة ذكر فيها أجرٌ عظيم.
إذاً.. نحن نستطيع أن نحول كثيراً من مجالسنا، سواء كانت مجالس عائلية، مجالس كلام في العمل أحياناً، مجالس مع الأصدقاء ما قبل العشاء، ما بعد الغداء، في وليمة؛ يمكن أن نحولها إلى حلقة ذكر ونخرج منها بأجرٌ عظيم، فذكر الله كلمة عامة يدخل فيها مسائل العلم والحديث والتفسير والفقه والعقيدة، ويدخل فيها كل شيءٍ فيه ذكر فضل الله، ونعم الله، وهداية الله تعالى، وكذلك الدعوة إلى الله مثلاً.
إذاً.. مجالس العلم مفهومها كبير وواسع، وينبغي أن يحقق، وإن كانت الكتب التي تتحدث عن حلق العلم تقتصر على ما يفهم منه قضية المتون والأحاديث، والإملاء والأسانيد، وغير ذلك، لكن المسألة أوسع من هذا بكثير، والصحابة كان حالهم أن يذكرون منة الله تعالى عليهم.
كان السلف رحمهم الله عز وجل يهتمون بقضية الشيخ، ويتوسمون الخير في المشايخ، ويحرصون على حضور من يظهر لهم الخير فيه، فهذا أبو إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مجلس حمص فجلست في حلقة فيها اثنان وثلاثون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الرجل منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، ثم يقول الآخر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، وفيهم رجلٌ أدعج براق الثنايا، فإذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه، ورضوا بما قال، فلم أجلس قبله ولا بعده مجلساً مثله، فتفرق القوم وما أعرف اسم رجلٍ منهم، فبت بليلة لم أبت بمثلها، وقلت: أنا رجلٌ أطلب العلم، وجلست إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعرف اسم رجلٍ منهم ولا منزله، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد، فإذا أنا بالرجل الذي كانوا إذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه يركع إلى بعض إسطوانات المسجد- يصلي- فجلست إلى جانبه، فلما انصرف قلت: يا عبد الله! والله إني لأحبك لله، فأخذ بحبوتي حتى أدناني منه، ثم قال: إنك لتحبني لله؟ قلت: إي والله إني لأحبك لله؛ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المتحابين بجلال الله في ظل الله وظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) فقمت من عنده... الحديث، أو بقية القصة.
وقد حصل أيضاً في رواية أخرى من كلامه رحمه الله أنه سمع رجلاً من الصحابة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حقت محبتي للذين يتحابون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتباذلون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتزاورون فيّ) قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت ، قلت: من الرجل؟ قال: معاذ بن جبل ، ومعاذ بن جبل الذي أعجب ذلك الرجل هيأته وسمته رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي كان مرجعهم، وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأعلمهم بالفقه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يتقدم العلماء يوم القيامة برمية حجر، رأى أبو إدريس من سمته وهيأته ما حببه فيه وجلس إليه، ويمكن معرفة العالم الثقة أو المعلم الثقة، أو طالب العلم الثقة من خلال السؤال والتفرس، وكانوا يبحثون عن الحلق التي يظهر حسن السمت في طلابها، وهذه كانت ميزة من ميزات العلم والذكر في عهد السلف ؛ فكان الإنسان يميز من الجالسين حالاً عجيبةً، يقول عبد الله بن محمد بن عبيد في مسعر بن كدام وهو من كبار علماء السلف:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام |
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام |
فتتميز حلقهم بالعفة، والمجلس نفسه فيه سكينة ووقار، ليس مجلس لغط ولا هرج ومرج، لكن مجلس خشوع وسكينة، ويقول أبو حازم رحمه الله وهو من جلساء زيد بن أسلم في حلقته، يقول: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حضراً فقهاء، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، فما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما قط، إذاً كان الجالسون في الحلق من الذين يتخلقون بالأخلاق الحسنة، وليسوا حفاظاً فقط، وعندهم نبوغ في الفهم، فكانت قضية الأخلاق والآداب مهمة، يقول: أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، أي: يواسي بعضنا بعضاً، فالذي عنده سعة يعطي الذي ضاقت حاله، هذه أقل خصلة فما بالك بما هو أعظم؟ وفي نفس الوقت لا يوجد مراء في المجلس، لا يوجد نقاشات فارغة، ما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما، ولذلك حصلت الاستفادة والبركة، لكن لما يجلس بعض الناس في حلق، ويكون همهم الجدال والنقاش حتى لو لم يكن مفيداً، وأن يظهر كل واحد صحة رأيه وفساد رأي الآخر ونحو ذلك من الكلام، وينتصر كل إنسان لنفسه، ويريد إبراز مواهبه في النقاش، عندما تكون الأغراض مشبوهة، والنوايا مشوبة بمثل هذه الترهات لا تحصل البركة في المجلس ولا الفائدة، ولذلك قال: ما رئي منا متماريان ولا متنازعان، فكانوا يسمعون العلم، فيستفيدون، لا يوجد مراء، ولا شيء يضيع الأوقات.
قال: كنت في حلقة من الأنصار، وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري، وقارئٌ لنا يقرأ علينا، فنحن نسمع إلى كتاب الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أرادوا سماع القرآن، أمروا أحدهم أن يقرأ والبقية يستمعون، إذاً حلقة الذكر ليست صعبة، بل هي قضية سهلة جداً، والمسألة لا تحتاج أكثر من همة جلوس، وسماع لواحد من الناس الذين يجلسون ويقرءون القرآن، ويحصل بذلك الأجر العظيم، ولا يشترط أن يكون فيهم طالب علم أو عالم.
فإذا عرفنا أن المسألة سهلة، فلماذا لا نطبقها؟ هب أن بعضنا من الجالسين ليس عنده علم، ولا هو صاحب علم، ولا درس على مشايخ، ولا حفظ متوناً، ولا مسائل فقهية، ولا درس مذهباً فقهياً، جمع أهل بيته، فقرأ أو قرأت زوجته، أو قرأ أحد أولاده القرآن؛ فهذه حلقة ذكر، ونحن نريد إحياء هذا الأمر في البيوت والمجالس والمساجد وجميع المحلات، من مصلحتنا إحياء ذلك خاصة في زمن الجهل الذي نعيش فيه، عندك ربع ساعة في مصلى العمل، بنات عندهن وقت في مصلى الكلية، طلاب عندهم وقت في مصلى الجامعة، المسألة سهلة جداً، إنشاء حلقة ذكر سهلة جداً، وهذه قضية لها أثر كبير على النفوس، وهذا نوعٌ من التربية الإيمانية، وباب عظيم من أبواب الأجر ينبغي أن لا يفوت أبداً، لقد كان عند السلف خشوعٌ في حلقهم، ولم تكن مجالس مراء وكلام يقسي القلوب.
إذاً.. يلزم وجود سكينة في المجلس الذي يقرأ فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعندما يقول الله تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] فإننا ونحن بعده ولم ندركه حياً عليه الصلاة والسلام نستطيع أن نطبق ذلك؛ بحيث نسمع حديثه يقرأ في مجلسٍ بدون أن يكون منا رفع صوت، فإذا لم يكن بين أظهرنا حياً بجسده فلنحترمه في عدم رفع صوتنا فوق صوته، فلا أقل من أن نسكت وننصت عندما يقرأ حديثه.
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا |
فهذه أنفاسه التي بلغت إلينا، وحديثه ينبغي أن يسمع باحترام وتوقيرٍ وإجلال، لقد كانت الحلق تزيد الإيمان، ويحصل فيها من الخشوع ما يحصل، ويكون ذلك أحياناً بكلمة يسيرة، ولا يشترط أن تكون موعظة طويلة، يقول محمد بن واسع : كنت في حلقة فيها الحسن ومطرف وفلان وفلان، فتكلم سعيد بن أبي الحسن ، حتى إذا قضى كلامه دعا، فقال في دعائه: اللهم ارض عنا.. ثلاثاً، فقال مطرف : اللهم إن لم ترض عنا، فاعف عنا، قال: فأبكاهم مطرف بهذه الكلمة.
وتفقد الطلاب في الحلقة أمرٌ مهم، فقد روى قرة بن إياس رضي الله عنه أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنٌ له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحبه؟ قال: نعم يا رسول الله! ففقده النبي صلى الله عليه وسلم زمناً؛ لا يأتي للدرس والحلقة، فقال: ما فعل فلان ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله! ابنه ذاك الذي رأيته معه مات، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فعزاه، ثم قال: ألا تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك أو أن يكون عندك حياً، قال: لا بل لا آتي إلى باب من أبواب الجنة إلا وأجده، قد سبقني يفتحه لي، قال: فذلك لك، قالوا يا رسول الله: أله خاصة؟ قال: بل لكلكم...) الحديث رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وكذلك النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز.
وكان من عادتهم الإنفاق على الطلاب المحتاجين، وخصوصاً من طلاب الدرس، قال أبو يوسف رحمه الله: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلٌ رث المنزل، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة ، فانصرفت معه، فقال: يا بني أنت محتاجٌ إلى المعاش، يعني: اعمل، فذهب ليعمل، قال: ففقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما أتيته بعد تأخيري عنه، قال: ما خلفك؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فلما أردت الانصراف أومأ إلي، فجلست، فلما قام الناس دفع إلي صرةً، وقال: استعن بهذه والزم الحلقة، وإذا فقدت هذه فأعلمني، فإذا فيها مائة درهم، فجلست مجلسه حتى بلغت حاجتي وفتح الله لي، فكان ما حصل من علم أبي يوسف رحمه الله تعالى.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي الدرداء : وقيل الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، يعني: ألف رجل، لكن كانوا مجموعات عشرة عشرة، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائماً، فإذا أحكم الرجل منهم -ضبط التلاوة وقرأ القرآن على هذا الملقن وحفظ- تحول إلى أبي الدرداء يعرض عليه، فإذاً.. هذا الشيخ الكبير بعدما ينتهي الطلاب من الدورات؛ من ينتهي منهم يأتي الشيخ الكبير، فيعرض عليه ما تعلمه.
وقال الذهبي أيضاً في السير عن مكحول كانت حلقةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدرسون جميعاً، فإذا بلغوا سجدة بعثوا إلى أبي إدريس الخولاني فيقرأها ثم يسجد، فيسجد أهل المدارس، وقال يزيد بن عبيدة : إنه رأى أبا إدريس في زمن عبد الملك بن مروان وإن حلق المسجد بـدمشق يقرءون القرآن يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالسٌ إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة، بعثوا إليه يقرأ بها وأنصتوا له، ثم سجد بهم جميعاً.
من الآداب التي كانت موجودة في حلق السلف أن الصغار وأحداث السن لا يتكلمون قبل الكبار، فلا يوجد استعجال، ولا تعالم ولا تسرع ولا قلة أدب: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) يقول واحدٌ منهم: كان إذا تكلم الحدث عندنا في الحلقة أيسنا من خيره، أي: عرفنا أنه لا خير فيه، إذ كيف يتكلم بحضرة الكبار والعلماء والشيوخ ومن سبقه؟ فإذاً يوجد أدب جم.
وكان الطلاب يؤمرون بالإخلاص؛ وعظ الحسن يوماً في مجلسه، فتنفس رجل، فقال الحسن : إن كان لله شهرت نفسك، وإن كان لغير الله فقد هلكت، وقال عبد الكريم بن رشيد : كنت في حلقة الحسن ، فجعل رجلٌ يبكي وارتفع صوته، فقال الحسن : إن الشيطان ليبكي هذا الآن، يعني: إذا خشعت وحضرك البكاء فاكتم بكاءك، ولا تجعله ظاهراً يلتفت إليك الناس بهذا الصوت المرتفع.
وكان من سماتهم وعظ أصحاب الحلقة، فعن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالساً بعد الصبح في حلقة، فقال: أنشدُ الله قاطع رحمٍ لما قام عنا فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة دون قاطع الرحم، فهو إذاً يعظ الجلوس يقول: من كان قاطع رحم فلا يجلس معنا، لأننا نريد دعاءً مستجاباً، والدعاء لا يجاب بقاطع الرحم، ومرتجة أي: مغلقة، وقد جاء ذلك أيضاً أو مثله عن أبي هريرة أنه قال: أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا، فلم يقم أحدٌ إلا شابٌ من أقصى الحلقة، فذهب إلى عمته لأنه كان قد صارمها منذ سنين فصالحها، فقالت له عمته: ما جاء بك يا ابن أخي؟ -ما هذا المجيء الغريب؟- قال: إني جلست إلى أبي هريرة ، فقال: أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا، فقالت له عمته: ارجع إلى أبي هريرة واسأله لِمَ ذلك؟ فرجع فأخبره، فأخبره أبو هريرة بمثل ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
فقد كان في مجالس العلم مواعظ، كان فيها تذكير، الطلاب بالواجبات الشرعية، وليس مجرد حشو معلومات، لقد تغيرت الأمور كثيراً عما كان عليه الأمر في عهد السلف ، فقد كان هناك تربية على الإخلاص، وتذكير بالواجبات، وتواصٍ بالحق، وصارت أجود الحلق اليوم ما فيه كثرة معلومات، والباقي فيه كثير من الهدر وضياع الوقت، وليست القضية -يا إخوان!- معلومات فقط، بل ينبغي أن يكون في هذه الحلق إيمانيات، ومواعظ، وذكر لله، وتواص، وتذكير، فهذه قضايا مهمة جداً ينبغي أن تكون في الحلقة، ولا يصلح أن تكون حلقاً جافة ليس فيها إلا عبارات تحتاج إلى تفكيك فقط.
إن المسألة التي تبتني عليها الأعمال وتصلح الأحوال، أن يكون ذلك مقترناً أيضاً بذكر الله والوعظ.
وكان كلام المشايخ من إخلاصهم لا يتأثر بمجيء فلانٍ من الناس كائناً من كان، وكانت أسرار الحلقة تحفظ، وإذا خولف ذلك حصل التذكير والتنبيه، وهذه قصة فيها عبرة، يقول سعيد بن أبي مروان : كنت جالساً إلى جنب الحسن ، إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس، فدخل المسجد على برذونه، فجعل يلتفت في المسجد، فلم ير حلقة أحفل من حلقة الحسن ، فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها، ثم ثنى وركه، فنزل ومشى نحو الحسن ، فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه، قال سعيد : وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي، حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج ، فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه، والحسن يتكلم بكلامٍ له يتكلم به في كل يوم، فما قطع الحسن كلامه، قال سعيد : فقلت في نفسي: لأبلون الحسن اليوم ولأنظرنه؛ هل يحمل الحسنَ جلوسُ الحجاج إليه أن يزيد في كلامه ويتقرب إليه، أو يحمل الحسنَ هيبةُ الحجاج أن ينقص من كلامه؟ فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به كل يوم، حتى انتهى إلى آخر كلامه، فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترثٍ به، رفع الحجاج يده فضرب على منكب الحسن ، ثم قال: صدق الشيخ وبر، فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة، هذا عبد الله بن أبي بعد صلاة الجمعة كان يقوم ويذكر الناس؛ فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة، ولولا ما حملناه من أمر الناس والمسئوليات العظام ما غلبتمونا على هذه المجالس، ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته، فلما فرغ طفق فقام، فجاء رجلٌ من أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام الحجاج ، فقال: عباد الله المسلمين، ألا تعجبون أني رجلٌ شيخٌ كبيرٌ وأغزو، فأكلف فرساً وبغلاً وفسطاطاً، وأن لي ثلاثمائة درهم من العطاء، ولي سبع بناتٍ من العيال، فشكا من حاله حتى رق الحسن له، ولما فرغ الرجل رفع الحسن رأسه، فقال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، وقتلوا الناس على الدينار والدرهم، فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة، وإذاً أغزا أخاه أغزاه طاوياً راجلاً، فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده، فقام رجلٌ من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن ، فسعى به إلى الحجاج -وشاية- فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج ، فقالوا: أجب الأمير، فقام الحسن ، وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به، فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم -وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك، إنما كان يتبسم- فأقبل في مجلسه، فعظم الأمانة، وقال: إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار، ثم قال الحسن : إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك من لسانك.. أتحرض علينا الناس قال: فدفعه الله عني.
وكان من هدي السلف إفساد حلق المبتدعة والكذابين، ومن ضمن القصص الطريفة؛ قصة حدثت للأعمش رحمه الله؛ دخل الأعمش جامع البصرة ، فرأى قاصاً يقص، وكان القصاص يكذبون لأجل تخويف الناس، ويفترون الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختلقونها على الرواة، وما سمعوها منهم، فدخل الأعمش جامع البصرة ، فرأى قاصاً يقص، ويقول حدثنا الأعمش ، وهذا القاص لا يدري من هو الأعمش ، وأنه الجالس في الحلقة يقول: حدثنا الأعمش ، فقام الأعمش فمشى إلى وسط الحلقة وجلس، وجعل ينتف شعر إبطه، فقال القاص: يا شيخ ألا تستحي، فقال: لم؟ أنا في سنة وأنت في كذب؛ أنا الأعمش وما حدثتك.
وكذلك كان شأنهم في طرد الضالين والمفسدين من الحلقة تعزيراً وفضحاً ودرءاً لفتنتهم، فقال الذهبي رحمه الله في السير : واصل بن عطاء البليغ الأفوه، وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال (مذهب المعتزلة ) طرده الحسن من مجلسه لما قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن ، فسموا بـالمعتزلة ، إذاً.. الحسن طرد واصل بن عطاء لأنه مفسد، فأي واحد مفسد أو مبتدع في الحلقة يطرد، تعزيراً وتوبيخاً وردعاً لأمثاله، وتحذيراً للآخرين من شره، وإيقافاً لفساده، فلا بد أن يتعامل معه بالحزم.
وإذا عين لهم يوماً ووعدهم فيه، فلا ينبغي إخلاف موعده إلا بأمرٍ يعذر فيه من مرضٍ ونحوه، وكذلك كانوا يفضلون عقد المجالس في المساجد، لكن لو لم يحصل عقدوها في البيوت، وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مجلساً في بيتٍ، وقال: موعدكن بيت فلانة
لكل أناسٍ نحو سوقٍ مقاصـد وسوق ذوي تقوى القلوب مساجدُ |
مثابة ذكراهم عشياً وبكــرة وللعابديـن الـله فيهـا معـابـدُ |
فطوبى لهم يوم الجزاء إذا جزوا ونـودوا بأن طبتم وطـاب المُواعدُ |
ويجعل اتجاهه إلى القبلة ما أمكن، لكن شكل المجلس يأخذ الحلقة المستديرة، ولذلك فإن أصحاب كتب اللغة قد قالوا في تعريف الحلقة: القوم مجتمعون مستديرون، وكذلك إذا مس شيئاً فيه ذكر الله، فإنه يكون على طهارة، وكان بعض المحدثين يستفتح بسورة من القرآن، ويرفع صوته -أي: الشيخ- ليسمع الناس، ولا يرفع أكثر مما يسمع الحاضرين، لأنه قد يشوش على أناس آخرين في المسجد يقرءون القرآن مثلاً، فصوته لأهل الحلقة فقط، ولا بأس أن يجلس على مكانٍ مرتفعٍ إذا كثر الناس، ويفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا ينسى الشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويترحم على شيخه ويدعو له.
وكذلك كانوا يبدءون أول شيء بالسند في الحديث باسم الشيخ، وإذا مر بذكر الصحابي قال: (رضي الله عنه) ثم يمر بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يروي ما لا تحتمله عقول العوام، وينتقي للحاضرين ما يفيدهم، من معرفة الأحكام الشرعية، والعبادات والمعاملات، وحق الله تعالى ونحو ذلك، ويفسر الألفاظ الغريبة الغامضة إذا مر بها، وما لا يعرفه يسكت عنه، وكذلك فإنه لا يُمل الحاضرين ولا يضجرهم، ولا بأس بأن يختم المجلس بالحكايات الطريفة والنوادر إذا لاحظ شيئاً من الملل، حتى أن بعضهم كان يقول: الحكايات حبوبٌ تصطاد بها القلوب، كما يصاد الطير برمي الحب له.
ولا بأس أن يجعل شيئاً من الأشعارِ في المجلس، وقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يجعل ذلك في مجلسه، وفيها فوائد وبالذات إذا كانت من أشعار العرب؛ لأن معاني الكلمات في القرآن والسنة على لسان العرب، فتعرف الكلمة من معناها في سياق بيت من الشعر قاله العرب الأوائل ونحو ذلك.
ولا ينسى كفارة المجلس إذا قام من المجلس، وهذا من الأشياء التي يفرط فيها الكثيرون.
كان هناك أدبٌ في الدخول من جهة الشيخ، ومن جهة التلاميذ تقدمت آداب ومن ذلك أنه يقدم الأكبر عند الدخول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالكبير، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: تقديم الأكابر في الدخول، فإذا اجتمع مجموعة عند الباب يقدم الأكبر سناً، وقال مرةً واحد منهم للكبير: تقدم، فقال: تقدم أنت فإنك أفقهنا وأعلمنا وأفضلنا، فإذا كان الأفقه والأعلم قدموه.
وإن كانوا متقاربين فمن الذي يدخل أولاً؟ الأكبر بالسن، وكذلك يمشي على البساط حافياً حتى لا يلوث المجلس، وكذلك يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يقيم أحداً من مجلسه ولا يجلس وسط الحلقة، ولا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، وإذا قام من مجلسه ورجع إليه، فهو أحق به، ويعظم المحدث أو العالم أو طالب العلم الذي يعلمه في هذه الحلقة ويكون له من الشاكرين.
طالب علم جيد يقوم هو بالتدريس، فإذا لم نجد طالب علم، فهناك طرق فردية مثل أن يمسك أشرطة العلماء ويمسك الكتاب أو المتن المشروح ويسمع كأنه في الدرس، ويلخص، ويكتب، وينقل على حاشية الكتاب، وهذه من أعظم طرق تعويض فقد العلماء أو قلة العلماء، الآن الحمد لله الله عز وجل لما قدر علينا أن نكون في آخر الزمان حيث يقبض العلم، وبدأ قبض العلم وموت العلماء، فإنه عوضنا بأمور من المخترعات الحديثة نستطيع بها أن ندرك شيئاً مما فات، ولو أن أجر دروس الحلقة لا يعدله أجر سماع الشريط بالتأكيد.
نحن بدأنا الحديث بفضل حلق الذكر حتى نؤكد أنه لا يعدلها شيء من الدراسات الفردية، أو سماع الأشرطة، لا زالت الحلقة في البركة والأجر أكبر، حتى فهم الإنسان إذا جلس عند العالم أكبر من فهمه عندما يسمع شريطاً لكن إذا ما وجد فقد وجدت طرق فردية ومن أعظمها كما قلت: سماع أشرطة العلماء، وتلخيص ذلك، أو كتابة شرح الشيخ على حاشية المتن أو الكتاب الذي يشرحه، مثل: الأربعون النووية ، مثلاً متن الواسطية ، متن كتاب في السيرة النبوية، متن فقهي، زاد المستقنع ، عمدة الأحكام ، كشف الشبهات ، الأصول الثلاثة ، البيقونية .. إلخ، أي متن من المتون غالباً تجد له شروحاً للعلماء موجودة مسجلة، فتأخذ الأشرطة وتفتح الكتاب، تسمي الله وتسمع وتركز، فيها ميزات أن تعيد الشريط، لو كنت مع الشيخ ما استطعت تقول أعد أعد، تعيد الشريط حتى تفهم وهكذا، يبقى إشكاليات تدون حتى ترحل في سبيل حلها إلى عالمٍ في مكة أو في المدينة أو الرياض أو في القصيم ، أو إذا جاء إلى المنطقة التي أنت فيها تلقاه فتعرض عليه ما لقيت من الإشكاليات، فأنت تعوض كثيراً مما فات، لكن هذه الأشياء فردية والأشياء الفردية يعتريها أمور من قلة الهمة والضعف، ضعف الهمة وقلة الصبر.
وإن بعض الناس يقولون: إن الطريقة التي تذكرها من سماع الأشرطة والحواشي هذه بالنسبة لنا صعبة، ما عندنا صبر وطاقة، حيث أن هناك ما يعتور هذا، نقول: درب نفسك وعود نفسك، وجاهد نفسك، والصبر هذا هو الذي أوصل العلماء إلى ما وصلوا إليه، طيب وفي حالة وجود ضعف الهمة وعدم كفاية الأشرطة، والرغبة في الأجر، لأن الحلق لا يعوضها شيء، لا بد أن تعقد الحلق، ولأن فيها جوانب أخرى غير قضية الشرح الواضح، وفك المتن، وعبارات المتن، قضية حف الملائكة بأجنحتها، ونزول الرحمة والسكينة، هذا لا نريد أن نفوته، لأن في الحلق فوائد تربوية عظيمة، من قضية إحياء منهج السلف في طلب العلم، ولو لم نكن قادرين على إحيائه (100%) لأن أهل العلم قلة، فإن عقد الحلق مهم جداً جداً، لابد لكل واحد أن يكون له على الأقل حلقة أسبوعياً، وإلا فهو إنسان لا يعيش في عالم التربية الإسلامية على العلم كما ينبغي، إذا لم تكن عندك حلقة في الأسبوع على الأقل، فهذه مشكلة، كان عند الإمام النووي رحمه الله اثنا عشر درساً في اليوم، ونحن كل واحد منا له ما يشغله من الصباح إلى الليل، نقول نحن: درس في الأسبوع، لابد من درس في الأسبوع.
وقد يقول قائل: لم نجد علماء، عرضنا على طلبة العلم فاعتذروا بالانشغالات، ماذا نفعل؟ ثم نحن عندنا أيضاً أمور من الأجر نريدها، نريد حلقة لأجل الأجر، وكما قلت: حتى لو قرأ أحدهم القرآن وجلس الباقون يستمعون، حتى لو جلسوا يتذكرون نعم الله عليهم لأجل الأجر، إذاً لا بد من وجود حلق، لا نريد أحداً يعيش بدون حلق، لا بد من وجود حلق ولو مع واحد (تعال بنا نؤمن ساعة) فإذا ما وجدنا عالماً أو طالب علم، سنبحث عن أمثل الموجودين لعله يقوم بالشرح، فإذا لم يستطع، فنحن سنتعاون على دراسة كتاب أو قراءة كتاب مجتمعين، والخطأ في فهم الجماعة أقل منه في فهم الواحد، فقد أقرأ وحدي وأخطئ في الفهم، فسأعقد حلقة ودرساً مع أصحاب لي ونقرأ، وإذا حدث خطأ في الفهم سيكون أقل، وحصلنا بركة الاجتماع وبركة الحلقة وأجر الحلقة، وأحيينا منهج السلف على حسب استطاعتنا في قضية التدريس والحلق، قالوا: تدريس بالإنترنت، نقول: الحلق لا بد منها تربوياً، لا تفكر بتربية من غير حلق، هذه قاعدة ومسلمات لا يمكن التغاضي عنها.
وماذا نقرأ في الحديث؟ قالوا: مثلاً خذوا الأربعين النووية بشرحها، خذوا بهجة قلوب الأبرار للشيخ ابن سعدي مثلاً في شرح مائة حديث، خذوا كذا.
ماذا نقرأ في الفقه؟ قالوا: خذوا كتاب الملخص الفقهي لـصالح الفوزان مثلاً.
ماذا نقرأ في السيرة؟ قالوا: خذوا كتاب السيرة النبوية للعمري أو لغيره.
فعقدنا حلقة إذاً لنقرأ في هذه الكتب، وندون الإشكالات، وممنوع الإفتاء والتأليف كما يقولون، وأن الإنسان يقول من عنده كلاماً ويعلقه بأظن وربما، إذا كان عندك شيء مؤكد وإلا فاسكت، هذا العلم دين، بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن يكون في المجلس إيمانيات ومواعظ وتذكير وتواص بالحق، وليس معلومات فقط، وهذه قضية أؤكد عليها كثيراً جداً، لا بد أن يكون فيها شئ من الوعظ ومطريات القلوب، أو مرققات القلوب؛ كالتذكير بتقوى الله، والصحابة الذين هم أعلم الأمة لم تكن مجالسهم معلومات ومتون فقط، بل فيها معلومات وأشياء أخرى ثمينة، قد تكون أثمن من بعض المعلومات وهي قضية الموعظة؛ تذكر نعم الله، سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار، وكل ما يتعلق بالأذكار، إلى آخره.
من الأشياء التي تقلل جدوى بعض الدروس والحلق: ألا يُحضِّر هذا الشيخ أو هذا الشخص المسئول عن التحضير، أو يتخلف عن الحضور، ومن المساوئ: أنه يجد نفسه مضطراً للكلام في أشياء لا يحسنها فيتكلم لأنه وضع بمكانة شيخ، من المساوئ أن ينقد الحاضرين نقداً مستمراً أو يقسو عليهم مما يسبب النفور، أو يجامل البعض بالسكوت على أخطائه، ويمرر أشياء ويحابي ناساً دون ناس، أو تكون الأمور منفلتة في حلقته ودرسه، فلا يهتم بتحفيظهم، وإذا لم يحفظ أحدهم، يقول: حسناً! ثم لا يهتم الحاضرون بالحفظ ولا بالتحضير ولا بالقراءة المسبقة، ثم أحياناً قد لا يعدل بينهم في المحاسبة على التقصير أو الغياب؛ مما يوغر صدور بعضهم على بعض، وأحياناً لا يكون هناك توازن في مسألة العرض، فيتوسع في أشياء أقل أهمية على حساب أشياء أكثر أهمية، تأخذ فقرة أكثر من حقها، وتهضم الفقرة الأهم أو الفقرة الأخرى، عدم الالتزام بالوقت المخصص للفقرة مثلاً، ضعف جانب القدوة من هذا الإنسان في قضية الحفظ من المساوئ والعورات الكبيرة.
ثم إن الحاضرين في الغالب يريدون الاقتداء، ينظرون للشخص أحياناً على أنه شيخ، ولو لم يكن هكذا فيقلدون، فينبغي أن يحسب لهذا الأمر حسابه، وإذا كانت القضية مدارسة جماعية كما قلنا وليس أحد منهم بأفضل من الآخرين في العلم، فلا داعي بأن يتصدر إنسان علمياً المجلس، وليس هو بأهلٍ لذلك التصدر، نعم هو قد يُقال: لا بد أن يكون هناك مقرر للدرس، كما كانوا يسمونه، مقرر الدرس مثلاً، فيبدؤه ويختمه وينتقل من كتابٍ إلى آخر مثلاً، حتى لا تصير فوضى، لكن هذا لا يفتي ولا يتعدى، وكذلك فإنه لا بد من استثمار النصوص والقصص التي تمر استثماراً تربوياً مفيداً، وتضييع مثل هذه الفرص يفوت جانباً مهماً جداً ينبغي الاعتناء به، ولذلك كلما وجد الإنسان مدخلاً لموعظة في درس من الدروس العلمية، أو تذكير بأدب أو خلق، أو واجب اجتماعي قد قصر فيه الحاضرون أو انتشر بينهم، انتهز الفرصة للتأكيد عليه، ثم إن بعض المقدمات قد تأخذ وقتاً طويلاً تضر بالفائدة من بقية المواضيع، فينبغي أن لا يكون هذا ديدناً؛ أن تجعل المقدمات مضرة بالعلم الذي ينبغي أن يُدرس أو يؤخذ.
أولاً: الإخلاص لله تعالى، وهذه قضية القضايا وأصل الأصول ومسألة المسائل.
ثانياً: احتساب الأجر في الحضور، وقد مر معنا أشياء استفتحنا بها عمداً لأجل بيان خطر وعظم ومكانة قضية حلق العلم والدروس.
ثالثاً: الانضباط في الحضور، وعدم الغياب والتأخر، ومما أفسد كثيراً من الدروس؛ يأتي كثيرٌ من الخيرين يقولون: لا بد أن نقيم درساً ونقرأ في كتاب، متى؟ يوم كذا في الوقت الفلاني، ثم هذا يغيب مرة، وهذا يتأخر مرة، حتى يفسد الدرس، فمما يفسد الدروس الغياب والتأخر، ولذلك يضطر بعض الناس أن يعمل غرامات، لماذا؟ هل نحن أطفال؟ أو نحن ناس إلى هذه الدرجة قضية غير مهمة عندنا؟ وبعض الناس يدفعون دفعاً إلى الحضور، واحد يقول: مروا علي وذكروني إذا لم أكن مشغولاً فسوف آتي، نحن الآن لماذا عقدنا الدرس أصلاً.. أليس للأجر والفائدة؟ ثم هذا يقول: عندي ظروف خاصة، هذا يقول: أهلي يحتاجوني في كذا، هذا يقول: دورة، هذا يقول: تأخرنا في الدوام وأنا اليوم متعب، ونحو ذلك من الأعذار، بعضها صحيح ولكن بعضها زائف، وقد بينت هذه القضية في درسٍ عن الأعذار المتهافتة أو السخيفة.
وكذلك لا بد من الالتزام بالأوقات واحترام المواعيد، وجود تجانس ما أمكن بين الحاضرين، تقارب مستوى الفهم، حتى لا يكون هذا يريد الإعادة كذا مرة وهذا فهمها من أول مرة، تفريغ النفس من الشواغل ذهنياً حتى تفهم، الاستعداد المسبق لا لكثرة التعليقات وبالذات غير المفيدة، وكثرة الأسئلة دون داعٍ، مع أن السؤال مهم إذا وجد من يعطي جوابه، لا لكثرة المقاطعة أثناء الإلقاء، تترك التعليقات إلى نهاية كلام المصنف أو العالم أو صاحب الكتاب أو شارح الموضوع، وجعل وقت معين لفقرات الدرس من الأمور المهمة، يُقدَّم عرض للموضوع على الإضافات والتعليقات، ولا يصح أن نجعل التعليقات من الأشياء العقلية المجردة عن العلم التي تسيء إلى توقيت القضية.
وكذلك من الآفات: أن يحضر الناس وفيهم نوم ونعاس، وقد ساءني وآلمني ما سمعت عن واقع حلقة علم لواحد من العلماء الكبار الموجودين، يقول: ذهبت بعد الفجر ووجدت درس الشيخ على شهرة الشيخ خمسة عشر رجلاً؛ اثنين نائمين، وواحد وراء العمود شخيره واصل إلى المجموعة، وواحد أتى له جوال فذهب يرد عليه،أي حلقة علم هذه ؟!! ولذلك أول إجراء: إقفال جميع الأجهزة حتى يكون هناك فائدة من الدرس، على الأقل الأجراس، يا أخي إذا ما أردت أن تقفل الأجهزة، إذا ما احترمنا الدرس فلن يكون مفيداً إطلاقاً.
وكذلك أن يكون هناك حدٌ أدنى يطالب به الجميع، وتنويع وسائل المنفعة قراءة وسماعاً ومناقشة، وإذا كان ليس على مستوى الترجيح فلا يرجح بين الأقوال الفقهية، يعرض الأقوال فقط، أو يقول وفلان يفتي بكذا من العلماء، كثمرة عملية يقلد تقليداً، ولا يرجح وهو ليس بأهل للترجيح، ثم إن بعض الأشخاص مثلاً قد يقرأ الموضوع قراءة مملة، فلا يستوعب الحاضرون المقصود، ولذلك العلماء كانوا يهتمون بقضية المملي والمستملي والمبلغ؛ أن يكون صيتاً حسن القراءة جيداً في اللغة ونحو ذلك، يقرأ المتن ثم الشرح ويراعى الفقرات الموجودة أين بدايتها وأين نهايتها.
وكذلك لا بد من مراعاة عدد الناس الذين يمكن أن يستوعبوا هذا الموضوع، قد يحضر في درس المسجد آلاف، وقد يكون درساً في مجلس، لو حضره كثيرون ما وصل الصوت أصلاً، وكذلك فإن مراعاة شيء من الراحة أثناء فقرات الدرس طيب ومهم، وعندما قالوا في الدراسات الحديثة: إن حصة الجامعة لا تتعدى خمسين دقيقة مثلاً في الجامعات، ثم يأخذ راحة خمس دقائق، ثم حصة أخرى، هذه من مراعاة التركيز والذهن الذي يتشتت، وبعض الناس قد يسيئون للدرس بعمل ضيافات كبيرة قد تأخذ وقتاً طويلاً وتشتت الذهن، ولذلك إذا جعل الضيافة ففي الاستراحة، أما واحد يعظ أو يذكر شيئاً في كتاب الله، وهذا يقول: صب لي، وهذا يقول: لا أريد من هذا، ضع نعناعاً، وهذا يقول: أليس عندكم زنجبيل؟ فلذلك لا بد من مراعاة هذه القضايا، نعم.. لا بأس بشربة ماء، لكن أن يجعل الموضوع الأساسي هو العشاء والأكل والضيافة ثم هذا الدرس ربع ساعة، فهذه كارثة، ثم أن يعذر بعضهم بعضاً في الأعذار الصحيحة، ويتواصى بعضهم مع بعض في الأعذار الزائفة، ويحمس بعضهم بعضاً على الحضور وعلى الانضباط في هذه الدروس.
لعلنا نكتفي بهذا المقدار، وهناك تكملة للموضوع لعلها تكون إن شاء الله في الدرس القادم، هذا الدرس هو آخر الدروس قبل إجازة الحج، وسيكون هناك إن شاء الله ذكر لبعض الأحكام المتعلقة بالحج وأحكام الأضحية، وعشر ذي الحجة في خطبة الجمعة بمشيئة الله، ونعاود الدرس في الأربعاء بعد فتح المدارس، أول أربعاء إن شاء الله بعد فتح المدارس، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر