الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
تحدثنا سابقاً عن ابن مسعود وعن إسلامه وما يدور حول هذا من صلته بالنبي عليه الصلاة والسلام.
المبحث الثاني: في ترجمته الزكية العطرة الطيبة الندية، قلت: هو من أعلم الصحابة بكتاب الله، وأقرئهم له.
في صحيح مسلم ، وكتاب المعرفة والتاريخ للإمام الفسوي ، ومستدرك الحاكم ، والحديث في صحيح مسلم فهو صحيح صحيح، من رواية أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنهم أجمعين، قال: (ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أحداً أعلم بكتاب الله من هذا القائم لـ
وقد شهد له بذلك الصحابة الكرام والخلفاء الراشدون المهتدون عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم في الجزء الثاني صفحة سبع وعشرين ومائتين، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والفسوي في المعرفة والتاريخ، وهو في مسند أبي يعلى كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة سبع وثمانين ومائتين.
والحديث رواه البزار والطبراني في معجمه الكبير، وابن حبان في صحيحه، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وإسناد الحديث رجاله رجال الصحيح غير قيس بن مروان ، وهو ثقة كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، عن قيس بن مروان وهو من التابعين الكرام، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل، وجاءه من بلاد الكوفة إلى المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- فقال له: يا أمير المؤمنين ! جئت من الكوفة وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلب، يجلس طلبة العلم فيملي عليهم فيكتبون هذا المصحف، وكل واحد يصبح عنده نسخة، لا يحتاج أن يمسك مصحفاً بين يديه، قال: ففزع عمر بن الخطاب وغضب غضباً شديداً، وقال: ويحك! انظر ما تقول، قال: أتيت من الكوفة وفيها رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: ومن هو ويحك؟ قال: عبد الله بن مسعود ، قال: فما زال عمر يطفئ غضبه ويتسرى عنه حتى عاد إلى حاله، يعني: يهدأ نفسه، وهذا الانفعال الذي أصابه، ثم قال: أما إذ قلت ذاك، فإني لا أعلم فيمن بقي من الناس أحد أحق بذلك منه، وسأحدثك، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر مع
ونبينا عليه صلوات الله وسلامه فيه صفتان: رسول الله، وأيضاً أمير المؤمنين؛ لأنه هو الحاكم عليه صلوات الله وسلامه، فهو رسول وإمام عليه صلوات الله وسلامه، يبحث في تدبير شؤون الأمة مع وزيره الصادق الأمين أبي بكر رضي الله عنه.
كان نبينا عليه الصلاة والسلام من عادته دائماً أن يسمر بعد العشاء مع أبي بكر في بيته في مصالح المسلمين وشؤون الأمة، قال عمر رضي الله عنه: (فكنت ليلة معهما في السمر وهما يتحدثان في شؤون الأمة وأنا أشاركهما، يقول: فلما خرجنا مررنا على المسجد)، وخرج عمر وأبو بكر مع النبي عليه الصلاة والسلام ليوصلاه إلى بيته إكراماً له بعد السمر، ثم يعود كل منهما إلى بيته رضي الله عنهم أجمعين، قال: (وإذا
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا
يقول عمر رضي الله عنه: (فلما أصبحنا غدوت على
(نعيماً لا ينفد)، وهذا نعيم الجنة، (قرة عين)، سرور متواصل، ولذة وبهجة، بهجة الإيمان وانشراح الصدر لذكر الرحمن ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام لا تنقطع، ولتكتمل بعد ذلك، وهذه أعظم الدعوات، في جنانك جنان الخلد، سأل هذه الأمور الأربعة رضي الله عنه وأرضاه.
وفي بعض الروايات قال له: (من دعائي الذي لا أكاد أدعه: اللهم إني أسألك إيماناً لا يبيد)، بمعنى: لا يرتد لا يفنى ولا ينقطع، إيماناً يلازمني حتى ألقى به ربي.
(إيماناً لا يبيد، وقرة عين لا تنفد -أي: لا تنقطع ولا تزول- وأسألك مرافقة نبيك في جنانك جنان الخلد) على نبينا وصحبه وآله صلوات الله وسلامه.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وصحيح ابن خزيمة ، ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه البيهقي لكن في الأسماء والصفات، ورواه الدارقطني في السنن، ورواه الإمام الدارمي في الرد على الجهمية، والحديث إسناده صحيح كالشمس من رواية عمار بن ياسر رضي الله عنه، (أنه صلى صلاة فأوجز فيها)، أي: في القعود الأخير، ولم يطل ليتمكن من وراءه من كثرة الدعاء والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، فقالوا: (لقد خففت يا
(وأسألك نعيماً لا ينفد) هذا هو محل الشاهد، ولهذا أوردت هذا الحديث، (وأسألك الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)، أي: يحصل لي هذا بغير امتحان ولا مناقشة حساب، ولا إرهاق ولا تعب، (في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).
يذكرون في ترجمة ابن عقيل الحنبلي وهو من أئمة الحنابلة الكرام، لكن كان أحياناً عنده شيء من الخلل؛ لأنه صاحب المعتزلة، فحصل في اعتقاده لوثة كما قال أئمتنا، والحنابلة استتابوه فتاب وأقلع، لكن بقي فيه بقايا كما قال أئمتنا في الغزالي عليه رحمة الله، يقول تلميذه أبو بكر بن العربي : شيخنا أبو حامد ابتلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع، يعني: بقي فيه نزعة ونزغة من نزعاتها ونزغاتها، وقد ألف كتابه (تهافت الفلاسفة) وقضى عليهم وكفرهم في ثلاثة أمور وبدعهم في سبع عشرة خصلة، ومع ذلك يقول: تقيأها فما استطاع أن يخرج ما علق منها بقلبه على وجه التمام والكمال.
وهكذا ابن عقيل رأى مرة بعض الناس يدعو فقال: اللهم إني أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وعلى مذهب المعتزلة الضالين: ليس لله وجه يتصف به، ومن باب أولى ليس عندهم إيمان بالرؤية تحصل من المؤمنين له، فقال: يا هذا! هب أن له وجهاً أتلتذ برؤيته أيضاً؟ قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: وما أنكره ابن عقيل هو الثابت عن نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، وليس له داعي، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام: أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.
وما المانع من أن نتمتع بجمال الله وجلاله بكرمه وفضله سبحانه وتعالى، فنحن لا نستحق إلا النار وغضب الجبار، ولكن فضل الله واسع، فلا نراه إلا بفضله وكرمه ونعمته، وهو الذي تجلى لأوليائه سبحانه وتعالى لرضوانه عليهم، كما احتجب عن أعدائه لسخطه عليهم.
ويتجلى لنا ربنا -كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام ضاحكاً- ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه.
والإمام النسائي أورده في سننه في كتاب الصلاة ما يقال بعد التشهد، قال: باب دعاء آخر، يعني: أدعية أخرى غير ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يستعيذ بالله من أربع، أيضاً كان يدعو بهذا الدعاء، فهذا الدعاء كان يدعو به عمار ، قلت: وهو منقول عن نبينا المختار عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وجه الشاهد فيه: (نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع)، أما عبد الله بن مسعود فيقول: (إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في جنانك جنان الخلد)، وهذه الدعوات الأربع لو لهجنا لعل الله أن يتكرم علينا بفضله ورحمته إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وقد ثبت الحديث من رواية رابعة عن علي رضي الله عنهم أجمعين، روى ذلك الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة سبع عشرة وثلاثمائة، وقال: صحيح وأقره عليه الذهبي .
عن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه
قال علي : (وكان
يوطن أبو بكر نفسه على المنافسة كما تقدم معنا ولا علم له بأنه سينافسه أحد، ومع ذلك فطبيعته العفوية الطبيعية تسبق من ينافس، فكيف إذا لم ينافسوه! يعني: في حال منافستهم وسباقهم واستحضارهم يسبقهم دون مبالاة بهم، وكيف إذا لم يسابقوه، فكيف إذا سابقهم رضي الله عنهم أجمعين!
ثبت في سنن أبي داود والترمذي ، ومسند الإمام الدارمي ، والحديث إسناده صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فاغتنم
وفي رواية في المسند قال عمر : ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليه أبو بكر .
إخوتي الكرام! المنافسة في الخير محمودة بلا شك، لكن مع كونها محمودة فهي تدل على نقص في الخير، لا أنها مذمومة، والذي لا ينافس أعلى درجة من الذي ينافس، ولذلك عمر كان ينافس في الخير -وهذا محمود- في استباق الخيرات، فليتنافس المتنافسون، لكن هذا دون من لم ينافس، فـعمر رضي الله عنه مثاله مثال نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كيف كان ينافس نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ولما عرج بنبينا عليه الصلاة والسلام فوقه، يقول: فضلته أكرمته، وقال: هذا غلام بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ما يدخل الجنة من أمتي، ولما سمع نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا في الحديث في الصحيحين، وبعد ذلك بعض الزيادات في معجم الطبراني وغيره، قال نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل : (من هذا؟ قال: هذا نبي الله موسى أخوك، قال: وعلى من تذمره)، يتذمر على من، ويرفع صوته؟ قال: على ربه، قال: يرفع صوته على الله؟ قال: علم الله شدته فتحمل ذلك منه.
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله عند هذا الحديث في مجموع الفتاوى: وهذا من باب عدم ضياع الجميل لهذا النبي الجليل، فليس حاله كحال غيره من أنبياء الله ورسله، فنبي الله يونس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما جرى منه ما جرى، وحصل له ما حصل التقمه الحوت وهو مليم، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
ونبي الله موسى حصل منه في هذه الحياة وفي عالم البرزخ ما حصل والله يتحمل منه، ويكافئه على مواقفه السابقة، ملك الموت -كما في الصحيحين- يضربه نبي الله موسى فيقلع عينيه، فما يغضب الله ولا يعاقب موسى ولا يعاتبه على ذلك، إنما يقول له: قل له: الحياة تريد؟ نحن نعطيك ما تريد، ضع يدك على متن ثور فلك بكل شعرة تغطيها يدك سنة، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، فالموت لكل حي قال: فالموت إذاً.
وهنا في حادثة الإسراء والمعراج يجري منه ما يجري، ونبينا الله هارون أخوه ما عمل شيئاً يأخذ موسى بلحيته وبرأسه، فيقول: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، أي: ماذا عملت؟ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، ويلقي الألواح فتتكسر، وفيها كلام الله وهي التوراة، ويتحمل الله منه؛ لأنه بذل من الجد والاجتهاد والتغيير في دعوة الله ما لم يبلغه أحد ولا يفوقه في ذلك إلا نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وقابل أعتى أهل الأرض في زمنه وهو العاتي فرعون، فتلك الجهود ينبغي أن تشكر.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جادت محاسنه بألف شفيع
فموسى عليه السلام منافس، لكن درجته دون درجة نبينا عليه صلوات الله وسلامه قطعاً وجزماً، ونبينا لا ينافس أحداً، هو يمشي عفواً ويغلب غيره.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
قال الإمام ابن تيمية : وأما أبو بكر فحاله كحال خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، ما سابق أحداً، لكن هو السباق دائماً للصحاب، وهذا يقرره الإمام ابن تيمية في الجزء العاشر صفحة مائة وسبع عشرة من مجموع الفتاوى عند بحث المنافسة: وأنها مع كونها محمودة في أمور الخير، لكنها تدل على نقص في الكمال، وإذا كمل الإنسان فلا يبالي بغيره، ما دام أنه يمشي في طريقه ويعبد ربه فما له ولغيره، سبق أنه سبقكم من البداية ولازم ما في استطاعته، والمسابق يخفض عند المسابقة، ولذلك عمر يريد أن ينافس أتى بنصف المال ولعله لو لم يوجد منافسة لأتى بالربع، وأبو بكر بدون منافسة أتى بالمال كله، فشتان شتان.
وإذا أردت أن تعرف منزلة أبي بكر من النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً فانظر إلى منزلته في حياته وبعد مماته، فهو بديعه وألطف الناس به، ولا يمكن لبشر أن يتقدم أبا بكر بالقرب من النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه،
ولذلك يقول الإمام ابن تيمية : نبي الله موسى ، وهكذا نوح، وهكذا عمر ، وهكذا خالد بن الوليد ، وهكذا، هؤلاء مظهر للجمال الإلهي، ونبي الله عيسى ، وهكذا خليل الرحمن إبراهيم مظهر للجمال الإلهي، ونحوهم الصديق عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وأما نبينا عليه صلوات الله وسلامه هذا مظهر للجمال الإلهي، جمع الجلال والجمال، قال: ومن هذا الصنف أبو بكر ، فهذا رضي الله عنه وأرضاه مظهر للكمال يضع كل شيء في موضعه، إذا جاءت الشدة فلا أشد منه، وإذا جاءت الليونة فلا ألين منه رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك في كثير من المناسبات جوابي لا يختلف عن جواب خير البريات عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه ففي صلح الحديبية التي حصل فيها ما حصل، وكل الصحابة كان في رأيهم معارضة، وعمر رضي الله عنه يصول ويجول: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ علام نعطي الدنية في ديننا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه بكلمة قف عند حدك: (أنا رسول الله ولن يضيعني الله)، يذهب إلى أبي بكر لعله يتوسط عند النبي عليه الصلاة والسلام، فماذا كان الجواب؟ يا عمر ! إنه رسول الله ولن يضيعه الله، الجواب هو هو، فقط غيروا الضمائر، يا عمر ! أنت تدري من تكلم، ما تعرف قدرك رضي الله عنه وأرضاه وعن الصحابة أجمعين، هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن نتكلم بين يديه لن يضيعه الله، وسمي ذاك الصلح فتحاً ترتب عليه فتح مكة بعد سنتين.
وهكذا في مناسبات كثيرة أبو بكر صورة طبق الأصل، لكن فقط ما حصل له نزول الوحي، أما الطينة والعريكة والطبيعة فواحدة لا خلاف بينهما على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وتقدم معنا أن من أسباب نزول الوحي في فراش أمنا عائشة رضي الله عنها أنه صار سر أبيها إليها، فكان الوحي ينزل عليها في فراشها وضجاعها مع النبي عليه الصلاة والسلام لمنزلة أبيها، وإكراماً لأبيها، فلا يقولن قائل: إكراماً لزوجها عليه الصلاة والسلام على العين والرأس، لكن بقية الزوجات الأخريات ما كان ينزل الوحي في لحافهن، فبما أنها بضعة لذلك الذي هو صورة طبق الأصل لنبينا عليه الصلاة والسلام، فينزل الوحي حتى في لحافها وفراشها على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
قال: كنت جالساً مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ومعنا الصحابة الكرام، فجاء عبد الله بن مسعود ، فكاد الجلوس يوارونه من قصره، يعني: كادوا أن يحجبوه، وأن يخفوه من قصره، كاد ألا يظهر مع أنه قائم يمشي بينهم، يقول: فدعاه عمر رضي الله عنه حتى انتهى إليه، والجلوس حاضرون، وزيد بن وهب حاضر مع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
قال: فبدأ عمر يكلمه ويتهلل في وجهه، ويضاحكه حتى انتهى عبد الله بن مسعود من حاجته والكلام مع أمير المؤمنين أيام خلافته، فانصرف، فقال عمر رضي الله عنه: كنيف -بضم الكاف- ملئ علماً. وهو الوعاء الذي يحفظ فيه الشيء، وإياك أن تفتح الكاف فيتغير المعنى بعد ذلك، هذه شهادة عمر في عبد الله بن مسعود .
وشهد له أيضاً بأنه من النجباء، وأنه آثر به أهل الكوفة على نفسه، وكان ينبغي أن يستخلصه لنفسه، لكن قدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ثبت ذلك في طبقات ابن سعد ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ، والإمام الطبراني في المعجم الكبير، عن حارثة بن مضرب ، وهو ثقة من الثانية، توفي سنة ست وأربعين، وقيل: تسع وأربعين، حديثه في الأدب المفرد للإمام البخاري والسنن الأربع، ثقة عدل إمام رضا.
يقول حارثة بن مضرب : كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر ، وتقدم معنا أنه أحد الرجلين في شهادة عمرو يحبهما نبينا عليه الصلاة والسلام، ومات وهو عنهما راض، وعمرو يشهد بذلك، فكتب إليهم عمر : إني قد أرسلت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، فهنيئاً لهم فـعمار ، هو الذي ينفذ الحدود، ويحكم بينكم، وهو المسؤول عن الأمن في الكوفة.
وأما عبد الله بن مسعود فهو المعلم لكم والمفقه، فهو كنيف ملئ علماً، وهو المشير على عمار ، فـعمار لا يقطع أمراً دونه، إني قد أرسلت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء، من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن أهل بدر، وقد آثرتكم بـعبد الله بن مسعود على نفسي، يعني: كان ينبغي أن أحتفظ به عندي في مركز الخلافة الإسلامية لشدة الحاجة إليه، لكن هذا الإقليم أيضاً وهو إقليم الكوفة بحاجة إلى معلم ولا أرى من يسد مسد عبد الله بن مسعود ، آثرتكم به على نفسي، وإلا فأنا أتمنى أن يكون عندي من أجل أن أسمع ما كان يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام في خلوته عندما كان يدخل عليه، ونحن لا ندخل وذاك خاص به.
فتقدم معنا في ترجمة سلمان أن علياً رضي الله عنه عندما سئل عن عدد من الصحابة الكرام، والأثر ثابت بإسناد صحيح، وهو يغني عن الحديث الضعيف: (
ومن شهادة علي لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، واستمع لهذه الشهادة الأخرى التي قالها بعد أن قال الناس لـعلي في عبد الله بن مسعود ما قالوا من الثناء والفضل والفضيلة.
روى حبة بن جوين العرني ، وهو من التابعين، وقد غلط من عده من الصحابة الطيبين رضوان الله عنهم أجمعين، وهو صدوق، كما قال الحافظ في التقريب: وله أغلاط، لكنه كان مفرطاً في التشيع، وهو من تلاميذ علي رضي الله عنهم أجمعين، حديثه في سنن النسائي ، توفي سنة ست وسبعين، وقيل: تسع وسبعين، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
جاء أهل الكوفة ليدلوا بشهادتهم إلى علي في عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فقالوا: ما رأينا رجلاً قط كان أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه وأرضاه، ما رأينا أحداً يعدله في حسن الخلق والرفق في التعليم، وحسن المجالسة والورع وخشية رب العالمين، فقال علي رضي الله عنه ليستوثق من ذلك: نشدتكم بالله، إنه لصدق من قلوبكم، تقولون هذا حسب ما تعتقدون أو مجاملة في الظاهر؟ قالوا: إنه لصدق من قلوبنا، فقال علي رضي الله عنه وأرضاه: اللهم اشهد أنني أقول فيه مثلما قالوا وأفضل، هو أحسن الناس خلقاً، وأرفقهم تعليماً، وأحسنهم مجالسة، وأشدهم ورعاً، ثم قال علي : قرأ القرآن فأحل حلاله وحرم حرامه، إنه فقيه في الدين عالم بسنة خاتم النبيين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
ثبت في المسند والكتب الستة إلا صحيح مسلم وسنن النسائي ، فهو في صحيح البخاري ، وسنن أبي داود ، وابن ماجه ، والترمذي مع المسند، والأثر تقدم معنا في كتاب الفرائض مع من يحضرون معنا الفرائض الذي هجره أكثر الخلق، وهو نصف العلم، وهو أول شيء ينزع من هذه الأمة، ولذلك حقق أهل هذه البلاد هذا المدلول، ونسوا هذا العلم ولا صلة لهم به.
والأثر رواه الدارقطني ، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود الطيالسي في مسنده، وابن الجارود في المنتقى، ورواه ابن سعد في الطبقات، وهو في صحيح البخاري وغيره فهو من أصح الأحاديث عن هزيل بن شرحبيل الأودي ، قال: سئل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رجل مات وترك ابنتاً وابنة ابن وأختاً شقيقة؟ فقضى فيها بقضاء، فقال: للبنت النصف، وللأخت الشقيقة النصف، وأتوا ابن مسعود فسيتابعني وسيقر هذا ويوافقني عليه، فسألوا عبد الله بن مسعود فقال: والله لأقضين فيها بقضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام، لقد ضللت إذاً وما أنا المهتدين إذا لم أقض بقضاء نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، ثم قال: للبنت النصف كما قضى أبو موسى ، ولبنت الابن السدس، وقد حجبها أبو موسى ، تكملة للثلثين، وما بقي فهو للأخت الشقيقة؛ لأن الأخوات مع البنات عصبات كما تقدم معنا عصبة مع الغير، لكن بعد أن يستوفي البنات حظهن وهو الثلثين، فالبنت لقوة قرابتها أخذت النصف، بنت الابن تكملة للثلثين تعطى السدس، فما بقي فهو للأخت الشقيقة، فرجعوا إلى أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، فأخبروه بقضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم، لا تسألوني سؤالاً بعد هذه الواقعة ما دام هذا الحبر فيكم.
يقال: حبر وحبر بفتح الحاء وكسرها، وهو إما أن يكون مشتقاً من الحبر بالكسر، وإلى هذا ذهب الجوهري وذهب إليه الفراء وغيره وقال: سمي بذلك لأنه يستعمل الحبر في كتابته، وإما أن يكون بالفتح مأخوذ من تحبير الكلام وتزيينه كما قال أبو عبيد ، وهذا تحقيق الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء الثاني عشر صفحة سبع عشرة، وعليه فنجمع بين الاستعمالين فانظر كيف يصحح قضاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكيف يشهد له بذلك الصحابة يقول: لا تسألونا ما دام هذا فيكم.
وقد كان أبو موسى يقول كلاماً لو وعاه بعض أهل اللغط في هذه الأيام لقللوا من لغطهم، والأثر يورده يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ في الجزء الثاني صفحة خمس وأربعين وخمسمائة، يقول: مجلس أجلس فيه مع عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي، وأرجأ من أن أعبد الله سنة كاملة؛ لأن هذا المجلس قد يعينه على عبادته وتحصيل أجور عبادات آلاف السنين، وهناك قضاء قضى به وهو مخطئ.
ولذلك أقول مراراً لبعض الإخوة الذين يريدون أن يتعلموا من الكتب، ولا يريدون أن يحضروا مجالس العلم، وما أكثر هؤلاء، يذهب يقرأ صفحتين في ظلمات ثلاث، ثم يخرج على الأمة وهو مجدد هذا العصر، يقول: يا شيخ! أريد أن أقرأ ماذا تشير علي أن أقرأ من كتب المكتبة، فأقول: أنت تحضر حلق العلم مع المشايخ يريدون تحديد واحد بعينه؟ يقول: لا، أنا أتعلم في البيت، فأقول: معلمك الشيطان فقط، يقول: يا شيخ! وكيف هذا؟ الآن كتب العلم مهجورة، قلت: أقول لك: يا عبد الله ! لو جلست مجلس علم أحسن من أن تقرأ تفسير ابن كثير من أوله إلى آخره، أربع مجلدات إن قرأتها وأمضيت فيها أربعة أشهر، فمجلس علم أفضل لك من هذا، لأنك في بداية أمرك كيف ستقرأ؟ وكيف ستعلم؟ الله أعلم، هذا كالذي يريد أن يزج بنفسه في لجة البحر ليستخرج اللآلئ والجواهر، وهو لا يحسن السباحة في البرك الصغيرة، وهنا كذلك، يتعلم مسألتين وبعد ذلك يصير شيخ الإسلام، فَيُقَّوم حتى الصحابة الكرام، وهذا حقيقة لو لزم مجالس الروضة لا ما فوق ذلك فهو أنفع له في الدنيا والآخرة.
مرة بعض الناس ممن يدرس رياضيات، والعلم عند الله بعد ذلك بإتقانه لقراءة كتاب رب الأرض والسموات، قال: يا شيخ! قلت: نعم. قال: اشتريت كتاب الجرح والتعديل للإمام ابن أبي حاتم ، وأريد أن أعكف عليه من أجل أن أصبح ماهراً في الجرح والتعديل، قلت له: ستدري ماذا ستصبح؟ قال: نعم. قلت: ستصبح شيطاناً مريداً، قال: أعوذ بالله، قلت: أنا أقول لك: اتق الله في نفسك، أنت الآن ما تعرف ضابط الحديث الصحيح من الحسن من المتواصل من الموضوع، ذهبت لتقرأ الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم سبحان ربي العظيم! اشترى كتاب الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم ليقرأه، وهو ما قرأ إلا الأربعين النووية، انظر إلى هذا الغرور، أمة ضائعة أخوتي الكرام مثل الغرب، كل واحد يذهب الآن فيتلقف ما شاء ثم يتوهم كما يريد، ثم يخرج على الأمة بعد ذلك، بهذا الهذيان الذي ينتشر في هذا الزمان.
وشخص آخر اتصل قبل أن يرسل السؤال يقول: يا شيخنا! أنا أؤلف كتباً وأريد أن أعتكف عليها في الرد على بعض المشايخ سماهم، قلت: يا عبد الله! رفقاً بنفسك، على مهلك، إلى الآن أنت ما قرأت كتاباً من كتب الفقه مثلاً، ولا تعلم شيئاً، رفقاً بنفسك، قال: عندهم آراء شاذة، وأنا أؤلف كتباً في الرد عليهم، هذا ضياع الأمة، ووالله الذي لا إله إلا هو أقولها ولست بحانث: إنه لا يحفظ الأربعين النووية، فضلاً عن غيرها، ولا أقول هذا تنقيصاً لقدرها، والله فيها من البركة والخير ما لا يعلمه إلا الله، لكن هي مفتاح الخير، فإذا كنت لا تعرفه، فكيف بعد ذلك ستعرف غيره، وستؤلف كتباً في الرد.
فهذا أبو موسى وهو الذي أرسله عمر رضي الله عنه قاضياً على بلاد البصرة، ومع ذلك هذا الصحابي الجليل يقول: مجلس أجالس فيه عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عبادة سنة.
فماذا نقول نحن؟ وهذه شهادات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في عبد الله بن مسعود .
والإخاذ لو ورد الناس إليه كلهم لأبطرهم، أي: شبعاً ورياً، منهم عبد الله بن مسعود ، لو أن الأمة كلها وردت إليه وتستقي ولتنهل من معينه لأبطرهم شبعاً ورياً، يقول: والإخاذ لو ورد عليه أهل الأرض لأبطرهم منهم عبد الله بن مسعود ، هذه شهادة مسروق .
وبعد هذه الشهادات من قبل خير هذه الأمة من الصحابة الطيبين والتابعين المهتدين، أعود لبيان ما يقرر منزلة عبد الله بن مسعود من كلام وحديث وفعل نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، كان نبينا عليه الصلاة والسلام يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، وكان يلتذ بسماعه؛ ثبت الحديث بذلك في المسند والكتب الستة إلا سنن ابن ماجه .
والحديث رواه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده، وابن المنذر في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وفي السنن الكبرى أيضاً، وانظروا التخريجات الزائدة عن الكتب الستة في الدر المنثور في الجزء الثاني صفحة ثلاث وستين ومائة، فهو في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى قول الله جل وعلا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42] ، قال: حسبك، يقول: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان)، على نبينا وآله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وهذا الحديث له بعض الروايات الأخرى عن غير عبد الله بن مسعود ، وفيه بعض الفوائد التي سأذكرها في أول الموعظة الآتية، وهذا آخر شيء في الجانب الثاني، وبقي معنا الجانب الثالث في لمحة ونبذة من أقواله وحكمته رضي الله عنه وأرضاه.
نسأل الله أن يشفعه فينا يوم الدين، وأن يجمعنا معه ومع الصحابة الطيبين، ومع نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في جنات النعيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر