أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كلام الله عز وجل موجه إلى مصطفاه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ليعزيه بذلك ويسليه حتى لا يعجب من كفر اليهود به وبما جاء به، ولا يعجب من حربهم له وخداعهم وغشهم له، ومؤامراتهم على قتله، فإنهم أهل للخبث والشر والفساد، وهذه هي حالهم من عهد آبائهم وأجدادهم إلا من رحم الله تعالى.
فتأملوا الآيات ونحن نتلوها مرة أخرى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153]، أي: يطلبون منك يا رسولنا، أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء:153]، وبالفعل فقد قالوا: لن نؤمن لك نبياً ورسولاً حتى يُنزل الله عليك كتاباً من السماء كاملاً جامعاً، وحينئذ تكون هذه آية نبوتك ورسالتك، وتكون أسماؤنا في ذلك الكتاب وما نطلبه، فعلقوا إيمانهم على مستحيل، ولو أنهم قالوا: لن نؤمن فقط فممكن، أما هذا الطلب فإنه أمر عجب، وكأنهم أوحوا إلى العرب المشركين بمثل هذا، إذ قال تعالى عن المشركين العرب: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:90-92]، فقد كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يوحون إلى المشركين ويعلمونهم.
كما أن المشركين قالوا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32]، أي: لماذا ينزل آيات وسوراً؟ وهذه كلها من إيحاءات اليهود، أما العرب فقد اضطربوا أن يسألونهم بوصفهم أهل كتاب وعلم، فيقولون لهم: قولوا له كذا وكذا؛ لأن همَّ اليهود ألا ينتشر الإسلام، وليبقى الجهل حتى تظهر دولة بني إسرائيل.
لكن سؤال اليهود ليس كسؤال موسى، وإنما أرادوا به التعجيز والتحدي، أي: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، أما بدون ما نرى الله بأعيننا فلا نصدقك بأنك رسول ولا نؤمن بك.
ثم مشوا ونزلوا منزلاً فقال لهم موسى: أنا عندي موعد مع ربي بجبل الطور، وذلك لآتيكم بالدستور والقانون الذي أحكمكم به؛ لأنهم قد استقلوا، فقد كان فرعون يحكم وينفذ أحكامه، فلما استقلوا فلا بد من دستور، وهذه اللطيفة رددناها في هذا المسجد مئات المرات، وقد قلنا: أيام ما كان المسلمون يستقلون يوماً بعد يوم، وكل سنة أو سنتين يستقل الإقليم الفلاني من إندونيسيا إلى موريتانيا، ما هناك شعب أو إقليم استقل ثم طالب بدستور السماء وقانون الله لعباده، وإنما يأتون بدساتير وقوانين المشركين الكافرين، بينما موسى الكليم عليه السلام ما إن استقل بنو إسرائيل حتى قال: اجلسوا هنا، وأنت معهم يا هارون، وذلك حتى آتيكم بالدستور الذي أحكمكم به.
ومن لطائف الحديث ولا بأس أن نذكرها: أن الهيئة إذا أذن المؤذن تنتشر في الأسواق وفي الشوارع وفي الأزقة، فإذا ضبطت مدبراً عن المسجد معرضاً عنه فبالعصا ترده إلى المسجد، وقد يكون على غير وضوء، فشاع في بين أهل الحكايات وأهل البلاد: صلاة سعودية لا وضوء ولا نية! يعني: أن هذا الذي دفعته الهيئة للصلاة ليس متوضئاً ولا يريد أن يصلي، لكن يجب عليه أن يصلي.
وعلى كلٍ أقام عبد العزيز ورجاله الصلاة، فكانت تقام كأنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالغني كالفقير، والعالم كالجاهل، والبعيد كالقريب، ولم لا وهو عبد العزيز يحدثكم من عرفه، فقد كان يقوم الليل ويبكي ويتملق بين يدي الله طول حياته، فكيف لا يأمر بإقامة الصلاة؟!
واسمع إلى علة وفائدة إقام الصلاة، إذ قال عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، أي: يأمر الله رسوله وأمته معه بإقامة الصلاة، لم يا الله؟ ما فائدة هذا يا رب؟ الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والله العظيم! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى [العنكبوت:45]، أي: صاحبها ومقيمها، عَنِ الْفَحْشَاءِ [العنكبوت:45]، وهو كل ما قبح واشتد قبحه من الاعتقاد الباطل والقول السيئ والعمل الفاسد، وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والمنكر وهو كل ما يخالف رضا الله عز وجل.
وقد كررنا هذا القول آلاف المرات وقلنا لهم، وأنا آسف أننا نتكلم وليس بيننا من يبلغ أبداً، فقلنا لهم: هيا نمشي إلى المحافظ في أي بلد إسلامي، وندخل عليه ونقول: يا سيادة المحافظ! أعطنا قائمة بأسماء المخالفين للقانون أو لنظام اليوم أو هذا الأسبوع، فهذا سرق وهذا ضرب فلاناً وهذا فعل كذا وكذا، وهم الآن في السجن، وقد أقسمت غير ما مرة، والذي نفسي بيده! لن يوجد بين أولئك المساجين المجرمين المخالفين نسبة أكثر من (5%) من مقيمي الصلاة، ومن عداهم فتاركون للصلاة، بل في أي بلد إسلامي ادخل إلى الحكومة واسألها: أعطونا قائمة بأسماء المخالفين للقانون، سواء بالخيانة أو بالخبث أو بالظلم أو بالشر، فلا نجد أكثر من (5%) من مقيمي الصلاة، وخمسة وتسعون إما تاركو الصلاة وإما مصلون، والله يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وبالتالي كيف يتحقق الأمن؟ كيف يتحقق الاطمئنان؟ لما تكون النفوس طاهرة زكية.
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فكوَّن عبد العزيز رحمة الله عليه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرضى والمصابون بصداع الكفر يتألمون ويتقززون ويكرهون الهيئة كراهية عجيبة، وقد سمعنا هذا بآذاننا.
مرة أخرى: يقول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، وسادوا وحكموا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، وكالصلاة الزكاة، فلم يأمر بها إقليماً أمراً حقيقياً عند استقلاله، ولم تجبى الزكاة سواء كانت من الأموال الناطقة أو الصامتة، وإنما أعرضوا إعراضاً كاملاً عن الله وقانونه في عباده، بينما أقام عبد العزيز دولته وجلب الزكاة من الشعير والتمر والشاة والغنم والذهب والفضة، وكل ذلك استجابة لأمر الله وطاعة له.
والشاهد عندنا: أننا أخذنا نستقل بلداً تلو البلد، وهم يسمعون ويشاهدون الأمن والطهر الذي تحقق في هذه الديار بعدما كانت جاهلية جهلاء، فقد كان الحاج يؤخذ ويسلب نقوده وهو في طريقه إلى مكة، والشجر والحجر يعبد بالباطل كسائر بلاد العرب والمسلمين في تلك الظلمة، فتحقق توحيد وطهر وأمن لم تكتحل به عين الدنيا إلا أيام القرون الثلاثة، وقد عرف هذا المسلمون، لكن للأسف لما يستقل القطر يأتون بدستور من فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا أو بريطانيا! لم؟! إن الذي سيسألون عنه يوم القيامة وهو المفروض المحتوم شرعاً: أنه كان ينبغي أنه ما استقل إقليم إلا ويجيء رجاله من أهل الحل والعقد والمعرفة إلى عبد العزيز ويقولون: ابعث لنا قضاة ووالياً نائباً عنك في ديارنا الإسلامية التي استقلت اليوم وتحررت من دولة الكفر وسلطان الكافرين، فماذا تقولون؟ والله لهذا الواجب، ولو فعل المسلمون هذا لكانت اليوم الخلافة الإسلامية، لكنه الجهل ومرض النفوس وعدم البصيرة، إذ تستطيعون أن تستقلوا وأنتم حفنة من الناس بين العالم؟ انضموا إلى دولة الإسلام، وهذا الكلام الذي تسمعون والله الذي لا إله غيره! لواجبنا، وما كان يصح أبداً لإقليم أن يستقل ودولة القرآن قائمة وينفصل عنها، ومن ثَمَّ أعرضنا فأعرض الرحمن عنا، فما انتفعنا باستقلالاتنا ولا فزنا بسيادتنا، بل هبطنا إلى الحضيض، ولا نلوم إلا أنفسنا، قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، فعلنا وفعلنا.
نعود فنقول: ما إن استقل بنو إسرائيل من دولة الاستعمار الفرعونية حتى ذهب موسى يأتي بالدستور والقانون حتى يحكمهم بشرع الله عز وجل، فلما ذهب ما الذي حصل؟ قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [النساء:153]، إذ إن موسى عليه السلام عهد إلى أخيه هارون عليه السلام بأن يرعى بني إسرائيل ويبقى معهم حتى يرجع موسى بدستوره، وما زال موسى عند ربه في جبل الطور بسيناء حتى أوحي إليه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:83-84]، أي: لمَ استعجلت وأتيتنا يا موسى وتركت قومك في صحراء؟ قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:84-86]، أي: تألم وتحسر، إذ كيف ترك أخاه مع بني إسرائيل فإذا بهم في ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو أربعين يوماً وإذا بهم يعبدون العجل؟ ولا عجب! وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، فوجدهم يعبدون العجل، كيف ذلك؟ قالوا: إن بني إسرائيل يوم أن خرجوا من مصر كان جبريل على فرس يتقدمهم ليدلهم على المخرج الذي يخرجون منه، فكان السامري يشاهد فرس جبريل كلما وضع حافره على الأرض ورفعها نبت النبات الأخضر تحتها، فأخذ من ذلك التراب في صرة واحتفظ به على أن يكون له أثر، ولما استقر بنو إسرائيل بعد نجاتهم وذهاب موسى قال السامري لنساء بني إسرائيل: من كان لديها حلياً استعارته من القبطيات فلا يحل لها أن تأخذه بدون حق، والآن لا يمكن أن يرد هذا الحلي إلى نساء الأقباط، فاجمعوه عندنا نحرقه ونتخلص منه، وكانت فتيا إبليسية في نطاق العلم والمعرفة، فجمع الحلي ثم صهره وصنع منه عجلاً من ذهب وفضة، ثم قال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، وكلاً يعرف الأمة الجاهلية، فالآن قد وجدت أمثال هذه بين العرب والمسلمين، فقد عبدوا القبور والقباب، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، فعبدوه، فصاح فيهم هارون وبكى، وما استطاع أن يفعل شيئاً خوفاً من تفرقة الأمة وتقاتلها وتعاديها لبعضها البعض، فسكت عليه السلام، لكن الجهل وظلمته غمتهم.
والشاهد عندنا في قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]، فأي بينة أعظم من أن ينفلق البحر أمامهم؟ ومما يلغز به فيقال: ما هي الأرض التي لم تر الشمس منذ أن كانت إلا مرة واحدة؟ إنها هذه الأرض التي انفلق عنها البحر إلى فلقتين كالجبل من هنا وهنا، وهي جافة ويابسة والشمس طالعة فيها، ثم مع هذا يعبدون غير الله ويطلبون موسى أن يجعل لهم إلهاً!
وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:153]، وذلك لما قتل من قتل منهم، وتاب من تاب منهم، كان موسى قد أعطاه الله قوة وسلطان، فكان يؤدبهم ويرغمهم على عبادة الله وتوحيده وعبادته.
لكن قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، أي: أن الرجلان الحكيمان قالوا لهم: ما هي إلا أن تفاجئوهم وتدخلوا عليهم باب المدينة، فماذا قال بنو إسرائيل؟ قالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون! فكيف يخرج العدو من دياره بدون حرب وقتال ثم بعدها تدخل أنت؟! ثم قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، أي: ما نستطيع أن نقاتل هؤلاء العمالقة، ولا أن ندخل تلك البلاد، فاذهب أنت وربك فقاتلوهم! فهل هذه الكلمة يقولها من عرف الله تعالى؟! ثم قال موسى عليه السلام لما رأى ذلك منهم: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، فقد فسقوا وخرجوا عن طاعة الله ورسوله، فرد الله عليه فقال: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، وفعلاً في خلال أربعين سنة وهم يحملون أمتعتهم ويمشون في صحراء سيناء، فإذا جاءت القيلولة نزلوا، ثم يواصلون المشي مرة أخرى في الصحراء، فإذا جاء الظلام نزلوا، وهم هكذا في متاهات صحراء سيناء أربعين سنة حتى توفي موسى وهارون عليهما السلام .
فماذا نقول عن هؤلاء اليهود؟! هاهم الآن يديرون كفة الناس، ومن قبل قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:24-26]، وتوفي موسى وهارون عليهما السلام في خلال هذه الفترة، وقد بلغ بهم الحد أن قالوا: إن موسى هو الذي قتل هارون!
والشاهد عندنا أنه بعد أن توفي موسى وهارون عليهما السلام قادهم يوشع بن نون، وهو فتى موسى وخادمه أو تلميذه الذي كان يلازمه، وقد عهد إليه بحكم بني إسرائيل، فقادهم يوشع بن نون بعد نهاية الأربعين السنة التي كتبها الله عليهم بأن يتيهوا في تلك الصحراء، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه في مساء الجمعة ولم يبق على غروب الشمس إلا ساعات، إذ لو غابت الشمس لا يحل لهم أن يقاتلوا، إذ السبت مكتوب عليهم، فلا يصح منهم قتال أبداً، فرفع يوشع رأسه إلى الشمس وقال: يا شمس! أنت مخلوقة وأنا مخلوق، أنت مربوب وأنا مربوب، أسألك بالذي خلقك أن تقف في مكانك، فوقفت الشمس وقفة كاملة، فخاض المعركة ودخل تلك البلاد قبل غروب الشمس واحتلها.
إذاً: أمرهم هنا بأمر الله تعالى أن يدخلوا باب المدينة متطامنين لا في عنجهية وعنترية، بل لابد من تطامن ولين وسجود، وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، يقال: سجدت الشجرة، إذا مال غصنها، وسجد البعير رأسه، إذا عكفه، فالسجود ليس شرطاً أن يكون على الجبهة والأنف، وإنما هو لين الجانب وطمأنينة الرأس، ولذلك أمرهم الله أن يدخلوا متواضعين شكراً لله وامتناناً له سبحانه وتعالى، وبما أعطاهم ووهبهم، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: احطط عنا خطايانا يا ربنا التي ارتكبناها، وأصابنا ما أصابنا بسببها، لكن لخبثهم ومكرهم دخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: حنطة أو حبة شعير في كذا.
وهنا من لطائف هذه الآيات: كيف دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؟ بعد أن حورب ثمان سنوات، وأخرج من دياره، وأخرج إخوانه معه، ثم فتح الله تعالى عليه مكة ودخلها في السنة الثامنة من الهجرة، دخل وهو على القصواء ولحيته تضرب في قربوس السرج أو في سرج راحلته، وذلك تواضعاً لله عز وجل، وامتثالاً لأمر الله في بني إسرائيل: ادخلوها سجداً، فهل عرفتم كيف دخل؟ تطامناً وتواضعاً لا مثيل له أبداً.
واسألوني عن إخواننا العرب المسلمين لما يستقلون ماذا يفعلون؟ أمور فاضحة ما نستطيع أن نذكرها؛ لأنهم ما عرفوا الله ولا سلكوا هذا السبيل، وما بلغهم كيف دخل الرسول مكة، ووجد أهل مكة وجبابرتها وعتاتها وقد أذعنوا وانقادوا وطأطئوا رءوسهم وجلسوا حول الكعبة ينتظرون حكم الله تعالى فيهم، فناداهم: ( يا معشر قريش! ماذا ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، ولم يأمر بقتل أحد إلا بأربعة أنفار لباطلهم وشرهم وظلمهم وفسادهم، ونحن الآن أيما ثورة وانقلاب تحدث في بلد إسلامي يذبحون بعضهم بعضاً كالحيوانات.
وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154]، فما كان منهم إلا أن احتالوا على الشريعة وصادوا السمك، وحصلت لهم محنة كبيرة نذكرها في قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، وكانت هذه فتنة من الله تعالى، إذ إنه في يوم السبت الحيتان يلعبن أمامهم، ويظهرن بصورة عجب، وذلك للإغراء بهم، ويوم أن ينتهي السبت ما يظهر من السمك شيء، كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فيكفينا هذه الآية، أي: نختبرهم ونبلوهم بسب فسقهم، إذ لولا فسقهم ما كان الله ليبتليهم بهذا الابتلاء، فالسمك يوم السبت يشرع لهم ويظهر ويتعالى على البحر حتى يغريهم به، فحملهم ذلك على أن صادوه، وغير السبت لا يظهر شيء منه، قال تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فالأمة كالفرد، فإذا فسق أو فسقت فإنه يبتلى بالذنوب ويأثم، حتى إنه قد يقع في الكفر والعياذ بالله تعالى.
معاشر المستمعين! من أنزل هذا الكلام؟ إنه الله رب العالمين، فهذا كتاب الله القرآن الكريم، فهل يصح أن نقرأه على الموتى ونترك الأحياء محرومين مبعدين منه؟ يكفينا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود: ( يا
والله الذي لا إله غيره! ما أقبلت عليه أمة في صدق إلا رفعها الله وأعزها، والمثل واضح، كيف كان العالم الإسلامي في القرون الثلاثة؟ كانوا أعز الناس، فقد سادوا وقادوا البشرية، هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر ذنوبنا إنه غفور رحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر