فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بنا سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:121-123] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إليكم هذا الخبر، فإنه خبر عظيم الشأن، فالمخبر هو الله، والمخبرين هم نحن، والحمد لله رب العالمين، فنحن أهل لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا، فإنها والله لنعمة.
وسبب هذا الإفضال والإنعام هو الإيمان، فآمنا وأصبحنا أهلاً لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا.
وقد قال الضالون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] وها نحن يكلمنا بواسطة وحيه الذي ينزله على رسوله، وقد وصل إلينا من طريق الوحي الإلهي على رسول الله، ونحن أهل لذلك بإيماننا، ولو كنا غير مؤمنين -والعياذ بالله- ما يخاطبنا الله ولا يكلمنا، لأننا أموات، والميت لا يخاطب ولا يخبر؛ لأنه لا يسمع ولا يبصر، ولا ينهض بما يكلف ولا يقدر عليه.
فقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ أي: أعطيناهم الْكِتَابَ [البقرة:121] وقد أعطانا ربنا الكتاب، وهو في صدورنا، ومكتوب في سطورنا، ويوجد في بيوتنا، وهذا فضل الله علينا، فالحمد لله.
كذلك يتدبرونه عندما يتلونه، ويقرءون الآية وينتهون منها ويعيدونها مرة أخرى؛ لأنهم يستدرون لبنها، ويستخرجون حلواها وعسلها .. وهل هذا ممكن؟ إي نعم.
ولقد صح يقيناً أن أحد السلف الصالح من الصحابة والتابعين قام يتلو كتاب الله بالليل، فلما انتهى إلى قول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] فهذه الآية ما استطاع أن يتجاوزها، وما زال يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.
ولعل السامعين يفهمون معنى هذه الكلمة الإلهية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا أي: فعلوا بجوارحهم السَّيِّئَاتِ أي: المحرمات والمنهيات من كبائر الذنوب والآثام أَنْ نَجْعَلَهُمْ أي: في قضائنا، وحكمنا، ومجازاتنا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] لا والله ما كان هذا، ولهذا قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ أي: قبُح قُبحاً وحكماً يحكمون به، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
إذاً: الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، هم الذين:
أولاً: يجودون النطق ويحسنونه.
ثانياً: يتدبرونه عند تلاوته.
ثالثاً: إذا مروا بآية رحمة سألوا الله إياها، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا بالله من النار والعذاب. وهذا مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا قام يتهجد ليصلي إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله تلك الرحمة، وإذا جاءت آية عذاب وقف واستعاذ بالله من العذاب وهو رسول الله الذي لا يدخل الجنة أحد قبله قط، وقد أعطي بذلك المواثيق، وحسبكم أن تقرءوا قول الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] ألا وهو مقام الشفاعة العظمى، فهو الذي يخر ساجداً بين يدي الله تحت العرش، ويلهم تسابيح، وأذكاراً، ومحامداً ما عرفها إلا تلك الساعة، وهو واضع جبهته على الأرض حتى يقول له الرب تعالى: ( محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، ومع هذا كان إذا مر بآية رحمة سأل الله متضرعاً إليه أن يرحمه، وإذا مر بآية عذاب وقف واستعاذ بالله تعالى من العذاب.
وهذه أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( افتقدت ليلة رسول الله من فراشه ) إذ كان يقسم الليالي بين نسائه أمهات المؤمنين، فليلة عند عائشة ، وأخرى عند صفية ، وأخرى عند حفصة ، وأخرى عند ميمونة .. ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: ( فالتمسته ) فما عندهم كهرباء، ولا فوانيس، لا بالزيت، ولا بالغاز، والله ما عندهم، وفي الظلام، في تلك الحجرة التمسته فما وجدته، فقامت تطلبه، فوجدته قد اغتسل بالماء البارد، وما أشد برد الماء في مدينتنا المنورة أيام الشتاء، فاغتسل بالماء البارد، وإذا هو قائم يصلي؛ يركع ويسجد، والدموع قد عملت خطوطاً هكذا على حصيره، فتعجبت منه وسألته: ( يا رسول الله! أهذا منك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ) فأجابها بقوله الخالد: ( أفلا أكون عبداً شكوراً )، فما دام قد غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ينبغي أن أشكره، وبم يُشكر الله إن لم يُشكر بذكره وعبادته وطاعته؟
وكم نادينا وقلنا للسائلين غير ما مرة، في أي مجتمع كهذا: دلوني على أحد من إخواننا المؤمنين قال يوماً لأخيه: تعال من فضلك يا بني إن كان صغيراً، أو يا أبتاه إن كان كبيراً، أو يا أخاه إن كان مثله ومساوياً له في السن، من فضلك: اقرأ علي شيئاً من القرآن؟
هل حصل هذا؟!
من الشرق إلى الغرب وعبر القرون، من هو الذي يقول: أي فلان! اقرأ علي شيئاً من القرآن؟
وقد حصل هذا مرة كما أخبرتكم، وذلك أن مؤمناً شغالاً -كما يقولون: حمال- دخل في رحمة الله في درس من دروس العلم الحق في تفسير كتاب الله، فسمع هذه الكلمة من شيخ رحمة الله عليه، فكان يأتيني ويقول: أي أبا بكر! اقرأ علي شيئاً من القرآن، وهو عامي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن فتح الله عليه فأصبح عالماً ربانياً بالسماع.
فهذا هو الوحيد الذي رأيناه في حياتنا يأتي، ويتربع، ويطأطئ رأسه ويقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، وأنا أقرأ وأنا طفل وهو يبكي.
إن القرآن الآن يقرأ على الموتى! يقال لقارئ القرآن: تعال خذ ألف ريال، وأقرأ ختمة على أمي؛ فإنها ماتت. أو يجمع الطلبة ويقال لهم: اقرءوا القرآن على والدي فقد توفي، ويضع بين أيديهم أو في جيوبهم ريالات، وهذا موجود من إندونيسيا إلى المغرب، أما أن أقول: اقرأ علي آيات الله؛ أتدبرها، وأخشع عند سماعها، وأبكي، فهذا نادر، ونسينا ونستغفر الله.
وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كثيراً لما يجلس يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن؟
هذا موجود وما ننساه.
ثانياً: يتدبرونه، فلا يقرءون قراءة الغافلين والجاهلين، فيقفون عند الآية، ويعرفون ما تدل عليه، وما ترشد إليه، ويحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم، ويقيمون حدوده فلا يتعدونها .. وهؤلاء هم المؤمنون.
عبد الله بن مسعود لما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أسمعني يا
قال: ( فقرأت بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] حتى انتهيت في حدود الثلاثين آية، إلى قول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. قال: لما انتهيت هنا، فإذا برسول الله عيناه تذرفان الدموع؛ يبكي، ويقول: حسبك .. حسبك .. حسبك )، يعني: يكفي يكفي، فرسول الله يطلب من يقرأ عليه القرآن، ونحن لا نطلب؛ لأننا ما ذقنا حلاوة الإيمان، فإننا مخدرون، تجدنا نبصر ونتحرك، ولكن لا نشعر.
وفتح الله علينا في ضرب مثل لعلكم تذكرونه، وأنا أتكلم عن نفسي: أرأيتم قبة زجاجية -والآن يصنعونها كمكان لبيع الدخان وبيع المشروبات- ونحن داخل تلك القبة نشاهد من يمرض، فنراه كما هو يضحك ويبكي ولكن لا نحس بشيء، ولا نسمع صوتاً، ولا نحس بحركة.
فهذا الشخص في القبة الزجاجية يشاهد كل شيء، لكن لا يحس، ولا يسمع، ولا يشم رائحة، فهو محجوب بالزجاج، ونحن أشبه بهذا، نعم مؤمنون مسلمون، ونقرأ كتاب الله، ولكننا لا نحس ولا نشعر، ولا نبكي ولا نتألم، ولا نفرح عند آية، ولا نحزن، صح هذا أو لا؟
فهذا هو الواقع ولا نخفيه، إلا من فتح الله عليه نافذة، وقد قلت لكم غير ما مرة: أحياناً في العام .. في العامين ينفتح ذلك الزجاج لحظة، تجد أحداً يبكي، يرتعد، لا يشعر بما حوله أبداً، وينتفض، ولا يشعر بمن حوله، يصلي أو يقرأ أو يتلو، كأن العالم كاملاً انفصل عنه، وهذه نادرة.
والمفروض فينا أن تكون هذه حالنا دائماً، فإذا تلونا كتاب الله أو وقفنا بين يدي الله نناجيه، ونتكلم معه ونطرح حوائجنا بين يديه مستغفرين سائلين، ينبغي أن نكون هكذا، كأننا لا نشعر بالوجود حولنا، وهؤلاء في صلاتهم خاشعون، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. ونحن نتكلم مع الله ونناجيه في الصلاة وبالنا مشغول: القدر ماذا فيه؟ والسوق ماذا فيه؟
يقول المصلي: الله أكبر.. بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2] فنقرأ والقلوب هناك. فكيف تتكلم مع الله وتعرض عنه ويبقى وجهك أمامه؟!
ولو تحدثت مع ذي قدرة ومال عن قضاء حوائجك، تريد أن تسأله ما تريد، فتسلم عليه: السلام عليكم فلان. ثم تبدأ الحديث معه وأنت ذاهل عنه، مشغول ببيتك وسوقك أو كذا، لاندهش قائلاً: ماذا هناك؟ ما له؟ انتبه!
فيخاطبك ما لك؟ أين أنت غائب؟
فهل نطلب هذا الهدى إن شاء الله؟
وأعظم باب جربناه هو أن تعلم وتُعلم نفسك أنك بين يدي الله، والله إنك لبين يديه، وإنه لنصب وجهه لك، ويسمع منك كلماتك، ويرى موقفك.. فإذا ذكرت هذا استحيت أن تتركه، أو تلتفت أو تعبث، لكن كونك لا تذكر هذا فهذا هو البلاء.
وقد سأل جبريل عليه السلام رسولنا صلى الله عليه وسلم: ما الإحسان؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فأنت بين حالين: إما أن تشعر أنك بين يدي الله كأنك تنظر إليه، فلا تستطيع أن تلتفت ولا أن تغفل، ولا أن تعرض عن كلامه أبداً، وأقل شيء أن تعلم أنك بين يديه، وهو يراك، ويرى حركاتك وسكناتك، ويسمع كلماتك، ويعرف دقات قلبك، وما يجري في نفسك.
فإذا علمت نفسك هذا لا تستطيع أن تعرض عن الله حتى تفرغ من عبادتك وتقول: السلام عليكم. ثم بع واشتر.
آه لو ربينا على هذا.
إذاً قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] أعطيناهم التوراة أو القرآن، الذين يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121]، فحق التلاوة تعني التجويد والتغني، ولا بد كذلك من تدبره وتفهم معانيه، وتوطين النفس على العمل بما فيه، فإن كان أمراً نهضت به، وإن كان نهياً تركت وتخليت عما نهاك عنه.
ودائماً نقول: لا تفهم من الخسران أنه خسران الدنيا: فقد وظيفته أو خسر البضاعة كلها أو ضاع ما كان عنده أو خسر امرأته وماتت أو خسر ولده ومات! فهذا الخسران: خسران الدينار، والدرهم، والشاة، والبعير، لا يعتبر خسراناً عند الله.
لكن ما هو الخسران الحق؟
اسمع الله يبين من سورتي الزمر وحم، يقول تعالى: قُلْ [الزمر:15] يا رسولنا، قل أيها المبلغ عنا، قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] من هم؟ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] أَلا [الزمر:15] انتبهوا، اسمعوا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] فتجد نفسك في عالم كله بلاء، وعذاب، وشقاء، ولا تجد امرأة، ولا ولداً، ولا أخاً قريباً، ولا بعيداً، فأنت وحدك في وحشتك .. في غربتك .. في بعدك، تتلقى العذاب في كل لحظة وساعة، فلا يُفتّر أبداً وتشتكي، وتطالب التخفيف، فلا يأتي الجواب إلا بعد ألف عام.
وهناك سورة أخرى فيها أنه يوضع أحدهم في صندوق من حديد، ويغلق عليه، ويسمر بالمسامير، ويلقى في ذلك العالم آلاف السنين، والله لا يأكل، والجوع يمزقه، والله لا يشرب، والظمأ يقتله، والله لا يتكلم، ولا يسمع كلاماً في ذلك الصندوق آلاف السنين، لا إله إلا الله، صم، بكم، عمي.. هكذا. فقالوا للرسول: كيف يمشون على وجوههم ويسحبون في النار على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يستطيع أن يمشيهم على وجوههم.
أما رأيتم الأفعى تزحف على وجهها؟ والله إنهم ليمشون على وجوههم، والآية من سورة بني إسرائيل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].
فقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على أرجلهم؟ لا عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] فلا يبصرون، ولا ينطقون، ولا يسمعون، وهم على وجوههم، قالوا: يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يمشيهم على وجوههم، والله لكما تسمعون.
هؤلاء الذين لا يؤمنون .. الكفار بالقرآن، وما جاء به بالرسول، وما يدعو إليه، فما اغتسلوا من جنابة، ولا صاموا يوماً لله، ولا صلوا ركعة، ولا قالوا معروفاً، وماتوا على فسقهم وضلالهم .. والله لهذا جزاؤهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] لا ينطقون، ولا يبصرون، ولا يسمعون.
إذاً: هذا خبر عظيم الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ما الخبر؟ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
واليهود وقت نزل هذا القرآن هم الذين كانوا مع رسول الله في المدينة من القبائل أو الطوائف الثلاث: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، لكن قال: بني إسرائيل؛ لأنهم -والله- أولاد إسرائيل وأحفاده إلى اليوم.
وسبحان الله! فقد علمتم أنهم لا يسمحون لأحد أن يدخل في دينهم، ولا يزوجون نساءهم إلا لأبنائهم وإخوانهم، وإذا حصل أن زوجوا مسيحياً أو بوذياً فلغرض محدود، ثم يحتالون ويطلقون أو يقتلونها أو يقتلوه فاحتفظوا بأصالتهم .. بعرقهم، ويكفيك أن الله يناديهم بهذا الاسم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فلولا علمه بأنهم من أولاد إسرائيل ما ناداهم بهذا.
واليهود في اليمن .. في الشام .. في مصر .. في فلسطين .. في المغرب ما كانوا يزوجون بناتهم للمسلمين، ولا يزوجونهن للنصارى ولا يعطونهم، وذلك للحفاظ على هذه الأصالة؛ لأنهم يحلمون بأن يعيدوا مملكة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وقد مشوا خطوات شاسعة في هذا الشأن، وقد رأيتم كيف أذلنا الله لهم، وأصبحوا فوقنا يعتزون، ويصولون، ويجولون، مع أنهم عرق مصاب بمرض الذل والمسكنة، إلا أن الله عز وجل ليؤدب المسلمين علهم يفيقون .. علهم يصحون .. علهم يرجعون، فأراهم أعظم آية لم تعرف الدنيا آية أعظم منها، فألف مليون مسلم من أهل لا إله إلا الله يذلهم خمسة ملايين يهودي، ولو تتحدث بهذا مع من يأتي من أجيال سيقول: هذا مستحيل! كيف يمكن أن ألف مليون يقهرهم ويذلهم خمسة ملايين، كالذي يقول: خمسة آلاف رجل فحل أذلهم خمسة رجال، أهناك من يصدق هذا!
ولكن أراد الله آية أخرى، فثلاثة آلاف مؤمن رباني هزموا واستطاعوا أن يتخلصوا من مائتي ألف مقاتل، وذلك في غزوة مؤتة، فقد كان عدد المؤمنين ثلاثة آلاف، وكان عدد الروم مائتا ألف.
فهيا يا مسلمون نتوب إلى الله.
قالوا: لا نستطيع.
أقول: أما تستطيعون أن تتوبوا؟ وهل إذا تركتم الربا، والزنا، والغش، والخداع، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة تصابون بالمرض .. بالفقر؟ بأي شيء يصيبكم؟ لا أدري.
هيا نحاول أن نقبل -فقط- على الله، فنجتمع ونبكي بين يديه من المغرب إلى العشاء في كل بيوت الله، ولا يتخلف مؤمن ولا مؤمنة إلا ذو عذر لا يتمكن من الحضور، ونجرب عاماً .. عامين .. ثلاثة فقط، وننظر كيف أن الله سيذل لنا الجبابرة، ويرغم أنوفهم، فلا يمكن أن توالي الله ثم يخزيك ويذلك ويهينك! حاشا لله وكلا.
والشاهد عندنا في بني إسرائيل أنهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل، ومعنى إسرائيل عبد الله أو عبد الرحمن.
من أجل أن نشكر؛ لأن الذي ينكر النعمة ولا يذكر -والله- لا يشكرها، لكن لما تذكر طبق التمر بين يديك والخبز اللين وأنت تأكل ستقول: الحمد لله.
لكن إذا كنت لا تذكر من أين هذا الخبز؟ من أين هذا الرطب؟ كيف هذا الماء؟ كيف أنا جالس؟ فإنك والله لا تعرف الحمد والشكر لله أبداً.
كذلك لما ترى قوتك البدنية تظهر، فتنتشل -مثلاً- القنطار، وتحمل الأشد، وتذكر حينئذ أن الذي أعطاك هذه القوة هو الله، وهو يريد منك فقط أن تشكره وتحمده.
وهذه المعاني والتأملات لو نقف عندها عشرة أيام، فهذه بيت القصيد.
وهناك نعمة قريبة على المسلمين، فقد كانوا مستعمرين مستذلين، يتحكم فيهم الشرق والغرب؛ من بريطانيا إلى هولندا .. إلى إيطاليا .. إلى فرنسا.
أما كنتم كذلك أيها المسلمون فحرركم الله! وكان عليكم أن تشكروه، ومن ذلك أن تقيموا الصلاة فقط ليرى الله عز وجل شكركم، فلا يتركها عسكري، ولا شرطي، ولا مسئول، ولا غني، ولا فقير، فإذا قيل: حي على الصلاة، أقبلت الأمة زرافات ووحداناً إلى بيوت الرب؛ تشكره عشر دقائق أو ربع ساعة ثم تنطلق إلى عملها.
لكنهم قالوا: لا نستطيع.
أسألكم بالله، أنا أريد أن أعرف: هل أقيمت الصلاة إجبارية في أي بلد غير هذا البلد، في سوريا .. في العراق .. في مصر .. في المغرب .. في باكستان؟ والله ما كان، وأنا أسأل وحيران، أما خلقنا لها؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
والله لو أقيمت الصلاة في أي إقليم إسلامي لتجلت أنوار الرحمة، ومحاسن الكمال الإسلامي، وقل الخبث والظلم والشر والفساد، ولا آلمهم فقر ولا جوع -أبداً- وهم مع الله.
لكن ما أقيمت الصلاة، وكأنهم تعمدوا ألا تقام، ولعل هناك سحراً يهودياً، فما يدرينا.
أولاً: كل خبث وظلم وشر وفساد ينتهي، وإياك أن تفهم أن عبداً يقف بين يدي الله زاكياً، واعياً، بصيراً، يناجي ربه، ويتكلم معه، ويطرح حاجته بين يديه، ثم يخرج يفسق! والله ما كان، فكل ما تشكوه في العالم الإسلامي من الخبث، والسرقة، والجرائم، وشهادة الزور، والكذب، والخيانة، وعدم الرحمة مرده إلى أنهم ما أقاموا الصلاة؛ لأن الله العليم الحكيم يقول: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] أي: أيها المسلمون! اقرءوا القرآن في بيوتكم، وفي بيوت ربكم، فيزداد إيمانكم، ومعارفكم، وعلومكم، وتسمون، وترتفعون، ثم قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلن يستطيع بوليس، ولا شرطة، ولا ساحر، ولا غشاش، ولا .. أن يقوم اعوجاج الشعب أو الأمة في القرية أو المدينة كما تقوم الصلاة.
ودائماً نقول: تفضلوا وادخلوا أي مكتب من مكاتب الشرط والمسئولين من المحافظات و.. و.. واسألوهم عن عدد الجرائم في هذا الأسبوع؟ قالوا: والله سجلنا مائة جريمة، بعضها سرقة، وبعضها سب وشتم، وبعضها كذا، وبعضها كذا .. نقول: اسمعوا، إن وجدتم من بين المائة أكثر من خمسة من مقيمي الصلاة اذبحوني، وأنا أقول هذا دائماً، وهناك (95) من تاركي الصلاة، والمصلون العابدون بصدق ما عرفوا إقامة الصلاة، تجده يقف بين يدي الله وهو مشغول عن الله، وصارت الصلاة كالعادة فإذا قال: السلام عليكم خرج يدخن عند باب المسجد.
وكم صحنا وبكينا أكثر من أربعين سنة، فهل تحرك إقليم واحد وقال: نقيم الصلاة؟ والله ما كان؛ وفقط إقليم واحد.
وهذه الدولة المباركة يعمل ليل نهار على إحباطها وإفسادها وتخريبها متعاونون عليها والعياذ بالله، حتى مع الكفار، والله لولا أنهم بنوها على إقام الصلاة ما شاهدوا فيها نوراً ولا كان فيها خير، لكن رحمة الله على مؤسسها عبد العزيز فقد أقامها على ما أراد الله أن تقام عليه الدولة الإسلامية، وذلك من خلال بعض آية فقط: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فهذه أربع دعامات.
فإقام الصلاة أن لا يبقى عسكري، ولا مدني، ولا رجل، ولا امرأة يعيش في ديار الإسلام وهو لا يصلي، فإن شاهدت قريبك أو جارك لا يصلي، فاتصل بالهيئة يأخذوه ويؤدبوه أو يحبسوه حتى يصلي.
أما إيتاء الزكاة فهي فريضة الله، ولا بد من رجال مهمتهم أن يجبوا هذه الصدقة من أجل إقامة الدولة.
أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتقام هيئات في كل قرية .. في كل مدينة .. في كل حي يأمرون بالخير وينهون عن الشر.
لكن ما المانع من إقامة كل هذا؟! فما استطاع إقليم واحد من المسلمين أن يفعل هذا، كأنهم ضد الله، ولا يؤمنون بكلام الله، وهم ليسوا في حاجة إلى القرآن.
ثم ماذا جنى المسلمون من استقلالاتهم؟ فازوا؟ كملوا؟ سعدوا؟ نموا؟ تربوا؟
سلوهم، وسلوني أخبركم، إنها -والله- محن وبلايا ورزايا، أمرّ مما كانوا عليه أيام الاستعمار.
وما أفقنا إلى الآن، ومتى نفيق؟
ابدءوا فقط بإقامة الصلاة، وما قلنا لكم افعلوا شيئاً آخر، وإنما أقيموا الصلاة ينفتح باب الهبة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات. وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر