قال الحافظ المنذري رحمه الله: [ الترغيب في الصدقة والحث عليها، وما جاء في جهد المقل، ومن تصدق بما لا يحب.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: مالي مالي! وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو ما لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس).
يقال: عِدل وعَدْل، أي: مقدار، فإذا كان أراد جنسها فهو العِدل، أي: عدل تمرة، يعني: نصف تمرة، وإذا كان من قيمتها أو ثمنها فيكون بعَدل تمرة، يعني: بما يساوي التمرة أو الجزء من التمرة.
قال صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب)، وهذا شرط لابد منه، فإن الكسب الخبيث لا يصلح أن يكون صدقة، والنار أولى بصاحبه، فهنا الذي يتصدق يتصدق بالمال الطيب وليس بالمال الخبيث.
قال: (ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه)، فيقبلها الله عز وجل، وتنزل من الله عز وجل المنزلة عظيمة (يقبلها بيمينه).
قوله: (ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل) قالوا: الفلو: هو المهر الصغير، فيربيه الإنسان حتى يصير حصاناً كبيراً مثل الخيل العظيم، وكذلك الشيء اليسير من الكسب الطيب يتصدق به الإنسان فإن الله عز وجل ينمي له أجره حتى يصير مثل الجبل العظيم.
وفي رواية أخرى في الحديث: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد).
فإذا تصدق الإنسان لله فإن الله عز وجل يربيها لهذا الإنسان وينميها حتى تصير كجبل أحد.
وقال: (ثلاث أقسم عليهن) أي: أحلف عليهن، وذكر منها: (ما نقصت صدقة من مال) فالشخص عندما يتصدق فإن الله يبارك له في ماله، ويزداد ماله بهذه الصدقات التي يخرجها لله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) فالإنسان إذا عفا عن خصمه، وإذا عفا عن الإنسان الذي أساء إليه زاده الله عزاً، قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96]، فإذا دفع بالحسنى وعفا فالله عز وجل يزيد هذا العبد عزاً.
قوله: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل) فالإنسان المتواضع الذي يخاف رب العالمين، ويعرف أن أصله من تراب فلا يستكبر على أحد من خلقه، فكلما تواضع الإنسان رفعه الله سبحانه وتعالى.
(أو أعطى فاقتنى) والمعنى: أنه أعطى لله سبحانه، فحقيقة ما أعطاه لله هو هذا الذي اقتناه، فإذا أخرج المال فتصدق به على الفقير والمسكين، أو أعطاه لرحمه فهذا هو الذي اقتناه حقيقة عند ربه سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس).
فالصحابة كانوا قوم صدق رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قالوا: لا، إن مالنا أحب إلينا من مال وارثنا، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر).
فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن مالك حقيقة هو الذي قدمته لله، فهذا المال يوم القيامة تستمتع به، ومال الوارث الذي أنت حزته وادخرته ولا تدري فيم ينفقه هذا الوارث، وليس المعنى: أن الإنسان يترك الورثة عالة يتكففون الناس، لا، ولكن المعنى: أن تبذل طالما وأنت قادر على البذل، فابذل وادخر لك عند الله عز وجل.
وفي حديث سعد رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أتصدق بمالي؟ فقال له: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
فإذا تصدقت بثلث المال فهذا كثير، فليس المقصد أنه يترك الورثة يمدون أيديهم إلى الناس، لا، وإنما يورث للورثة مالاً بحيث أنهم لا يمدون أكفهم للناس، ولكن لا تنسى نفسك من الصدقة والادخار عند الله، فبعض الناس يدخر المال كله للوارث ولا يخرج زكاة ولا صدقة، فهو خائف من الزمن، وخائف ألا يحصل له حاجة، فيموت ويترك المال يأخذه الورثة ويستمتعون به، وينسوه، ويمكن إذا ذكروه قالوا: كان بخيلاً ما كان يتصدق، ما كان يخرج زكاة، فلا يتحدثون عنه بخير أبداً.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله ما قدم) يعني: إلى الله عز وجل، (ومال وارثه ما أخر)، فإن تصدق فمستحيل أنها تنقص من المال، فهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم أنطقه به ربه سبحانه فقال: (ما نقص مال من صدقة)، ولا نحتاج أن يحلف صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو الصادق المصدوق والمعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
أي: في صحراء من الأرض، (فسمع صوتاً في سحابة: أسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة) سمع الرجل صوتاً من السحاب يقول ذلك، فإذا بالسحاب يجتمع ويميل إلى الحرة يعني: أرض حجرية، فالسحاب ترك الرمال والتراب وذهب إلى أرض حجرية، فأنزل كل الماء في هذه الأرض الحجرية.
قال: (فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله) الشرجة: شعب في الحجارة استوعب كل الماء من السحابة.
فالرجل مشى وراء الماء لينظر إلى أين سيصل هذا الماء، قال: (فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته)، شخص في حديقة يعدل الماء ويحوله (فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ فقال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟) أي: ماذا تعمل في هذه الأرض حتى أكرمك الله بسحابة نزلت لك لوحدك؟ (فقال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثاً) انظر إلى تدبير الرجل للأمر فيه! فإن حظ نفسه وعياله ما ضاع، وكذلك الحديقة بحاجة إلى مال ليصلحها، وأعطى الفقراء الثلث الثالث، فلم يضيع الله عز وجل أجر هذا الإنسان، وأرسل له سحابة من الصحراء لتوصل الماء إليه بهذه الطريقة العجيبة، فهذه آية للخلق حتى يعلم الإنسان أنه مهما أعطى لله فلن يضيعه الله عز وجل، فإذا أعطى لله لم يعط ماله كله، وإنما أعطى ثلث المال لله سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـسعد : (الثلث والثلث كثير)، وكعب بن مالك لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن من توبتي أن أتصدق بمالي؟ قال: لا، أبق عليك بعضه فهو خير لك).
أي: لا تتصدق بالمال كله، فالإنسان يتصدق بشيء والله عز وجل يبارك له في الباقي من ماله، وينمي له هذه الصدقة ويؤجره عليها يوم القيامة.
قال: (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم)، والإنسان يكون مرعوباً بين يدي الله عز وجل، فلا يجد إلا العمل الذي عمل.
قال: (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فالإنسان المؤمن كلما ذكر النار أنفق وفعل الخير؛ لأجل أن يتقي هذه النار فلا يقع فيها.
قوله: (الصوم جُنَّة)، فتصوم رمضان وتصوم تطوعاً لله حتى تكون لك ستراً ووقاية من النار، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فالصوم يقيك من النار، والذي يطفئ لك هذه النار هي الصدقة، فأنت عندما تصوم وتتصدق وقيت نفسك من النار، وأطفأت عن نفسك هذه النار.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)، رواه أحمد وابن خزيمة .
فيوم القيامة هو يوم مقداره خمسون ألف سنة، فالشمس تدنو من الرءوس حتى ما يبقى إلا قدر ميل، سواء ميل المسافة أو ميل المكحلة، فإنها فوق الرأس مباشرة، فمن سيظلل العبد من هذه الشمس يوم القيامة؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ستظللك من هذه الشمس يوم القيامة، ذلك اليوم الطويل الذي قدره خمسون ألف سنة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)، قال يزيد : فكان أبو مرثد لا يأتي يوم إلا تصدق فيه بشيء.
وهذا رجل من التابعين اسمه: أبو مرثد رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكل يوم يأتي لابد أن يتصدق فيه بصدقة حتى يظله الله بظله يوم القيامة.
قال: حتى ولو كعكة، ولو بصلة، حتى تدركه رحمة الله، فلا يشترط أن تكون الصدقة مالاً كثيراً، لا، ففي الحديث قال: (ولو بشق تمرة)، فكان الرجل يأخذ أي شيء ليتصدق به على أخيه الموجود.
وفي رواية: أنه كان أول شخص يذهب إلى المسجد، قال: وما رايته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة.
فكأن الرجل ما كان غنياً، لكنه كان يتصدق بما يملك: إما خبزاً، أو قمحاً، قال: حتى ربما رأيت البصل معه يحمله، قال: فأقول: يا أبا الخير ! إن هذا البصل يعطي ثيابك رائحة كريهة! فقال: يا ابن أبي حبيب ! أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته).
وفي رواية: (أن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته)، وهذه رواية أخرى.
فنتعلم من هذه الأحاديث أن المؤمن إذا قدر على الصدقة فليتصدق ولو بأقل الأشياء، ولا تستقل شيئاً تنفقه لله سبحانه وتعالى، فأعط ولو القليل أفضل من ألا تعطي شيئاً، وعندما يتعود الإنسان فيعطي شيئاً فشيئاً تكون له عادة بعد ذلك، فكل يوم له صدقة من الصدقات، ويوم القيامة يجد ظلاً وفيراً عظيماً، وفي قبره لا يجد ما يطفئ عنه نار القبر إلا الصدقة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يطفئ عنا نيران القبور.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر